يبدو أنّ الأزمة الرئاسيّة تصبّ في مصلحة رئيس "التيّار الوطنيّ الحرّ" النائب جبران باسيل، فبعدما نجح في إحياء علاقته مع "حزب الله" ودخل معه في حوارٍ مباشر حول اللامركزيّة الإداريّة والماليّة والصندوق الإئتمانيّ، يظهر أنّه أيضاً يستفيد من عدم توافق الكتل النيابيّة على إسم مرشّحٍ جامعٍ، وخصوصاً رئيس تيّار "المردة" سليمان فرنجيّة، وقائد الجيش العماد جوزاف عون، ما يعني أنّ الإختلافات السياسيّة تُفيده، وتخدمه من ناحيّة التخلّص من خصومه السياسيين.
ومن شأن أيّ توافق مع "حزب الله" حول الشروط التي وضعها لانتخاب فرنجيّة، أنّ يضمن موقع باسيل وتيّاره في السنوات الستّ المقبلة. توازيّاً، لا يزال رئيس "الوطنيّ الحرّ" يُنسّق أيضاً مع قوى "المعارضة"، وسبق وأنّ تقاطع معها على انتخاب وزير الماليّة السابق جهاد أزعور، ما يرى فيه مراقبون أنّ باسيل يبحث عن مصالحه مع حارة حريك من جهّة، ومع معراب وحلفائها من جهّة أخرى، إنّ فشلت محادثاته مع "الحزب".
ويُشير المراقبون إلى أنّ كلّ ما يقوم به باسيل الهدف منه تحسين شروطه الرئاسيّة، وأنّ يكون لاعباً أسياسيّاً في اختيار وانتخاب الرئيس المقبل. ومن المُؤكّد أنّ عامل الوقت ورفض المسيحيين تلبيّة الدعوة للحوار يضرّ بحظوظ فرنجيّة، خصوصاً وأنّ الأخير لم يعدّ ينال دعماً فرنسيّاً كما في السابق، بعد سقوط مبادرة باريس الأولى القائمة على المقايضة، إضافة إلى دعوة الموفد الفرنسيّ جان إيف لودريان الأفرقاء، إلى التوافق عبر "الخيار الثالث".
وإذا لم يتمّ تأمين الغطاء الخارجيّ لفرنجيّة أو قائد الجيش، فإنّ إسميهما سيظلّان ضعيفين رئاسيّاً، فمن دون مباركة المملكة العربيّة السعوديّة والولايات المتّحدة الأميركيّة لأحد هذين المرشّحين، فإنّ حظوظهما تُعتبر منخفضة. ويقول المراقبون إنّ هذا الأمر من مصلحة باسيل، فإذا نجح في الوصول لتفاهمٍ مع "الثنائيّ الشيعيّ" ينتخب فرنجيّة، ويُقوّي موقعه السياسيّ. أمّا إذا استفاد من التشرذم الداخليّ والخارجيّ، واقتنع الجميع بضرورة الذهاب للخيار الثالث، فإنّه أيضاً يكون قد نجح في إبعاد خصومه عن سدّة الرئاسة. فلا يُخفى على أحد أنّ باسيل لا يُحبّذ إنتخاب فرنجيّة، كذلك، فهو يُعارض بشدّة الإقتراع لعون الذي تُسوّق قطر له، ولا تضع أميركا "فيتو" عليه ولا السعوديّة.
وعلى الرغم من أنّ تكتّل "لبنان القويّ" لا يزال يدعم أزعور، غير أنّ أغلبيّة نوابه مقتنعون بضرورة انتخاب مرشّحٍ ليس فرنجيّة ولا قائد الجيش، وبالتأكيد ليس شخصيّة تحدّ تفرضها "المعارضة". ويلفت المراقبون إلى أنّ الخارج يدعم توافق اللبنانيين في ما بينهم، وباسيل يُفضّل أنّ يجرّ كافة الكتل النيابيّة للتحاور معه، فالخيار الثالث يُعزّز دور "التيّار" في اختيار الرئيس، وفي الوقت عينه، يُبعد الأسماء التي لا تتمنّى ميرنا الشالوحي وصولها إلى بعبدا من التداول.
ولكن، هناك مشكلة قد تُواجه طموح باسيل، فإذا اقتنع "حزب الله" بقائد الجيش رغم صعوبة تخلّيه بسهولة عن دعم فرنجيّة، فإنّه يكون قد ارتاح من موضوعيّ اللامركزيّة والصندوق الإئتمانيّ، لأنّ هناك علامات إستفهام كثيرة عليهما من قبل العديد من النواب. وفي هذا السيّاق، تعمل قطر على تسويق إسم جوزاف عون لإنهاء أزمة الشغور الرئاسيّ، إنطلاقاً من أنّ الداخل كما الخارج يُؤيّدون الجيش، والطريقة التي تعامل بها عون منذ بداية الأزمة الإقتصاديّة وتأثيرها على المؤسسة العسكريّة وعناصرها، والتظاهرات التي رافقت "إنتفاضة 17 تشرين"، وصولاً إلى التعاطي بعقلانيّة وهدوء مع حادثتيّ الطيونة والكحالة.
المصدر: خاص "لبنان 24"
المصدر: لبنان ٢٤
كلمات دلالية: فرنجی ة
إقرأ أيضاً:
عقيدة ترامب التي ينبغي أن يستوعبها الجميع
ترددت عبارة خلال إدارة دونالد ترامب الأولى هي بمقام نصيحة مفادها أن كلام ترامب ينبغي أن يؤخذ «على محمل الجد، لكن ليس بحرفيته». وكان هذا التعبير ذو الضرر الفريد قد تردد على ألسنة نطاق عريض من الساسة ووسائل الإعلام. وكان تبنّيه يتواءم مع الموقف الذي ارتاح إليه الكثيرون، وهو أن ترامب شخص سيئ لكنه ليس بالشخص الذكي، فهو لا يعني ما يقول. ولا يتكلم انطلاقًا من حسابات وتعمُّد. وهو قد يجهر ويصرح، لكنه نادرا ما يتبع أقواله بأفعال. وهو في جوهره سلاح أخرق يمكن أن يلحق أضرارًا جسيمةً، ولكن ذلك في الغالب يكون عن طريق الصدفة.
ولا تزال بقية من هذا النهج قائمة بيننا، حتى في التحليل الذي يصف أوامر ترامب التنفيذية الأولى بأنها حملة «صدمة ورعب»، فكأنها محض إرسال إشارات وليست تنفيذا لسياسات. أو في القول بأن خطته لغزة يجب أن تؤخذ -إذا أحسنتم التخمين- مأخذ الجد لكن ليس بشكل حرفي. وحينما قيل ذلك للسيناتور الديمقراطي آندي كيم فقد صبره وقال لمجلة بوليتيكو «إنني أفهم أن هناك من ينكبون على محاولة التخفيف من بعض تداعيات هذه التصريحات» لكن ترامب هو «القائد الأعلى لأقوى جيش في العالم.. فإذا لم أستطع أن أفهم أن كلمات رئيس الولايات المتحدة تعني شيئًا فعليًا، بدلًا من أن ينبغي عليّ أن أكون عرافًا لكي أفسرها، فأنا بالفعل لا أعرف كيف يمكن أن يكون الحال حينما يتعلق الأمر بأمننا الوطني».
يكمن جزء من المشكلة في أن الناس يعزفون عن افتراض أي قدر من التماسك في ترامب. في حين أن عقيدة ترامبية قد بدأت في الظهور، وهي تظهر في السياسة الخارجية بشكل أكثر حدة. ولها سمات واضحة وملامح وما يشبه نظرية موحدة للصراع. وهي ابتداءً قائمة على الصفقات، خاصة عندما يتعلق الأمر بحرب تلعب الولايات المتحدة دورًا فيها. وليس فيها ما له علاقة بالتاريخ أو بأي إحساس موضوعي بالصواب والخطأ. فالتاريخ يبدأ بترامب، ودور ترامب هو إنهاء الأمور، والمثالي هو أن ينهي الأمور ضامنا للولايات المتحدة بعض المكافآت.
والجانب الإيجابي في هذا هو السمة الثانية لعقيدة ترامب: أي التمويل، أو اختزال السياسة في التكاليف، وفي حجم العائد وكيفية تعظيمه. يرى ترامب أن الصراعات والمساعدات المالية لم تثمر للولايات المتحدة أي شيء ملموس. فمن حرب غزة، يمكن الخروج بصفقة عقارات. وفي أوكرانيا، ثمة اقتراح بأربعة أمثال قيمة المساعدات الأمريكية حتى الآن في شكل معادن، وذلك أشبه بشركة متعثرة يحاول مدير استثمارات جديد أن يستعيد لها الأموال التي بددها أسلافه.
والسمة الثالثة هي التخلص من أي مفاهيم تتعلق بـ«القوة الناعمة»، فهذه تعد مكلفة، وفوائدها مشكوك فيها، ومجردة غير قابلة للقياس. بل إن القوة الناعمة قد تكون خرافة محضة، وخيالا طربت له الأنظمة الساذجة السابقة، واستشعرت من جرائه بعض السيطرة، في حين كانت أنظمة أخرى تتغذى على موارد الولايات المتحدة. ففي غزة أو أوكرانيا، كانت الولايات المتحدة تؤدي حركات العمل دونما تحقيق فتح حاسم. فحيثما يرى الآخرون قوة ناعمة، يرى ترامب مستنقعات.
قد تتغير ملامح هذا النهج، وقد تكون قصيرة النظر وضارة بأمن الولايات المتحدة. وقد لا يكون مصدر هذه الملامح بالكامل هو ترامب نفسه، وإنما تقاطع للخيوط السياسية المختلفة في تركيبة المصالح الداعمة والناصحة له. ونظرًا لمرور هذه العقيدة من خلال ترامب، فإنها تتخذ السمات المميزة لشخصيته، من التفكك، والنرجسية، والجهل. ومع ذلك، لا ينبغي الخلط بين أي من هذا وبين الافتقار إلى الاتساق الأساسي والعزم على المتابعة.
يفضي هذا بزعماء آخرين، وخاصة في أوروبا، إلى أن يجدوا أنفسهم حيث تنطمس ترتيباتهم وتفاهماتهم التاريخية فيما يتعلق بالاتفاق مع الولايات المتحدة. فقد أصبحت الدول الأوروبية الآن محض دول صغيرة بوسعها إما أن تتخلى عن مفاهيمها المهدرة حول أهمية رفض فلاديمير بوتن، والانضمام من ثم إلى ترامب في إنهاء الحرب بشروطه، أو أن تتولى الأمر بأنفسها عندما تسحب الولايات المتحدة دعمها.
أما الغضب ولغة «الاسترضاء» و«الاستسلام» فتبدو قراءة خاطئة لما يحدث، وصدى من زمان كان متفقًا فيه بشكل مطلق على أنه لا بد من مواجهة الأعداء العدوانيين لأن أي شيء آخر عدا ذلك لا يكون إلا هزيمة أخلاقية وعلامة ضعف. لكن ترامب يعمل وفق نظام قيم مختلف، لا تنطبق فيه هذه المفاهيم، أو أن لها فيه معاني أخرى.
وفي حين يغلي الأوروبيون، يجري العمل على خطة ترامب الخاصة بأوكرانيا، وليس ذلك في واشنطن بعيدا عن أوروبا، ولكن في الشرق الأوسط، حيث مراكز جديدة للقوة الوسيطة طالما نزعت إلى حس الصفقات.
وهذه المراكز الجديدة تمر هي الأخرى بإعادة تعريف لعلاقاتها بالولايات المتحدة، وليست لديها أي أوهام بشأن العالم الناشئ. فقد التقى سيرجي لافروف بماركو روبيو في الرياض، وسافر فولوديمير زيلينسكي إلى المنطقة استعدادا لمحادثات السلام التي توسطت فيها دول خليجية في أبو ظبي. ويبدو أن الذين كانت علاقاتهم بالولايات المتحدة متوترة، وتتعلق بالمصلحة الذاتية المتبادلة لا بالقيم المشتركة، وكان عليهم دائما أن يدبروا أمورهم مع الولايات المتحدة بدرجات متفاوتة، قد باتوا الآن في وضع أفضل، فهم غير مضطرين للتجمد في رعب أخلاقي.
أما الآخرون، من الأصدقاء والأقارب المقربين ومن يشتركون مع الولايات المتحدة في القيم والالتزامات الأمنية، فإن تغيير النظام يمثل لهم دواء مريرًا يصعب ابتلاعه. ومن المرجح ألا يوجد إقناع أو تفاوض أو أمل في «جسر عابر للأطلسي»، بحسب الوصف الذي وُصف به كير ستارمر باعتبار أنه شخصية يمكن أن تكون وسيطا بين الولايات المتحدة وأوروبا لمنع القطيعة. فهل يحتمل أن يستطيع ستارمر مخاطبة نرجسية ترامب؟ أو «يسلك نهجا دبلوماسيا»، أو يقنع ترامب بأن الاستسلام لبوتن يجعله يبدو ضعيفًا؟ كل هذا يفترض في ترامب قدرًا من الاندفاع يمكن كبح جماحه (على يد رئيس وزراء غير معروف بشخصيته الساحرة)، وأن يتبنى ترامب أيضًا مفاهيم مماثلة عن «حكم التاريخ» أو«الضعف». والحق أنه ما من أرضية مشتركة، حتى لو صغرت حجما.
ثمة خياران الآن أمام السابقين من أصدقاء الولايات المتحدة المقربين وشركائها الأمنيين: التخلي عن كل شيء، والتخلي عن مفاهيم التضامن الأوروبي، وتسريع نهاية نظام ما بعد الحرب، والتصالح مع ضعف الدفاع والتبعية السياسية، أو الشروع في رسم ضخم لخريطة القوة. ويقتضي هذا اتخاذ إجراءات سريعة ومنسقة تنسيقًا وثيقًا على المستوى السياسي والبيروقراطي والعسكري إما للحلول محل الولايات المتحدة، أو على الأقل لإثبات أن هناك كتلة لديها بعض القوة والقدرة والمرونة - وتحدي ترامب باللغة الوحيدة التي يفهمها.
من المغري أن نتصور أن ترامب لا يقصد ما يقول، أو أنه لا بد من تدبر الأمر معه وإقناعه بأن كل ما يكمن وراء أفعاله هو التهور. أو أن هناك طريقة للتوفيق بين ما أصبح الآن في جوهره مفهومين متعارضين للنظام العالمي. فمن الذي يريد أن يستيقظ كل يوم ليفكر في أن العالم كما يعرفه قد انتهى؟ لكن هذا هو الحال. وكلما أسرع القادة السياسيون في تقبل حقيقة أن الطرق المفضية إلى النهج القديم باتت مغلقة، ازدادت احتمالات ألا يتم تشكيل العالم الجديد بالكامل وفقًا لشروط ترامب.