صحيفة الاتحاد:
2024-07-07@07:35:20 GMT

نحو مصالحة بيئية مع المتوسط

تاريخ النشر: 28th, September 2023 GMT

د. عزالدين عناية
ها هي مدينة درنة الليبية تذكّرنا بهوية المتوّسط الحقيقية، البحيرة الهادئة التي يتحلّق حولها أقوام وشعوب، سرعان ما تتحوّل في غفلة من البشر إلى مصدر لألم هائل. فقد اعتاد المتوسّطيون عوائد المتوسط، إلى حدّ تطبّعهم بطباعه. فإن يكن رزقهم وأملهم، فَلاحهم ونماؤهم، على صلة وثيقة بالبحر، فإن هذا المجال المشرع على العجيب والغريب، هو أيضاً ميدانٌ حافل بمآسٍ ونزاعات دائمة.

وهو بطنٌ سحيق لأساطيل لطالما تحطّمت فوق مياهه، وكذلك مدفن مروّع لمهاجرين يبتلعهم دورياً في جوفه. كل تلك المظاهر، بنعمها ومآسيها، هي المتوسّط. لذلك كلما أطلّت في عرض هذا البحر نعمةٌ ابتهج لها المتوسطيون، وكلما ألَمّت بهم فاجعة تقبّلها الناس بأسى وكأنها من مألوف الحياة.
لقد اعتاد المتوسطيون اللجوء إلى البحر في أفراحهم وأتراحهم، بما يشبه المناجاة التي يعيشها الإنسان الضعيف المتوسّل. فالبحر لدى كثيرين هو الملجأ الأقصى للروح والجسد حين تضيق السبل.

وما يلوح جلياً في عصرنا، مما يجري في المتوسط وعلى ضفافه، أن الإنسان الحداثي لم يتعلّم ما يكفي في مدرسة الطبيعة. استبدّ به شَرَه الاستنزاف والاستغلال لموئل يحتضنه ويمدّه بأسباب الحياة. هكذا تبدو مآسي الطبيعة التي يعيشها المتوسطي، بعدما فقد صلته الرحيمة مع أراضٍ وبحار وصحارى وغابات. لذا تبدو البيئة المتوسطية بعناصرها المتنوعة وكأنها تشكو يأساً. وها هي الطبيعة تثور وتنتفض، بشكل غير مألوف، من خلال أعاصير وفيضانات وزلازل وحرائق، غاضبة أشد الغضب. مياه منهمرة، وسيول جارفة، ورياح عاتية، تبدو وكأنها جميعاً متواطئة مع بحر يعرف الناجون أنه مقبرة مروّعة منذ القدم.
ارتبكت العلاقة جراء عنف اقترفته أيادي البشر. إنسان مستنزِف، مع طبيعة صامتة وبيئة تئنّ تحت وطأة التلوث والاحتباس الحراري والإمعان في اللامبالاة. أضحى العنف المتبادل بين الطرفين لغةَ التحاور بين الإنسان وبيئته. وساد الإجحاف عبر تطرف في استغلال الموارد، ودون مراعاة الكائنات المعمّرة أرض المتوسط وبحره. فقابلت هذا الوضع ردود عنيفة من الطبيعة بأشكال وأنواع مختلفة. لقد فقد الإنسان المتوسطي لغة التخاطب مع البرّ والبحر، فكانت النتيجة ماثلة أمامه.
حواضن حية
يضعنا تأزم علاقة البشر مع محيطهم أمام ضرورة إقامة صُلح عاجل ومستوجَب للإنسان مع محيطه، يعيد من خلاله بناء أسس التعايش مع البيئة من جديد. فلا البحر مصبّ للفضلات، ولا البرّ مكبّ للنفايات، ولا الجو مصرف تصرف فيه الغازات، بل هي حواضن حية ينبغي التعامل معها بلين ورفق.
لقد احتوت الطبيعة مجاري أطلقنا عليها، في مسمياتنا، أودية وأنهاراً، لم نقبل بها، وحولناها إلى مواطن للسكنى والزراعة والصناعة، كأنّ الأرض ضاقت بما رحبت. وأصررنا على تحويل تلك القنوات إلى مواضع حكراً علينا، وتغافلنا عن أن الوديان هي شرايين البسيطة. تناسينا منطق الطبيعة وخياراتها الحرة. أمعنّا في تحدي التوازن الطبيعي بالتزاحم على البناء على أطراف الوديان وجنباتها، أو بردمها وتسويتها أيضاً، زهواً بقدراتنا، حتى جاء الطوفان والإعصار في درنة الضحية ليذكّرنا ويذكّر العالم أن للطبيعة حقوقاً ينبغي مراعاتها ونواميس ينبغي إجلالها، وأن الوديان هي شرايين البسيطة التي ينبغي تسريحها وضمان سيلانها، لا سدّها وتحويرها. على تلك الشاكلة وأسوأ ساد التعامل مع الجبال والوهاد والصحارى في العديد من الأصقاع المجاورة للمتوسط، فكانت النتيجة دماراً مباغتاً.

أخبار ذات صلة مؤتمر اللغة العربية واللسانيات التطبيقية ينطلق في أبوظبي توقيع كتاب «محمد بن زايد آل نهيان.. إضاءات في مسيرة رجل الإنسانية»

لقد باتت الشواطئ المغلقة، على ضفاف المتوسط، في شماله وجنوبه، العنوان الأبرز لأزمة هذه البحيرة العريقة. وهي نُذر صارخة، تقلّصت الغابات المجاورة للمتوسط بشكل واضح، واستُبدلت بأراض جرداء قاحلة. لم يجر الأمر على مدى قرون، بل صارت العقود القليلة شاهدة على هذه التحولات وهذه الاختلالات. ولم نأبه إلى أنّ علاقة الإنسان بالطبيعة هي علاقة أمّ بِبنيها. حوّلنا العيش في بيئة سليمة إلى معركة ضارية للتجريب والتلويث، وها هي الطبيعة بغضبها الجارف ترمي بنا جميعاً، بآمالنا وأحلامنا، بحُسننا وقبحنا، في أتون الأزمة والمآسي. 
مدن متوسطية كانت في مضى عرائس تختال بحسنها، ودرنة إحداها، تحولت في سويعات إلى خرائب ومآسٍ، نتيجة فقدان التواصل مع الطبيعة وغلبة منطق التسلط على البيئة. فقد أدمن الإنسان تدمير معاشه، وكأن البحر الذي يأكل من خيراته ويستنشق من عليل هوائه لا تربطه به رابطة سوى الاستنزاف. هكذا أضحت ثقافة اللامبالاة هي الطاغية في التعامل مع حوض يطلّ عليه الجميع. استفقنا على هول قادم، جارفاً من البر ودافعاً إلى البحر، في غضب لم نعهده، تحالفت فيه عناصر الطبيعة على دحرنا. وكأن العنف المصدَّر إلى البر والبحر، عبر التلوث والاستنزاف المقتَرفين بأيادي البشر، هو المآل المحتوم لفعل مسبَق ارتدّ إلينا بقوة غاشمة فاقت أوهامنا.

 

المصدر: صحيفة الاتحاد

إقرأ أيضاً:

زعيم الحوثيين يحمل الأنظمة العربية فشله في عسكرة البحر الأبيض

حمل زعيم ميليشيا الحوثي الإرهابية، ذراع إيران في اليمن، عبدالملك الحوثي، الأنظمة العربية مسؤولية فشله في عسكرة مياه البحر الأبيض المتوسط.

زعيم الحوثيين في كلمته الأسبوعية الخميس، قال إنهم يواجهون مشكلة في استهداف السفن بالبحر الأبيض المتوسط، وزعم أن المشكلة هي إسناد أنظمة عربية لصالح العدو.

ويرفض زعيم الحوثيين الاعتراف بعجز صواريخه ومسيراته المفخخة في استهداف السفن بالبحر الأبيض كما هو حال معظم اعتداءاتهم في البحر الأحمر والبحر العربي.

لذلك ذهب إلى اتهام "بعض الأنظمة والجيوش العربية" باعتراض صواريخ ميليشياته وطائراتها، بزعم خدمة العدو.

وذكر الحوثي أن ميليشياته نفذت خلال الأسبوع الماضي اعتداءات بـ20 صاروخا باليستيا ومجنحا وطائرة مسيرة وزورقا على طول مسرح العمليات البحرية.

وقال إنهم استهدفوا 6 سفن ليصل إجمالي السفن المستهدفة منذ بداية عمليات الاعتداء إلى 162 سفينة.

مقالات مشابهة

  • مناشدة عاجلة من صيادي شبوة لإنقاذ سواحل المحافظة من كارثة بيئية
  • الأمم المتحدة: غرق «روبيمار» يؤدي لكارثة بيئية في البحر الأحمر
  • علماء يصفون البحر المتوسط كبؤرة ساخنة للتغير المُناخي
  • خبراء يحذرون: موجات تسونامي كبرى تهدد سواحل البحر الأبيض المتوسط
  • مفوضية اللاجئين: 90 قتيلاً ومفقوداً في البحر المتوسط خلال يونيو
  • شاهد| إعصار يمني في يضرب البحر العربي والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي
  • مفوضية اللاجئين: 90 قتيلاً ومفقوداً فى البحر المتوسط خلال يونيو
  • حالة الطقس في العلمين خلال فترة المهرجان.. أجواء صيفية ممتعة
  • زعيم الحوثيين يحمل الأنظمة العربية فشله في عسكرة البحر الأبيض
  • مدير مكتبة الإسكندرية يشرح تفاصيل تصميم «بيت مصر في باريس»: صُمم بهوية مصرية