مشكلة السودان مع «الإقصائيين»
تاريخ النشر: 29th, September 2023 GMT
مشكلة السودان مع «الإقصائيين»
عثمان ميرغني
في موازاة الحرب الشرسة الدائرة الآن في السودان، هناك حرب أخرى وسط ركامها، تأبى أيضاً أن تضع أوارها، بل تزيد في تأجيج النيران. صحيح أن هناك عوامل داخلية وخارجية عديدة تسهم في إطالة أمد الحرب وتعقيد المشهد، لكن الانقسام العميق في الساحة السودانية والاستقطاب الحاد بين القوى المتصارعة، هما من أهمها في تقديري.
القوى السياسية، وبشكل خاص قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) من جهة، والإسلاميون من الجهة الأخرى، يخوضون معركة ضروسا يحاول كل طرف فيها إلقاء المسؤولية على الطرف الآخر، بدءا من مسألة من أشعل أوار حرب 15 أبريل (نيسان)، ومن المسؤول عن تعثر الفترة الانتقالية، مرورا بالجدل حول نشوء ونمو قوات الدعم السريع، ثم الجدل حول كيفية إنهاء الحرب.
الحقيقة أنه قبل أن تندلع هذه الحرب كانت نذرها لا تخفى على كل ذي عين بصيرة، بل تكررت التحذيرات من كثير من العقلاء من أن الصراعات المستعرة تقود البلد نحو حرب محتومة. الانقسامات كانت عميقة وسط المدنيين ووسط العسكريين وبين المدنيين والعسكريين. كل معسكر يحاول ويعمل لهزيمة المعسكر الآخر وإقصائه من المشهد السياسي، ما أدى إلى تصاعد حالة الاحتقان، وتزايد الاستقطابات السياسية والجهوية التي امتدت من المركز إلى الأطراف، وأججت التوترات. لم يؤد كل ذلك إلى تعثر الفترة الانتقالية وإسقاط حكومتها المدنية فحسب، بل أسهم في تراكم العوامل التي أفضت في النهاية إلى الحرب.
المصيبة أنه بدلا من أن توظف الأطراف الدرس القاسي، وتغير في نظرتها للأمور من أجل مصلحة البلد في هذا المنعطف الحرج، فإنها تواصل اليوم معاركها، وتتمترس في المواقف والرؤى ذاتها، بل أصبحت أشد حدة في بعضها. في صلب هذه الأزمة هناك البعض الذي لا يرى هذه الحرب من منظور الدمار الذي ألحقته بالبلد، والمعاناة غير المسبوقة التي سببتها للمواطن، بل يراها من منظور حسابات سياسية ضيقة فرصة لإقصاء خصمه وإبعاده عن المشهد، أو منصة للعودة إلى السلطة. يبدو هذا واضحا من الخطاب الطاغي على المشهد في الإعلام أو في منصات التواصل الاجتماعي بأنواعها، وهو خطاب تسيطر عليه مجادلات لا تنتهي، ولغة حادة تصل أحيانا إلى تخوين المواقف والأشخاص بسبب التباينات في الرأي.
فالإسلاميون الذين سيطر عليهم هاجس التهميش والإقصاء من المشهد السياسي بعد الثورة يرون في هذه الحرب فرصتهم للعودة إلى المشهد أو للسلطة، ويعدون اليسار وبعض الأحزاب الصغيرة الأخرى المعادية لهم، هي التي تتولى توجيه دفة الأمور في تحالف قوى الحرية والتغيير في ظل الضعف الذي اعترى الأحزاب الكبيرة (الأمة والاتحادي الديمقراطي)، وأنها تعمل على إبعادهم وإقصائهم، ولن يكون هناك مجال لتوافق بين الجانبين.
في الطرف الآخر يرى التيار الغالب في قوى الحرية والتغيير أن الإسلاميين بعد ثلاثين عاما في السلطة تغلغلوا في مختلف مفاصل الدولة، بما في ذلك الجيش وأن هذه الحرب فرصة لتحجيمهم، بعدما تعطلت الجهود السابقة في الفترة الانتقالية لتحقيق هذا الهدف بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وأنه من دون ذلك لن يكون هناك استقرار لأي مرحلة مقبلة بعد أن تنتهي الحرب.
السؤال هو: هل هذا ما يحتاج إليه السودان في هذا المنحنى الخطير؟
الحقيقة أن الإقصاء ظل مشكلة السودان لعقود وتسبب في زعزعة استقراره، وأسهم في حروبه، وفي سلسلة الانقلابات العسكرية التي عصفت بتجاربه الديمقراطية القصيرة. وليس صحيحا أن تسييس الجيش بدأ في عام 1989 مع انقلاب الإسلاميين (الكيزان) الذي كان واجهته العميد آنذاك عمر البشير. التسييس بدأ في وقت مبكر، وتورطت فيه أكثرية القوى السياسية، إن لم يكن كلها بدرجات متفاوتة.
أكثر من ذلك، فإن سياسات الإقصاء والتهميش التي شاركت فيها مختلف الأحزاب والقوى السياسية بدرجات متفاوتة وفي مراحل مختلفة عطلت الوصول إلى حلول لأزمة الحكم المزمنة، والتوافق حول كيف يحكم البلد وكيف نعالج قضايا الهوية والمواطنة والتأسيس لدولة مستقرة، ولنظام ديمقراطي قابل للحياة.
ما يحتاج إليه السودانيون اليوم للخروج من عنق الزجاجة هو التوافق بدلا من محاولات الإقصاء التي دفعت الأمور نحو هذه المهلكة الراهنة. البلد يواجه أولا تحدي إنهاء الحرب، وبعدها سيكون أمام جبل من المشكلات والتحديات لإعادة الإعمار واستعادة الدولة، وهو ما يتطلب توافقا عريضا يحقق نوعا من الاستقرار الذي من دونه لن تخطو الأمور نحو الأمام، ولن تنجز المهام الكبرى، بل قد يواجه البلد نكسات أخطر، ومهددات أكبر.
غالبية السودانيين همهم الأول الآن هو إنهاء الحرب وعودة الأمن والاستقرار الذي يسمح لهم باستئناف حياتهم. والسؤال الذي يردده كثيرون: ما الأولوية في هذه الفترة العصيبة، الخلاف مع الإسلاميين (الكيزان)، أم أزمة الوطن؟
الأولوية التي تسمعها من الكثيرين حتى الذين يختلفون بشدة مع الإسلاميين، هي مصلحة الوطن، وكيف نعبر به من نفق هذه الحرب التي استنزفته وأرهقت شعبه وتكاد تهدد وجوده.
الخلاف مع الكيزان خلاف سياسي قابل للتأجيل، لكن أزمة السودان الراهنة ليست قابلة للتسويف والمماطلة السياسية. أما الإقصاء فينبغي أن يكون أمره للشعب عبر صناديق الانتخاب متى ما وصلنا إليها.
* نقلاً عن الشرق الأوسط
الوسومإيقاف الحرب الأمة القومي الإسلاميين الحزب الاتحادي الديمقراطي السودان الشرق الأوسط عثمان ميرغني قوى الحرية والتغييرالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: إيقاف الحرب الأمة القومي الإسلاميين السودان الشرق الأوسط عثمان ميرغني قوى الحرية والتغيير قوى الحریة والتغییر هذه الحرب
إقرأ أيضاً:
ما الذي يمكن خسارته من تشكيل حكومة مدنية موازية لحكومة بورتسودان؟
بقلم: إبراهيم سليمان
ما الذي يمكن خسارته من تشكيل حكومة مدنية موازية لحكومة بورتسودان؟
عند الحديث عن خسارة أمرٍ ما، لابد من توضيح الحساب بكافة المعطيات، ورصد الناتج والمحصلة النهائية التي لا تقبل الجدل، ورغم ذلك هنالك تقديرات، يمكن النظر إليها من زوايا مختلفة، ولا يحمد السوق إلا من ربح. وقديما قيل، "الجمرة بتحّرق واطيها" وقيل أيضا "من يده في الماء ليس كمن يده في النار"
يبدو أن حكومة بورتسودان، بقيادة الجنرال البرهان، تشمر، للتعري من ثيابها، وتستعد للخروج عن طورها، من خلال اتخاذها عدة إجراءات تعسفية، تنم عن اليأس وعدم المسؤولية الوطنية، منذ اندلاع الحرب الحالية، قطعت خدمات الاتصالات عن أقاليم غرب السودان، وحرمت مواطنين على الهوية من الأوراق الثبوتية، حظرت عليهم خدمات السجل المدني، وأخيراً عمدت الإتلاف الإجمالي للعملة والوطنية في حوالي أكثر من ثلثي أقاليم البلاد، من خلال تغيرها في مناطق سيطرة الجيش على ضآلتها، حرمان الآخرين منها، وأخراً الإصرار على إجراء امتحانات الشهادة السودانية لحوالي مائتي ألف طالب طالبة، وحرمان حوالي أربعمائة آخرين في بقية أرجاء البلاد!
بهذه الخطوات المتهورة، وغير المسؤولة، لم تترك حكومة بورتسودان، للمستهدفين من أبناء الشعب السوداني، الذين يمثلون الغالبية العظمي، سوى المضي قدماً ودون التردد أو الالتفات إلى الوراء، في المناطق التي تقع خارج سيطرة الجيش، والمحررة من عنف وظلم دولةـــ 56 لتضلع بمهام توفير الخدمات الضرورية لحياتهم اليومية والملحة لأن يعيشوا بكرامة وعدالة. وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية للذين يستحقونها، بدلاً من المتاجرة فيها من قبل تجار الحرب في بورتسودان.
لماذا يدفع أبناء الولايات، التي يستهدفها الطيران الحرب لحكومة بورتسوان، وتحرمها من حقوقها الإنسانية والدستورية، تكاليف بقاء السودان موحداً؟ طالما أن هذه الحكومة غير الشرعية تدفع بعنف وإصرار لتمزيق وحدة البلاد!، وما هي قيمة الوحدة الوطنية، التي تزهق أرواح عشرات الملايين من مكونات بعينها؟ وطالما أن هنالك خمس ولايات فقط، بإدارة مواطنيها أو بغيرها، غير مباليين، بهموم وآهات بقية الإقليم، فلينفصلوا هم إن أرادوا ويتركوا الآخرين وشأنهم.
وليس هناك ما هو أغلى من أرواح الأبرياء، والحفاظ عليها، وحقن دماء أبناء الشعب السوداني مقدم على أي اعتبارات أخرى بما فيها والوحدة الوطنية القسرية. لذا نرى أن تشكيل حكومة مدنية في المناطق المحررة والتي هي الآن خارج سيطرة الجيش، وهي المناطق التي لا تعني شيئا لحكومة بورتسودان الانقلابية، ضرورة حياتية، ويعتبر التقاعس عنه، أو التردد فيه حماقة، وخذلان في حق عشرات الملايين المستهدفين، من قبل الحكومة العنصرية في بورتسودان، وجيشها القاتل.
المنوط بالحكومة المدنية المرتقبة، توفير خدمات التربية والتعليم، وخدمات السجل المدني والأوراق الثبوتية، وفتح معابر تجارية لتصدير المنتجات واسترداد كافة الضروريات المنقذة للحياة، وطباعة عملة وطنية مبرأة للذمة، استباقاً للكارثة الاقتصادية التي تلح في الأفق، ونزع الشرعية من حكومة بورتسودان التي تصر على استمرار الحرب، وترفض كافة النداءات الوطنية الدولية للجلوس للتفاوض بشأن وقف الحرب وإحلال السلام في البلاد، وتقول أنها مسعدة لمواصلة الحرب مائة عام!
وطالما أن هنالك صراع بين قوتين عسكريتين، فليكن هنالك تنازع بين حكوميتين، لتتعادل الكفتتين، وربما يسرع ذلك إيجاد حلول للحكومتين، لكن لا ينبغي أن تتوقف حياة أغلبية الشعب السوداني، من أجل خاطر الحفاظ على وحدة البلاد، التي لم يحرص عليها دعاة الحرب.
ولا نظن أن تشكيل الحكومة المدنية المرتقبة في الخرطوم، ستضر بوحدة البلاد، أكثر حرب كسر العظام الدائرة حالياً، وتأجيج نيران خطاب الكراهية الممنهجة، من دعاة دويلة النهر والبحر، الذين يعادون كافة مكونات البلاد، يرفضون المساواة بين مكوناتها!
ليس هناك ما يمكن خسارته، من تشكيل حكومة موازية مرتقبة بالخرطوم، حتى إن لم يعترف بها أحد، يكفي أن المأمول منها، فك ارتهان مصير غالبة مكونات الشعب السوداني، لمزاج ورعونة حكومة بورتسودان غير المسؤولة. ومما لا شك فيها أن الأوضاع الإنسانية في ليبيا واليمن، وحتى جمهورية أرض الصومال، أفضل ألف مرة منها في معظم أرجاء البلاد. تمزيق وحدة السودان المسؤول عنه حكومة بورتسودان بإجراءاتها التعسفية وقائد الجيش، الذي أعلن على رؤوس الأشهاد، استهداف حواضن قوات الدعم السريع، ويظل يمطرهم بالبراميل المتفجرية بشكل يومي.
وفي الحقيقة، فإن حكومة بورتسودان المعزولة دولياً، قد مزّقت وحدة البلاد فعلياً، بالتصعيد المنتظم من قبلها بشأن اتخاذ إجراءات مست جوهر قومية الدولة السودانية، وأن تشكيل الحكومة المدنية المرتقبة ما هو إلا تحصيل حاصل.
والغريق لا يخشى البلل.
ebraheemsu@gmail.com
//إقلام متّحدة ــ العدد ــ 181//