الحرة:
2025-01-20@18:00:45 GMT

أزمة الرواتب في السودان.. هجرات من نوع آخر

تاريخ النشر: 28th, September 2023 GMT

أزمة الرواتب في السودان.. هجرات من نوع آخر

بعد عودته من صلاة الجمعة بقليل، فوجئ الناطق باسم لجنة المعلمين السودانية المركزية، سامي الباقر، بقوة من الجيش تقتحم منزله وتعتقله موجهة إليه اتهامات واعتداءات لفظية بسبب مطالباته بصرف رواتب الموظفين، قبل أن يتم اقتياده إلى جهة عسكرية. 

قبل اعتقاله، كان الباقر معروفا بمطالباته المتكررة بوقف الحرب ودفاعه عن حقوق المعلمين والمطالبة بصرف رواتبهم المتوقفة منذ أشهر.

 

وقال الباقر الذي تم إخلاء سبيله، الاثنين، لموقع "الحرة": "خلال أربعة أيام تم اعتقالي فيها، كانت التحقيقات تدور حول أسباب مطالباتي المتكررة بصرف رواتب المعلمين، معتبرين أن ذلك خيانة في زمن الحرب وأن أي حديث بشأن هذا الأمر يمثل ضغطا على الدولة". 

وأضاف: "بعد الأسئلة، حاولوا إقناعي بأن أتبنى موقف الجيش في أن صرف الرواتب من شأنه أن يضعف الجانب الأمني". 

لكنه يقول إن "حجب المرتبات أخطر من الحرب نفسها، لأن المعلمين على سبيل المثال عددهم مليون شخص، وهذا يعني أنهم يعيلون ستة ملايين سوداني بحساب أسرهم، من أصل 48 مليون سوداني". 

وعبرت الأمم المتحدة، الأسبوع الماضي، عن خشيتها من وفاة آلاف الأطفال في السودان بسبب سوء التغذية الحاد وتفشي الأمراض في ظل العنف السائد في البلاد خصوصا بعد أن توفي نحو 1200 طفل جراء الحصبة وسوء التغذية في تسعة مخيمات للاجئين في السودان منذ مايو.

الاحتياجات الإنسانية تتفاقم في السودان"اعتقال القيادات العمالية ظاهرة"

يشير القيادي بالجبهة الديمقراطية للمحامين، بابكر ريزا، إلى أن "اعتقال القيادات العمالية من قبل الجيش أصبح يمثل ظاهرة طالت محامين وصحفيين، من أجل تكميم أفواههم خاصة مع تزايد حالات الموت من الجوع بين السودانيين". 

وقال ريزا لموقع "الحرة": "نحن نعيش أسوأ فترات الحقب المتتالية في السودان، حيث أنتجت تشريدا ونزوحا ووفيات. لا يوجد سوداني حاليا أوضاعة المادية أو المعيشية مستقرة سواء كان داخل السودان أو الذين خرجوا بسبب الحرب".

وأوضح أن "معظم الموظفين في كل القطاعات تقريبا لم يحصلوا على مرتباتهم بشكل دوري.. يوجد قطاعات تم صرف جزء من الأجور، لكن قطاعات أخرى لم تحصل على أي أجر منذ بداية الحرب". 

ويشهد السودان منذ 15 أبريل معارك بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي".

المديرة في وزارة التنمية الاجتماعية، سليمى الخليفي، تقول لموقع "الحرة" إن "معظم الموظفين الحكوميين، لم يحصلوا على رواتبهم، حتى في الولايات التي لا تشهد نزاعا بين الجيش وقوات الدعم السريع". 

وأضافت: "بالنسبة لنا كموظفين في الخرطوم، حصلنا مؤخرا على رواتب شهري أبريل ومايو، وبالنسبة لي تحديدا لم أستلم أجر هذين الشهرين، لأن البنك الذي ينزل عليه المرتب مغلق ولم أستطع صرف أي شيء"، مشيرة إلى أن هناك قطاعات أخرى لم تحصل على أي أجور منذ بداية الحرب. 

مديرة مستشفى حكومي، رفضت ذكر اسمها لدواع أمنية، قالت لموقع "الحرة" إن الطواقم الطبية تعاني بسبب عدم صرف الأجور منذ أشهر. 

وأضافت: "حصلنا مؤخرا على شهر واحد فقط، هو شهر أبريل". 

وحذرت الأمم المتحدة الشهر الماضي من أنّ الحرب والجوع يهددان بـ"تدمير" السودان بالكامل وبدفع المنطقة إلى كارثة إنسانية، في وقت تتواصل المعارك، من دون أي مؤشر إلى حلّ في الأفق.

وبحسب وكالات إنسانية، فإن هناك أكثر من نصف الـ48 مليون نسمة بحاجة لمساعدة إنسانية من أجل الاستمرار وستة ملايين منهم على حافة المجاعة. 

وفي 22 أغسطس الماضي، أفادت منظمة "سيف ذا تشيلدرن" (أنقذوا الأطفال) غير الحكومية، أنّ ما لا يقلّ عن 498 طفلاً "وربّما مئات آخرين" ماتوا جوعاً في السودان خلال الأربعة أشهر الأولى من الحرب. 

طبيبة لجأت لبيع الحلوى أمام المستشفى

وتحكي خليفة عن صديقتها الطبيبة التي فرت معها من الخرطوم إلى مدينة كوستي في ولاية النيل الأبيض بسبب الحرب "على أمل أن تجد عملا هنا". 

وتقول: "كانت هذه الطبيبة تعمل في مستفى حكومي ومستشفى خاص وكانت أمورها جيدة حتى اندلاع الحرب وفرارها من الخرطوم، بحثت عن عمل فقيل لها إنها ستعمل بدون أجر، لكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك، كيف ستدفع الإيجار وتعيل أسرتها". 

وتكشف أن "هذه الطبيبة تقوم بصنع حلوى "الزلابية" وتبيعها أمام المستشفى من أجل أن توفر لها ولأسرتها لقمة عيش بسيطة". 

وبالنسبة للمعلمين، يقول الباقر: إن تسعة ولايات هي ولايات دارفور الخمس، والجزيرة والنيل الأزرق وسنار وكسلا، من أصل 18 ولاية في السودان لم يحصل فيها المعلمون على أي أجر منذ أبريل الماضي". 

أما الولايات التسعة الأخرى، فقد حصل بعضهم على مرتب شهر أو شهرين أو ثلاثة، لكن في أفضل الأحوال يتبقى شهرين. 

ويوضح السبب بين تفاوت صرف مرتبات المعلمين بين ولاية وأخرى قائلا إنه تم ترك هذا الأمر للولايات، "الموارد في بعض الولايات مثل نهر النيل التي تشتهر بعمليات تعدين الذهب فيها، والبحر الأحمر بسبب قربها من ميناء بورتسودان، أفضل من غيرها". 

"في انتظار الفرج"

وتقول خليفة: "كلنا في انتظار الفرج، أغلب الموظفين الموجودين في الولايات يستقبلون الموظفين النازحين من الخرطوم، هذا يعني أن العبء المالي زاد على هذه الأسر التي تعيش على رواتب متأخرة جدا". 

بالنسبة لعموم الناس، فإنهم يعتمدون على أقاربهم المغتربين في الخارج "في حالتي، أختي موجودة في الإمارات وترسل لنا أموالا، وبالكاد يمكننا أن تعيننا للبقاء على قيد الحياة، لكنها لا تكفي في العادة لتغطية متطلبات الإيجارات التي زادت بشكل كبير في الفترة الأخيرة"، بحسب خليفة، مشيرة إلى أن الكثير من السودانيين أصبحوا يعانون من الجوع. 

ويقول الباقر: إن "كثيرا من المعلمين، أصبحوا يعملون كسائقي مركبات التوكتوك، أو حمّالين، ويدفع بعضهم عجلة صغيرة تحمل البضائع، مضيفا أن الأزمة تكمن فيمن لا يستطيع أن يقوم بهذه الأعمال بسبب كبر السن أو المرض أو معلمات مطلقات أو أرامل. ومع استمرار الحرب لفترة طويلة، تزداد المعاناة أكثر وأكثر". 

كيف يتعامل السودانيون مع الأزمة؟ 

الباحث محيي الدين محمد، المقرب من الجيش يقر في حديثه مع موقع "الحرة" أن "الموظفين في كل الولايات كانوا يعانون من مشكلة لأن البنوك كانت متوقفة". 

لكنه يقول إنه "بعد استعادة النظام المصرفي بدأ صرف المرتبات للموظفين في القطاع العام وتوفيرها، هناك من حصل على شهر وبعضهم على شهرين من الخمسة أشهر المقبلة، ومن المقرر أن تنتظم بدءا من الشهر المقبل".  

وبشأن كيفية تعامل السودانيين مع الأزمة قال: "كانت هناك مشكلة لكن تم تجاوزها بأكثر من وسيلة، فمعظم السودانيين الموجودين في الخرطوم سافروا إلى ولاياتهم الأصلية، وهناك من كان لديه مدخرات صرف منها وهناك مبادرات شعبية من أفراد يقوموا بإعداد الطعام في بعض المناطق ومشاركتها مع المواطنين". 

مبادرات شعبية ظهرت بعد اندلاع الحرب في السودان

وقالت خليفة: "أعرف بعض الناس الذين فروا من الخرطوم وعادوا إلى بلداتهم الأصلية، منهم من عاد للزراعة في قريته الأم، أما من ليس لديه أصول مثل ذلك حاول أن يجد أي فرصة عمل في أي مجال، أعرف زميلا كان مديرا لمركز ثقافي، الآن يحمل الرمل والطوب. كثير من الشباب ومنهم من كان يعمل مهندسا بدأوا بصنع القهوة والشاي والوجبات الخفيفة في الشارع أو بيع خضار في السوق، ليكون مصدر رزق لهم".

سودانيون لجأوا للعمل في السوق بعد اندلاع الحرب

وحذرت المسؤولة الثانية للأمم المتحدة في السودان كليمنتين نكويتا-سلامي إن "الكارثة تحدق بالسودان، على الدول المانحة أن تدفع فورا الأموال الموعودة  للمساعدة الإنسانية التي يمكن أن تنقذ أرواحا".

ومنذ اندلاع المعارك التي تركزت في العاصمة السودانية وإقليم دارفور غرب البلاد، قُتل نحو 7500 شخص بينهم 435 طفلًا على الأقل حسب بيانات رسمية، في حصيلة يرجّح أن تكون أقلّ بكثير من عدد الضحايا الفعلي للنزاع.

كما اضطر نحو خمسة ملايين إلى ترك منازلهم والنزوح داخل السودان أو اللجوء إلى دول الجوار، خصوصا مصر وتشاد، إضافة إلى خروج 80 في المئة من مرافق القطاع الصحي في البلاد من الخدمة.

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: فی السودان من الخرطوم

إقرأ أيضاً:

من القنانة إلى الإبادة العرقية: أزمة مشروع الجزيرة (وسط السودان)

زرياب عوض الكريم

مُخطط أو "مشروع الجزيرة" على منخفضات النيل الأزرق ، تسمية في القرن التاسع عشر للجزء الشمالي الشرقي من حيز (الجغرافيا المفيدة) Useful geography belt المماثلة لتجربة (جغرافيا الأمن) في غانا البريطانية geography of security.

في حقبة الإدارة الإستعمارية التركو مصرية ، ضمن كلمة للحاكم التركي أحمد باشا أبو ودان ، تأسس (النموذج البدئي) primative formula لفكرة الجغرافيا المفيدة أو السودان المفيد قبل أن يحقق البريطانيون في أعقاب الحرب العالمية (ii) الحلم الإستعماري التنموي المستعصي منذ ألف عام منها سنوات قبل الميلاد , في نقل وتوطين نظام الري الآلي mechanical irrigation system.

وكما هي تجربة الإستعمار البريطاني والمستعمرات البريطانية نجح البريطانيون في إنشاء مزرعة جماعية أو مزرعة دولة تعاونية النمط على ضفاف منخفضات النيل الأزرق وتحقيق (النموذج النهائي) للسودان المفيد ، أو في إنتاج الفكرة المستحيلة لكنهم لتعقيدات مرتبطة بطبيعة تصوراتهم المفاهيمية للنظام الأخلاقي الإنجليزي فشلوا في توزيع العائد المرجوا منها على المستفيدين الحقيقين (التخطيط الإجتماعي لأطراف المصلحة).

وظفت القومية الشمالية المتحالفة مع الغزو الأنغلو مصري كقومية محاربة militant nationalism ، هذه الثغرة العرفية في النظام الأخلاقي البريطاني ، ورفضت إعتبار السودان المفيد الذي يقع ضمن أراضي الحلفاء بإعتبارها جغرافيا آمنة من الإضطرابات والتمردات , خارج نطاق دولة الغنيمة state of capture لإنتصارهم في معركة النهر (كرري) عام 1898 حسب توصيف رئيس الوزراء البريطاني تشرشل آنذاك , أو جزءاً من المكتسبات المشتركة مع القوميات الآخرى (المهزومة) ، وقام الحاكم العسكري الشمالي إبراهيم عبود بتمليك أراضي المزرعة الجماعية (المشروع) للإقطاعيين الشمالين المهاجرين وإعتبار الفلاحين المهاجرين من القوميات الأخرى أقناناً serfdom أو عمالة مهاجرة immigrant labour ضمن تدابير تأميم من جانب واحد لم تأخذ صداها السياسي والإجتماعي على غرار جدل ماعرف بسودنة الوظائف nationalization العمومية بين القومية الشمالية والقومية الجنوبية في الثلاثينات.

إكتملت عملية التأميم الآحادية هذه لصالح القوميين الشماليين بتغيير مسمى مديرية النيل الأزرق لاحقاً إلى ولاية الجزيرة ، لكن ظلت عملية التأميم غير مكتملة دائما بسبب عوائق الوجود الديمغرافي للسكان المهاجرين من القوميات الأخرى من الإقليم الغربي أو الجنوبي أو غرب إفريقيا داخل حدود الشمال والشرق ، والتي تحتاج إلى تطهير عرقي لم تتهيأ له الظروف المناسبة لتحقيق التصور الهوياتي للمثقفين الشماليين في النقاء العرقي والهوياتي لهويتهم المفقودة missed identity والجماعة المتخيلة لقومية غير مكتملة الوجود منذ 1505 non total being (الشاعر محمد عبدالحي : قصيدة العودة إلى سنار) ، كما تهيئت له فرصة حرب 15 إبريل 2023 التي مثلت فائض وعي النخبة اليمينية للقومية الشمالية بالصراع الإجتماعي منذ عام 1938 (مؤتمر المثقفين الشماليين G.C(الخريجين)) , والحل النهائي الذي لم يتمكنوا من تنفيذه عام 1989 ضد القوميات الأخرى في الشرق والغرب بعد التخلص من الجنوب المسيحي الوثني وفصله.

أنشأ البريطانيون بعد الحرب العالمية تصورهم للجغرافيا المفيدة كجغرافيا إقتصادية ممركزة أو موحدة لدولة وطنية أو عالمثالثية على غرار نظرية السوق المشتركة , تمهيداً لنقل نمط الإنتاج الرأسمالي peripheral capitalization ، من جزئين جغرافيين شمالي شرقي (مديرية النيل الأزرق) وجنوبي غربي (مديرية النيل الأبيض) ضمن تخطيط الزراعة الآلية agrarian mechanization والتصنيع industrialization على نسق المزارع الجماعية أو التعاونية ومزارع الدولة في روسيا (الكولخوزات والسوفخوزات) وأمريكا اللاتينية (نظام الجيدو jedo) ، ونموذج الكيبوتزات الإسرائيلية.

الجزء الشمالي الشرقي من وسط السودان أو السودان المفيد أنتزعت مساحته deterritorization من أراضي إثنية (رفاعة غرب) الذين ترك لهم حزام رعوي ضيق أطلق عليه مديرية سنار , أما الجزء الجنوبي الغربي منه فأنتزعت مساحته من أراضي خمسة إثنيات , أربعة منها جنوبا هي (دار محارب , الجمع , الأحامدة , سليم) لإقامة ملحق أو إمتداد للسودان المفيد extension عرف بإسم مديرية النيل الأبيض.

تركزت التجربة الإستعمارية وفائض الإنتاج (عملية نشر التعليم والتصنيع والتمدين والإصلاح الزراعي والإتصالات) في الجزء الشمالي الشرقي من السودان المفيد وأثمرت نجاحا نسبيا ، بينما فشل توطين ذات التجربة في الجزء الجنوبي الغربي الملحق (مديرية النيل الأبيض) , ببساطة لإفتقارها للمركز الإجتماعي الحضري metropolis أو الإحتكاري (التنموي) monopolis , كما هو حال إمتداد المناقل - أبوقوتة الذي بقي متخلفاً.

تحولت نظرية الجغرافيا الآمنة أو المنطقة الآمنة للإستعمار بالأحرى أو السودان المفيد ، إلى عبئ حقيقي على التحول التنموي وإمكانية قيام ثورة وطنية ديموقراطية أو بناء دولة وطنية (غير إقطاعية) ، بإعتبارها نظاماً إجتماعياً لمستعمرة colony (من الإستعمار البديل) ، وبسبب تدميرها للريف في جميع الأقاليم الطبيعية والتاريخية التي لم يتم دسترتها أو تنظيمها إجتماعيا وسياسيا deruralization ، وغياب التوزيع العادل لفائض التنمية الإستعمارية والإنتاج المحلي داخل نموذجها (اللامواطنة). حيث أعتبرت القومية الشمالية المحاربة هي الطبقة البرجوازية الوطنية الوحيدة uneven bourgeoisization بينما القوميات الأخرى هي طبقات بروليتارية غير مسموح لها بالصعود الإجتماعي والسياسي ، وهذه هي الحيثيات المتسلسلة لثلاثة حروب أهلية ضد الأقاليم المتمردة وحرب 15 إبريل الحالية بوصفها حرب شاملة ، وحيثيات تحول أية إمكانية لتغيير سياسي متحكم به أو غير متحكم به داخل مركز السودان المفيد المختل عرقياً وتنموياً إلى حرب شاملة.

فالمهاجرين الشماليين في السودان المفيد سواء أعتبروا ملاك أراضي إقطاعيين land holders بوضع اليد (1958) أو طبقة برجوازية (وسطى) وحيدة (1938) تحتكر تمثيل الهوية الوطنية ومابعد الإستعمارية وتحتكر عنف الدولة والمفاوضة السياسية ( صديق محمد عثمان: مقالة) ، بينما المهاجرين من القوميات الأخرى في الشرق والغرب بعد التخلص من القومية الجنوبية (بإعتبارها عبئ هوياتي) burden of diversity على الشمال الكبير المتجانس دينياً والمتناقض إثنياً , يتم تصنيفهم كطبقات بروليتارية او طفيلية من الأقنان أو حتى برجوازيات هامشية مساعدة (الحركات الإقليمية المسلحة) غير مسموح لهم بالمنافسة السياسية والإجتماعية إلا تحت هذا السقف ، وغير مسموح لهم بتقرير مصير أقاليمهم حتى والإستقلال عن هيمنة المركز ، فستستمر الإبادة العرقية المتسلسلة منذ 1955 بشكل جماعي أو جزئي والتطهير العرقي كآلية وحيدة لتحقيق التجانس المفقود أو الإنتخاب العرقي بهدف التخلص من فائض الهويات تدريجياً وعبئ الإحتجاج الإجتماعي (المظلوميات والمطامع المنافسة). بعد يأس المثقفين الشماليين من ستراتيجية الحاكم العسكري السابق إبراهيم عبود ( الإستيعاب القسري) والإشتراكي جعفر نميري (البوتقة الثقافية) في الحد من التنافس العرقي competiting nationalisms على التغيير السياسي أو الدولة.

خلال سبعين عاما ، أعتبر الفلاحين المهاجرين من القوميات الأخرى من الغرب والشرق والجنوب السابق في مشروع الجزيرة تحديدا أو السودان المفيد عموما (وسط السودان) أقناناً لا يحق لهم شروط المواطنة من السكن وتملُك الأراضي العقارية الزراعية وغير الزراعية حتى سبعينات وتسعينات القرن العشرين وفق الصيغة التعاقدية غير الحرة وغير العادلة للتعايش والمواطنة وإكتساب الثروة في السودان المفيد ، وخصصت لهم ضواحي هامشية ملحقة بالمدن والكيبوتزات الأساسية تسمى الكنابي cannabi و مدن الصفيح أو جنوب الحزام الخ , وأسواق تعاونية هامشية ملحقة بالأسواق الأساسية التي يمتلك عقاراتها الإقطاعيون من غير جهد حقيقي مثل أسواق ليبيا وقندهار في الخرطوم وغيرها الخ.

في حرب 15 إبريل إتهم القوميون والإقطاعيون الشماليون الأقنان الموصفين إجتماعياً ونفسياً سكان (الكنابي) بالإنحياز إلى جانب قوات الدعم السريع R.S.F التي قاموا بتشكيلها في السابق كميليشيات حماية ذاتية زبونية Self defence.

بينما قامت اللجان المجتمعية لحزب الجبهة الإسلامية بتسليح الإقطاعيين الشماليين في كيبوتزات مشروع الجزيرة (القرى) لمقاومة قوات الدعم السريع وحثهم على عدم مغادرة بيوتهم وإثارة مخاوفهم من تغيير ملكية الأراضي التي حازوها بوضع اليد والتمييز التفضيلي من خلال خطاب الإستقطاب الإجتماعي وتعبئة الكراهية العرقية خصوصاً ضد سكان الكنابي (الأقنان) والتحريض على طردهم وتهجيرهم والنزعة الإنتقامية تجاههم ، في أحداث تشبه تعبئة الرأي الإجتماعي (1970) ضد سكان الكنابي في الجزيرة أبا وأحياء ود نوباوي والهجرة مترافقاً مع حملة تطهير عرقي (مسكوت عنها) ضدهم قادها الشيوعيين في الجيش وساندها الطيران المصري ، وقتذاك إنقسم الإقطاعيون الشماليون والأقنان من قوميات الإقليم الغربي أيضاً الذين كانوا يشتركون الولاء لأنصار الإمام الهادي المهدي (عائلة المهدي) حول الصراع السياسي وقام الشيوعيين بحل نظام الإدارة الأصلية (الأهلية) في غرب السودان دون الإقليم الجنوبي والشرقي تحسباً لتعبئة قوميات الإقليم الغربي ضدهم ، وقتذاك تواطئ الإقطاعيون الشماليون من الأنصار مع الحاكم العسكري الإشتراكي نميري في مديريتي النيل الأزرق والأبيض وقاموا بتسليم قائد المحاولة العسكرية للزحف من ليبيا إلى العاصمة العميد محمد نور سعد (1976) والوشاية بوجوده في منطقة غرب مديرية النيل الأبيض إلى نظام نميري الشيوعي.

عادت الجبهة الإسلامية للقوميين الشماليين للحكم منفردة عام (1989) لتقوم إبتداءاً بتصفية الكنابي التي ساندت إلى جانبها تحرك (1976) وتفكيك مزارعها الجماعية في الجزيرة أبا وغيرها وتفريغها من سكانها من خلال سياسة ممنهجة , منها خصخصة المزارع الجماعية التعاونية المملوكة إسمياً لعائلة المهدي إلى الإقطاعيين الشماليين بدلاً عن نقلها إلى أملاك الدولة كشركة مساهمة عامة (1990) أو توزيعها على الأقنان (الفلاحين) كمستحقين بعد نحو مائة عام من الإستغلال.

الصراع بين الإقطاعيين الشماليين والأقنان من القوميات الأخرى يشبه الحرب في القرن التاسع عشر (1885) من الإدارة الإستعمارية التركو مصرية ضد ملاك الرقيق الشماليين slavery holders والتي إنتهت بقتل شارلس غوردون على يد أولئك الإقطاعيين بسبب إصراره على تحرير الرق الذي لم يتحقق إلا في الثلاثينيات من القرن العشرين ، ويمكن إعتبار هذا الفصل من الحرب الدامية في مزرعة الدولة (مشروع الجزيرة) حرباً من ملاك الأراضي (إمتياز الريع العقاري) rent holders الرافضين للتحول الديمقراطي المدني والمساواة الإجتماعية ضد قوة الدعم السريع ، يستدعي مورفولوجيا الحرب الأولى في مديرية دارفور الموحدة ( 1987) بين ملاك الأراضي والرعاة الرحل بطريقة مغايرة من جهة ؟ ، ويستدعي موفولوجيا الحرب الأهلية بين مُلاك الرقيق في الجنوب الأمريكي الزراعي الذين رفضوا الفدرالية وتمسكوا بالكونفدرالية والشمال الأمريكي الصناعي (1861) التي إستغرقت سنوات طويلة من الصراع من جهة ثانية ، ويستدعي أيضاً مورفولوجيا الحرب الأهلية بين الملونين والسود في ليبيريا (1989).

تاريخياً , كان الإقطاعيين الشماليين في مزرعة الدولة (مشروع الجزيرة ، مديرية النيل الأزرق سابقاً) أو مُلاك الأراضي والريع العقاري الزراعي أو سكان الكيبوتزات (القرى) تحديداً ودون غيرهم في حزام السودان المفيد ، هُم من ينتخبون الأنظمة الإستبدادية العسكرية في السودان الشمالي ويتعهدونها بالبقاء لأطول فترة ممكنة منذ إنقلاب الشيوعيين على جعفر نميري (1973) من أجل الحفاظ على مصالحهم المستمرة ومكاسبهم التاريخية غير العادلة ، وقد كان لهم دور مهم في قطع الطريق على أي تغيير تأريخي من خلال تمويلهم حرب الجنوب لخمسين عاماً حتى إستخراج النفط بشكل كلي (1990) ، كما أنهم يمثلون الحاضنة الإجتماعية الزبونية الصلبة لنظام الجبهة الإسلامية العسكري لأزيد من 25 عاماً وتحديداً منذ إزاحة حسن الترابي من السلطة (1999) ، وللمرة الثانية فيما يبدو أنهم يلعبون دوراً مهماً ثانياً في إنقاذ نظام الجبهة الإسلامية من الهزيمة العسكرية والإطاحة السياسية.

northernwindpasserby94@gmail.com

   

مقالات مشابهة

  • إحصاء بالضحايا وحجم الأضرار التي خلفتها 15 شهرًا من الحرب في غزة
  • نائب كردي سابق:حكومة البارزاني وراء أزمة الرواتب في الإقليم
  • راشد عبد الرحيم: فتن الجنوب
  • القنصل السوداني بأسوان يشيد بدور مصر في أزمة الحرب
  • كباشي يصل الى جوبا لتلافي أزمة في جنوب السودان
  • الأمين العام لحكومة ولاية الخرطوم يقف على جهود معالجة أزمة المياه بالولاية
  • من القنانة إلى الإبادة العرقية: أزمة مشروع الجزيرة (وسط السودان)
  • انتهت حرب السودان وستعود (جوبا) لحضن (الخرطوم) فهما (برهان) بلغه الاحباش
  • محمد أبوزيد كروم يكتب: كل هذا الصراخ من مدني.. فكيف صراخ الخرطوم!!
  • حسين خوجلي ينقل احتفال تحرير الخرطوم على الهواء مباشرة