الدكتور علي جمعة يكتب: مولد النور
تاريخ النشر: 27th, September 2023 GMT
تميز المصريون دون غيرهم فى محبة سيدنا رسول الله، حتى إنهم إذا هلَّ عليهم شهر ربيع الأول بدأوا الاحتفال بمولد سيدنا النبى، وظل هذا ديدن المصريين إلى منتصف القرن العشرين، فراحوا بعد هذا يحتفلون بمولده فى الربيعين الأول والآخر. وتزلفاً إليه، نحتفل بمولده حباً وفرحاً وتعبداً مقتدين بسنته، سائرين على نهجه، متخلقين بأخلاقه، وأولى درجات علاقتنا بسيدنا، فهمه، وثانيها تصديقه والإيمان به، وثالثها اتباعه فى كل أمر ونهى وتخلق امتثالاً لقوله سبحانه وتعالى: «قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ».
ولو تتبعنا صفات النبى لوجدنا أنها فى منحى تصاعدى وترقٍّ دائم، ففى بدايته قبل البعثة كان متصفاً بالصادق والأمين، جميل الصفات والشمائل شهامة ورجولة وهدوء نفس، كما يقول البوصيرى -رحمه الله- فى بردته «كالزهر فى ترف والبدر فى شرف والبحر فى كرم والدهر فى همم».
كل هذه الأوصاف قبل نبوته، فكان صاحب همة متعبداً فى غار حراء، لم تخر عزيمته، وكان هذا سبباً فى ترقى روحه وجعله شفافاً مستشعراً بما حوله وبمن حوله، فيقول صلى الله عليه وسلم: «إنى لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علىَّ قبل أن أبعث»، فكان يستشعر أن الكون على حقيقته يسبح للمولى، وأن الكون فى حالة تفاعل، فرأى كل هذا قبل البعثة مهيئاً لتلك الشفافية التى رأى بها الكون، متعبداً متأملاً ذاكراً على ما كان عليه أبونا إبراهيم، إذن من أولى درجاته الأخلاقية العبادة والتعبد.
وبعد نزول الوحى ثم انقطاعه فترة ليزينه ربه، ويحليه بالصبر ويزداد تحلياً بصفات حميدة مرجعها كلها إلى الثقة فيما عند الله من التسليم والرضا والتوكل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ناصيتى بيدك، ماضٍ فىّ حكمك»، فهو فى حالة وجود دائم فى معية الله، وهنا درجة الإنسان الكامل، أو الكمال الإنسانى، فالوحى لا يكون إلا بالوصول إلى درجة الكمال. ثم وصل إلى مرحلة ثالثة من مراحل الترقى وهى الربانية من أهم ملامحها وأمثلتها الترفع عن النزاع بترك الحقوق وعدم المطالبة بها، وهذا يكون من علو الهمة واكتمال نصاب الكمال.
ومنها ما رواه عنه ابن حبان فى صحيحه عندما فتح مكة فقالوا له: «يا رسول الله أين تنزل فى دارك بمكة؟» فقال: «وهل ترك عقيل من رباع أو دور؟!»، فرغم حقه فى ملكه قبل الهجرة وامتلاكه لهذا الحق فإنه لم يطلبه من ابن عمه عقيل بن أبى طالب. فترك الحق للخلق وعدم منازعتهم هى درجة العبد الربانية، ونهاية الربانية أن يسأل الله السلامة.
وبعد معجزة الإسراء والمعراج وصل صلى الله عليه وسلم إلى درجة النورانية أو العبد النورانى، ومن ملامحها التوكل التام، والشفافية التامة استمداداً من قوله تعالى: «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوسَينِ أَوْ أَدْنَى»، وهى درجة القرب، فوصل المصطفى إلى حد النور، فكان هو العبد الكامل الربانى النورانى، وكان نور الله مثل قولنا بيت الله دلالة على خلقه، واستشعاراً للمعنى المراد نذكر أن مشايخنا عندما كان يُقرأ قوله تعالى فى سورة النور: «يَهْدِى اللَّهُ لِنُوره مَن يَشَاءُ» كانوا ينتفضون بالصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. وعلة التسمية والوصف «بنور الله» أنه هدى الناس، ووضح لهم وبيّن، وكشف لهم الظلمة، فبعثته صلى الله عليه وسلم نور للبشرية أضاء الله بوجوده وميلاده ومبعثه دياجير الظلام، عليه أفضل الصلاة والسلام.
عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: المولد النبوي سيدنا الحسين السيدة زينب الصوفية صلى الله علیه وسلم
إقرأ أيضاً:
غزتي غزتي يا أمتي
سالم البادي"أبومعن"
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أمتي أمتي»، وكان يبكي من شدة حرصه على أمته، وذلك من شدة حبه صلى الله عليه وسلم لأمته وخوفه عليهم، وقد جاء في الحديث أنَّ الله تعالى أرسل جبريل ليسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب بكائه، رغم أنَّ الله يعلم بكل شيء، فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أمتي أمتي»، فقال الله لجبريل: «قل لمُحمد: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك». من هنا يطرأ سؤال جهوري هل اتبعنا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم حق الاتباع، ألسنا نحن من أمته صلى الله عليه وسلم؟ أليس هو النبي الذي بكى عند الدعاء لأمته، وهو القائل: «وددت أني لقيت أحبابي». فقال الصحابة: "أولسنا أحبابك يا رسول الله؟"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «أنتم أصحابي، وأحبابي قوم يأتون من بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله».
فماذا لو رآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا حالنا كيف سنُبرر له فساد الأحوال، وانتشار الذنوب والمعاصي؟ كيف سنشرح له انشغالنا بالدنيا وابتعادنا عن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، بل كيف سندافع عن تخاذلنا وتقاعسنا عن نصرة إخوتنا المسلمين في بقاع المعمورة. هذه حال أمتك يا رسول الله، تغير حالها كثيراً وأنت القائل: «تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، وحينما تم سؤالك أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قلت: «لا، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل». وها نحن اليوم كُثر، ولكن شغلتنا الدنيا وزينتها.. فعذرًا يا رسول الله..
"أمّتِي.. أمّتِي يا رب" قالها رسول الله الذي ربى المُسلمين على أن يكون هَمّهُم هو الأمة، غرس فيهم المودة والمحبة والرحمة والتعاطف والتعاون فيما بينهم، وعلمهم بأن أمتهم كالجسد الواحد يحزنون لما يصيبها، ويقفون صفاً واحداً في حل قضاياها في كل مكان وزمان. علمهم عليه الصلاة والسلام الوقوف صفا واحدا مع أمتنا في كل بلد مسلم بعيدا عن القوميات والجنسيات، فديننا واحد وربنا واحد وكتابنا واحد وقبلتنا واحدة ورسولنا صلى الله عليه وآله وسلم واحد، نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم، نعيش معهم همومهم ومعاناتهم، ونتضامن معهم، ننصرهم فكرا واغاثة وإعلاما، وموقفا سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وبالكلمة والمال والنفس والدعاء وهو أضعف الإيمان.
تشهد أمتنا اليوم واقعاً أليماً ومريراً، فقد فوصل بها الحال إلى أن تداس أجساد المسلمين وتدنس وتهتك أعراض المسلمات، وتهجر وتحرق وتسفك دماء الأطفال الأبرياء، فلا رحمة ولا شفقة بهذه الأمة، ولا دموع ولا حسرة، ولا همّ ولا تعب من أجلها، إنما هم أمتنا المصالح والكراسي والمناصب والدراهم.
فهاهي "غزة هاشم" خير برهان لحال الأمة لما وصلت إليه.. تباد منذ ما يُقارب العامين، سلبت أرضهم وحرقت ونسفت ودمرت بيوتهم وأصبحوا في العراء بلا مأوى ولا غذاء ولا دواء ولا ماء، وآلة العدو تدك شعب غزة يوميا وكل ساعة دون توقف والمجازر والإبادة الجماعية مستمرة ولا حياة لمن تنادي..!!، أليست هذه الأمة التي قال في حقها العزيز الحكيم(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).
فإلى متى هذا الصمت الدولي والعربي والإسلامي حيال هذا الحال الذي يدمي القلوب فقد صار مخزياً بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، أين الأمة التي نادى لها رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله وسلم:" أمتي..أمتي ؟ أين نصرة المظلومين المكلومين المستضعفين؟ أين النخوة العربية والإسلامية؟، وهل غاب الضمير الإنساني والقيم والمبادئ والأخلاق الإنسانية؟ أين العالم الحر والشعوب الحرة والمنظمات والهيئات والمؤسسات الأممية والدولية لإغاثة وإنقاذ شعب غزة؟ أين هؤلاء من رسول الله -صلى الله عليه وآله سلم- الذي كان يبكي لأجل هذه الأمة، ولأجل سعادتها، وخوفا على مستقبلها، ورغبة في نجاتها، كان يبكي -صلى الله عليه وسلم- رحمة بها وشفقة عليها.
"أمتي أمتي" هي عبارة تتكررت على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتعبر عن شدة حرصه وعظيم شفقته على أمته. هذا التعبير، الذي يبدو بسيطًا لكنه يحمل معاني عميقة ودلالات واسعة حول مكانة الأمة الإسلامية ومنزلتها عند الله وعند رسوله، فالعبارة تدل على عمق الشفقة والرحمة التي يحملها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قلبه تجاه كل فرد من أمته، فهو لا يرضى لهم الضلال أو العذاب. كما تدل على وحدة الأمة الإسلامية، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إليها كجسد واحد، يتألم لآلامها ويفرح لأفراحها. وتبعث الأمل والرجاء في نفوس المسلمين، فهي تذكرهم بأن نبيهم لم ينساهم وأنه يدعو لهم في كل وقت وحين، وخاصة في الازمات والمواقف الصعبة.
إن تخلف الأمة اليوم أصبح قضية معقدة ومتعددة الأبعاد، فهناك العديد من العوامل التي ساهمت في هذا التخلف، بما في ذلك الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والخلافات والانقسامات وعدم الوحدة والتشتت بين الدول الإسلامية والمسلمين أنفسهم، مما أضعف تأثيرهم وقدرتهم على مواجهة التحديات والأزمات، وكذلك انتشار الجهل والتخلف العلمي وضعف الاهتمام بالتعليم والبحث العلمي، والابتعاد عن روح الابتكار والاكتشاف التي كانت سائدة في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية، وتفشي الفساد وانعدام الشفافية في بعض المؤسسات الحكومية والاجتماعية، مما أعاق التنمية وقوض الثقة.
فرغم ما تمتلكه أمتنا الإسلامية من مقوّمات حضارية وثروات بشرية ومادية، إلا أن طريقها نحو التقدّم لا يزال محفوفًا بالعقبات. في ظل العديد من المعوّقات التي كبلت حركة النهضة، حيث تنعدم في كثير من الأنظمة السياسية قيم العدالة والمساواة، وتُقمع فيها الحريات، ويُحاصر فيها الإبداع، فلا صوت يعلو فوق صوت الحاكم، ولا مشاركة حقيقية في صنع القرار.
ويضاف إلى ذلك التبعية الاقتصادية التي جعلت العديد من الدول الإسلامية أسيرة للقرارات الغربية، تابعة في سياساتها، مقيدة في خياراتها، فاقدة لقدرتها على رسم مسارات مستقلة تضمن لها السيادة والكرامة.
ولا يمكن إغفال ضعف القيادات في عدد من هذه الدول، إذ تفتقر الأمة في كثير من الأحيان إلى قادة يمتلكون الرؤية والحكمة، ويضعون مصلحة الأمة فوق مصالحهم الشخصية أو الحزبية.
ومع ذلك، لا يجوز أن يُسدل الستار على مشهد قاتم فقط، فثمة دول إسلامية حققت نجاحات ملموسة في مختلف المجالات، وثمة جهود جبارة يبذلها أفراد ومؤسسات لإصلاح الواقع، وبث روح جديدة في الجسد المنهك، وتقديم نموذج حضاري إسلامي يُحتذى به. لقد بدأت بعض السياسات تتحول في اتجاه إيجابي، مما يدل على أن الأمل ما زال قائمًا، والفرصة للتغيير ممكنة.
وفي خضم هذا الواقع، تأتي كلمات "أمتي أمتي" كنداءٍ حار يعيد إلى المسلمين شعور الانتماء، ويُوقظ فيهم الوعي بوحدتهم، ويحُثّهم على التعاون والتكاتف، ويذكّرهم بأنهم جزء من كيان عظيم يجب أن يعمل على نهضته ويقتدي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سعيه لبناء أمة راسخة عادلة.
وغزة، رمز الصمود وجرح الأمة النازف، تنادي من تحت الأنقاض، من بين صرخات الأطفال وآهات الشيوخ ودموع النساء. هناك، حيث لا مأوى إلا السماء، ولا فراش إلا الأرض، يصطفّ شعبٌ أعزل يُواجه أعتى آلة عدوان، لا لشيء إلا لأنه جزءٌ منّا، من هذه الأمة. أفلا يستحق هذا الشعب نصرتنا؟ أليس من حقه علينا أن نكون عونًا له في وجه الظلم؟ إنَّ ما يحدث في غزة ليس مُجرد مأساة إنسانية، بل هو اختبار حقيقي لضمير الأمة، ومقياس حيّ لمدى صدق شعارات الوحدة والتكافل والتضامن التي نرددها.
يا أمة الإسلام أين جهادكم
ودفاعكم عن حوزة القرآن
فكتابكم جمع الهداية كلها
وكذا العلوم لسائر الأزمان
إني أحب المتقين بقوة
وأحب من يحمي حمى الرحمن
سيروا إلى الهدى العظيم بهمة
وتسلحوا بعقيدة الإيمان
فالله خير حافظ لكتابه
وهو القوي بعزة السلطان
رابط مختصر