سلطت شبكة cbc الأمريكية الضوء على تحرك الجهود العالمية نحو الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة وتبني مصادر الطاقة منخفضة الكربون، مشيرة إلى أن العديد من الدول المنتجة للنفط مثل كندا تتصارع لتحقيق الأهداف المناخية وموازنتها مع الاعتبارات المالية والاقتصادية والسياسية.

وأوردت الشبكة، في تقرير نشرته بموقعها الإلكتروني وترجمه "الخليج الجديد"، أن موسم حرائق الغابات الاستثنائي في كندا، إلى جانب موجات الحرارة القياسية ودرجات الحرارة القياسية في جميع أنحاء العالم، خلقت دافعا لبعض البلدان كي تتحرك بشكل أسرع للحد من الانبعاثات.

ومع ذلك، فهناك دول أخرى مترددة، إذ تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا في حدوث اضطرابات في أنظمة الطاقة بجميع أنحاء العالم ووضع المزيد من التركيز على الحاجة إلى أمن الطاقة، مع إبقاء أسعار المرافق تحت السيطرة.

وفي جميع أنحاء العالم، تتبنى الدول المنتجة للنفط أساليب مختلفة للتعامل مع هذه المشكلة، وهو ما يسلط الضوء على كيفية حدوث تحول الطاقة بسرعة وحجم مختلفين من دولة إلى أخرى حيث يواجه كل منها تحديات مالية ووجهات نظر متباينة حول المستقبل، بحسب الشبكة الأمريكية.

وقالت وكالة الطاقة الدولية في تقرير أصدرته الثلاثاء: "لدى البلدان نقاط بداية ومستويات مختلفة من المسؤولية والقدرات. وبالتالي، فقد اعتمدت أطر زمنية مختلفة لتعهداتها بتصفير الانبعاثات (الحياد الكربوني)".

ففنلندا تريد الوصول إلى صافي الصفر بحلول عام 2035، في حين أن هدف الصين والسعودية بحلول عام 2050، أما الدول الأخرى، مثل الكويت وقطر، فليس لديها هدف على الإطلاق.

واستعرض مؤتمر النفط العالمي كل هذه الأولويات المتنافسة للدول المنتجة للنفط، الأسبوع الماضي، وهو مؤتمر للنفط والغاز شارك فيه العديد من قادة الصناعة رؤيتهم لتحول الطاقة.

السياسات والإعانات العملاقة

وفي كندا، وضعت الحكومة الفيدرالية أهدافًا مناخية ولديها العديد من المبادرات التي تهدف إلى الحد من الانبعاثات الناتجة عن التدفئة والتبريد في المباني وقطاع النقل، من بين العديد من القطاعات الأخرى.

وتخطط أوتاوا للكشف عن سقف للانبعاثات بمنطقة النفط في وقت لاحق من هذا العام، مع تمويل التقنيات النظيفة في الصناعة ودعم تطوير مرافق احتجاز الكربون وتخزينه.

وفي الولايات المتحدة، يشهد إنتاج النفط ارتفاعاً، ولكن نهضة الطاقة النظيفة قد تلوح في الأفق بعد إقرار قانون خفض التضخم، الذي يهدف إلى خفض الانبعاثات وتعزيز مصادر الطاقة المنخفضة الكربون.

وفي السياق، قالت كارولين ناريتش، مديرة تحول الطاقة بشركة أكسنتشر للتكنولوجيا والاستشارات، المقيمة في الولايات المتحدة: "نحن في مرحلة حرجة في تحول الطاقة (..) في بعض الدول نشهد اتخاذ إجراءات غير مسبوقة، مع عدد كبير من الالتزامات ومستويات هائلة من الدعم السياسي والتمويلي لأول مرة".

وأثناء مشاركتها بمؤتمر النفط العالمي، أشارت ناريتش إلى البرامج الحكومية الأمريكية التي توفر "أكثر من 450 مليار دولار متاحة في شكل قروض ومنح وإعفاءات ضريبية لدعم جهود إزالة الكربون".

الاعتبارات النقدية

وهذا الرقم أكبر من إجمالي الاقتصاد في بعض البلدان، بما في ذلك غانا، ذات التاريخ في الصراعات المالية، حتى بعد أن أصبحت دولة منتجة للنفط في عام 2010.

فقد وقعت الدولة الواقعة في غرب إفريقيا مؤخرا على برنامج إنقاذ جديد مع صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار أمريكي يهدف إلى المساعدة في تخفيف المشاكل المالية الشديدة التي تعاني منها البلاد.

وتهدف غانا إلى خفض الانبعاثات الوطنية بحلول عام 2030، بالإضافة إلى التوقيع على اتفاقية باريس وميثاق غلاسكو للمناخ، وفي الوقت نفسه، تتطلع إلى زيادة إنتاج النفط ولهذا السبب كان بعض مسؤوليها في مؤتمر النفط العالمي يحاولون حشد الاستثمار.

وتشمل بعض أولويات غانا البيئية سياسة عدم حرق النفط واستخدام الطاقة المتجددة على المنصات البحرية بدلاً من الغاز الطبيعي لتوليد الكهرباء في المستقبل.

وقال إجبرت فايبيل، الرئيس التنفيذي لهيئة البترول في غانا: "ترى غانا علامة واضحة لما يتعين علينا القيام به للانضمام إلى بقية العالم في سيناريو تحول الطاقة الذي نجد أنفسنا فيه (..) سأقول للمستثمرين الذين يريدون التطلع إلى غانا، إذا كان هناك أي بلد في غرب أفريقيا مستعد للتعامل مع قضية تحول الطاقة هذه، فهو غانا".

وفي وقت سابق من هذا الشهر، تصدرت وكالة الطاقة الدولية عناوين الأخبار في جميع أنحاء العالم عندما أشارت إلى أن ذروة الطلب على الوقود الأحفوري ستحدث خلال هذا العقد، وأنه على الرغم من اختلاف الجداول الزمنية، فإن النفط والغاز والفحم كلها في طريقها للخروج من مزيج الطاقة في عديد الدول.

ورفض قادة السعودية وبعض الدول الأخرى هذا التوقع، مشيرين إلى كيفية تزايد تعطش العالم للنفط سنة بعد سنة.

اقرأ أيضاً

لإنتاج مزيد من النفط.. مشاريع خليجية مكثفة لاحتجاز وحقن الكربون

ودفعت فكرة ذروة الطلب على النفط والمخاوف بشأن تغير المناخ بعض البلدان المنتجة للنفط إلى السعي للاستفادة قبل أن تبدأ حظوظ القطاع في التلاشي.

وتتمتع غيانا بأحد أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، حيث ازدهرت منطقة النفط فيها بمستويات غير عادية من الاستثمار الأجنبي والعديد من الاكتشافات الجديدة لاحتياطيات النفط.

وتعمل الدولة الصغيرة في أمريكا الجنوبية، المتاخمة لفنزويلا، على زيادة إنتاج النفط مع بدء العالم في التحول إلى أشكال أنظف للطاقة، ما يترك الرئيس، محمد عرفان علي، ليعلق في الماضي قائلا: "الوقت ليس في صالحنا"، مشيرا إلى ما يتعلق بجعل النفط أكثر نظافة.

العمل المناخي

ولا توجد خريطة طريق محددة لكيفية خفض شركات النفط والدول المنتجة له للانبعاثات، رغم أن المدافعين عن البيئة يركزون غالبا على مستوى ضروري من السرعة والحجم للحد من تأثيرات تغير المناخ.

وفي أحدث أبحاثها، أظهرت وكالة الطاقة الدولية انخفاضًا في الانبعاثات العالمية في السنوات القادمة، لكنها حذرت من أنه ليس قريبًا بدرجة كافية لوضع العالم على طريق الحد من ارتفاع درجات الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل التصنيع، وهو ما يعتبر أمرًا بالغ الأهمية، ومهم لتجنب كارثة مناخية.

وذكرت الوكالة في أحدث تقرير لها: "لقد تم إحراز تقدم كبير في نشر تقنيات الطاقة النظيفة وخفض تكلفتها، ما يغير توقعات الانبعاثات في قطاع الطاقة (..) رغم أنها لا تزال أقل بكثير مما هو مطلوب لتحقيق أهداف درجة الحرارة في اتفاقية باريس".

وقال جون إلكيند، الباحث في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا، إن التحول في مجال الطاقة يجب أن يكون مستدامًا أيضًا، حتى لا تستسلم الشركات والحكومات عندما تصبح الأمور صعبة.

وأضاف إلكيند في مؤتمر النفط العالمي: "المتانة تعني قدرة المجتمع على مواصلة تركيزه على إزالة الكربون بشكل تدريجي مع مرور الوقت من خلال الدورات الاقتصادية، من خلال الحروب، كما رأينا مع الغزو الروسي لأوكرانيا ومن خلال الأوبئة"، مضيفا: "نحن بحاجة إلى هذه المتانة".

الاستعداد للحياة بدون نفط

وفي حين أن بعض البلدان تتجه بقوة إلى ضخ المزيد من النفط، فإن بلداناً أخرى تفكر في الحياة من دونه.

فالبحرين، وهي جزيرة في الشرق الأوسط، تنتج النفط والغاز الطبيعي منذ ما يقرب من قرن من الزمان، وهي واحدة من أكثر البلدان كثيفة الانبعاثات في العالم.

وتبلغ مساحة الدولة الخليجية مساحة كالجاري تقريبا، ولكنها موطن للعديد من المرافق الصناعية الكبيرة، بما في ذلك مصفاة ضخمة، ومحطة لتوليد الطاقة بالغاز الطبيعي، ومصهر للألمنيوم ومصنع لإنتاج الحديد، وكلها في مساحة جغرافية صغيرة نسبيًا. وتأمل البحرين فقط في الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2060.

وقال مارك توماس، الكندي الذي يشرف على شركة بابكو للطاقة، وهي شركة النفط الوطنية البحرينية: "تواجه المملكة اليوم تحديات فريدة تتطلب قفزة تحويلية. فمواردنا الطبيعية المحلية تستنزف، ويتفاقم ذلك بسبب ارتفاع تكاليف الاستخراج".

وقال توماس أمام حشد من الناس في مؤتمر النفط العالمي: "إن العائد الاقتصادي [من النفط والغاز] كان رائعاً، لكنه جاء بتكلفة كربونية".

وأضاف أنه لا يوجد الكثير من الأراضي الاحتياطية في البحرين لمشروعات الطاقة المتجددة واسعة النطاق، لذا فهي تحاول تقليل الانبعاثات من خلال دفع سياسات كفاءة الطاقة، من بين تدابير أخرى، بما في ذلك محاولة إعادة التفكير في اقتصادها العام.

وقال: "مستقبل البحرين ليس دولة ذات كثافة عالية للطاقة. بل ستنتقل إلى استثمارات أخرى ذات كثافة كربونية أقل".

 وأشار توماس إلى قطاع التكنولوجيا كمثال، قائلا إن تحقيق طاقة آمنة ونظيفة وبأسعار معقولة في جميع القطاعات خلال العقد المقبل سيشكل تحديا للبحرين.

وأردف توماس: "بالنظر إلى حجم البحرين الصغير نسبيًا، فإن إجمالي انبعاثاتها لن يحدث فرقًا كبيرًا في تغير المناخ في جميع أنحاء العالم، ومع ذلك فقد التزمت البلاد بالمناخ، لذلك فهي تريد تحقيق هذا الهدف، بغض النظر عن حجمها".

اقرأ أيضاً

وعود الانبعاثات الكربونية الصفرية في الخليج لا تعني وقف إنتاج النفط.. كيف؟

المصدر | الخليج الجديد

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: كندا الدول النفطية الغازات الدفيئة حرائق الغابات فی جمیع أنحاء العالم المنتجة للنفط إنتاج النفط بعض البلدان تحول الطاقة العدید من بحلول عام من خلال

إقرأ أيضاً:

نظام البترودولار.. إلى متى يستمر في الصمود أمام البدائل؟

 

 

محمد بن علي العريمي

mahaluraimi@gmail.com

 

في لحظة فارقة من التاريخ الاقتصادي العالمي، يلوح سؤال جوهري في الأفق: إلى متى يمكن لنظام البترودولار أن يُحافظ على صلابته في وجه البدائل الصاعدة؟ منذ مطلع السبعينيات، ارتبطت تجارة النفط بالدولار الأمريكي، وأصبحت عوائد هذه التجارة تمثل أحد أعمدة القوة الاقتصادية والمالية للولايات المتحدة. ومع مرور عقود، بدا هذا النظام وكأنه ركيزة لا تهتز، لكنه اليوم يواجه تحديات متراكمة تعكس تغير موازين القوى الدولية، وتنامي طموحات اقتصادات ناشئة، وتزايد الدعوات إلى نظام نقدي عالمي أكثر تنوعًا وأقل انحيازًا.

ولعلَّ ما يجعل المشهد أكثر إثارة هو أن هذه التغيرات لا تأتي دفعة واحدة، بل تتسلل ببطء إلى البنية العميقة للاقتصاد العالمي، ما يفرض على القارئ طرح السؤال: هل نحن أمام بداية النهاية أم مجرد إعادة تموضع مؤقت؟

الأرقام هنا تتحدث بوضوح أكثر من أي خطاب سياسي. فبحسب بيانات صندوق النقد الدولي حتى الربع الأول من عام 2025، استحوذ الدولار على نحو 57.74% من احتياطيات العملات الأجنبية المعلنة لدى البنوك المركزية، مقابل أكثر من 70% مطلع الألفية. هذا التراجع، وإن بدا تدريجيًا، فإنه يعكس مسارًا واضحًا لانحسار الهيمنة. بالمقابل، حافظ اليورو على حصة تقارب 20%، فيما لم يتجاوز الرنمينبي الصيني 2.12% رغم الجهود الهائلة التي تبذلها بكين لفرض عملتها على المسرح العالمي. وإذا انتقلنا إلى قطاع الطاقة، نجد أن النفط لا يزال يُسعّر في معظمه بالدولار، بنسبة تتراوح بين 75% و80%، لكن هذه النسبة لم تعد مطلقة كما كانت. ففي عام 2023، على سبيل المثال، شهدت التجارة النفطية بين روسيا والصين صفقات تجاوزت قيمتها 19 مليار دولار تم تسويتها باليوان، وهو ما يمثل إشارة صريحة إلى أن بعض القوى الاقتصادية الكبرى بدأت بالفعل في اختبار بدائل عملية خارج النظام التقليدي.

هنا لا بد من التوقف عند الدور الصيني. فمنذ إطلاق "اليوان النفطي" عام 2018، وضعت بكين نصب عينيها هدفًا استراتيجيًا يتمثل في تقليص الاعتماد على الدولار. واليوم، مع توسع استخدام اليوان الرقمي عبر تجارب فعلية لتسوية صفقات الطاقة، تزداد فرص العملة الصينية في اكتساب موطئ قدم في أسواق النفط العالمية. ولا يقف الطموح الصيني عند هذا الحد؛ بل يمتد إلى إنشاء بنية تحتية مالية موازية مثل نظام المدفوعات عبر الحدود (CIPS)، الذي يهدف إلى توفير بديل عن شبكة "سويفت" التي تهيمن عليها المؤسسات الغربية. إلى جانب ذلك، لا يمكن تجاهل أن الشراكة الاقتصادية المتنامية بين بكين وموسكو، والتي تقدر تجارتها الثنائية بأكثر من 125 مليار دولار سنويًا، تشكل أرضية خصبة لتعزيز استخدام العملات المحلية في الصفقات الاستراتيجية.

لكن الصين ليست وحدها في هذا المشهد. فروسيا، التي واجهت عقوبات غربية واسعة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وجدت نفسها مضطرة إلى البحث عن بدائل عملية لتجاوز الحصار المالي. وهكذا تحولت تدريجيًا إلى تسوية جزء كبير من تجارتها بالروبل أو اليوان، ما أعطى دفعة إضافية لجهود تقليص الاعتماد على الدولار. وفي السياق ذاته، جاء انضمام السعودية والإمارات إلى مجموعة بريكس ليضيف بعدًا جديدًا. فالمجموعة، التي تمثل نحو 45% من إنتاج النفط العالمي، تسعى بوضوح إلى تعزيز استخدام العملات الوطنية في التبادل التجاري، وهو ما يفتح الباب أمام تحولات محتملة في سوق الطاقة العالمية، لاسيما إذا قررت بعض الدول الخليجية قبول تسعير جزء من صادراتها بعملات غير الدولار.

ومع ذلك، يظل من الصعب الحديث عن انهيار وشيك للبترودولار. فالعوامل التي تمنحه الصمود لا تزال قوية. أولها عمق الأسواق المالية الأمريكية وسيولتها الهائلة، التي تجعل من الدولار الخيار الأكثر أمانًا وسهولة في التسويات الدولية. ثانيها أن العقود الآجلة للنفط، وأسواق المشتقات، وشبكات التأمين والتمويل التجاري كلها مبنية أساسًا على الدولار، وهو ما يجعل تغييره مهمة معقدة تتطلب إعادة هيكلة جذرية للنظام المالي العالمي. ثالثها أن البدائل نفسها تعاني من مشكلات هيكلية: فاليوان مقيد بضوابط حكومية تحد من حرية رأس المال، والروبل يفتقر إلى الاستقرار بفعل العقوبات والتقلبات السياسية، أما اليورو فرغم مكانته لا يزال مرهونًا بأزمات داخلية في الاتحاد الأوروبي.

لذلك، يبدو المستقبل مرسومًا على مراحل. فمن الآن وحتى عام 2030، من المرجح أن يحافظ الدولار على موقعه المهيمن، محتفظًا بنسبة تتراوح بين 55 و60% من الاحتياطيات العالمية، مع استمرار تسعير أغلب النفط به. لكن بعد 2030، قد نشهد توسعًا أكبر لاستخدام العملات المحلية في التجارة، خصوصًا مع تزايد المبادرات الرقمية للبنوك المركزية، ما قد يخفض حصة الدولار في تجارة النفط إلى حدود 50%. أما بعد 2040، فمن المتوقع أن يتبلور نظام متعدد العملات، حيث يصبح الدولار أحد الأعمدة الرئيسية، لكن دون احتكار كامل، إلى جانب اليورو واليوان وربما عملات أخرى مرتبطة بتكتلات إقليمية كبرى.

القارئ هنا مدعو إلى التفكير في الصورة الأوسع: إن مستقبل البترودولار لن يُحسم فقط عبر صفقات النفط أو قرارات فردية من الدول، بل من خلال تحولات أعمق ترتبط بقدرة الولايات المتحدة على الحفاظ على قوة مؤسساتها المالية، وبمدى نجاح الصين وحلفائها في بناء بدائل موثوقة، وبالسرعة التي سيتحول بها العالم نحو الطاقة المتجددة التي قد تقلص أهمية النفط نفسه. وفي هذه النقطة الأخيرة يكمن البعد الاستراتيجي الأكثر خطورة؛ إذ إن تراجع الاعتماد على النفط سيضعف تلقائيًا الأساس الذي قام عليه نظام البترودولار منذ نصف قرن.

منذ ولادة نظام البترودولار قبل نحو نصف قرن، بدا الدولار الأمريكي كعمود لا يتزعزع في هندسة التجارة العالمية للطاقة: عملة تسعير، عملة تسوية، ومساحة للاحتياطيات. لكن ما نراه اليوم ليس انهيارًا مفاجئًا بل عملية تآكل بطيئة وممنهجة، مشوبة بفرص جديدة ورهانات جيو-اقتصادية قد تعيد رسم خريطة الدفع الدولي خلال عقود قادمة. الأرقام الحديثة تقول الكثير: سجلت إحصاءات صندوق النقد الدولي (بيانات COFER ) أن حصة الدولار من احتياطيات العملات الأجنبية المصرّح عنها لدى البنوك المركزية لا تزال تهيمن، لكنها تراجعت إلى ما يقارب 57–58% في آخر بيانات 2024–2025، بعد أن كانت تفوق 70% مطلع الألفية، ما يؤكد اتجاهًا طويل الأمد نحو تنويع الاحتياطيات وسط ضغوط جيوسياسية وتغيرات سوقية.

في سوق النفط نفسه تبقى الأغلبية العظمى من العقود مُسعّرة بالدولار؛ تقديرات المؤسسات التحليلية والمراكز البحثية تشير إلى أن حصة التعاملات المسجلة بالدولار تتراوح في نطاقات مرتفعة (تقديريًا بين نحو 70- 80%)، لكن ما تغير هو أن صفقات ثنائية وإقليمية بدأت تُختبر بعملات محلية أو بآليات بديلة- حالات ملاحَظة بين روسيا والصين وأطراف آسيوية أخرى تظهر تسويات فعلية باليوان والروبل، واستخدام أدوات تبادلية مثل المقايضة أو حتى العملات الرقمية في بعض الصفقات لتجاوز قيود المدفوعات المصطنعة بالعقوبات. هذه التحولات لا تعني أن السوق العالمي للنفط قد تحوّل نهائيًا، لكنها تشير إلى تزايد الخيارات خارج نطاق الدولار في شواهد ملموسة على الأرض.

من أين تأتي قوة البدائل؟

أولًا: من الشق التجاري: نمو تبادلات آسيا–آسيا، وخصوصًا العلاقة الاقتصادية المعمقة بين الصين وروسيا، حيث بلغت قيمة التجارة الثنائية مستويات قياسية في السنوات الأخيرة، ودفعت الأطراف إلى ترسيم مصفوفات تسوية جزئية باليوان والروبل لتقليل المخاطر المصاحبة للاعتماد على منظومة المدفوعات الغربية. ثانيًا من البنية التحتية المتنامية: بكين عملت على بناء شبكات دفع بديلة مثل نظام CIPS، وطورت تجارب لليوان الرقمي؛ بهدف تسهيل تسويات دولية أسرع وأكثر مباشرة؛ تلك الأدوات تُقدّم خيارًا عمليًا لتسوية عقود الطاقة دون المرور الكامل عبر النظام التقليدي.

لكن الطريق إلى استبدال أو تحجيم البترودولار محفوف بعقبات بنيوية. سوق السندات الأميركية والمعاملات بالودائع الأمريكية تقدمان سيولة عملاقة لا تضاهى، وهو ما يجعل معظم المؤسسات المالية العالمية تستمر في تفضيل الدولار لأسباب تتعلق بتوافر الأدوات التحوطية، وتعمق أسواق الدين، والقدرة على التأمين والتمويل. كما أن البدائل تعاني من مشكلات ثقة وسيولة: اليوان يعاني من قيود على حرية تحويل رأس المال، والروبل والدرهم يواجهان قيودًا سياسية وجيو-اقتصادية، واليونية الأوروبية رغم قوتها مضطربة داخليًا أحيانًا. وفي أوقات الاضطراب، تتجه الأسواق دائماً إلى الملاذات الراسخة — والولايات المتحدة ما زالت تملك الأعمق والأكثر قبولًا عالميًا.

لا يمكن تجاهل العامل الثالث: الطاقة نفسها. التقديرات الدولية تُظهر أن مسار الطلب على النفط قد يختلف خلال العقد المقبل مع تسارع الاعتماد على الكهرباء المتجددة والمركبات الكهربائية والتحسن في كفاءة الطاقة الصناعية. تقارير الوكالات الدولية للطاقة تشير إلى سيناريوهات فيها تقل أهمية النفط تدريجيًا في مزيج الطاقة العالمي، ما يعني أن أساس البترودولار، أي ربط النفط بعملة واحدة للاستفادة من دورة العوائد والاحتياطيات، قد يفقد من أهميته العملية إذا قلّ الطلب على النفط أو تبلورت أسواق طاقة بديلة. هذا التحول ليس فوريًا لكنه يُعدّ عاملًا مركزيًا في أي توقعات بعيدة المدى.

ما الذي نتوقعه عمليًا خلال العقود القليلة المقبلة؟ السيناريو الأكثر احتمالًا يضعنا أمام تحول تدريجي: حتى نهاية العقد الحالي (حتى 2030) سيستمر الدولار كعملة محورية للاحتياطيات وتسعير معظم النفط، مع تراجع طفيف نسبيًا في الحصة نتيجة لمبادرات احتياطية وإقليمية. بين 2030 و2040 قد ينخفض الاعتماد النسبي للدولار في بعض سلاسل التجارة (خاصة بين دول آسيا-الآسيوية والبلدان الصديقة في الشرق الأوسط) إلى حدود حيث يصبح النظام المالي العالمي متعدد الأعمدة، مع تزايد الحضور النسبي لليوان، وربما لمجاميع إقليمية وعملات رقمية للبنوك المركزية. وما بعد 2040 يعتمد على متغيرين حاسمين: مدى نجاح التقنيات منخفضة الكربون في خفض طلب النفط، ومقدار التقدم الذي تحرزه بدائل الدفع في تحقيق سيولة وقبول دولي حقيقيين.

ختامًا، يمكن القول إن البترودولار لا يزال حاضرًا بقوة في عالم اليوم، لكنه لم يعد في مأمن من التحديات. هو أشبه بقلعة شامخة بدأت بعض حجارتها تتآكل تحت ضغط الزمن، فيما يحشد خصومه بدائل مختلفة لاختبار صلابته. وإذا واصلت الاتجاهات الحالية مسارها، فإن العقود المقبلة قد تشهد تحولات جذرية تُعيد رسم خريطة القوة المالية والاقتصادية، ليتحول النظام من هيمنة مطلقة إلى شراكة متوازنة. السؤال إذن ليس ما إذا كان البترودولار سينهار، بل متى، وبأي وتيرة، وبأي شكل سيتحول العالم إلى عصر جديد من التعددية النقدية.

وثمة احتمال قوي أن يشهد العالم نظامًا نقديًا أكثر تعددية خلال العقود المقبلة، وهو تحول قد يحمل معه آمالًا اقتصادية مهمة؛ منها: فتح أسواق جديدة للتمويل المحلي، تقليل تكاليف التحويل لبعض الاقتصادات الناشئة، وإتاحة أدوات تمويلية تناسب طموحات التنمية المستدامة. إن التحول المدروس يمكن أن يولد فرصة لإعادة توجيه فائض النفط نحو استثمارات نوعية في الطاقة النظيفة والتعليم والابتكار، بدلًا من أن يظل ركيزة لهيمنة عملة واحدة فقط. ما نحتاجه الآن من صناع القرار هو رؤية اقتصادية متسقة، وأطر قانونية مشتركة، واستثمارات في بنى تحتية للدفع والتسوية تقبلها الأسواق وعندها يمكن أن تتحول المخاوف إلى آمال واقعية تُترجم إلى نمو معيشي وتنموي أوسع في كثير من أنحاء العالم.

 

مقالات مشابهة

  • ورشة عمل بالعاشر من رمضان تؤكد أهمية كفاءة الطاقة ودعم التحول
  • معدلات إنتاج «النفط والغاز والمكثفات» خلال 24 ساعة
  • نظام البترودولار.. إلى متى يستمر في الصمود أمام البدائل؟
  • مدبولي يُتابع جهود تنفيذ خفض الانبعاثات والتحول الأخضر المُستدام
  • مدبولي يُتابع جهود تنفيذ الإجراءات الخاصة بخفض الانبعاثات والتحول الأخضر المُستدام
  • رئيس الوزراء: حققنا إنجازات ملحوظة في ملف التحول الأخضر المستدام
  • سومو:الإتفاق مع شركة “إكسون موبيل” يعزز الصادرات النفطية
  • مشروع «الأنبوب البحري الثالث».. نقلة نوعية بمنظومة تصدير النفط العراقي
  • مؤسسة النفط تعلن كسب قضية التحكيم ضد ملاك الناقلة نور (1) أمام محكمة لندن
  • مؤسسة النفط تردّ على مطالب التعويض لملاك «الناقلة نور»