تمهيد
بالرجوع لنموزج ماثلو (هرم ماثلو) لفهم دوافع السلوك البشري، تأتي حوجة الإنسان للمسكن بعد الغذاء والصحة (حوجات فيسيولوجية) مباشرة ضمن الحاجة للأمان (نناقش هنا العلاقة الطردية بين جودة ونوعية المسكن وبين الحالة الفيسيولجية للإنسان). وإذا ما كنا نعرف المسكن على أنه الحماية من عوامل الطبيعة والمخاطر بشكل عام في الأحوال العادية، ففي زمن الحرب، الفقدان المفاجئ للمسكن يعتبر الكارثة الأكبر!.

فإن عدم القدرة على تلبية هذه الإحتياجات الأساسية وإنعدام الخيارات والبدائل يفتح الباب واسعاً أمام صراع إجتماعي حاد يتمظهر في إرتفاع معدلات الجريمة والجريمة المنظمة والعديد من المشكلات البيئية والكوارث الصحية.
في عرف المعماريين والحقوقيين هناك معايير ومواصفات معينة يجب أن تنطبق على أي مسكن حتى يكون لائقا بالإستخدام الآدمي، فحسب اللجنة الدولية التابعة للامم المتحدة والمعنية بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية فالسكن اللائق يعني سبعة عناصر أساسية هي: 1) الضمان القانوني لحيازة وإشغال المسكن، 2) الوصول للخدمات، 3) القدرة على تحمل التكلفة الإقتصادية للمسكن، 4) سهولة الوصول والحصول على المسكن، 5) الملائمة للسكن، 6) الموقع الملائم للسكن، و7) الملائمة الثقافية. كما تصنف الأمم المتحدة الحرمان من السكن اللائق كإنتهاك لحقوق الإنسان (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مادة 25 (1)). لا تكفل التشريعات والقوانين في السودان الحق في السكن اللائق كما أن التبعات المترتبة على انتهاك هذا الحق لا ترصد أو تؤخذ في الإعتبار عند رسم الخطط والسياسات العامة للدولة لإسباب عدة مرتبطة بعدم الإستقرار السياسي والنزاع المستمر حول السلطة في السودان لأكثر من سبعة عقود.
يعرف الباحثون الفقر على أنه: الحرمان الدائم من الموارد، والإمكانيات، والخيارات، والأمان، والقدرة الضرورية للتمتع بمستوى معيشي لائق. والسودان يصنف كواحد من أفقر دول العالم إقتصادياً من حيث ضعف نصيب الفرد من الدخل القومي ومن حيث عدد المواطنين الفقراء حسب تقارير البنك الدولي، وقد بلغ عدد الاشخاص المتضررين من إنعدام الأمن الغذائي في العام 2023 نحو 15.8 مليون شخص غالبيتهم من الأطفال والنساء حسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية (أوتشا). وبالرغم من عدد سكان السودان الذي يقدر ب 45 مليون نسمة في مساحة تفوق ال 1.800.000 متر مربع إلا أن ثلث السكان فقط يسكنون في مناطق حضرية (موزعون على 25 مدينة)، بمعنى أن السودان مازال ريفياً. نسبة إشغال الأسر المعيشية للمسكن تصل إلى 5 أفراد في المتوسط، ويعتمدون في تدبير تكاليف المعيشة على الزراعة أوالرعي أوالمرتبات أوالأجور أوأرباح الأعمال أوالإستثمار العقاري أوالمساعدات أوالتعويضات، وإن 90% من الأسر التي تعتمد على الزراعة كمصدر دخل تسكن في الريف بينما تعتمد 70% من الأسر في الحضر على الأجور أو المرتبات أو أرباح الأعمال والأستثمارات (1).

السكن ما قبل الحرب
الفقر الإسكاني في السودان يمكن تجسيدة في القطيعة البائنة بين السكن ووظيفته الإجتماعية وفقدان الملايين لحقهم في العيش اللائق والتنمية والتي إزدات حدتها في الثلاثة عقود الأخيرة بسبب غياب التشريعات والقوانين من ناحية، ومن ناحية ثانية إتجاه الدولة نحو أمولة السكن المتمثلة في الاولوية والأفضلية التي تمنحها القوانين للإستثمار الخاص والأجنبي في السودان على حساب غياب الدولة كلاعب أساسي في صناعة الإسكان في السودان وإتجاهها لتسييل الأراضي البيضاء لتمويل منصرفاتها الإدارية وإتجاهها عبر صناديق الإسكان والرعاية الإجتماعية لمراكمة رأس مال بالمضاربة في العشوائيات والأحياء الفقيرة وبالتالي إرتفاع كلفة السكن و الأرض والخدمات التي يتحمل تكلفتها المواطن بنسبة تصل الى 100%، حيث أصبح السكن سلعة لمن يستطيع وليس حق من حقوق الإنسان.
وكانت النزاعات المسلحة وعدم الإستقرار السياسي وسياسات التنمية غير المتوازنة ما بين الريف والحضر ومابين مدينة وأخرى السبب في إرتفاع الطلب على إيجار الوحدات السكنية في بعض المدن –أبرزها الخرطوم- خصوصا وسط الفقراء. وقد تأثرت حالة المسكن من حيث الموقع والملائمة للسكن والتكلفة، حيث نجد أن أكثر من 50% من المساكن التي يستطيع الغالبية تحمل كلفة حيازتها (تمليك/إيجار) مشيدة من مواد بناء غير دائمة وبدائية لا تصمد أمام عوامل الطبيعة ومعرضة للإنهيار مع كل خريف. كما أن 10% من متوسطي الدخل يبحثون عن مساكن دائمة منخفضة التكلفة (2)، وتحت ضغط الفقر وتراجع القدرة الشرائية لغالبية السكان، فإن البدائل المتاحة هي التشرد أو السكن في عشوائيات كالأراضي غير المشغولة أو منازل تحت التشييد على أحسن الفروض، وقد نمت العديد العشوائيات والأحياء الفقيرة التي تتمدد كالأشباح في وحول المدن كما تقول الترجمة للكلمة الفرنسية Bidonville. نشير هنا إلى، وكما مهدت هذه الورقة سابقاً، أن فقدان المأوى يعني فقدان الإحساس بالأمان وبالتالي تدهوراً في الصحة الجسدية والسلامة النفسية، وهو كذلك يقلل من الفرص والخيارات والإضطرار للتنازل عن التعليم والعلاج وجودة الغذاء...الخ، وعرضة لعوامل الطبيعة والمخاطر والأمراض والأوبئة. تجدر الإشارة هنا الى أن سكان هذه المناطق نادراً ما يحصلون على دعم أو رعاية إجتماعية من الدولة والدعم الوحيد الذي يوجه لهم يأتي عبر المنظمات الدولية والمساعدات الإنسانية. وحسب إحصائيات ومؤشرات أهداف التنمية المستدامة فإن 12 مليون شخص يسكنون في أحياء فقيرة وعشوائيات داخل المدن السودانية.
وحسب تقرير صادر عن منظمة السكن اللائق في 2023، تراوحت أسعار الإيجارات بالجنيه السوداني في العام 2011 مابين 400-600 للبيوت الشعبية، ومابين 800-1200 للشقق على أطراف المدينة وقريب من أسواق صغيرة، ومابين 2000-2500 للمساكن القريبة من مراكز النشاط التجاري ومركز المدينة. تضاعفت قيمة الإيجارات في الأعوام 2014-2017-2019، ونتيجة للإنهيار العام والأزمات الإقتصادية ما بعد وباء كوفيد-19، إرتفعت قيمة الإيجار بشكل كبير حتى وصلت ما بين 100.000 جنيهاً سودانياً للشقق على أطراف المدينة وقريب من أسواق صغيرة و350.000 جنيهاً سودانياً للمساكن القريبة من مراكز النشاط التجاري ومركز المدينة في العام 2023(3). هذه الزيادات لم تكن مصحوبة بالزيادة في دخل الأسرة المعيشية حيث بلغ الحد الأدنى للإجور 7130 جنيها سودانيا في العام حسب 2023 حسب بيانات وزارة المالية، في الوقت الذي إرتفعت فيه كل أسعار السلع والمنتجات. وقد شهدت البلاد منذ مطلع العام 2021 ومابعد إنقلاب 25 إكتوبر 2021 أزمة إقتصادية حادة متمثلة في الإرتفاع الحاد في معدلات التضخم وإنهيار الجنيه السوداني أمام العملات الإجنبية وتبعاً لذلك فاقت معدلات البطالة ثلث السكان حسب صندوق النقد الدولي.
العاصمة الخرطوم شهدت أسوأ أزمة سكن في تاريخها خلال الخمس سنوات الأخيرة، متمثلة في إرتفاع تكلفة السكن (شراء/إيجار) وزيادة تعرفة الخدمات (كهرباء، مياه، صرف صحي،...الخ) في وقت تراجعت فيه القوة الشرائية لغالبية السكان نتيجة لتردي الأوضاع الإقتصادية والسياسية، وفي ظل غياب القوانين والتشريعات شهدت قاعات المحاكم الجزئية آلاف المنازعات وقضايا الإخلاء القسري بسبب عدم القدرة على دفع قيمة إيجار المسكن وحسب تقرير منظمة السكن اللائق 2023، فقد بلغ عدد قضايا المنازعات حول السكن التي إستقبلتها محكمة الخرطوم شرق الجزئية فقط كمثال حوالي 3603 ملف في العام 2022م(4). الأثر الإجتماعي لهذه الكارثة تمثل في إزدياد معدلات التشرد والمشاكل الإجتماعية وجرائم القتل (الضحية غالباً مالك العقار أو المؤجر) كما أن إرتفاع تكلفة السكن أثر على قدرة الكثير من الأسر المعيشية على الحصول على خدمات الصحة والعلاج وتردي مستوى التغذية وجودته باللإضافة للإرتفاع الحاد في حالات التسرب من المدرسة أوالجامعة. الأوضاع في ولايات السودان الأخرى كانت أسوأ نسبة لسياسات التنمية غير المتوازنة التي كرست التنمية لتكون حكراً على العاصمة في أغلب الأحوال، مما أدى لفقر البنى التحتية من طرق ومساحات عامة وكهرباء ومياه الشرب النقية والصرف الصحي...الخ، وركوض سوق العمل والنشاط التجاري. وبالرغم من أن نسبة ملكية السكان لمنازلهم في الولايات مرتفعة قليلاً عن الحال في العاصمة إلا هذه المساكن كانت فقيرة من ناحية الخدمات ومواد التشييد والإنشاء بالإضافة لمعدل الإشغال العالي. وتحت ضغط الفقر والصدمات الإقتصادية لم تكن هذه المدن في الولايات والقرى في الأرياف مهيأة لإستقبال مفاجئ لأعداد النازحين الضخمة التي توافدت إليها لاحقاً!

السكن ما بعد الحرب
حسب تقارير منظمة الهجرة الدولية المنشورة في الإعلام وعبر صفحتهم الرسمية نزح حوالي 4.1 مليون شخص داخلياً في السودان بينما 1.05مليون شخص عبروا الحدود نحو دول الجوار منذ 15 أبريل وحتى أغسطس 2023، شهدت ولاية نهر النيل أعلى أعداد من النازحين يقدر بحوالي 499 ألف شخص يليها جنوب دارفور التي إستقبلت 486 ألف شخص، بينما نزح حوالي 40 ألف شخص الي غرب دارفور وهناك حوالي 42 ألف شخص نزحوا داخل الخرطوم نفسها الى اماكن أقل خطورة. كما أشار نفس التقرير الى حوجة 24.7 شخص للمساعدات الإنسانية في عموم البلاد، يحتاج كل هؤلاء للغذاء والمأوى والرعاية الصحية بشكل عاجل. بعضهم لجأ الى السكن مع الأقارب والأهل والبعض الآخر لجأ لإيجار البيوت والشقق المفروشة أو الفنادق التي شهدت معدلات إشغال عالية جداً نسبة لسعة الغرف والخدمات، بينما إستطاع البعض الحصول على مأوى مؤقت عن طريق منظمات العون الإنساني والتي غالباً ما تكون في مدارس أو داخليات أو مخيمات وغيرها، مما شكل ضغطاً على الخدمات والمرافق العامة ( غالباً يؤدي لحدوث أعطال في الأنظمة)، ولأسباب إستعرضناها سابقاً، لم تكن ولايات السودان المختلفة بمدنها وأريافها قادرة على إستيعاب الأعداد الضخمة من النازحين الذين توافدوا إليها بعد الحرب. نشير هنا أن تمركز النشاط التجاري والإستثماري في العاصمة ومركزية الإدارة في السودان أدى الى فقدان الكثيرين في الخرطوم وخارجها لمصادر رزقهم، كما تدهور النظام المصرفي وتعطلت معظم الخدمات البنكية المقدمة من البنوك، وإرتفاع خدمات الترحيل للسلع والبضائع والمواصلات بشكل حاد. وكما أشرنا لوضع البلاد ومتوسط دخل الفرد في السودان سابقاً فإن أعداد الفقراء تتزايد نسبة لصرف الغالبية لمدخراتهم طوال شهور الحرب والتي غالباً ما كان السكن يستنزف النسبة الأكبر منها. لهذه الأسباب ولأخرى متعلقة بقدرة المجتمعات المضيفة على إستقبال النازحين من الأسر والأقارب و المعارف أضر الكثيرين للنزوح مرة أخرى أو العودة الى بيوتهم وإنتظار أي مصير قادم. بينما كان النوم في العراء أو التشرد مصير للكثيرين. مع إنعدام لأي آلية رقابة أو ضبط للأسعار في ظل الطلب العالي على السكن إرتفعت قيمة الإيجار بشكل كبير ومتزايد بإستمرار حيث تباينت الأسعار ما بين 500 دولار كأقل قيمة إيجار في الشهر وما يزيد عن 2000 دولار نسبياً لحالة المسكن (البعض عرض منازل متهالكة وبدون ابواب أو شبابيك مقابل 700 دولار للشهر!). قيمة إيجار غرفة في فندق تعادل في المتوسط لليوم الواحد 30 دولاراً، فلجوء سكان الولايات الأخرى للإستثمار العقاري لجمع أكبر قدر من المال بإستغلال حوجة النازحين العاجلة وراء هذه الزيادات. لم تكن هناك أي إستجابة لسد الحوجة للسكن اللائق سواء من الجهات الرسمية أو منظمات العون الإنساني محلية كانت أم دولية ، فقد تركزت معظم جهود الأخيرة على الغذاء والدواء وتوفير بعض الخيام بالتركيز على العالقين في المعابر غالباً بشكل غير مدروس لتحديد أولويات وحوجة النازحين. نشير هنا الى جهود للمجتمع الدولي أكبر وبالتركيز على السكن اللائق بذلت في بلدان نكبت بالحروب كأوكرانيا بينما لم توجه مثلها للسودان.
على الجانب الآخر فإن البيوت المهجورة بسبب وقوعها في مناطق الإشتباك أو لأنها أخليت قسرياً من سكانها تعرضت للنهب والسرقة أو الإحتلال في حال كونها نجت من الدمار أو الحرق. التفاوت الإجتماعي الحاد والفقر الإسكاني في العاصمة بالتحديد كان بمثابة قنبلة موقوتة، فوجود طبقة لا تملك أدوات إنتاج ولا تحصل على رعاية من الدولة، عند حدوث فوضى كالتي خلقتها الحرب، يعني أن البدائل المتوفرة هي السرقة والنهب والإستيلاء على المساكن. هل خلقت الحرب هذه الأوضاع أم أن هذه الأوضاع هي ما فتحت شهية المغامرين والحمقى للإنقلابات والحروب في توقيت إنشغل فيه غالبية السكان بتلبية إحتياجاتهم الأساسية!.
(1) تقرير رقم: AUS0001487- البنك الدولي- الفقر واللامساوة في السودان: 2009-2014

(2) Africa Housing Finance- Sudan, Yearbook 2022.

(3) Adequate Housing Organization- A place to live in dignity for all: Making housing affordable-2023

https://www.ohchr.org/en/calls-for-input/2023/call-inputs-place-live-dignity-all-make-housing-affordable
(4) المصدر السابق.

arc.arwakamal@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: السکن اللائق فی السودان ملیون شخص فی العام من الأسر ألف شخص حوالی 4 لم تکن

إقرأ أيضاً:

موسم التشرذم السياسي في السودان

موسم التشرذم السياسي في السودان

فيصل محمد صالح

تعاني الأحزاب والتيارات السياسية في السودان من حالة تشرذم عامة منذ زمن طويل، لكن وصلت هذه الحالة الآن إلى حدها الأقصى، حتى لم يبقَ حزب على حاله، وتمزقت بعض الأحزاب والكتل إلى مجموعات صغيرة يصعب تجميعها، ثم ساهمت الحرب الدائرة منذ ما يقرب من عامين في زيادة حدة التمزق وتوسيع مداه، وذلك بسبب اختلاف المواقف التي، في كثير من الأحيان، لا تتم على أساس القراءات والتحليلات السياسية المختلفة، ولكن على أسس جهوية وعرقية واجتماعية.

آخر هذه الانشقاقات التي خرجت للعلن كان في حزب الأمة القومي الذي قررت بعض أجهزته عزل رئيس الحزب المكلف فضل الله برمة ناصر، في حين قام الرئيس من جانبه بحل الأجهزة التي أعلنت عزله، وانقسم الحزب إلى ثلاث مجموعات تتصارع حول الشرعية. مسببات الانشقاق عديدة، كان أحدها الصراع داخل أسرة زعيم الحزب الراحل الإمام الصادق المهدي حول خلافته، ثم انتقل الصراع لمرحلة جديدة بسبب الحرب؛ إذ تباينت المواقف بين قيادات الحزب، ثم تفجر الصراع بعد توقيع رئيس الحزب على التحالف مع «قوات الدعم السريع» والقوى السياسية والحركات المسلحة التي اجتمعت في نيروبي وكوّنت «تحالف تأسيس»، والذي أعلن نيته تكوين حكومة لتنازع حكومة الفريق البرهان حول الشرعية.

هذه الحال تنطبق تقريباً على معظم الأحزاب السياسية السودانية، بلا استثناء، مع اختلاف درجة التشرذم ونوعه؛ فقد وجدت الحرب الحزب الاتحادي الديمقراطي، وهو أحد الحزبين الكبيرين في البلاد، في حالة يُرثى لها؛ فقد تمزق إلى أشلاء حتى لم يعد ممكناً حصر الأحزاب التي تحمل اسم الحزب مع إضافة صغيرة للتمييز. ووصل الشقاق إلى بيت زعيم طائفة الختمية وزعيم الحزب السيد محمد عثمان الميرغني، فتقاسم الشقيقان جعفر والحسن ما تبقى من الحزب، وذهب أحد أبناء البيت الختمي الكبير، إبراهيم الميرغني، ليوقع على ميثاق نيروبي وينضم إلى «تحالف تأسيس».

ويعاني الحزب الشيوعي السوداني، والذي كان في مقام أكبر أحزاب اليسار في المنطقة، من أزمة صامتة بين تيارين داخله، يبحث أحدهما عن تحالف واسع للحزب مع القوى السياسية التي تقف ضد الحروب وتأمل عودة الحكم المدني، وتيار آخر متشدد يقوده السكرتير العام محمد مختار الخطيب، ينطلق من موقف تخوين كل القوى السياسية التي كانت حليفة له ويرفض التحالف معها. وقد ظهرت كتابات ناقدة من بعض عضوية الحزب لتيار السكرتير العام، لكن التزم الطرف الآخر الصمت ورفض الدخول في مناقشة عامة، حسب تقاليد الحزب.

وانقسمت الحركة الإسلامية من قبل إلى حزبين؛ المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي، ثم انقسم كل حزب منهما إلى قسمين. وتعاني أحزاب اليسار الأخرى من التشتت ذاته؛ فقد انقسم حزب البعث إلى ثلاثة أحزاب، وانقسم الناصريون لحزبين، وضعفت أو اختفت تنظيمات يسارية أخرى كانت ناشطة في فترة الثورة.

تتشابه الأمراض التي تفتك بالأحزاب السياسية السودانية القديمة، والتي وصلت إلى مرحلة الشيخوخة، ولم تستطع أن تجدد دماءها وبرامجها. ويكفي أن الأحزاب الأربعة الكبرى، بما فيها الحركة الإسلامية والحزب الشيوعي، تربع على زعامتها رؤساء امتدت فترتهم بين الأربعين والخمسين عاماً.

عجزت الأحزاب عن استقطاب الشباب لعدم قدرتها على تحديث خطابها، كما أن معظمها ليس لديه برنامج معروف يستقطب به العضوية؛ لأنها تعتمد على الانتماءات الجهوية والطائفية والعرقية، أو على شعارات آيديولوجية قديمة لم يتم تحديثها ومواءمتها مع الواقع السوداني. وتكتسب بعض الأحزاب عضويتها بالوراثة؛ فالانتماء للحزب الذي يُفترض أنه تكوين حديث قائم على البرنامج، يتم في واقع الأمر بناء على انتماء الأسرة أو القبيلة. وتفتقد معظم الأحزاب الديمقراطية الداخلية؛ فهي إما أنها لا تعقد مؤتمراتها بانتظام لانتخاب القيادات ومناقشة البرامج الحزبية، أو تعقد مؤتمرات شكلية لإضفاء الطابع الديمقراطي، في حين يتم توزيع المناصب وحسم التحالفات خارج المؤتمر.

من المؤكد أن فترة ما بعد الحرب، متى ما توقفت، ستشهد هزة كبيرة في الواقع السياسي السوداني، وإعادة ترسيم للمشهد بطريقة تشهد تصدع الولاءات القديمة، واختفاء أحزاب كبيرة، وظهور أخرى، وبالذات الأحزاب والحركات المناطقية والجهوية التي تكاثرت في فترة الحرب. إنه طوفان قادم لن يبقى فيه حياً إلا من استعد بالتحديث والتجديد، وتطوير البرامج، والقدرة على التعامل مع الواقع الجديد والمعقد.

* نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط

الوسومأحزاب اليسار الحركة الإسلامية الحزب الاتحادي الأصل الحزب الشيوعي السوداني السودان القوى السياسية المؤتمر الشعبي المؤتمر الوطني حزب الأمة القومي حزب البعث فيصل محمد صالح

مقالات مشابهة

  • ما هي الدول الأوروبية التي ستشارك في "تحالف الراغبين" من أجل أوكرانيا؟
  • الحزب الشيوعي السوداني: وحدة السودان وسلامة أراضيه واجب الساعة ولا شرعية لحكومات نتجت عن الانقلاب وحرب ابريل 2023
  • ما هي الأسباب التي تعزز فرص الهجوم الإسرائيلي على إيران؟
  • الأردن يرفض المحاولات التي قد تهدد وحدة السودان عبر الدعوة لتشكيل حكومة موازية
  • محمد أبو زيد كروم يكتب: رمضان شهر الجهاد، وبل الجنجويد
  • موسم التشرذم السياسي في السودان
  • السوداني يستعرض بعيد المعلم: عالجنا مشكلة السكن ونفذنا مشاريع تربوية
  • الحرب تغتال بهجة رمضان في السودان
  • إشعال حمى الحروبات لتعقبها حمى الإنفصالات
  • أسوأ 8 اقتصادات في 2025.. السودان وسوريا واليمن في الصدارة