لن نختلف مع أحد في تشخيص الحالة العربية من المغرب إلى المشرق ولن نتجادل مع بشر إلا في تفاصيل وضع كارثي بأتم ما تعنيه الكلمة من معاني وهو وضع يزداد سوءا يوما بعد يوم. انتهى طور الثورات التي صُفّيت بالحديد والنار لكن الحالة التي أعقبت ذلك لم تزد الوضع العام إلا فسادا.
عشر سنوات مرّت على انقلاب مصر وها هو قائد الانقلاب الذي تعهّد بعدم الترشح لولاية ثالثة يستعد لحكم مصر مدى الحياة على نهج من سبقه من عسكر مصر عبر انتخابات هزلية تثير سخرية الناس في الداخل والخارج.
فماذا بعد الخراب الكبير؟ وهل قدر المجتمعات العربية أن تعيش في دوامة الموت والعنف والفوضى؟ هل من سبيل إلى الخروج من النفق القاتل؟ وهل من طريق إلى إيقاف النزيف؟
تأصل الفساد والاستبداد
ليست الانقلابات والفوضى التي أعقبت قيام الثورات المطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية مجرد ردّ فعل القوى العميقة في الداخل والخارج من أجل استعادة مصالحها وامتيازاتها بل هي كذلك دليل على فشل "النخب الثورية" أو القوى التي تصدرت المشهد بعد سقوط الأنظمة في تحويل الفورة الشعبية العارمة إلى مكسب ثابت لا قدرة للدولة العميقة على إزاحته.
لا يمكن إحداث تغيير حقيقي في البلاد العربية دون تجديد شامل يشمل النخب والأفكار ووسائل العمل الجماعي. لا بد من تجاوز الأيديولوجيات السياسية العقيمة التي لم تورّث المنطقة وشعوبها إلا الموت والانقلابات والفساد وهو الأمر الذي لا يكون ممكنا دون إعداد الأرضية اللازمة لأجيال التغيير القادمة.يبدو هنا أن المسألة لا تتعلق بإزاحة النظام السياسي والحزام الأمني والعسكري المحيط به بل إن المسألة ضاربة بجذورها في عمق الذهنية والثقافة الشعبية التي راكمت عبر عقود كل مظاهر العجز والإحباط والخوف من المبادرة. سرعان ما انقلبت الشعوب على المنجز الثوري وسريعا ما أدارت ظهرها للثورات ولموجات التغيير تحت ضربات القصف الإعلامي المكثف وتحت تأثير رعب الفوضى الذي أحدثته الأزمات الاقتصادية وجماعات العنف المسلح.
صحيح أن ترسيخ قواعد الحرية وتثبيت أركان الديمقراطية يحتاجان عقودا وأجيالا لتتحول من منجز ثوري إلى طبيعة مجتمعية وثقافة شعبية لا يمكن الاستغناء عنها. صحيح أيضا أن التربة العربية لم تكن مؤهلة للمحافظة على الثورات ومنع انزلاقها نحو العنف المسلح كما حدث في ليبيا وسوريا خاصة. لكن كيف يمكن تفسير تساهل الشعوب مع الانقلاب على ما ضحّت من أجله لعقود طويلة؟
لا شك في أن الشعوب لم تراكم من الوعي والإدراك الجمعي والقدرة على الحركة ما يسمح لها بمنع الاستيلاء على أول أبواب التغيير لذا نجحت الثورات المضادة بسهولة كبيرة في تصفية منجز التغيير.
خيانة النخب
عن قصد وأحيانا قليلة عن غفلة ساذجة ساهمت النخب العربية في إسقاط كل موجات التغيير التي عرفتها المنطقة منذ مطلع القرن السابق بما في ذلك المشاريع التي أعقبت فترة مغادرة المحتل العسكري لبلادها. كان الفشل السياسي ذريعا في تصفية بقايا الاحتلال وفلوله وفي صياغة مشروع نهضة قادر على أن يُلحق بلاد العرب ببقية الأمم الصاعدة.
تمترست النخب الفكرية العربية وراء أيديولوجيات كسيحة عقيمة مستوردة من قومية وشيوعية ولبرالية انتهت جميعها في حضن الأنظمة الاستبدادية الحاكمة وتحولت سريعا إلى حارس من حراسها. انفرد العسكر بأهم الحواضر العربية في مصر والعراق وسوريا وليبيا والجزائر فصاغ أبشع المنظومات الاستبدادية وتفنن في حياكة أبشع الأجهزة القمعية فقتل الحريات وقمع الاختلاف وشيّد صرح الزعيم الواحد الأحد.
كأننا نتحرك داخل دائرة مغلقة وهو ما يؤكد أن طور الاستبداد العربي ذاهب إلى نهايته وأنه لا بد أن يستكمل كامل دورته التاريخية والحضارية. بناء عليه فإن الأمل في قدرة هذا الجيل أو الجيل الذي يليه على صناعة التغيير تبدو ضعيفة جدا لأسباب عديدة يطول سردها.أما الإسلاميون وهم تقريبا الفصيل الأصيل الأبرز الذي نبت داخل الحاضنة العربية فلم يختلفوا كثيرا عن سابقيهم في فشل الإنجاز وغياب روح المبادرة والعجز عن تفادي الاصطدام مع حَمَلة السلاح. نجحت الأنظمة في اختراق أغلب فصائلهم وصنعت لهم نظائر مشابهة مسلّحة بالتطرف والعنف لتبرير قمعهم فتحوّل الصراع من صراع بين الشعب والنظام إلى صراع بين الإسلاميين والنظام.
دفعت المجتمعات ثمنا ثقيلا نتيجة هذا الصراع وهو الصراع الذي هيمن على الحياة السياسية العربية منذ الثمانينات وصولا إلى ثورات الربيع دون إحراز تقدم في طبيعة المواجهة.
تجديد لا بد منه
هل استوعبت النخب الدرس؟ هل فهمت الشعوب حجم المؤامرة وخطورة المنزلق الذي تتجه نحوه؟ كل المؤشرات تدل على أن دار لقمان لا تزال على حالها وأن لا أحد استوعب الدرس. ما الحل إذن؟
كأننا نتحرك داخل دائرة مغلقة وهو ما يؤكد أن طور الاستبداد العربي ذاهب إلى نهايته وأنه لا بد أن يستكمل كامل دورته التاريخية والحضارية. بناء عليه فإن الأمل في قدرة هذا الجيل أو الجيل الذي يليه على صناعة التغيير تبدو ضعيفة جدا لأسباب عديدة يطول سردها.
لا تزال النخب العربية تراوح في نفس الإطار الفكري الذي ينتظر الإصلاح دون العمل عليه فلم نر أي فصيل سياسي أو فكري عربي بما فيهم الإسلاميون قد بادر إلى مراجعات فكرية عميقة بناء على ما حصل من فشل وانكسارات كان هو أحد أهم أسبابها. إن غياب مشاريع التغيير وغياب الآليات القادرة على تفعيل هذه المشاريع اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا هو الذي يدفع الشعوب نحو هذا الهدوء اليائس من التغيير وكأنه ينتظر معجزة لن تأتي أبدا.
لا يمكن إحداث تغيير حقيقي في البلاد العربية دون تجديد شامل يشمل النخب والأفكار ووسائل العمل الجماعي. لا بد من تجاوز الأيديولوجيات السياسية العقيمة التي لم تورّث المنطقة وشعوبها إلا الموت والانقلابات والفساد وهو الأمر الذي لا يكون ممكنا دون إعداد الأرضية اللازمة لأجيال التغيير القادمة.
من الصعب جدا أن تقبل النخب العربية وزعامتها المريضة بعشق السلطة أن تغادر بهدوء وهي تدرك جيدا أنها صارت اليوم جزءا من المشكل لا جزءا من الحلّ. كيف تقنع القيادات الإسلامية والقومية واليسارية واللبرالية أنها انتهت تاريخيا واستُهلكت فكريا وأنه يجب عليها الرحيل؟
إن أم المعارك القادمة لا تتمثل في تحرير الشعوب من الأنظمة الحاكمة بل تتمثل أولا وقبل كل شيء في تحرير المجتمعات والشعوب من نخبها التي هي حزام أحزمة الاستبداد وأول شروط بقائه.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه العربية سياسة عرب رأي أوضاع مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
خبراء سودانيون لـ «التغيير»: غياب الصيانة وارتفاع المناسيب يفاقمان أزمة سد جبل أولياء
حذر خبراء سودانيون في مجال الري وهندسة الخزانات من مخاطر ارتفاع مناسيب المياه بخزان جبل أولياء، مشيرين إلى تحديات هيكلية وإدارية قد تؤدي إلى كارثة مائية إذا لم يتم اتخاذ إجراءات فورية.
كمبالا: التغيير
وأكد الخبراء خلال تصريحاتهم لـ (التغيير) على ضرورة إعادة إدارة الخزان إلى وزارة الري، إلى جانب صيانة الجسور الواقية، وفتح أبواب السد لتخفيف الضغط الناتج عن تدفق المياه غير المسبوق من الجنوب.
اجتياح واغراقفي وقت أعرب مواطنون على مواقع التواصل الاجتماعي، بمناطق شرق وغرب النيل الأبيض عن قلقهم البالغ إزاء الفيضانات التي اجتاحت مناطقهم، مهددة بإغراقها بالكامل.
وأشاروا إلى أن مناطق مثل المرابيع، شيكان، أم برد، أولاد ناصر، الملاحة، أم فورة، الشوال، الكنوز، حسن علوب، الكوة والقطينة شرق النيل، ومناطق كوستي، الطويلة، الحصي، قلي، شبشة، ود شمام وحتى الدويم غرب النيل، باتت مغمورة بالمياه.
وأوضحوا أن الفيضانات قضت تمامًا على الحواشات الزراعية، التي تمثل مصدر الغذاء الرئيسي للسكان يوميًا، بالإضافة إلى مخزونهم السنوي من المواد الغذائية. وأكدوا أن الأوضاع الحالية تهدد الأمن الغذائي للسكان المحليين، مما يفاقم معاناتهم ويضعهم في مواجهة تحديات إنسانية واقتصادية جسيمة.
فتح أبواب السد بشكل عاجلمن جانبه اوضح وزير الري والموارد المائية الأسبق، د. عثمان التوم، في تصريح (للتغيير) إلى أن عودة إدارة خزان جبل أولياء إلى وزارة الري تُعد أمرًا ضروريًا لتمكين المهندسين من إصلاح الأعطال التي تسببت فيها الحرب.
كما شدد على أهمية فتح أبواب السد بشكل عاجل قبل أن ترتفع مناسيب البحيرة وتتجاوز جسم السد الذي وصفه بـ”العجوز”، والمشيد قبل أكثر من تسعين عامًا لخدمة المصالح المصرية على حد قوله.
وأوضح التوم أن السد الذي بناه المصريون يفتقر إلى أبواب مفيض، مما يزيد من خطورة الوضع الحالي، خصوصًا مع التحديات التي تواجه إدارة المياه في ظل ارتفاع المناسيب. ودعا إلى التحرك الفوري لتفادي وقوع كارثة تهدد المناطق المحيطة بالسد.
الافتقار للصيانة لعامين متتاليينمن جهته، كشف عضو وفد السودان المفاوض بشأن سد النهضة بروفسير ،محمد عكود عثمان،
عن مجموعة من التحديات التي تواجه إدارة المياه في المنطقة، مشيرًا إلى أن الوضع يتطلب تنسيقًا إقليميًا فعّالًا بين دول الحوض. وأوضح في لـ (التغيير) أن كميات المياه الواردة من الجنوب تجاوزت المستويات المعتادة بشكل غير مسبوق خلال هذه الفترة من ديسمبر، ما يشكل ضغطًا كبيرًا على البنية التحتية المائية.
وأشار إلى أن غياب الصيانة الدورية للجسور الواقية لمدة عامين متتاليين قد زاد من خطر الغرق، حيث تُعتبر هذه الجسور عاملاً حاسمًا في حماية المناطق المهددة. وأوضح أن خزان جبل أولياء، الذي يلعب دورًا حيويًا في التحكم بمناسيب المياه أعلى وأسفل السد، أصبح خارج نطاق تحكم الوزارة، مما يحد من قدرة السودان على إدارة تدفق المياه بشكل فعّال.
وأكد أن الرياح الشمالية التي تشتد خلال هذه الفترة من العام تؤثر بشكل كبير على رفع مناسيب المياه في بحيرة السد، حيث كان يتم التعامل مع هذه الظاهرة عبر صيانة الجسور إلى المستويات المطلوبة. ونبه الى ان غزارة الأمطار في مناطق مثل ملكال تؤثر مباشرة على كميات المياه الواردة، مما يزيد من تعقيد إدارة الموارد المائية.
وشدد عكود على أهمية تشغيل خزان جبل أولياء كوسيلة للتحكم في مناسيب المياه، لكنه أشار إلى أن التغيرات المناخية أصبحت عاملًا رئيسيًا يزيد من صعوبة إدارة الوضع. ودعا إلى ضرورة العمل المشترك بين دول الحوض لمعالجة التحديات وضمان استخدام الموارد المائية بشكل مستدام.
نداء استغاثةوكان حزب الأمة القومي، قد اعلن أن مدينة الجزيرة أبا والمناطق المحيطة بها تعرضت لغرق كامل نتيجة فيضان مياه النيل الأبيض، مما أدى إلى دمار واسع في المنازل والأراضي الزراعية وتدهور الأوضاع البيئية والصحية في المنطقة. وأشار الحزب في بيان قبل يومين، إلى أن الفيضان، الذي تفاقم بسبب غياب مهندسي الري عن خزان جبل أولياء وسحب الحكومة للآليات وفرق الصيانة، أثر على كافة المناطق جنوب الخزان حتى جودة.
ودعا الحزب الطرفين المتقاتلين إلى تمكين مهندسي الري من الوصول للخزان لتمرير المياه وخفض منسوب النيل، كما ناشد المنظمات الإنسانية المحلية والدولية لتقديم الإغاثة العاجلة لسكان الجزيرة أبا والمناطق المحاصرة بالمياه.
الوسومالري خزان جبل أولياء فيضانات النيل الأبيض