بروفيل| الإمام أبوالوفاء الشرقاوي.. المصباح الذي يضئ للأرواح
تاريخ النشر: 29th, September 2023 GMT
يمكن للموت أن يحصد الأرواح وتلك هي غلبته على الإنسان ولكنه لا يستطيع أن يُصادر تاريخ من آماتهم أو يمحو سيرتهم، وخاصة وإن كانت السيرة والتاريخ فيهما من القيم والثوابت والأعمال والمواقف ما يجعل منها تبدو مثل الجبل الشامخ لا يتحرك ولا يهتز في وجه الزمن.
رحل العارف بالله فضيلة الإمام أبوالوفاء الشرقاوى، عن دنيانا في مطلع الستينيات من القرن الماضي وبكته كل طوائف صعيد مصر، ولكنه لا يزال حيا بسيرته، في القلوب تشع صوفيته وفى العقول ترسخ وطنيته ونضالة.
إن الذي يرصد فعاليات تلك السيرة يدهش من بقاءها بتلك المساحة فى الذاكرة الشعبية، ففي المتاجر ترى صورته تزين الجدران وفى جلسات الصوفة لا تخلو من ذكره وفى مجالس الساسة تذكر مواقفه وثوابته وبين الأقباط تذكر سماحته وبين العجائز تروى سيرته ومآثره وشجاعته ووقوفه في وجه الظلم ، الشيخ الشرقاوى هو الغائب الحاضر غابت روحه النقية عنا وسيرته حاضرة في كل الأوقات .
تلك السيرة التي بدأت بمولده في عام 1879 ميلادية بقرية دير السعادة وهى نفسها التي سميت باسمه حاليا «دير شرقاوي» شمال غرب نجع حمادي بمحافظة قنا.
كان الإمام العارف صوفيًا نقيًا يميل إلى العزلة محاولًا إيجاد علاقة أكثر خصوصية مع خالقة تلك العلاقة الشفافة للغاية التي هي غاية المنى عند كل السالكين في هذا الدرب؛ تلك الشفافية التي تجعلك ترى ما لايراه الآخرون وتسمع ما لا يسمعونه وتجعل الروح هائمة في ملكوت الله غير مفتكرة بالأمور الدنيوية لأنها قد ارتقت إلى ماهو أعذب وأنقى.
حقق شيخنا مناه وأصبحت روحه مثل نسيم الفجر متحررة ونقية وصافية أن تلك المرتبة التي وصل إليها العارف بالله الشيخ أبوالوفاء الشرقاوى جعلته يبدو كالمصباح المنير في زمن ربما كان أشد ظلمة من عتمة الليل.
ذلك النور الذي إشاعة ذلك القطب في المنطقة هو عملا خالدا لن تنساه ذاكرة الصعيد فلم يكتف ذلك القطب بالرسالة التي استكملها عن أبيه فضيلة الشيخ احمد بن الشرقاوى في الدفاع عن الدين الاسلامى ونبذ البدع والضلال في التصوف الذي كان يرى فيه إنه لابد أن تستقى مناهجه من كتاب الله وسنة النبي محمد(ص) فنراه يؤلف رسالة رائعة في ذلك المضمون «مصباح الأرواح فى سلوك طريق الفتاح» لتكون نصيحة للذاكرين وقد طبعها مرتين في حياته لاهتمام المريدين بها.
الإمام والحركة الوطنية المصريةبالتزامن أيقظ ذلك الصوفي الهمم وألهب المشاعر الوطنية فبينما كانت البلاد مكبلة بأغلال الاستعمار وأصفاده القوية التي طوقت المصريين جاء العارف بالله الشيخ ابوالوفاء الشرقاوى من ظلال الحضرة النبوية حيث كان قد قرر الإقامة بالمدينة المنورة ليحرر المنطقة من كل ذلك فإذا كانت الصوفية تحرر النفوس فأنها في ذات الوقت تدعو لمحاربة الظلم والطغيان.
لعب صاحب الفضيلة دورا بارزاً في الكفاح ضد الاستعمار البريطاني في صعيد مصر كان هو المرجعية لكل النفوس الوطنية الثائرة ضد الاستبداد والظلم في نفس الوقت وبينما كان شيخنا يحطم الأصفاد في منطقته كان ذلك الزعيم سعد زغلول الذي تسكنه روح مصر قد تحرك منذ فترة وجيزة نحو القضية ذاتها.
هرم مصر الشامخ سعد زغلول وذلك المصباح الذي يضيء للأرواح الشيخ الشرقاوى العالم الجليل كانا يسيران في نفس الدرب هذا يقود الأمة في الشمال والأخر يقودها في الجنوب ومعه الكثير من الوطنيين وكان لابد من اللقاء بين القطبين.
زار سعد زغلول شيخنا حيث تلك الصورة الشهيرة على ظاهرة نوبيا العائمة النيلية التي حملت سعد ورفاقه إلى
عواصم الصعيد سنة 1921 ، وكان اللقاء حارا بين محاربين من طراز فريد تبنيا قضية مصر للمصريين قال سعد «الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة» وكتب العارف بالله «إذا جاء نصر الله والفتح يا مصر، فما مثل هذا الفتح فتح ولا نصر».
جاهر العارف بالله بدعوته الوطنية نحو تحرير البلاد رغم عنفوان الموالين للوجود البريطاني في مصر وأخذ ينشد القصائد الجليلة ويحث المصريين بحضوره الطاغي،على مجابهة المستعمر.
وخاض حروبًا ضد البدع التي كانت متفشية في عصره والتي تخلط الدين بالضلال ودعا علماء المسلمين اتخاذ موقف تجاه مجتماعتهم التي يعيشون فيها.
أنجب الصعيد كثير من العلماء ولكن يبقى الشيخ ابوالوفاء الشرقاوى هو علامة فارقة في تاريخ الصعيد ليس كقيمة روحية صوفية فقط بل كمناضل وطني تصدى بكل جرأة للقوى الاستعمارية.
ورغم رحيل الإمام فإنه بيننا، فالساحة الشرقاوية الرحبة تحتضن الزائرين والمصباح الذي يضيء للأرواح لا يزال يشع نورًا للطالبين .
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الإمام الحركة الوطنية سعد زغلول ثورة 1919 الأرواح المصباح التصوف العارف بالله العارف بالله
إقرأ أيضاً:
حلم بوتين الذي تحول إلى كابوس
مع سقوط بشار الأسد، انقلب المدوِّنون العسكريون القوميون الروس على الكرملين، فاشتعلت قناة (تو ميجورز) على تلجرام في وجه أكثر من مليون مشترك قائلة: «عشر سنوات من الحضور، وجنود روس موتى، ومليارات مهدرة من الروبلات وآلاف الأطنان من الذخيرة، لا بد من تعويضها بطريقة ما». ولم يتحرج البعض من انتقاد فلاديمير بوتين رأسا: «يبدو أن مغامرة سوريا، التي بدأها بوتين شخصيا، تشرف على النهاية. والنهاية مخزية، شأن جميع مساعي الكرملين’الجيوسياسية’ الاستراتيجية الأخرى». ولم تكن تلك حالات فردية، فقد رصدت شركة «فيلتر لابس» لتحليل البيانات التي أتعاون معها انخفاضا حادا على مواقع التواصل الاجتماعي في المشاعر المتعلقة بسوريا مع سقوط الأسد.
يتناقض ذلك تناقضا صارخا مع زعم بوتين السخيف في مؤتمره الصحفي السنوي الذي عقد الأسبوع الماضي بأن روسيا لم تتكبد أي هزيمة في سوريا. وخلافا لمواقع التواصل الاجتماعي، حاولت وسائل الإعلام التقليدية أن تسير على خطى الكرملين، لكن حتى في هذا كان ثمة انشقاقات. فقد جاء في مقال رأي نشرته صحيفة كومرسانت واسعة الانتشار لعقيد سابق مقرب من القيادة العسكرية أن «بوسعك أن تمارس الخداع قليلا على الساحة الدولية، على أن تحرص لئلا ينطلي خداعك عليك أنت»، ثم إن الكاتب ضرب المثال بسوريا على أن «النصر في عالمنا اليوم لا يمكن تحقيقه إلا في حرب سريعة خاطفة. فمن يحقق نصرا فعليا في غضون أيام أو أسابيع ولكنه يعجز عن تعزيز نجاحه تعزيزا عسكريا وسياسيا، فسوف ينتهي به الأمر مهزوما مهما فعل». وقال لي فاسيلي جاتوف محلل الإعلام في جامعة كاليفورنيا الجنوبية إنه يظن أن تلك رسالة موجهة من هيئة الأركان العامة إلى الكرملين: كونوا واقعيين بشأن ما يمكننا تحقيقه في أوكرانيا أيضا.
ليس سقوط الأسد لطمة لمصالح روسيا في الشرق الأوسط وحسب، ولكنه لطمة لجوهر قوة بوتين التي طالما قامت على إدارة التصورات. فقد شرح لي ذات يوم جليب بافلوفسكي، البوق الإعلامي السابق لبوتين، كيف تعلم القادة الروس، عندما ضعف الكرملين على المستوى المحلي في أواخر التسعينيات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أن يسيطروا على التليفزيون لخلق عظمة مصطنعة. لم يكن الكرملين قادرا في تلك المرحلة على السيطرة على حكام الأقاليم، ولكنه أعطى إحساسا بتحكم الرئيس في كل شيء من خلال وجوده الطاغي في وسائل الإعلام. ومنذ ذلك الحين، انتقل بوتين بإدارة التصورات إلى الساحة الدولية، محاولا أن ينسج قصة مفادها أنه يقود جيلا جديدا من الأنظمة الاستبدادية المقدر لها أن ترث الأرض. وفجأة تبدو هذه الصورة مهتزة. فالآن هو الوقت المناسب لفرض المزيد من الضغوط قبل أن يتمكن من إصلاح أوضاعه وعرض فيلمه مرة أخرى عن القوة العظمى.
بداية من جورجيا، حيث اتخذ المحتجون موقفا شجاعا ضد قرار الحكومة الموالية لروسيا بوقف التكامل مع الاتحاد الأوروبي، والأمر في جورجيا يتعلق بابتلاعها في مجال موسكو الاستعماري الجديد، فالهيمنة الروسية المتزايدة تسمح لموسكو بفرض قبضتها الخانقة على خطوط أنابيب نقل الغاز إلى أوروبا والتلاعب بالوصول إلى آسيا الوسطى. والهدف الذي يسعى إليه المتظاهرون هو حشد عدد كاف من الناس في النظام للتخلي عن الحزب الحاكم وحاكمهم الفعلي أي رجل الأعمال بيدزينا إيفانشفيلي، وقد بدأت المظاهرات تؤتي ثمارها، إذ انشق بعض الدبلوماسيين والمسؤولين، وبوسع الغرب أن يوضح أن القادة الجورجيين منبوذون من خلال فرض عقوبات على الساسة والشركات ومسؤولي الأمن المتورطين في حملات القمع.
وفي الأسبوع الماضي، سارت حكومة المملكة المتحدة على الطريق الصحيح بفرض تجميد الأصول وحظر السفر على 5 مسؤولين. فلا بد من إظهار أن القيادة الموالية لروسيا ضعيفة لكي يسارع من يلونها في السلطة إلى الفرار من السفينة بأعداد كافية. وقد فشلت مساعي الكرملين في استخدام الفساد والدعاية لعرقلة رحلة مولدوفا نحو الاتحاد الأوروبي في الاستفتاء الأخير. ولذلك يستحق الجورجيون دعم تطلعاتهم الأوروبية أيضا.
في الوقت نفسه، في أعالي البحار، اتخذت أوروبا أخيرا إجراءات ضد الأسطول الروسي الخفي الذي ينقل النفط عبر العالم ويبيعه بأسعار أعلى من الحد الذي حددته مجموعة الدول السبع. فسوف يتم الآن إيقاف السفن والصعود إليها إذا لم يكن لديها التأمين الصحيح. ويذهب إيدي فيشمان من جامعة كولومبيا إلى أن هذه هي اللحظة المناسبة لشل عائدات النفط الحيوية للكرملين من خلال فرض عقوبات ثانوية على الكيانات التي تشتري النفط بسعر أعلى من المحدد. وهذا سوف يخيف التجار الهنود والإماراتيين الذين يواصلون التعامل مع روسيا، وبالتالي يزيد الضغوط على الاقتصاد الروسي الذي تشكو قياداته بالفعل من عدم استدامة النظام. وبرغم مزاعم الكرملين بأن كل شيء في الاقتصاد على ما يرام، فالروس لا يصدقون هذا، ويتذمرون على الإنترنت من أن التضخم يجعل رواتبهم تبدو عديمة القيمة.
وبرغم إصرار الكرملين على أن روسيا والصين يمثلان تحالفا أقيم في جنة اقتصادية، فإن الواقع أكثر هشاشة. إذ تقول الشركات الروسية إن البنوك الصينية لن تعمل معها الآن بعد أن أدرجت الولايات المتحدة المؤسسات الروسية على القائمة السوداء. وبدلا من ذلك، فإنهم يخشون من أن الصينيين يعرضون عليهم طرقا «مريبة للغاية» لنقل الأموال ــ ولا يجدون خيارا سوى المشاركة في اللعبة.
سوف يكون الكرملين أشد وعيا بهذه الشكاوى في مختلف أنحاء المجتمع، من المدونين العسكريين إلى رجال الأعمال. وبرغم أنه لا توجد أي بوادر على انتفاضات ديمقراطية، وأن بوتين لا يخشى الانتخابات، لكنه يقلق عندما لا يتصرف الناس وفق إملاءاته عليهم، وكثيرا ما يعيد الرئيس الروسي حساباته عندما يرى أنه لا يستطيع السيطرة على التصورات والسلوكيات، ولذلك تخلى عن جهود التعبئة بعد أن أدت محاولاته الأخيرة للتعبئة إلى فرار ما يصل إلى مليون شاب روسي من البلد.
ومع زيادة الغرب نقاط الضغط على روسيا، فإن الهدف من ذلك لا يتمثل في تغيير سحري للنظام. بل إن الهدف هو إشعار القيادة بعدم اليقين إلى الحد الذي يجعلها تعيد التفكير فيما يمكنها الإفلات به. ولتحقيق هذه الغاية، يجب أن تكون الضغوط على بوتين كثيفة وسريعة، فتأتي الضربة تلو الأخرى في تتابع غير متوقع، بما يفضح قصص النفوذ الدولي التي ألفها. وتتخذ أوكرانيا إجراءات مباشرة: بهجمات طائرات مسيرة على مواقع الإنتاج العسكري في عمق روسيا والاغتيال المشهود لجنرال روسي في قلب موسكو. لكن حلفاءها الديمقراطيين يمكن أن يفعلوا الكثير من خلال إعادة تعلم فن الحرب الاقتصادية والسياسية.
لقد كان نهج جو بايدن المعيب هو الانتظار دائما إلى ما بعد الأزمة الروسية، ثم السماح لبوتين بالتعافي وإعادة تجميع صفوفه. فهل يمكن أن يجرب دونالد ترامب شيئا أكثر ديناميكية؟ أم أنه سيصدق تهديدات بوتين أكثر مما صدقها بايدن؟ فتكون المفارقة إذن هي أن الولايات المتحدة تصدق أسطورة بوتين عن منعته أكثر مما يصدقها العديد من الروس. ذلك أن أهم إدارة تصورات يكتنزها فلاديمير بوتين هي التي تستهدف البيت الأبيض نفسه.