الوطن:
2024-11-05@23:45:15 GMT

الأب بطرس دانيال يكتب: كيف نتعلّم من الأمثلة السيئة؟

تاريخ النشر: 29th, September 2023 GMT

الأب بطرس دانيال يكتب: كيف نتعلّم من الأمثلة السيئة؟

نقرأ فى سفر الأمثال: «فى سبيل الأشرار لا تدخل، وفى طريق أهل السوء لا تمشِ. حِدْ عنه ولا تَعبُرْ فيه، تَحوَّلْ عنه واعبُرْ» (4: 14-15). هل نستطيع أن نتعلّم من المثَل السيئ أو النماذج الرديئة التى نلتقى بها فى حياتنا؟

مما لا شك فيه أننا مدينون لأشخاص لا حصر لهم تركوا بصمة فى حياتنا وأثّروا علينا وتعلّمنا منهم الكثير والكثير، ونعتبرهم القدوة الحسنة والمثال الصالح لنا، وعلى رأسهم والدانا اللذان قاما بتربيتنا وتهذيبنا على أكمل وجه، ولا مقارنة لهما مع أحد، ثم يأتى بعد ذلك المعلّمون والمربّون والأصدقاء الأوفياء وغيرهم.

ولكننا نتوقّف اليوم عند الأمثلة السيئة والقدوة الرديئة، هل نستطيع أن نجزم بأننا مدينون لهم؟ إنهم لم يفعلوا معنا خيراً، ولكن تصرفاتهم أجبرتنا ودفعتنا لتجنُّبها. كل شخص منّا لديه أمثلة ونماذج مُشرّفة وحسنة ومضيئة فى حياته يتعلّم منها الخير والحُب والجمال والصلاح، وهذه نُطلق عليها القدوة الحسنة أو المثال الصالح؛ ومع ذلك نصطدم بآخرين يتصرّفون بطريقة غير لائقة، ولكنهم بدون قصد زرعوا فينا القدرة والطاقة الهائلة لتجنُّب ما يقومون به، وأعطونا التطعيم اللازم ضد هذا الفيروس لندافع به عن أخلاقنا وسلوكنا وتربيتنا التى ترعرعنا عليها.

نستطيع أن نوضّح ذلك ببعض الأمثلة، فمن الشخص الغامض والمتلوّن فى كلامه وأحاديثه نتعلّم معنى الصدق وجمال الحقيقة، ومن الشخص الذى يعتبر نفسه «الكل فى الكل» ويفرض على الجميع أن يخدموه ويكونوا تحت طوعه فى كل لحظة، متخيّلاً أن العالم كله خُلق لتحقيق أمنياته ورغباته، حتى إنه يستغل غناه فى فرض نفوذه على الآخرين ويعتبرهم كأنهم سلعة، والويل لمن يخالف أوامره أو يعارض ما يقول، تعلّمنا فضيلة خدمة الجميع وأهمية المكان الأخير وروعة العمل التطوعى والمجانى، ولا ننسى ذلك الذى يخاف من الأقوياء جاعلاً لهم ألف حساب، ولكنه مع الضعفاء يفرض قوته وسطوته ونفوذه، حتى إنه يظلمهم فى كل شىء، لأننا نتعلّم منه الدرس الأساسى فى الاحترام المقدّس لكل شخص. كما أننا نعترف بالجميل لتلك الجماعة التى نتقابل معها ولكنها تعمل دائماً فى غموض وتتخفّى وراء كل تصرفاتها وتقوم بمكالمات غامضة، لأننا تعلّمنا منها الصراحة والوضوح، وكيفية العيش فى سلام نتيجة أعمالنا فى النور و«على المكشوف» أمام الآخرين دون أى خوف أو حساب. أيضاً لا ننسى أن نشكر الشخص الانتهازى الذى يحمل الأقنعة فى كل مكان يذهب إليه أو مع أى شخص يوجد معه، لأننا بسببه عرفنا المعنى الحقيقى لاحترام كرامة وحرية الغير. حتى الفضولى استفدنا منه الكثير، فكلما ازداد فى اقتحام حياة الآخرين، شعرنا بطعم الرزانة والكتمان وعدم التدخّل فى شئون الغير. كما يجب أن نقدّم الشكر من قلوبنا لهؤلاء الذين لم يتعلّموا أبداً فضيلة الشكر والعرفان بالجميل تجاه الغير، وخاصة الضعفاء والفقراء والمحتاجين والمرضى، لأنهم منحونا الفرصة الذهبية لنشكر فى كل لحظة دون استثناء أو محاباة، ولا ننظر للآخرين حسب الشكل الخارجى أو ما يملكون، فكم هى ثمينة كلمة «شكراً» عندما نتفوّه بها للجميع، وبنوع خاص للذين هم محرومون منها ولا يسمعونها بسبب فقرهم وحرمانهم ومكانتهم الاجتماعية. كما أننا نتعلّم الجدّيّة من السطحى والمستهتر، والابتسامة من الكئيب.

قياساً على ذلك، نستطيع أن نسرد أمثلة لا حصر لها فى حياتنا اليومية تساعدنا على تغييرها إلى الأفضل دون قصد منهم. إذاً.. ليس لنا عُذر أو حجة حين نوجه الاتهام لتصرُّف الكبار أو المسئولين الخاطئ، معلنين أنه سبب عثرة وشك لنا، فكل واحد منّا يجب أن يكون مستعداً لانتهاز الفرص، حتى السيئة منها، ليخرج بشىء إيجابى وبنّاء حتى يصير أفضل مما كان من قبل، لأن الإنسان الناضج والمتّزن يتقبّل هذه النماذج والحالات ساعياً إلى تغيير ذاته، فكل شخص يطمح إلى أن يصير أفضل سيجد جميع الوسائل التى تخدمه فى ذلك، مهما كانت المعوقات. لذلك يجب علينا ألا نتذمر من الأمثلة أو النماذج السيئة التى تواجهنا، ولكن نعتبرها فرصةً عظيمة لتُحرّك فينا الطاقة الكامنة الإيجابية لنصير أفضل ونتخلّص من عيوب وسلبيات عديدة فى حياتنا. ونختم بكلمات البابا يوحنا بولس الثانى: «إن أول كتاب دينى يقرأه الأبناء: الوالدان».

المصدر: الوطن

إقرأ أيضاً:

فراغ الكون هو الذي يعطي حياتنا المعنى

أخطأ نيتشه حينما قال: إذا ما حملقت في الهاوية لوقت طويل فإن الهاوية سوف تبادلك حملقة بحملقة. فالحق أن الفراغ يبقى على صمته، بلا هوادة، ويبقى مفزع الجسامة. ولكننا حينما نشخص إلى السواد اللانهائي الذي يحدد شسوع كوننا، نجد خيارا مطروحا أمامنا. فبوسعنا إما أن نتراجع خائفين منصرفين عن مواجهة إنسانيتنا لذلك الرعب الكوني الخالص، أو أن بوسعنا أن نحوِّل سواد الكون إلى نور يضيء التفرُّد في كل شيء مما نعرفه هنا على الأرض.

أنا عالم فلك، من العلماء الذين يدرسون نشأة الكون وتاريخه وتطوره. وقد أنفقت عمري بحثا في جزء خاص من الكون يطلق عليه الفراغات الكونية، وهي تلك المساحات الشاسعة من اللاشيء التي تمتد بين المجرات. وأغلب كوننا فراغ، فقرابة 80% من حجم الكون مصنوع من لاشيء على الإطلاق.

وفقا للحساب الدقيق للوفرة الكونية، فإن كوكبنا والحياة التي نجدها عليه تساوي في الأساس صفرا. فيا لمنتهى الضآلة. إن هي إلا ذرة من الأزرق والأخضر عالقة في محيط من الليل، وإن هي إلا نتفة ضئيلة من الصخر والماء تدور في فلك نجم من النجوم. وقد عملت القوى الكبرى التي تشكل كوننا على إنماء هذه الفراغات على مدار مليارات السنين، فإذا بوحشيتها الراهنة تبرز هذه الضآلة وتزيدها وضوحا. ودعكم من الكواكب والنجوم، فعلى هذه النطاقات الهائلة، تبدو حتى المجرات العظيمة نفسها محض نقاط من الضوء.

وثمة غواية عند مواجهة النطاق الحقيقي للكون الفارغ تدعونا إلى أن ننظر إلى عالمنا الضئيل نظرة عدمية، وإلى أن نشعر بأن أعظم إنجازاتنا لا يرقى إلى شيء، وأن تاريخنا أهون من أن يترك أثرا، وأن همومنا ومخاوفنا جميعا عديمة الشأن، وأن إنسانيتنا نفسها شديدة الهوان.

لقد أنفقت سنين أعمل على فهم ما يمكن أن تعلَّمه لنا الفراغات الكونية عن الكون الأوسع وتاريخه. وفي مسار دراستي، تعلمت أن أرفض تلك الغواية العدمية.

نعم، الكون يغلب عليه الفراغ، ولكننا عثرنا على كثير من الأعاجيب في تلك المساحات العظيمة. فالفراغات ببساطة غير موجودة، إنما هي تحدد المجرات وتبرز التباين بينها. وخصائص تلك الفراغات ـ أي أشكالها وأحجامها وما إلى ذلك ـ تعكس القوى الغامضة التي تحكم تطور الكون. وداخل هذه الفراغات نعثر بين الحين والآخر على مجرة متقزمة معتمة كأنها واحة في صحراء. وقد تبين لنا أن الفراغات تفيض بطاقات كونية قد تطغى في يوم من الأيام على بقية الكون.

صحيح أن كوكب الأرض ـ من الناحية الكونية ـ ليس بالضخم ولا بطويل العمر. ولكن ما تلك إلا وسيلة واحدة من وسائل قياس الأهمية. فبالمقارنة مع الفراغات، ثمة شيء خاص يجري على كوكبنا. وبرغم عقود من البحث، لا تزال الأرض هي المكان الوحيد المعروف في الكون كله الذي ترفع فيه كائنات عاقلة أعينها إلى السماء في عجب.

كوكب الأرض هو المكان الوحيد المعروف الذي توجد فيه الإنسانية، والذي (يمكن) أن توجد فيه الإنسانية. وهو المكان الوحيد المعروف الذي يوجد فيه الضحك والحب والغضب والبهجة. وهو المكان الوحيد المعروف الذي يمكن أن نعثر فيه على الرقص والموسيقى والفن والسياسة وعلم الفلك.

وكل ما لدينا من خلافات وغيرة وتعقيدات جميلة هي التي تجعل منا بشرا ليست عديمة المعنى. ووجود الفراغات الكونية وهيمنتها هما اللذان يضمنان النقيض، والقصص والتجارب التي نملأ بها حياتنا فريدة لأنها لن تحدث أبدا في الشسوع الخاوي الذي يتألف منه أغلب الكون.

ولقد تعلمت أن الدروس التي نتعلمها من فراغات الكون موجودة أيضا في فراغات حياتنا. فالفراغات تصقل وتحدد، وتنشئ التقابل، وتمتلئ بالإمكانيات. والألم الذي نحس به من جراء خسارة هو آخر تذكرة لنا بهبة الحياة التي نكن لها أعمق الحب. والصمت في مواجهة عرض يتلألأ بالتوقع المحتدم. واختيارنا أن ننصرف عن الأنباء الباعثة للتوتر ضروري ليتيح لنا التركيز على كل ما هو مهم.

لقد فهم الفنانون والفلاسفة منذ أمد بعيد قوة الفراغ. فالشاعر والراهب البوذي في القرن الثاني عشر سايجايو تأمل الفجوات القائمة فيما بين قطرات المطر المتساقطة فلاحظ أن السكتات فيما بين أصواتها مهمة بقدر أهمية القطرات نفسها، إن لم تعلها أهمية. والموسيقي جون كيج تحدانا بمقطوعته (4ʹ33)، وهي مقطوعة مؤلفة كليا من الصمت، تنشئ تجليا للفراغ يسعى الجمهور إلى ملئه بالسعال المحرج والضحك المتوتر، فيصبح ذلك في ذاته موسيقى. والمعماري الهولندي ريم كولهاس احتفى باستعمال الفضاءات السلبية قائلا: «حيث يوجد اللاشيء، يكون كل شيء ممكنا». والفراغ في رأي المحلل النفساني كارل يانج هو فضاء نفسي لا بد أن ندخل إليه لتحقق قدراتنا الكاملة ونصوغ لأنفسنا حياة جديدة.

وبعد مليارات السنين من الآن سوف تتضخم الشمس ويستحيل كوكب الأرض غبارا. أما الفراغات الكونية، وهي حراس اللاشيء العظيم، فسوف تبقى، وتلك الحقيقة العارية، المزعجة في الوهلة الأولى، تمنحنا القدرة على الاعتزاز بما أوتينا من هبات.

قل طرفة لأصدقائك. قاتل من أجل ما تؤمن به. اتصل بوالدتك. أبدع شيئا لم ير الكون مثيلا له من قبل. فما عناد الفراغات الكونية إلا دعوة لك إلى العمل. ولن يفعل الكون من أجلنا شيئا إلا أن يعطينا حرية الوجود، أما ما نفعله بذلك الوجود فمتروك كله لنا، ومسؤوليتنا هي أن نملأ الكون بالمعنى والغرض.

مقالات مشابهة

  • فراغ الكون هو الذي يعطي حياتنا المعنى
  • د.حماد عبدالله يكتب: حديث إلى النفس !!
  • جان بيير فيليو يكتب: لم يسبق للولايات المتحدة أن دعمت حربًا إسرائيلية بهذا الحجم
  • دانيال كريج يطالب نتفليكس بمد عرض "Knives Out 3" في السينمات
  • سامح فايز يكتب: الحرب الثقافية (1)
  • أبو صفية: لدينا 120 جريحًا بمشفى كمال عدوان لا نستطيع تقديم المساعدة لهم
  • أشرف غريب يكتب: أطفالنا والعملية التعليمية
  • على الفاتح يكتب: «الزلزال»..!  
  • محمود مرزوق يكتب: الخواجة جرانجر وسرقة التاريخ
  •  خالد ميري يكتب: من يصدق الشائعات؟!