سُرقنا وكدنا نموت عطشا.. مهاجرون أفارقة يكشفون ما حدث على الحدود التونسية
تاريخ النشر: 29th, September 2023 GMT
كشف مهاجرون من دول أفريقيا، جنوب الصحراء الكبرى، لصحيفة "غارديان" البريطانية، عن رعبهم من إعادتهم قسراً إلى المناطق الصحراوية النائية، حيث مات بعضهم عطشاً أثناء محاولتهم عبور الحدود إلى تونس.
وفي حين يستعد الاتحاد الأوروبي لإرسال أموال إلى تونس، بموجب اتفاق هجرة بقيمة مليار يورو (أكثر من مليار دولار )، تحث جماعات حقوق الإنسان بروكسل على اتخاذ موقف "أكثر صرامة" بشأن المزاعم القائلة إن "السلطات التونسية تعيد الأشخاص إلى المناطق الحدودية النائية، حيث يتعرضون لمخاطر شديدة قد تودي بحياتهم".
ووفقا لمسؤول من منظمة حكومية دولية كبرى، فإن "السلطات التونسية نقلت أكثر من 4 آلاف شخص في يوليو وحده، إلى مناطق عازلة على الحدود مع ليبيا والجزائر".
وقال المصدر الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته: "تمت إعادة حوالي 1200 شخص إلى الحدود الليبية في الأسبوع الأول من يوليو وحده".
وأضاف المصدر أنه "بحلول أواخر أغسطس كانت منظمتهم قد علمت بوفاة 7 أشخاص عطشاً في تلك المناطق الصحراوية".
"هيومن رايتس" تدعو الاتحاد الأوروبي إلى التوقف عن تجاهل "انتهاكات تونس" ضد المهاجرين دعت منظمة "هيومن رايتس ووتش" المفوضية الأوروبية إلى التوقف عن تجاهل انتهاكات تونس ضد المهاجرين في وقت يستعد الاتحاد الأوروبي إلى منح 67 مليون يورو لتونس. نفي تونسيوتقدر منظمة غير حكومية تعمل مع اللاجئين، أن عدد الضحايا يتراوح بين 50 و70 شخصًا، بيد أن الصحيفة البريطانية لم يتسن لها من التحقق من هذا الرقم بشكل مستقل.
وكان وزير الداخلية التونسي، كمال فقيه،قد اعترف، الشهر الماضي، بأنه تم إرجاع "مجموعات صغيرة من 6 إلى 12 شخصًا"، لكنه نفى وقوع "أي سوء معاملة أو أي شكل من أشكال الترحيل الجماعي".
ومن المرجح أن يزيد الضغط على المشرعين الأوروبيين لإثارة بواعث القلق المتعلقة بحقوق الإنسان مع السلطات التونسية، في الوقت الذي تمضي فيه قدما في اتفاق يهدف إلى وقف الهجرة غير الشرعية.
ويتعرض الاتفاق لانتقادات متزايدة، حيث قالت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، الأسبوع الماضي، إن "حقوق الإنسان وسيادة القانون لم تحظ بالاعتبارات المناسبة".
شهاداتوفي سلسلة من المقابلات أجريت مع ما يقرب من 50 مهاجراً في صفاقس وجرجيس ومدنين وتونس العاصمة، أكد أغلبهم أنهم "أُعيدوا قسراً إلى الصحراء، بين أواخر يونيو وأواخر يوليو".
وقالت سلمى، وهي نيجيرية تبلغ من العمر 28 عاماً: "في أوائل يوليو، ألقت الشرطة التونسية القبض علينا في صفاقس، حيث جرى أخذي مع ابني البالغ من العمر عامين، وأعادونا إلى الصحراء على الحدود الليبية".
وتابعت سلمى التي تمكنت من العودة مرة أخرى إلى تونس: "تم القبض على زوجي من قبل حرس الحدود ولا أعرف ماذا حدث له، إذ أنني لم أسمع عنه شيئا منذ ذلك الحين، خاصة بعد أضعت هاتفي أثناء محاولة ترحيلي".
وأوضح مايكل، 38 عاما، القادم من مدينة بنين بنيجيريا: "لقد أعادوني 3 مرات إلى الصحراء، وآخر مرة كانت في أواخر يوليو... ضربنا حرس الحدود التونسيين، وسرقوا أموالنا وهواتفنا".
وزاد: "عندما كنا في الصحراء، لم يكن لدينا ماء، وكان علي أن أشرب بولي لأبقى على قيد الحياة".
تونس تطلب الدعم الأممي لـ "ترحيل المهاجرين" نحو بلدانهم الأصلية دعا وزير الداخلية التونسي، كمال الفقي، الأربعاء، منظمة الأمم المتحدة إلى دعم جهود بلاده في تنفيذ برنامج العودة الطوعية للمهاجرين غير النظاميّين لبلدانهم الأصلية.وتحدثت صحيفة "غارديان" أيضًا مع باتو كريبين، وهو كاميروني توفيت زوجته فاتي دوسو وطفلته ماري، التي بلغت من العمر 6 سنوات، في منتصف يوليو في منطقة نائية من الصحراء الليبية، بعد أن طردتهم السلطات التونسية.
وقال كريبين، الذي أُعيد منذ ذلك الحين مرة أخرى إلى ليبيا: "كان ينبغي أن أكون هناك مكانهم".
وفي حين أن الحدود مع ليبيا كانت منذ فترة طويلة محورًا لمثل هذا النشاط، فإن الحدود مع الجزائر، التي هي أقل سيطرة، تشهد أيضًا إعادة الأشخاص إلى المنطقة الحدوية الشاسعة، حسبما تشير التقارير.
وقال 15 شخصاً أجرت صحيفة "غارديان" مقابلات معهم، إنهم "أُجبروا على العودة إلى الحدود الجزائرية".
وأوضح السنغالي، جبريل تابيتي، البالغ من العمر 22 عاماً : "لقد اعتقلوني في تونس واقتادوني بالقرب من القصرين، وهي بلدة حدودية قريبة من الجزائر".
وأردف: "لقد تركونا على بعد بضعة كيلومترات من الحدود. ثم أمرونا بتسلق التل، وعلى الجانب الآخر كان الحرس الجزائري، يدفعوننا للعودة إلى تونس".
وختم بالقول: "بقينا على هذا الحال ردحا من الزمن، حيث كان كل طرف يدفع بنا إلى أراضي الطرف الآخر.. لقد مات الكثيرون منا في الصحراء".
وكانت قد ظهرت تقارير عن قيام تونس بنقل أشخاص إلى الصحراء في يوليو، عندما بدأت تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي صور تشير إلى أن طالبي اللجوء يموتون من العطش والحرارة الشديدة، بعد إعادتهم من قبل السلطات التونسية.
وبعد هذه الاتهامات، واجهت الحكومة التونسية انتقادات شديدة من الصحافة الدولية، لكنها أنكرت ارتكاب أي مخالفات.
وقال أستاذ الجغرافيا والهجرة في جامعتي سوسة وصفاقس، حسن بوبكري: "في البداية، رفضت تونس التقارير التي تتحدث عن الإعادة القسرية".
وأضاف: "لكن شيئًا فشيئًا، اعترفوا علنًا بأن بعض مواطني جنوب الصحراء الكبرى محرومون من الوصول إلى الحدود التونسية الليبية، والسؤال الذي يطرح نفسه (من وضعهم هناك؟).. السلطات التونسية هي من فعلت ذلك".
وبحسب أرقام وزارة الداخلية الإيطالية، وصل أكثر من 78 ألف شخص إلى إيطاليا عبر البحر المتوسط من شمال أفريقيا منذبداية العام، أي أكثر من ضعف عدد الوافدين خلال نفس الفترة من عام 2022.
وغادر الأغلبية، (42719) من تونس، مما يشير إلى أن البلاد تجاوزت ليبيا كنقطة انطلاق رئيسية للمهاجرين.
وتنص "الشراكة الاستراتيجية" الموقعة بين الاتحاد الأوروبي وتونس في يوليو، والتي تم التوصل إليها بعد أسابيع من المفاوضات، على إرسال أموال إلى الدولة الواقعة في شمال إفريقيا لمكافحة المتاجرين بالبشر، وتشديد الرقابة على الحدود، ودعم الاقتصاد التونسي المتعثر.
وقالت المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية، آنا بيسونيرو، الأسبوع الماضي، إنه سيتم صرف الدفعة الأولى البالغة 127 مليون يورو "في الأيام المقبلة".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی السلطات التونسیة إلى الصحراء على الحدود إلى تونس من العمر أکثر من
إقرأ أيضاً:
قراءة في مشاريع الوحدة الوطنية بعد الثورة التونسية
بصرف النظر عن السجال الذي ارتبط بالانتخابات الرئاسية التونسية الأخيرة -من جهة نسبة المشاركة والشفافية والنزاهة وحيادية هيئة الانتخابات والإعلام- فإن نجاح الرئيس قيس سعيد في الفوز بعهدة رئاسية ثانية قد جاء ليكرسّ سردية "تصحيح المسار" باعتبارها السردية الرسمية للسلطة الحاكمة منذ 25 تموز/ يوليو 2021. كما جاءت تلك الانتخابات لتؤكد هامشية أطياف المعارضة وعجزها واقعيا عن منافسة السلطة القائمة لأسباب بسطناها في مقالات سابقة.
وقد يكون من باب الاختزال أن نعتبر الانقسام الحاد بين السلطة والمعارضة بمختلف مكوناتها -أي الموالاة النقدية والمعارضة الجذرية- هو الانقسام الأوحد أو الأهم. فالانقسامات البينية التي تلقي بظلالها على مكونات المعارضة قد مثلت -في تقديرنا- العامل الأهم في تحديد موازين القوة بين السلطة ومعارضتها، بل مثلت المحدد الأبرز في نوايا التصويت أو في العزوف عن العملية الانتخابية برمّتها، مع ما يعنيه ذلك في مستوى نتائج الانتخابات وفي مستوى آليات تعامل السلطة مع خصومها.
مهما كانت طريقة الفاعلين السياسيين في إدارة مفهوم "الوحدة الوطنية"، فإنها لم تنفصل منذ المرحلة التأسيسية عن المرجعيات الأيديولوجية في جدلها مع السياقات الموضوعية المحلية من جهة أولى، ولم ينفصل عن هيمنة المنظومة القديمة وعن تدخلات القوى الإقليمية من جهة ثانية. فـ"الوحدة الوطنية" -مثلها في ذلك كمثل "استمرارية الدولة" و"النمط المجتمعي التونسي" و"مكتسبات الدولة الوطنية" و"العلمانية" و"العائلة الديمقراطية"- كان مفهوما مشحونا أيديولوجيا بصورة ربطته بنيويا باستراتيجيات المنظومة القديمة لإعادة التموضع والانتشار بعد امتصاص "المد الثوري".
ففي غياب سردية ثورية جامعة، احتلت "البورقيبية" مركز "الخطاب الكبير" أو السردية المرجعية في مأسسة مطالب الثورة. ولم يكن ذلك ليحصل لولا براءة أغلب ورثة المخلوع في مرحلة التأسيس من نسبهم التجمعي (نظام المخلوع بن علي) وادعاء الانتساب إلى اللحظة الدستورية (نظام المرحوم بورقيبة)، مع الحرص على "أمثلة" هذه اللحظة وتصوير نظام المخلوع في صورة الانحراف أو الخيانة للتراث البورقيبي.
إننا أمام خيار استراتيجي سيكون له تداعيات كبيرة على المرحلة التأسيسية وما تلاها. فـ"البورقيبية" كانت الأداة الأساسية لتذويب الخلافات بين "القوى الديمقراطية" وتجذير الانقسام الحاد بينها وبين حركة النهضة، وكانت كذلك الطريق الملكي للتطبيع مع ورثة المنظومة القديمة وإعادة تدويرهم لمواجهة ذلك الوافد الجديد على الحقل السياسي القانوني. في المرحلة التأسيسية مثلت تجربة الترويكا (الحكم المشترك بين حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي) أول تجلّ للوحدة الوطنية من منظور متجاوز للمحددات الهوياتية للصراع السياسي. كانت تجربة تأسيسية بلا مثيل في التراث السياسي لتونس، بل للعالم العربي كله، فلأول مرة، حكم الإسلاميون والعلمانيون معا تجسيدا للإرادة الشعبية. ولكنها كانت تجربة هشة لأسباب ترتبط بطابعها البراغماتي وغياب أي تأسيس نظري صلب. كما أنها هشاشتها ترجع إلى واقع "الفوضى" واستضعاف الدولة بدءا من المواطنين، مرورا بالنقابات والإعلام وانتهاء بالأحزاب السياسية الوازنة. فواجهت الترويكا قوتين إحداهما كمية (النقابات المدنية والأمنية) والأخرى نوعية (اليسار الوظيفي المتحكم في الإعلام والثقافة والتعليم والمجتمع المدني والنسيج الحزبي والمدعوم من محور الثورات المضادة)، وهو ما أدى في النهاية إلى إجهاض تلك التجربة.
بعد تجربة الترويكا، فرض "الحوار الوطني" تشكيل حكومة تكنوقراط برئاسة السيد مهدي جمعة. وهي حكومة تعكس معنى "الوحدة الوطنية" عند الجهات التي رعت الحوار أو استفادت من مخرجاته. فعدم تحزب أعضاء الحكومة أو حياديتهم كانا مجرد عملية تضليل ممنهجة للرأي العام، لقد كانت "حكومة التكنوقراط" في الواقع أول حكومة تكرّس الهوة بين التمثيل النيابي والوزن السلطوي وتفتح الباب أمام اللوبيات لهندسة المشهد السياسي بعيدا عن صناديق الاقتراع. فرغم حصولها على ثقة "المجلس الوطني التأسيسي"، فإنها لم تعكس تركيبة هذا المجلس، بل لم تكن واقعيا خاضعة لسلطته الرقابية.
لقد كانت حكومة التكنوقراط مبتدأ سيجد خبره في خيار التوافق بعد انتخابات 2014 وإقالة السيد مهدي جمعة. ولعل أهم ما يميز هذه الحكومة هو إقصاؤها لكل المنتمين إلى حركة النهضة وانحصارها في شخصيات تنتمي إلى المنظومة القديمة، أو على الأقل غير معروفة بمعارضتها. لقد كانت "حكومة التكنوقراط " أو " حكومة الإنقاذ" تعبيرا عن قوة المنظومة القديمة ووكلائها في اليسار الوظيفي، كما كانت تجسيدا لمفهوم "الوحدة الوطنية" في "العائلة الديمقراطية"، حيث يكون المحدد هو إقصاء حركة النهضة ومن طبّع معها من الفاعلين العلمانيين.
بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لسنة 2014، استطاعت حركة نداء تونس أن تكتسح الساحة السياسية وأن تسيطر على مفاصل السلطتين التنفيذية والتشريعية. لم يكن نداء تونس حركة "تجمعية جديدة" بقدر ما كان حركة يسارية بغطاء تجمعي وفره المرحوم الباجي قائد السبسي. ورغم حصول نداء تونس على أغلبية المقاعد البرلمانية، فإن "براغماتية" المرحوم الباجي جعلته يختار التوافق مع حركة النهضة التي كان خلال حملته الانتخابية يعتبرها خطا موازيا لحركته. وهو خيار "تكتيكي" وليس خيارا استراتيجيا؛ لأنه قام على الواقعية السياسية لا على مراجعات فكرية تتصل بحق الإسلاميين في بناء المشترك الوطني أو تتصل بمساءلة التراث البورقيبي ومفاهيمه الأساسية المتعلقة باللائكية والتنوير والتحديث، ومآلات تلك المفاهيم واقعيا خلال لحظتي الحكم الدستورية والتجمعية.
لقد كانت "الوحدة الوطنية" في هذا المنظور تعني اتخاذ النهضة شريكا أقليا في السلطة (وهو ما تشهد له المناصب المحدودة المسندة لهذه الحركة بدءا من الوزارات) لتمرير خيارات المنظومة القديمة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. ولأسباب تتعلق بالخيار الاستراتيجي لحركة النهضة بأن تندمج في الدولة وتخرج عن منطق مواجهتها، قبلت هذه الحركة أن تتوافق مع المنظومة القديمة بشروط تلك المنظومة، وهو ما أفقدها جزءا كبيرا من مصداقيتها ومن رأسمالها الرمزي المتمثل في "المظلومية" وتمثيل المهمشين والمحافظين والمتدينين.
بعد فشل مشاريع "الوحدة الوطنية" بدءا من الترويكا (وحدة وطنية على أساس التمثيل الشعبي وتجاوز منطق الصراعات الهوياتية)، مرورا بحكومة التكنوقراط (وحدة وطنية على أساس التجانس الأيديولوجي و"القوة النوعية" والتدخلات الخارجية) وانتهاء بمرحلة التوافق (وحدة وطنية "تكتيكية" على أساس الواقعية السياسية دون أي تأسيس نظري)، كان الطريق ممهدا أمام سردية "تصحيح المسار" لتقديم سردية جديدة للوحدة الوطنية. رغم أن تصحيح المسار قد تخلّق في رحم الديمقراطية التمثيلية، فإن الرئيس قيس سعيد لم يخف منذ "حملته التفسيرية" (أي الحملة الانتخابية الرئاسية) سنة 2019 أنه يمثل النقيض الفكري والموضوعي للنخب المهيمنة على "عشرية الانتقال الديمقراطي". فهذا القادم من خارج النخب السياسية المتحزبة كان يحمل مشروعا للتأسيس الثوري الجديد في إطار الديمقراطية المجالسية أو المباشرة، أي مشروعا يتحرك بمنطق البديل لا بمنطق الشريك.
ومثلما فعلت النخب السياسية في انتخابات 2019 حيث لم تحمل أفكار السيد قيس سعيد على محمل الجد، فإنها لم تتعامل مع إجراءات 25 تموز/ يوليو 2021 بالمنطق المناسب. فمن جهة "العائلة الديمقراطية"، فإن أغلب مكوناتها قد تعاملت مع "تصحيح المسار" باعتباره إقصاء لحركة النهضة عن مركز الحقل السياسي مثلما حصل بعد سقوط الترويكا، وبنت بالتالي أفق انتظارها على أساس التشاركية بينها وبين النظام الجديد وعلى أساس قدرتها على توظيف هذا الحدث لتأكيد قوتها ودورها "الوطني". فعندما ساندت أغلب "القوى الديمقراطية" الحزبية والمدنية والنقابية تصحيحَ المسار، فإنها كانت أسيرة شبكة قراءة تجاوزتها الأحداث. لقد رأت في "تصحيح المسار" فرصة لبناء "وحدة وطنية" تستثني حركة النهضة وتحافظ فيها "القوى الديمقراطية" على شرف المعارضة وامتيازات الحكم، وهي رؤية أثبتت الأحداث تهافتها مثلما أثبتت تهافت قراءة حركة النهضة لتصحيح المسار. فبعد أن اعتبرت هذه الحركةُ "تصحيح المسار" انقلابا، عاد زعيمها للاعتراف بشرعية هذا الحدث لكن مع الدعوة إلى "العودة إلى الديمقراطية" و"الوحدة الوطنية".
لا شك عندنا في أن الحركة قد قاست بصورة ضمنية تصحيح المسار على ما حصل لها بعد إسقاط الترويكا وتنصيب حكومة التكنوقراط، ولكنه قياس لا يراعي الفارق. فعودة النهضة إلى الحكم خلال مرحلة التوافق كانت في إطار عدم انتفاء الحاجة إليها بعدُ من منظور الدولة العميقة ورعاتها الأجانب، كما كانت تلك العودة تعبيرا عن موازين محلية وإقليمية لم تكن مهيئة بصورة كاملة للانقلاب على مسار الانتقال الديمقراطي بديمقراطيته التمثيلية وأجسامه الوسيطة. فالوحدة الوطنية التي تدعو إليها النهضة هي من منظور "تصحيح المسار" مجرد صفقات وتسويات مشبوهة ولا علاقة لها بالإرادة الشعبية، مثلما في ذلك كمثل الوحدة الوطنية من منظور "العائلة الديمقراطية".
المصادرة على "وطنية" الأنصار دون الخصوم أو المعارضين، واختزال المعنيين بالوحدة في أنصار "تصحيح المسار" دون سواهم هو تضييق لمفهوم الوحدة الوطنية، ولكنه تضييق لا يمكن أن يحجب عنا الأزمة العميقة التي عبرت عنها الأطروحات المنافسة والتي عجزت عن إدارة خلافاتها البينية خلال عشرية الانتقال الديمقراطي، وما زالت مطبوعة بذلك العجز إلى حد هذه اللحظة
فتصحيح المسار يدير مفهوم الوحدة الوطنية على أساس نفي الحاجة إلى الأجسام الوسيطة التقليدية (خاصة الأحزاب)، وعلى أساس العلاقة بين الشعب وبين الرئيس الذي يمثل إرادته الحرة وغير المتلاعب بها. فـ"الوحدة الوطنية الصماء" ليست ترصيفا لإرادات/مشاريع سياسية متناقضة، وليست تشريكا للمعارضة في السلطة (ولو بصورة استشارية)، بل هي تنفيذ لإرادة الشعب التي عبر عنها بصورة مطلقة ونهائية بعد 25 تموز/ يوليو 2021.
مهما كان موقفنا من مفهوم "الوحدة الوطنية" في "تصحيح المسار"، فإنه يمثل نتيجة حتمية لفشل مشاريع "الوحدة الوطنية" منذ المرحلة التأسيسية. فالوحدة على أساس الشرعية الانتخابية دون مشروعية الأداء، أو الوحدة على أساس التجانس الأيديولوجي وضد الإرادة الشعبية، أو الوحدة على أساس البراغماتية السياسية دون أي تأسيس نظري؛ قد أثبتت جميعا أنها عاجزة عن إدارة مرحلة الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا، كما أثبتت عجزها عن تجاوز الصراعات الهوياتية أو على الأقل تحييد مفاعليها القاتلة في الحقل السياسي وغيره. ولكنّ ذلك العجز لا يعطي مفهوم الوحدة الوطنية كما يطرحه تصحيح المسار أية أفضلية في غياب أية مكاسب قابلة للضبط والإحصاء بعيدا عن مجازات السلطة وأنصارها. فالوحدة الوطنية التي يطرحها مشروع الرئيس هي في جوهرها عملية إحياء للميراث البورقيبي لكن مع الاستغناء عن "الحزب الحاكم".
ولا شك في أن المصادرة على "وطنية" الأنصار دون الخصوم أو المعارضين، واختزال المعنيين بالوحدة في أنصار "تصحيح المسار" دون سواهم هو تضييق لمفهوم الوحدة الوطنية، ولكنه تضييق لا يمكن أن يحجب عنا الأزمة العميقة التي عبرت عنها الأطروحات المنافسة والتي عجزت عن إدارة خلافاتها البينية خلال عشرية الانتقال الديمقراطي، وما زالت مطبوعة بذلك العجز إلى حد هذه اللحظة.
x.com/adel_arabi21