أنا من جيل عاش زمن الهزيمة وفرح بالنصر، جيل تفتحت عيناه على ثورة عظيمة غيرت وجه الحياة على أرض مصر وتأثر بها العالم أجمع ومن ثم كان زعيمها جمال عبدالناصر رمزا لعزة وكرامة كل المصريين، وكم كان صعبا على هذا الجيل أن يرى رمز عزته وفخره مهزوما! إن تلك السنوات الست التى عاناها المصريون فى ظل الهزيمة لم تكن إلا درسا قاسيا تجمعت ارادة المصريين كما لم تتجمع وتتحد من قبل لمحوه تماما من الذاكرة، حيث تحول كل شيء وتركزت كل الجهود والامكانيات لغرض واحد اتفقوا عليه فى صمت وألم هو تحويل الهزيمة إلى نصر، ولم يكن يقطع صوت هذا الصمت المؤلم إلا حناجرنا الهادرة فى المظاهرات الطلابية فى الجامعات والعمالية فى المصانع التى كانت تطالب بالثأر وعدم تأخير قرار الحرب لأننا شعبا وحكومة كنا على يقين من أن «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بها» وأن محاولات السلام والمفاوضات مع اسرائيل ذلك الكيان الذى زرع فى غير أرضه لا فائدة منها لأنه لن يتنازل عن شبر استولى عليه دون أن يجبر على ذلك!، لقد مرت هذه السنوات الست الحزينة ببطء قاتل على صدور المصريين وتحملوا فيها كل صنوف القهر والألم أملا فى أن يأتى يوم النصر.
ولما حانت اللحظة التى كنا فى جامعاتنا ومدارسنا ننتظرها بشغف لا حدود له وبقلق لا يدانيه قلق آخر ، لم نكن نصدق ما يحدث وأن معركة استرداد الحق والكرامة قد بدأت! لقد كنت فى ذلك الوقت بقريتى شوبر مركز طنطا والتصقت أذناى بالراديو مع اذاعة البيان الأول الذى أعلن فيه بدء المعركة وتوالت البيانات العسكرية التى تنقل أخبار المعارك بعد ذلك، وكانت تتسم بالواقعية والصدق ولا مانع يمنع من أن نستمع إلى الاذاعات الأجنبية للتأكد من صحة الأخبار والتهليل مع كل خطوة يخطوها جنودنا على أرض سيناء والفخر بكل نصر يحققونه على العدو. لكن اليقين لم يترسخ بنصرنا المؤزر فى تلك المعركة إلا حينما شاهدت بعينى رأسى تلك المعارك الطاحنة التى دارت فى سماء قريتنا والقرى المجاورة بين الطيران المصرى وطيران العدو يوم الرابع عشر من اكتوبر، حيث كانوا يستهدفون فيما يبدو تدمير القواعد والمنشآت العسكرية فى منطقتنا والهجوم على المصانع والمنشآت المدنية فى ذات الوقت!
وقد تناثرت فى تلك الأثناء وبعد الحرب القصص والحكايات حول ما حدث فى تلك الأيام، حيث الحفر التى خلفتها تلك الطائرات وقذائفها فى الأراضى الزراعية، وذلك الفلاح الذى أطاحت برأسه احدى الشظايا المتطايرة وهو يركب حماره وكان فى طريقه إلى الحقل، وذلك الطيار الاسرائيلى الذى نجا وتجمع حوله الناس حتى أسرته القوات المسلحة!
ومازلت أذكر أنه بعد وقف اطلاق النار وعودتى إلى القاهرة لمواصلة العام الدراسى ذلك المعرض الرائع الذى أقمناه فى الكلية احتفالا بالنصر وزينا مدخله الأيمن بتمثال للجندى المجهول مصنوع من شظايا ومخلفات المعارك الحربية! وكم كنت سعيدا بقصيدتى الشعرية التى كانت بعنوان «قصة ثعبان تمادى فهوى» وتحكى قصة اسرائيل منذ نشأتها واحتلالها الأرض حتى هزيمتها عام 1973م التى كتبت بخط عريض وعلى عدة فروخ من الورق المقوى وهى تزين الجانب الأيسر من مدخل ذلك المعرض!
لقد كانت أياما سعدنا فيها بتذوق طعم الانتصار وفتحت لنا أبواب الأمل لمستقبل مشرق ينتظر الوطن المكلوم بفقدان خيرة شبابه دفاعا عن الأرض والعرض.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: نحو المستقبل وجه الحياة ارض مصر
إقرأ أيضاً:
على حافة الهاوية!!
عوامل كثيرة جعلت من الشرق الأوسط منطقة صراع دائم وحروب كثيرة على مدار قرون وعقود طويلة، بعضها كانت لأسباب دينية وعرقية، وأخرى كانت بهدف الاستعمار وفرض النفوذ وخلق كيان جديد فى المنطقة تحت مسمى - إسرائيل - وفى النصف الثانى من القرن الماضى كانت مصادر الطاقة والأهمية الجيوسياسية للمنطقة مدعاة لتدخلات القوى الكبرى للسيطرة على الإقليم وتأجيج الصراعات فيه، وذريعة لتواجد هذه القوى بشكل مستمر تحت مسميات مختلفة.. ومع أن هذه المنطقة قد شهدت حالة من الاستقرار النسبى عقب حرب 1973 وتوقيع اتفاقية إسلام بين مصر وإسرائيل فى ظل التوازنات العالمية بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، إلا أن هذا الاستقرار سرعان ما تلاش بعد استئثار الولايات المتحدة بقيادة العالم، لتبدأ فى خلق الصراعات وتفجير المنطقة بداية من حرب العراق، ثم تشكيل ودعم تيارات الإسلام السياسى وأذرعتها الإرهابية المسلحة، بهدف إحداث فوضى خلاقة فى المجتمعات العربية، تسهم فى تحقيق الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة.
الآن بات الشرق الأوسط على حافة الهاوية، فى ظل الموجة الجديدة لنشاط ودعم تيارات الإسلام السياسى الذى ترعاه الولايات المتحدة الأمريكية لاستكمال مشروعها الاستراتيجى الذى وضعه - برنالد لويس - عام 1980، واعتمده الكونجرس الأمريكى عام 1982، كهدف استراتيجى للولايات المتحدة الأمريكية تحت مسمى - الشرق الأوسط الجديد - الذى ظهرت ملامحه بجلاء فيما سمى بالربيع العربى لإسقاط الأنظمة العربية وإحداث الفوضى الخلاقة على يد تيارات الإسلام السياسى، ودعمها للوصول إلى الحكم وإقامة أنظمة سياسية على أساس دينى، تنتج عنه صراعات طائفية وعرقية تنتهى بتقسيم هذه الدول، وهو الأمر الذى أدركته مصر مبكرًا بمؤسساتها وشعبها العظيم الذى حطم المشروع على أرض الكنانة فى الثلاثين من يونيو عام 2013، باعتراف وزير الخارجية الأمريكى هيلارى كلينتون، عندما أكدت فى مذكراتها أن الإدارة الأمريكية عجزت عن مواجهة الأمر فى مصر.. ومن المؤكد أن الأحداث فى سوريا والمنطقة سوف تكشف عن مفاجآت كبيرة وبخاصة الصفقة التركية فى دعم تيار الإسلام السياسى لحساب أمريكا، وأيضًا التفاهمات الروسية الإيرانية الأمريكية وغيرها من المفاجآت التى ترتبط بقدرة الفصائل التى تحكم سوريا على بناء نظام سياسى يحافظ على وحدة سوريا وتنوعها السياسى والعرقى أو الانزلاق إلى الفوضى والتقسيم.
الأحداث المتسارعة فى الشرق الأوسط، تكشف عن تحديات ومخاطر هائلة تواجه الدولة المصرية بسبب نشر الفوضى الخلاقة فى الإقليم وعلى الحدود المصرية من شتى الاتجاهات، سواء فى السودان أو ليبيا وأيضًا العربدة الإسرائيلية فى غزة وعلى أكثر من اتجاه، تشكل جميعها مخاطر على الأمن القومى المصرى وتأثيرات اقتصادية كبيرة سواء فى دخل قناة السويس أو حركة التجارة والسياحة وجذب الاستثمارات وغيرها من التأثيرات السلبية نتيجة إصرار الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل على إشعال المنطقة بشكل مستمر لتمرير وتحقيق أهدافهما الاستراتيجية.. لكن يبقى الأخطر والأهم هو قدرة مصر على الصمود فى مواجهة الموجات المتتالية من المخططات الأمريكية الإسرائيلية، خاصة بعد إعلان نتنياهو الصريح، بأن إسرائيل هى من ترسم خريطة الشرق الأوسط.. وهو أمر يدعو الشعب المصرى الذى صنع المعجزات، عندما سطر أعظم ثورة شعبية فى الثلاثين من يونيو، ثم استطاع دحر الإرهاب الممول والمدعوم، وفى ذات الوقت قاد أكبر عملية تحديث وتنمية شاملة غيرت وجه مصر وأعاد بناء وتحديث مؤسساته، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية الوطنية بأحدث تكنولوجيا السلاح حتى أصبحت الأولى فى الشرق الأوسط وافريقيا.. على هذا الشعب أن يفخر بما حققه فى عقد واحد فقط، وأنه الضامن الحقيقى لحماية وطنه، بل وأمته العربية.
حفظ الله مصر