فرح رغم الألم.. هكذا احتفل ضحايا زلزال الحوز بالمولد النبوي
تاريخ النشر: 29th, September 2023 GMT
تالمست نواحي إمينتانوت ـ لم يكن صباح أمس الخميس كأي صباح من أيام ما بعد "زلزال الحوز"، حيث تسرع السيدة الستينية فاطنة أمنتاك الخطى إلى جانب زوجة ابنها الشابة خديجة، لتقديم الطعام للزوار والجيران، وهو ما يطلق عليه السكان اسم "معروف".
منذ اهتزاز الأرض قبل ثلاثة أسابيع، لا حديث هنا في دوار تاهالا في ضواحي مراكش، إلا عن تلك الليلة المرعبة التي ظنها الناس ساعة قيامة، كما تقول السيدة الستينية للجزيرة نت.
"لكن اليوم يوم عيد، وهو مرتبط بسيد الخلق محمد -صلى الله عليه وسلم-، أتانا مسرعا ليخفف بعض آلامنا، ويدخل البهجة على قلوب الناس وأطفالهم"، وتضيف فاطنة وبريق أمل ظاهر يشع من عينيها.
بينما تواصل فاطنة وخديجة إعداد الطعام المكون من دقيق الذرة الصافي، لا يخفي زوجها محمد بوروجو سعادته بما تفعله المرأتان المجدتان، يقدم لضيفه وجاره محماد بن الشافعي -الذي أصبح بلا مأوى- عسل النحل الشهي، وكأس شاي وفواكه جافة وأملو (طعام يصنع من اللوز وزيت أرغان)، متناسيا حديثا بدآه عما خلّفه الزلزال من ضحايا في النفوس والبنيان.
يقول المواطن التسعيني الذي خبر المكان والزمان، "في موسم يوم المولد، يظهر فرح الجميع، وتصل إلى تالمست (قرية بها مدرسة عتيقة لتحفيظ القرآن الكريم بين إمينتانوت وأكادير جنوب المغرب)، أعداد كبيرة من الناس مع أطفالهم، بعضهم يقطعون مسافات مشيا، وبعضهم يأتي من مدن بعيدة، للتزاور ولقاء الأحباب".
ويضيف للجزيرة نت، ما تفعله السيدة فاطنة جزء يسير، مما يقدم عليه الناس الكرماء هنا، بعضهم يهدي المال، وأخرون يلجؤون إلى الذبائح، تطعم النساء اللحوم للناس، تقربا إلى الله بهذه المناسبة العظيمة".
غير بعيد عن منزل السيدة فاطنة، تتراءى مئذنة المدرسة العتيقة في تالمست شامخة، لم ينل منها الزلزال شيئا غير شقوق طفيفة، وحولها تحول إلى سوق ممتد الأطراف يجوّل فيه الناس بثيابهم النظيفة، بينما يلهو الأطفال فرحين بلعبهم الجديدة.
لا شيء هنا يعلو فوق صوت الحلواني، وهو يدعو الناس إلى "حلوى المولد" الملونة بألوان زاهية، التي أعدها بالسكر المخلوط بالزبيب والفول السوداني وعطر الورد.
يقول السيد محمد أساور للجزيرة نت، إن "الحلوى، أهم ما في الموسم، لا يضاهيها غير اقتناء الناس للفواكه الجافة التي تقدم للضيوف في مثل هذه المناسبات، إضافة إلى حرص النساء على شراء هدايا يسيرة من الفضة لبناتهن الصغيرات".
على مرمى حجر من المدرسة العتيقة، وعلى ربوة صغيرة، صادفت الجزيرة نت مبادرة لجمعية مدنية قادمة من مدينة آسفي على بعد أكثر من 200 كم، تهدف إلى مشاركة الناس آلامهم وأفراحهم في الوقت ذاته، كما يقول الناشط المدني عبد السلام بنهنية.
وفي حديثه للجزيرة نت، يلاحظ المتحدث ذاته كيف أن الناس، بقوا منتظرين دورهم بعيدا عن المساعدات التي وضعت بعناية في أرض عارية، دون أن يهبوا للازدحام عليها، مؤكدا أنها "نخوة المواطن المغربي الذي تأبى نفسه أن يمد يده إلى حاجة غيره".
مبادرة أدخلت الفرحة -أيضا- على الصغار بتوزيع الألعاب، التي تعدّ من رموز الاحتفال في هذه المنطقة النائية، وهو "معروف" من نوع آخر، كما يحب أن يسميه عبد السلام.
لكن ما أصل الحكاية، كما يتساءل بعض الناس، وهو يرى عادة "المعروف" التي يتمسك بها أهل تالمست، كما يفعل سكان مناطق كثيرة بجبال الأطلس؟
يشرح الأكاديمي المغربي رشيد شحمي، أن "المعروف" صدقة تأتي من فرد أو مجموعة، تكون عبارة عن ذرة مطحونة أو أرز أو معكرونة، تعدّها النساء وتقدم للناس خاصة للصغار والرعاة عابري السبيل، طلبا للعون من الله تعالى، واعتقادا أن استجابته -سبحانه- تكون سريعة.
ويضيف رشيد للجزيرة نت، "ليس في يوم المولد فقط يقدم طعام المعروف، فهو عادة مرتبطة -كذلك- بمكان ذي قدسية، تقام من أجل الصلح بين الناس أو طلب المطر، أو في موسمي الزراعة والحصاد والجني، أو تهيئ الساقية، أو تقسيم نصيب الماء، ذلك أن تقديم الطعام دليل على الحب والتضامن والوفاء والتعاون".
ويوضح الباحث في التاريخ الاجتماعي أن هذه العادة ظهرت مع انتشار الزوايا في المغرب في القرن السادس عشر، خاصة في جبال الأطلس، التي حملت في طياتها حركة ثقافية وتوعوية للمجتمع مرتبطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بتحبيب الناس للدين عن طريق الإحسان لهم وليس بالسيف، ومن ذلك أخذت هذه العادة تسميتها.
بدورها دأبت عائشة إمهراسي بمدينة تارودانت (268 كيلومترا جنوبي مراكش) على تنظيم احتفال سنوي خلال يوم المولد. وتقول هذه السيدة، وهي رئيسة جمعية مدنية إن، "الزلزال يفرض الاكتفاء بالاحتفال في الحد الأدنى، عبر مدائح نبوية في الصباح، وإعداد "المعروف" لوجبة الغذاء المكون من الكسكس تعدّه النساء، وإخراج "السلكة" (قراءة جماعية كاملة للقرآن الكريم)، يتبعها أدعية ترحما على من فقد في الزلزال".
وفي حديثها للجزيرة نت، قالت عائشة، إنها ورثت إقامة "المعروف" كل سنة عن والدتها المتوفية، وأنه مناسبة للتزاور بين الأهل والأحباب والأصدقاء، بل منهم من يأتي من مدن أخرى ومن الخارج من أجل ذلك، ومن الناس من يزين منزله باللون الأبيض، ويضيف إلى جدرانها رسومات معبرة.
بينما يشير الأكاديمي رشيد شحمي إلى أن هذا الأكل الذي يحرص بعض الناس على تقديمه عند المجاري المائية، يتبعه دعاء جماعي للرجال، أو يطلب ذلك من السيدات المسنات في الجماعة، من أجل جلب خير أو دفع ضرر.
في المناطق الذي ضربها الزلزال، لا تزال الأطلال هنا شاهدة على ما دُمّر مساء الجمعة الثامن من سبتمبر/أيلول الجاري، في ثوان معدودة.
"تحت كل سقف وتحت كل خيمة، تقبع حكاية تنتظر من يرويها الآن وغدا، حكاية يوم ذهل كل واحد عمن سواه، بينما ربط بعض المنكوبين من جأشهم، ليبحثوا عن أحبتهم تحت الأنقاض"، كما تحكي عائشة.
"ليس البيوت وحدها ما أزيل من فوق الأرض، بل ذهبت أرواح الأحبة وضحكاتهم وروائحهم، ومسحت من كل ركن آثاره وذكرياته وعبقه"، تضيف عائشة وهي تنادي على طفلين يمران بجانبها لتذوق طعامها الذي تفوح منه رائحة سمن شهية.
هي الأيام ماضية كما شاء لها الله وقدَّر، تترك أثرا وتمسح آخر، لا تلتفت وراءها، لا يكبح مضيها كابح ولا يسرع وتيرتها دافع، كما يقول الباحث رشيد، لكن ذلك لا يمنع الناس من أن يسرقوا من العمر لحظات، كي يفرحوا ويتحابوا ويتعاونوا، في انتظار الفرج الكبير، والعودة إلى الحياة الطبيعية بين جبال ألِفها الناس وألفتهم.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: بالمولد النبوی المولد النبوی للجزیرة نت
إقرأ أيضاً:
لويزا الألمانية.. تروي للجزيرة نت كيف أسلمت ورابطت في المسجد الأقصى
عندما بدأت التسجيل مع لويزا لورانزن وجدت فيها حماسة للتعبير عن رحلتها إلى الإسلام والرباط بالمسجد الأقصى، وانطلاقا نحو سرد تفاصيل دقيقة شكّلت انعطافات كبيرة في مسيرات حياتها المهنية والأكاديمية والدينية، وتدفقت العبارات لتروي للجزيرة نت تفاصيل هذه الرحلة.
فتقول لويزا عن نفسها: "عندما بلغت 20 عاما من عمري لم أكن أعرف عن الإسلام شيئا، ولم ألتق مسلما من قبل، حتى المنطقة التي أسكنها والأسرة الكبيرة التي أنتمي إليها لم يكن فيها مسلم واحد، واستمر ذلك حتى انتقلت لمتابعة دراستي في مدريد بإسبانيا".
ولويزا نشأت في فرانكفورت بألمانيا لأب أسترالي وأم ألمانية، وهي باحثة في السلام والصراعات الدولية، وكان موضوع أطروحتها لنيل درجة الماجستير عن المرابطات في المسجد الأقصى، وأنشأت مع زوجها براء أبو الخير مؤسسة في ألمانيا معنية بالدفاع عن القضية الفلسطينية.
وبراء أيضا وُلد في ألمانيا أيضا، ولأبوين فلسطينيين، ويعمل في مجال الهندسة الصناعية والطاقة المتجددة وحماية المناخ.
إسلام لويزا
شكّل وصول لويزا إلى إسبانيا نقطة تحول عظيمة في حياتها كلها، إذ للمرة الأولى تلتقي مسلمين عن قرب وتتعامل معهم، وكان تطوعها في منظمة إنسانية المدخل الأول الذي جعلها تعيد حساباتها، ولم يستغرق الأمر طويلا لاتخاذ قرار بأن الإسلام هو الطريق الصحيح الذي ينبغي السير فيه.
إعلاناستمرت لويزا في إسبانيا عامين، بدأت فيها دراسة العلوم السياسية، وركزت دراستها على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن المفارقة أن فلسطين لم تكن موضوعا رئيسيا في دراستها آنذاك، ولم تكن تعرف الكثير عنها، حتى عندما يرد ذكرها في الدراسات الجامعية لديها تكون وجهة النظر أحادية.
ويشاء الله تعالى أن تصبح فلسطين محور دراستها في الماجستير والأبحاث الأخرى التي توالت بعد إسلامها، فتروي لويزا أنه رغم عدم معرفتها بأي فلسطيني عن قرب قبل إسلامها، فإنها شعرت برابطة الإسلام التي تجمعها مع المسجد الأقصى، وتحديدا عندما بدأت التعرف على الفلسطينيين.
بين إسطنبول والمدينةوتجسد هذا التعارف في زوجها براء وعائلته الفلسطينية، فأجداده من الذين عاشوا ويلات نكبة عام 1948، ووالداه ولدا مباشرة بعد النكبة في مخيم للاجئين الفلسطينيين، وهذا التعارف شكّل الباب الواسع الذي قدم مادة علمية أمام لويزا لكتابة أوراق بحثية عن القضية الفلسطينية على نحو يغاير انحياز الدراسات الألمانية تجاه الرواية الإسرائيلية.
وربما لعبت الصدفة دورا في تعرف لويزا على هذه الأسرة الفلسطينية، ففي مطار إسطنبول قابلت لويزا فتاة ألمانية من أصل فلسطيني أثناء توجهها إلى أداء مناسك العمرة، ولم يدم اللقاء كثيرا وذهبت كل واحدة في طريقها.
وفي اليوم الأخير من العمرة في المسجد النبوي بالمدينة المنورة قابلت لويزا الفتاة الفلسطينية نفسها، ولكن اللقاء هذه المرة امتد لوقت أطول، وتعمقت المعرفة وأخذت أبعادا أخرى للدرجة التي رشحتها الفتاة إلى أخيها، وسرعان ما تمت الخطبة.
زواج لويزا من براء لم يكن لقاء بين شخصين مجردين أو أسرتين مختلفتين، لكنه انفتاح على قضية ستشكل محور دراساتها واهتماماتها، وستضع في طريق معرفتها كتبا أخرى وسردية جديدة للصراع غير تلك السائدة في المدارس والجامعات الألمانية، والتي بالطبع تكون منحازة للمنظور الإسرائيلي.
إعلان
المرابطات بالقدس
تقول لويزا "المرة الأولى التي حظينا فيها بفرصة زيارة فلسطين والمسجد الأقصى كانت في رمضان (2023)، أي قبل نحو نصف عام من بدء الحرب والإبادة الجماعية على قطاع غزة، وكانت هذه لحظة تحول في رأيي، سواء في حياتي الشخصية أو في حياتي المهنية أو الأكاديمية، حيث تعرفت على أحد أكثر الشعوب صمودًا، وهم المرابطات في القدس".
وتروي الباحثة الألمانية ما وقفت عليه بنفسها: "هؤلاء النساء ممنوعات من دخول المسجد الأقصى منذ أكثر من عقد، وتصدر ضدهن أحكام من المحاكم العسكرية تمنعهن من دخول المسجد الأقصى. والآن بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أصبح ذلك صعبًا للغاية عليهن ويكاد يكون مستحيلًا، ولكنهن ما زلن يمارسن مطالبهن بالتجمع عند أقرب نقطة يستطعن الوصول إليها قرب المسجد الأقصى".
ومن المفارقات التي وقفت عليها لويزا أن أغلب هؤلاء المرابطات يعشن في البلدة القديمة بالقدس، ومع ذلك يُمنعن من دخول المسجد الأقصى، "فكن يجتمعن عند البوابات الأقرب للمسجد ويصلين هناك ويفطرن ويتحدثن مع الناس".
كان التحدي الكبير أمام لويزا يتمثل في نقل القصص الإنسانية التي سمعتها في فلسطين إلى المشهد الأكاديمي الألماني، خاصة أن الأوساط الجامعية في ألمانيا لم تكن ترحب بدارسة يكون موضوعها "المرابطات في المسجد الأقصى"، ليس فقط بين الأساتذة، بل بين الطلاب أنفسهم.
نظرة لويزا للمرابطات تغيرت إلى حد ما بعد مشاركتها في الأنشطة التي يقمن بها، ونظرت إلى الرباط في رحاب المسجد الأقصى بوصفه "فعلا مقاوما" للاحتلال تقوم به ناشطات فلسطينيات، وكنوع من الإلهام الذي يغير مجرى دراساتها.
وهذا تحديدا ما دفعها إلى اختيار موضوع أطروحتها للماجستير ليكون حول ممارسات المرابطات اليومية، وكيف يقمن بأنشطتهن، وكيف يتكيفن مع القمع الذي يتعرضن له تحت الاحتلال الإسرائيلي، فهن يتعرضن للضرب والسجن باستمرار.
إعلانوتروي لويزا على لسان إحدى المرابطات أنها تخرج كل يوم من منزلها وهي تتوقع 3 سيناريوهات: إما أن تتعرض للضرب من قبل الجنود الإسرائيليين، أو يتم سجنها، أو تصبح شهيدة.
شهادة ألمانية
بعد عودة لويزا وزوجها براء من فلسطين، مارس الاحتلال الإسرائيلي "إبادة جماعية" على الفلسطينيين في غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفجّر ذلك تعاطفا كبيرا من الأصوات الناقدة للسياسة الألمانية، لكن هذه الأصوات تم قمعها وبعنف من قبل الشرطة، خاصة المظاهرات التي جابت شوارع برلين.
وتقول لويزا وزوجها براء إن الأمر امتد إلى أن كثيرا من المتعاطفين مع القضية الفلسطينية فقدوا وظائفهم وأعمالهم لمحاولتهم التعبير عن الإحباط والغضب من سلوك الحكومة الداعم للعدوان الإسرائيلي مما ولّد إحباطا عاما، لكنهم لم يتوقفوا عن الأنشطة التي تشرح قضيتهم حتى تغير المشهد الشعبي العام في ألمانيا.
ويقول براء أبو الخير إن ما بعد معركة السابع من أكتوبر غيّر الكثير من المسلمات التي كانت سائدة في ألمانيا، وعلى رأسها احترام القانون الدولي، بوصفه قوة لا يمكن تحديها أو تجاوزها، لكن ما تعلموه لاحقا أن هذه القدسية لها شروط ولا يتم تطبيقها على الجميع.
ويضرب أبو الخير مثلا بالأبرياء من أطفال غزة الذين يستمر قتلهم، والمزيد من المستشفيات والمدارس التي تدمر، لأن ألمانيا تحديدا تطبق القانون الدولي فقط "إذا لم تكن الضحية دولة أوروبية، أو لم تكن الضحية شخصًا أبيض، فإننا نتحدث عن قواعد مختلفة لا تنطبق على الفلسطينيين على الإطلاق أو على شعوب الجنوب العالمي".
وأشار أبو الخير ولويزا إلى أنهما أسسا معا مؤسسة في ألمانيا معنية بالدفاع عن السردية الفلسطينية، وعرض حقائق القضية باللغة الألمانية، وأنها تجد تجاوبا كبيرا من المجتمع الألماني الذي يحدث فيه تغيير إيجابي حاليا حتى في الساحة الأكاديمية، واستمرار المظاهرات في الشوارع الألمانية تعكس هذه المتغيرات، رغم التضييق الحكومي حتى الآن.
إعلان