الشاعر والناقد البحريني حسين السماهيجي، حصل من قبل على شهادة الدكتوراه من جامعة منوبة في تونس، عن أطروحة بعنوان "توظيف التراث الصوفي في الشعر العربي الحديث، من خلال بعض النماذج".






ويملك السماهيجي 7 إصدارات شعرية، أولها "ما لم يقله أبو طاهر القرمطي" عن دار الكنوز الأدبية، بيروت 1996، وكان آخر ما صدر له "لهفة المَشَّاء"، عن دار "طَرَفَة للشِّعر والدّراسات" البحرين في 2021، وأصدر كتابين في النقد، و3 كتب في التحقيق، وخلال مسيرته الأدبية حاز على أكثر من 3 جوائز.

ربطٌ مراوغ بين بداية تجربتك الشعرية واليوم، هل توصلت إلى مفهوم للشعر، أم ليس بالضرورة؟

السؤال على بساطته وكونه مباشراً، إلّا أنّه ينطوي على غموض شديد. ثمّة ربطٌ مراوغٌ بين التجربة الخاصّة من جانب وبين الشِّعر باعتباره قابلاً للمقاربة والفهم، ومن ثمّ للإحاطة به، من جانب آخر. والذي أراه الآن، وهذا الفهم قابلٌ للتبدّل والتطوير، أنّ مفهومي للشِّعر الآن ليس هو مفهومي للشِّعر الذي كان قبل ثلاثين عاماً. عندما أعود إلى تجربتي أرى أنّني كنتُ قبل ثلاثين عاماً أنظر للشِّعر بصورةٍ حدِّيّة في الجوانب الشّكلانيّة. أمّا الآن فلا. الشّعر نصٌّ ينفتح على الحياة. وهو بشكلانيّاته القابلة للتطوّر إنّما يمنحنا فهماً متجاوِزاً لهذه الحياة. لذلك، فالشِّعر ما هو إلّا معادلٌ لهذه الحياة ومعوِّضٌ عنها في وجوهها المتعدّدة. إنّه الشّراسة واللّطف في آنٍ واحدٍ معا. وهذه اللّغة، وهذا الإيقاع الذي تتجلّى فيه، وبه، نصّاً شعريّاً غير مهيَّأ للقبض عليه، أو الإعلان عن حدوده وضوابطها بصورة صارمة.. هذا كلّه، وغيره، هو الشِّعر في بعض وجوهه.
كيف تمّ الاعتراف بك شاعراً في بداية تجربتك، هل بدعوة للمشاركة بأمسية، أم بنشر قصيدة، وهل يمكن أن تستعيد لنا تلك اللحظات؟
بكلّ ذلك. وإذا ما عدتُ إلى الوراء الآن قبل أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، فذلك الشخص الذي أدين له بصورةٍ مباشرةٍ هو أستاذي الذي أخذ بيديَّ عندما كنتُ لا أزال طالباً في جامعة الملك سعود؛ وأعني به الكبير إبداعاً ونقداً الشّاعر السوري الدكتور نذير العظمة رحمه الله تعالى. كنّا في نادي الشّعر في الجامعة؛ وكان هو قد استمع هناك إلى قصيدة لي بعنوان «رسالة إلى أبي القاسم الشّابي». كانت ردّة فعله بالنّسبة لي ذات أثر هائل جدّاً. ومع تلك اللحظة الفارقة بالنسبة لي، أخذت في سلوك الطّريق إلى الشِّعر، والتفتيش عنه. في الواقع، فإنّني أدين إلى ذلك المحفل العلمي والأدبي العظيم «جامعة الملك سعود» بالفضل. فهناك قرأتُ الشّعر، واستمعت إليه، وتابعتُ قضاياه في الوسط الثقافي في المدن الكبرى ومنتدياتها ومحافلها. نعم، كنّا شباباً مصابين بهذا الشِّعر. وكنّا نقبل عليه بلهفة العشّاق. حضورٌ مهيمن كانت أطروحتك في الدكتوراه " توظيف التراث الصوفي في الشعر العربي الحديث من خلال أعمال: جبران، عبدالصبور، البياتي، عفيفي مطر، أدونيس" . ما محرضات دراستك لهذا التوظيف، ولأسماء محددة، من دون غيرها، وما تشابك محور الأطروحة مع تجربتك، وتالياً هل ترى أن هذا التوظيف أحد أهم خصوصيات الشعر العربي؟

في الواقع، فجميع أعمالي البحثيّة متعلّقة بصورة أو أخرى بالشِّعر. «الشِّعر» بالنسبة لي كذات تتعامل في فضاء الوجود هو المركز. هو الذي يخلّق الحركة ويوجّهها. أمّا تراثنا الصّوفيّ، فأراه أحد المراكز الأساسيّة لحركة الشّعر في فضائها العربيّ. وهذا المركز له حضورٌ مهيمِن؛ لا يزال بحاجة إلى استقصاء واستكشاف وتجريب. أمّا الأسماء التي اشتغل عليها البحث، فهي على تفاوت ما بينها، تمثّل تجارب دالّة وأساسيّة تعاملت مع هذا التراث الصّوفيّ الذي قدّمته أمّتنا إلى العالَم. لا يمكننا حال النّظر إلى منجز الحداثة الشّعريّة، بل حركة الشّعر العربي المعاصر، أن نغفل التأثير الهائل الذي لا يزال يمنحنا عطاءً وزخماً جديداً. ولعلّي أكتفي بذكر نموذج واحد دالٍّ، هو الشّاعر العربي الكبير الأستاذ عبد القادر الحصني. ها هنا، لدينا نموذج مضيء لا يزال يتعاطى مع تراثه الصّوفي بحسٍّ شعريٍّ لافت. بذلك كلّه، وبسواه، أجيب: نعم، إنّ توظيف التراث الصوفيّ يمثّل خصوصيّة للشّعر العربيّ اليوم. ولعلّ المستقبل كفيلٌ بأن يكشف لنا أبعاد ذلك بصورة أفضل.
أزعم أن كثيرين من الشعراء العرب حاولوا تمثّل التجربة الصوفية في شعرهم لكنها أتت بثمار ليست ناضجة بل تشي بافتعال هذه التجربة، ما دوافعهم برأيك الناقد؟
هذا أمر طبيعيّ جداً. ستجد الافتعال أحياناً. وستجد السّذاجة أحياناً أخرى. ولكنْ، المهمّ أنّك ستجد دون ريب النماذج المضيئة التي تمنح العالَم جمالَه وتكشف عن فتنته. التجربة الصوفية، في وجهٍ من وجوهها، محاولةٌ للحياة بطريقة خاصّة. والشاعر ليس ملزماً في ذلك بأن يكون على نمط الآخرين. إنّه يقترح نموذجه للعيش والفهم والتّمثّل، ومن ثمّ التعبير بطريقته الخاصّة التي لا تشبه الآخرين. إنّه يقترح نموذجه على ذاته. الشّعر حالة فرديّة؛ والذّهاب إلى هذا الاختيار إمعانٌ في نزعة الفرديّة. وهذا الأمر بحاجة إلى بحث مستقلّ. قمع ضد القصيدة! إقصاء بعض الشعراء لقصائد غيرهم هل له علاقة بعدم امتلاكنا ثقافة التعدد بحيث لا نقبل الاستجابة للشعر على أي نظام جاء؟

لا أفهم أنّ شاعراً حقيقيًّاً يقصي نصّاً شعريّاً مضيئاً. ربّما يكون له موقف شخصيّ من أحدهم؛ ولكنْ يجب أن يتوقّف ذلك بحيث لا يمسّ النّتاج الإبداعيّ. ودون شكّ، فإنّ هذا له علاقة بطبيعة بنية الذّات وتشكّلها. هذا الأمر، يرجع غالباً إلى نظام التربية لدينا. ولذا، لم أكن أفهم أن يمارَس القمع ضدّ القصيدة لأنّها جاءت على شكل معيّن. يا عزيزي، لتكن علاقتنا بنتاج الآخرين منطلقة من الفهم والمحبّة. حينها سيمكننا أن نتشبّث بالحياة التي تمّ تدمير أعظم منجزاتها خلال عقود الدّمار.
نلت أكثر من جائزة، هل ترى أن الجوائز في أي عمر من التجربة تقدم الحوافز المعنوية ذاتها للمبدع؟

نعم. نلت بعض الجوائز. وللأمانة، كنت أرى إليها باعتبارها محفِّزاً للإبداع. أتذكّر أنّ الجائزة الأولى التي نلتها كانت جائزة راشد بن حميد في سنة 1986م. وقد كان لها أثرٌ مهمّ في استمراري في الكتابة. الآن، أنظر إلى مسألة الجوائز باعتبار أهميّتها للمبدعين والنُّقّاد في بداية مشوارهم الإبداعي أو النقدي. أمّا التجارب التي تكرّست في فضاء الإبداع والكتابة فيليق بهم التّكريم؛ وليس السّباق على الجوائز. فهمٌ آخر للشعر هل صدرك رحب تتقبل الملاحظات النقدية على شعرك، وما رأيك في الشعراء الذين يتكبرون على النقد والنقاد إلى درجة قد يتهمونهم بعدم فهم الشعر؟

ينبغي للمبدع الواثق من تجربته أن يتلقّى النّقد، وإن كان سلبيّاً، بصدرٍ رحب. الذّات الشّاعرة ينبغي لها أن تستفيد من كلّ الملاحظات النقدية، وتعتبرها علامةً ومؤشّراً كي تستأنف انطلاقتها من جديد. في بداية تجربتنا الشعرية، وعندما كنّا متكرّسين على كتابة القصيدة العموديّة، واجهنا نقداً شرساً لأنّنا نكتب القصيدة العموديّة. تخيّل ذلك. أن يقال لك: لا تكتب القصيدة العموديّة. القصيدة العموديّة تعني المتنبّي. ونحن لسنا بحاجة إلى المتنبّي؛ نحن بحاجة إليك. طبعاً، هذا الطّرح يُقَدَّمُ باعتبارات خاصّة كانت حاكمةً ومهيمنةً في لحظتها. مع ذلك، لم نلتفت إلى هذا الطّرح. ولكن، استفدنا منه بصورة مغايرة. ولذلك كان لدينا فهمٌ آخر للشِّعر. وهذا الفهم لم يكن محدوداً بنظر الآخرين. بل كان متعلّقاً بالنتاج الشعري نفسه، منذ أقدم عصوره وإلى اليوم.
هل تعرف ذاتك النقدية ما يفترض أن تنأى عنه قصيدتك، ولم تفعله حتى الآن، ولماذا؟
لا أظنّ ذلك. ولا ينبغي لها أن تعرف. عالم مُغاير هل ثمة شاعر تقيم حواراً دائماً مع قصائده من هو، وما هي أسبابك؟
أحبّ أبا تمام وأبا الطّيّب وأبا العلاء. وأجد أنّ الحسين بن منصور الحلّاج وابن عربي مؤسِّسَين لعالَم مغاير. هؤلاء، إن شئت، خلّقوا العالَم الخاصّ بي، ولا يزالون يعيدون تشكيله ورفده.

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: زلزال المغرب انتخابات المجلس الوطني الاتحادي التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان سلطان النيادي مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة

إقرأ أيضاً:

النطاقات المعرفية والإحالات المرجعية في شعر الأوقيانوس أنس الدغيم

يمن مونيتور/إبراهيم طلحة

يعدُّ الشاعر العربي السوري المعروف أنس الدغيم، أحد أساطين الشعر المعاصر، فهو – من زاوية قراءتنا – يشكِّلُ ظاهرة شعرية وحالة استثنائية، ليصحَّ وصفه بأنه شاعر من العيار الثقيل، لا مجرد اسمٍ مسجَّل في القائمة الشعرية العربية.

كما أنَّهُ – إلى جانب ذلك – أوقيانوس عظيم، وبحر محيط، وبالمناسبة فإنَّ معنى الأوقيانوس هو: المحيط، وللكلمة دلالاتها في عوالم التصوف، وهي مأخوذة من الميثولوجيا الإغريقية التي تذهب إلى ما يشبه إيجاد معادل موضوعي حول هذا المفهوم يقابلُ بين البحر المعلوم وبحر العلوم، أي بينَ البحر بوصفه المعلوم وما يحتوي من عجائب، وبحر العلوم من أحد الأشخاص وما يمتلك من مواهب؛ ونجِدُ أنّ الوصف ينطبق على الشاعر أنس الدغيم من حيث المعرفة الزاخرة التي يكتنز بها، والثقافة الواسعة التي يصدُر منها، بما يُضفي على نصوصه هالة من البهاء والنور.

وبقراءة منَّا لشِعر أنس الدغيم يمكن أن نقف على عتبات أهم النطاقات المعرفية والإحالات المرجعية في نصوصه، وهذا الوقوف هو نسبيٌّ وإلى حدٍّ ما؛ فبطبيعة الحال يصعب تناول كل مكنون معجمه الشعري في مقالٍ سريعٍ أو مبحثٍ قصيرٍ، ولا سيما وأنه بحر محيط كما ألمعنا، وكيف لنا أن نحيط بكل ما في المحيط؟!

أنس إبراهيم الدغيم، شاعر حضرة الذّاتِ النبوية المحمدية، وشاعر قضية العرب الأولى وقضايا شعوب الأُمّة العربية.. شاعر المنافي والأوطان، والأرض والإنسان.. له عدة دواوين شعرية، وكذا عدة أعمال أخرى، كما أنه إلى جانب كونه شاعرًا وإعلاميًّا هو صيدلاني، يداوي أرواحنا بأحرفه الضّافية، كما يداوي أجسادنا بأدوية العافية.

تتضح ملامح ما نحن بصدده من نطاقات وإحالات في شعر الدغيم، من خلال تكثيف اللغة العابرة للأطر الزمكانية، والمتضمنة للمحمولات الثقافية، والتعويل على الاشتغال الإبداعي غير المسبوق الذي قفز به متجاوزًا تجارب إبداعية مناظرة.

ولشاعرنا عدة دواوين، ابتدأها بإيقاد شعلة (حروف أمام الدار)، ثم استأنفها في (المنفى)، واستوت على (الجودي)، ليرفع قواعدَ بيت القصيد (إبراهيم).

ها هو يمطر القلوب قصيدًا باذخًا وينشد الدروب نشيدًا شامخًا، فيقول:

مطَرانِ لي ولك القوافي الماطرة

والشِّعرُ بينهما يُكابِدُ شاعره

غضبي وقلبي يكتبانِ قصائدي

والموت بينهما يعدُّ ذخائره

من ذا الذي يحصر الموت بين معقوفتين من رفض ونبض إلّا شاعر كالدغيم؟!!، ولعلنا لا نستطيع صبرًا على تأويل ما لم نحط به من المعنى خُبرًا؛ بيدَ أنَّ تقابل ضمير (أنا) المتكلم مع ضمير (أنت) المخاطَب افتراضًا في كل من اللفظين: (لي، ولك) يدل على أن الشاعر يقول ما يقول، والمتلقي يتأول ما يتأوّل، والجميل أنَّ الإحالة هنا إلى مقولة: “علينا أن نقول وعليكم أن تتأوَّلوا” لم تجئ على جهة تأنيب قدرة المتلقي وتغليب قدرة الشاعر، وإنَّما جاءت خلافًا لذلك بكونها تحدّثت عن معاناة الشاعر ومكابدته، بل ومعاناة الشعر ذاته ومكابدته، وكأنّما الشعر إنسان يسمع ويعي، ويمرض ويشتاق ويتعلل، وفي هذا تجسيم أو أنسنة، أو وجه استعارة، بلغة أهل البيان والبلاغة.

أما تناولات شاعرنا في مجال المديح النبوي، فهي ليست مجرد مديح تقليدي منمط، بل تتجاوز ذلك إلى عوالم الوجود وتواريخ الجدود، بأسلوب مرهف يستدعي فيه الورد من أعطافه ليبادله الحديث، والنجوم من عليائها ليسامرها، والغيوم من حيث أمطرت ليحيي بهطولها الأرضين والقلوب بعد موتها، فيسردُ أوَّلًا حكاية الآخِرين قبل أن يروي أساطير الأوَّلِينَ، ويقول مستهلًّا:

شتان بين المالكين نِصابا

ملك القلوب ويملكون رقابا

أي شتَّان بين المالكين نِصابًا من الأموال والثروات، فتسلطوا على رقاب الناس بالسيوف والسكاكين، ومن ملك قلوب الناس من الفقراء والمساكين، من ملك قلوب العالمين، في إشارة إلى النبي محمد الذي جاء رحمة للعالمين.

وهذا البيت يشاكل بيتين قديمين ينسبان لربيعة بن ثابت، يقول فيهما:

لشتان ما بين اليزيدين في النّدى

يزيد سليمٍ والأغرّ ابن حاتمِ

فهَمُّ الفتَى الأزديِّ إتلاف مالِهِ

وهَمّ الفتَى القيسيِّ جمعُ الدراهمِ

وهذه إحالة تاريخية ضمنية في القصيدِ المقُول، توازي الحالة المناظرة لها في القصيدِ المنقول.

ثم يقول:

قلبي وعقلي والقوافي منذ أن

زمَّلتُها تتصيَّدُ الكُتّابا

هنا نحن أمام شكل تناصّ وإزاحة من خلال الاقتباس والتضمين من آيات القرآن الكريم، فتعبير التزميل مستوحى من سورة المزمل.

ثم ينتقل من تضمين معنى التزميل بأسلوب التلميح إلى تقديم قصيد المدح والثناء بأسلوب التصريح:

علَّقتُ بين البُردتين مدائحي

وسواي يعلق غادةً وكَعابا

لا ناعس الطرف الذي بايعته

في النوم كنتُ ولم أكُ السّيابا

إني وما عُلِّمتُ منطقَ طائرٍ

أشدُو بذكرك جيئةً وذهابا

لا يقول الدغيم الشعر إلّا في سبيل تكليل مشاعره بانهيال الندى، وتعزيز تجربته باجتياز المدى، وهنا خصص فيض المشاعر لمن تشدو فيه حروف الشاعر، أي لمدح النبي محمد مجدَّدًا، بعد التمهيد لذلك باستحضار قصائد البردة المشهورة التي قيلت من قبلُ، ويتَّضح لنا أيضًا تداخل مفرداته مع مضامين آيات قرآنية، كآية: “عُلِّمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء”.

وبانتقالة لطيفة يتحول الشاعر من جهة الشعر إلى جهة القصة، راويًا أجمل الروايات وأحسن القصص عن ممدوحه، فيقول:

في غاره الجبلي لم يكُ فارغًا

كان المدى يتعلم الإعرابا

ومن هذا المنطلق الذي بدأ من غار حِراء، أفصح الحرف وأسفر الصبح؛ لأنهما استوحيا فكرة تجلِّيهما من صاحب الخُلُق العظيم:

خُلُقٌ كأنَّ الورد من أعطافهِ

وخلاله يهدي الوجودَ سحابا

ويحاول الشاعر أن يرتدي حُلة جميلة من خلال نسجه لبُردةٍ جليلة:

جمَّلتُ شِعرِي حينَ لم أختر لهُ

من غير كأسكَ سُكَّرًا ورُضابا

وهذا الاشتغال الشعري على المعطى التاريخي ربما أفضى بالشاعر إلى الاشتغال الفكري على المعطى الاجتماعي، مازجًا بين قواسم نفسية مشتركة في الوعي الجمعي العربي، وملاحم شعرية مفترضة في العمل النوعي الأدبي.

همُّه الوحيد هو ألَّا يخذله بيت القصيد، فها هو يقول في قصيدة (إبراهيم):

عِنْدِي من الماءِ ما في الأرض من حطبِ

لا توقدُوا النار، إبراهيمُ كانَ أبِي

وهو هنا يحيل إحالتين متوازيتين، إحداهما إلى النبي إبراهيم عليه السّلام، وقصة إلقائه في النار، حيث كانت عليه بردًا وسلامًا، والثانية إلى أبيه، إذ إنَّ شاعرنا هو أنس بن إبراهيم الدغيم، فإبراهيم اسم أبيه أيضًا،  فمن النطاقات المعرفية في أعمال الدغيم: الدِّين واللغة والفلسفة، ومن الإحالات المرجعية: الملاحم والسِّير والتاريخ.

وإذن، نرى أنَّ شاعرنا يعودُ إلى ماضيه لينقذه من بشاعة حاضر قاسٍ مؤلم، وليبرّد على قلبه بجميل الشّعر.

يستنطق بطريقته كل جماد، ويمعن بخياله في كُلِّ وادٍ، فيخاطب ضمير الأُمّةِ حينًا قائلًا:

من لم يعش للقُدس عاش لقيصرٍ

هي قيصري كلٌّ يبايعُ قيصره

ويخاطب ملهمته حينًا، مذكّرًا لها بقلمه الرشيق وألمه العميق، قائلًا:

ولي قلمٌ أهشُّ به على ألمي

وكل مآربي يا ريمُ

بين البان والعلَمِ.

أو محذّرًا لها من ورطة الحب الزائف في زمن الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، مؤكِّدًا بالقول:

وما كان الهوى مِنِّي نِفاقًا

وحبُّ اليومِ أكثرهُ نفاقُ

ولا عجب في ذلك، فشاعرنا يعتبر أنَّ مقام شاعرٍ عظيم هو مقام يتناهى إلى جهة مقام رسولٍ كريم، فالكلمة مسؤولية، وعلى الشاعر البليغ مهمة التبليغ، كما هي على النبي المرسل؛ لذا لا يخالف شاعرنا الدغيم جماهيره إلى ما ينهاهم عنه، بل إنَّ الكلمة عنده هي بمثابة خط دفاع في الزمن الحاضر، والشعر من وجهة نظره هو رسالة إنسانية في زمن اللا إنسانية!!

 

المصدر: صفحة الشاعر على فيس بوك

مقالات مشابهة

  • بعد أن دمرتها الحرب الأهلية.. الحياة تعود لمحمية غورونغوسا بموزمبيق
  • رايات الشمس البنفسجية
  • العويس يودع صالح الشهري بصورة مع كأس الملك
  • النائب أيمن نقرة: تونس أصبحت مركزًا إقليميًا ودوليًا للتكنولوجيا
  • جلسه تصوير جديدة لـ أصاله بعيون حسين باشا
  • البرلمان العربي: تونس أصبحت مركزًا إقليميًّا ودوليًّا للتكنولوجيا
  • الخميس.. ندوة نقدية وأمسية شعرية فى سبعينية الشاعر محمد الشحات بنقابة الصحفيين
  • النطاقات المعرفية والإحالات المرجعية في شعر الأوقيانوس أنس الدغيم
  • مطران خليل مطران .. الأسد الباكي
  • مخاوف من تأثير تغير المناخ على إنتاج الزيتون في إسبانيا