رسَّخ سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، القيم والأخلاق والمثل العليا ونشرها ممارسة وسلوكاً قبل أن يكلف بالرسالة، فكانت قريش تلقبه صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين، وذكرت أم المؤمنين السيدة خديجة، رضى الله تعالى عنها، بعضاً من صفاته صلى الله عليه وسلم قبل ظهور الرسالة، منها أنه يصل الرحم، ويحمل الكل (أى يقوم بشأن من لا يستقل بأمره حتى يقضى)، ويكسب المعدوم (أى يتبرع بالمال لمن عدمه، ويعطى الناس ما لا يجدونه عند غيره)، ويَقرى الضيف (أى يكرم الضيف من طعام وشراب وما يحتاجه حال وجوده عند مضيفه)، ويعين على نوائب الحق (النوائب جمع نائبة وهى ما ينزل بالإنسان من المهمات وأضيفت إلى الحق لأنها تكون فى الحق والباطل).

لذا أثر النبى برسالته فى جميع الأمم فى مختلف جوانب الحياة، ومن ثم فشكره فرض على الأمم، فقد أرسى لمعايير وتعاليم حضارية وإنسانية واضحة وثابتة نافعة فى كل زمان ومكان، منها على سبيل المثال أنه بعد أن كان حال المرأة متردياً فى كل المجتمعات كرّمها وأعلى من شأنها، وأوصى بها خيراً ورفع من مكانتها وأعطاها حريتها فى اختيار الزوج، وحفظ لها ذمتها المالية، وفرض عليها التعليم والعمل، وجعلها مشاركة للرجال فى صناعة الحضارة وعمارة الأرض، وفى الحديث الشريف: «كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته... والرجل راعٍ فى أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية فى بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها».

وهو أن كل واحد (أنثى كان أو ذكراً) مسئول فى الإطار الكلى، وأن كل شخص فى مكانه له دور مؤثر فى المجتمع كله. وفى قول الله تعالى: «خلق لكم من أنفسكم أزواجاً»، إشارة إلى اتحاد النوع «من أنفسكم» المقتضى التكافؤ فى الحقوق والواجبات، وفيه إشارة كذلك إلى مفهوم «الزوجية» المقتضى التكامل بين الزوجين.

علَّم سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، الناس أن الله تعالى شاء أن يكون التزاوج سنة من سننه فى الخلق والتكوين واستمرار الوجود على جميع مستويات المخلوقات، لا يشذ عنها عالم الإنسان، أو عالم الحيوان، أو عالم النبات، أو عالم الأشياء، أو أى عوالم أخرى لا يعلمها الناس، يقول الله تعالى: «ومن كل شىء خلقنا زوجين»، «سبحان الذى خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون».

ووضع صلى الله عليه وسلم أسساً ثابتة عادلة تتجاوز الزمان والمكان تضمن الحق للأفراد والمجتمعات فى مختلف المعاملات، ووضع صلى الله عليه وسلم أسساً إنسانية وحضارية فى السلم والحرب، وحرر الإنسان من عبودية الأفراد والرق، وكفل له حق اختيار الدين، لأنه فى ذاته حر مكرَّم من الله تعالى، وأرسى النظام الأخلاقى الذى يتبعه الإنسان فى علاقته مع الله، ومع كل من وما حوله فى الكون، وحرَّم أى شكل من أشكال التنمر وعدم احترام الآخر، فإن من مقاصد الشريعة الخمسة الحفاظ على العرض وهى تشمل كرامة الإنسان، وقد قال النبى، صلى الله عليه وسلم، لما كان بمنى فى حجة الوداع: «.. فإن الله حرّم عليكم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم..».

علّم صلى الله عليه وسلم آداب الاستئذان، وحرّم الافتراء على الناس، والغيبة والنميمة، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، وساوى بين الرجل والمرأة فى الحقوق والواجبات، وأوجب على الآباء اختيار الاسم الحسن للأبناء وحسن تربيتهم وتنشئتهم تنشئة علمية ورياضية ونفسية صحيحة، وفرض العمل على الجميع وإتقانه من أجل ألا يكون أحد عالة على غيره، وأوجب الشورى، ونهى عن أن يكون المرء إمعة لا رأى له، وأوجب حقوقاً على المسلمين تجاه غيرهم، وحرّم الاعتداء بكل صوره وأشكاله، وأوجب التعاون فى كل ما ينفع الناس، وحرّم الإضرار بالإنسان مادياً أو معنوياً، قال: «لا ضرر ولا ضرار»، ولما سأله رجل فقال: يا رسول الله أى الإسلام أفضل؟ قال: «من سلم الناس من لسانه ويده».

علّم سيدنا محمد الناس الوقاية الصحية، يقول الله تعالى: «كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله»، كما علمهم توقى الأمراض المعدية، يقول: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها».

ولذلك لما بلغ المقوقس فى مصر ملامح هذه الرسالة الهادية وجاءه كتاب كريم من الرسول الأكرم لم يسعه إلا أن يقابل ذلك بالإكرام والتعظيم، ولما بلغ هرقل نبأ النبى قال قولته الشهيرة: ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، أما النجاشى فلم يكتف بالإكبار والاحترام بل سارع بالإذعان والتسليم، والإيمان بهذا النبى الكريم. هذه بعض المعانى والقيم التى جاء بها النبى، صلى الله عليه وسلم، فنالت إعجاب العرب وكل الأمم، وكانت سبباً فى انتشار هذا الدين فى الشرق والغرب، واحترام كثير من غير المسلمين لهذه الرسالة، حتى إن كثيراً من المستشرقين الغربيين لم يخفوا مظاهر هذا الإعجاب وبيان هذا الأثر الكبير التى أحدثته تلك الرسالة من نقلات حضارية هائلة فى المجتمع الإنسانى.

* رئيس لجنة الشئون الدينية بمجلس الشيوخ

ورئيس قناة الناس

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: المولد النبوي سيدنا الحسين السيدة زينب الصوفية صلى الله علیه وسلم الله تعالى

إقرأ أيضاً:

ظلم الناس وأكل حقوقهم.. خطيب المسجد النبوي يحذر من الإفلاس يوم القيامة

أوصى إمام وخطيب المسجد النبوي، الشيخ الدكتور حسين آل الشيخ، المسلمين بتقوى الله تعالى، والمسارعة إلى مرضاته، مستشهدًا بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).

ماذا يحدث يوم القيامة للظالم ؟ خطيب المسجد النبوي: مُفلس وخسارته كبيرةخطيب المسجد النبوي: هذه الكلمة هي الفيصل بين أهل الشرك والإيمان

وقال الشيخ الدكتور حسين آل الشيخ: "أن من التوفيق الأعظم، والسداد الأتم، أن يحرص العبد على حفظ طاعاته لربه عز وجل، فيكون حريصًا أشد الحرص على حفظ طاعته، يجاهد نفسه على السلامة من حقوق الخلق، ويجاهدها على البعد التام عن الوقوع في ظلم المخلوقين، بأي نوع من أنواع الظلم القولية والفعلية، يقول تعالى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)".

وأوضح الدكتور حسين آل الشيخ،، أن من أعظم البوار، وأشد الخسارة، ترك العنان للنفس في ظلمها للآخرين وانتهاك حقوقهم، قال صلى الله عليه وسلم: (اتَّقُوا الظلم، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القيامة)، مبينًا أن أعظم ما يجب على المسلم حفظ حسناته، وصيانة دينه والحفاظ عليه، مستشهدًا بقوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَسِينَ).

وأكّد آل الشيخ، أن الإفلاس الحقيقي والخسارة الكبرى، أن توفّق للخيرات والمسارعة للطاعات، وتأتي يوم القيامة حاملًا حقوق الناس متلبسًا بظلمهم فتلك البلية العظمى والخسارة الكبرى، مستشهدًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَتَدْرُونَ من المُفْلِسُ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال صلى الله عليه وسلم: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فَإِن فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار ) رواه مسلم.

ودعا إمام وخطيب المسجد النبوي المسلمين إلى المبادرة بأداء حقوق العباد، والتحلل منهم، وكف اللسان عن شتم الخلق، وقذفهم، وغيبتهم، والطعن في أعراضهم، محذرًا من الظلم والاعتداء على الخلق، وأكل أموالهم، والتهاون في إرجاعها، مستشهدًا بقوله تعالى: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا).

وختم الخطبة، مبينًا أن الواجب على كل مسلم أن يجتهد في براءة ذمته من حقوق الخلق، فقد ورد في الحديث الصحيح أن الجهاد في سبيل الله يكفر الخطايا إلا الدين، وأن التساهل به يورد العبد الموارد المهلكة في الدنيا والآخرة، مستشهدًا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يُريد أداءها أدى الله عنه، ومَن أخذَ يُرِيدُ إتلافها أتْلَفَهُ الله) رواه البخاري.

طباعة شارك المسجد النبوي خطيب المسجد النبوي الإفلاس الحقيقي يوم القيامة حقوق العباد

مقالات مشابهة

  • ما حكم ترديد الصلاة على النبي أثناء الصلاة؟.. الإفتاء تجيب
  • الدكتور أيمن أبو عمر: الوطن نعمة تستوجب الشكر.. وحبه نابع من الإيمان
  • خطيب الجامع الأزهر: الأمانة قيمة عظيمة يجب الحفاظ عليها وعدم التفريط فيها
  • ظلم الناس وأكل حقوقهم.. خطيب المسجد النبوي يحذر من الإفلاس يوم القيامة
  • ما هي الأعمال المستحبة عند زيارة مسجد النبي؟.. داعية يُوضح
  • ما الأعمال المستحبة عند زيارة مسجد النبي؟ أحمد الطلحي يوضح
  • حكم النقاب.. أمين الفتوى: لو كان فرضا لما منعه النبي فى الحج والعمرة
  • أمين الفتوى: لو كان النقاب فرضا لما منعه سيدنا النبي فى الحج والعمرة
  • دعاء لصلاح الحال .. ردده بيقين وسترى العجب في حياتك
  • هل يشترط الوضوء عند ترديد الأذكار.. أمين الفتوى يحسم الجدل