لجريدة عمان:
2025-01-26@06:19:44 GMT

الدول والأمم: نَمْـذَجة أوليّـة

تاريخ النشر: 27th, September 2023 GMT

تُـلقي جدليّات الوحدة والتعددية بظلالها على مجال الأمم والقوميات وتفرض أحكامَـها عليها هي أيضاً: أكان ذلك داخل الكيان الواحد أو في نطاق كيانات متعدّدة. ولا تكاد خريطة التّكوين أن تخرج عن نماذجَ ثلاثة في العالم المعاصر تفيض عن حدود نموذج الدولة- الأمّـة أو تقع دون مرتبته. والفارق بين النّماذج الثّلاثة تلك ونموذج الدّولة- الأمّـة (أو الدّولة القوميّة) أنّ الأخير يُجـسِّد حالَ التّطابُق بين الأمّة والدّولة؛ حيث الدّولةُ دولةُ أمّة، أو دولة قوميّة، وحيث الأمّة حقّـقت مشروعها السياسي القومي متمـثِّلاً في دولة، فيما تخلو النماذج الثلاثة الأخرى من أيّ شكلٍ من المطابَقَة بين الدّولة والأمّة فيها؛ فقد تـتّسع الدّولة لأكثر من أمّـة، أو يتّسع إطارٌ اتّحاديّ لأكثر من دولة وبالتّالي، لأكثر من أمّة، وقد تنقسم الأمّة الواحدة على دولٍ عدّة لا تُـنْـكِر الجامعَ القوميَّ بينها، لكنّها تحرص على استقلالها وسيادتها أشدّ الحرص.

النّماذج الثّلاثة التي نعني هـي: نموذج الاتّحـاد الإقليميّ لدولٍ/ قوميّات عدّة، مثل «الاتّحاد الأوروبي»؛ ونموذج الدولة متعدّدة القوميّات من طراز الاتحاد السوفييتي والاتحاد اليوغوسلافي السابقين؛ ثمّ نموذج الدّول العربية الحديثة القائمة اليوم. لِنُـشِر، في إسراعٍ، إلى سمات كلّ نموذجٍ من هذه انطلاقاً من آليتيْ الوحدة والتـعددية فيه، ولنبدأ من الأعلى نزولاً إلى الأدنى.

يقدّم «الاتّحاد الأوروبيّ» مثالاً متقـدّماً لإطارٍ كيانيّ عابـرٍ للأمم وجامعٍ لها ضمن منظومة إقليميّة (= قاريّـة) متشابهة المعطيات الثّـقافيّة والقيميّة إلى الحـدّ الذي لا تشعر فيه أمّةٌ صغيرةُ الحجم داخله أنّها مغبونة من غيرها. بعيداً عن الأسباب التي أسّستْ لقيام هذا الاتّحاد - وهي كانت مصيريّة بالنّسبة إلى أوروبا - فإنّ نموذجه هذا، المبْنيَّ على اجتماع دولٍ عـدّة فيه، إنّما تَحقَّـق بعـد أن أنجزتِ الأممُ الأوروبيّة وحدتها القوميّة وجسّدتها في كيانات تراوحت بين دولة قوميّة مركزيّة، كما في فرنسا، أو دولة قوميّة لا مركزيّة، كما في سويسرا، وبين هذيْـن دولٌ تَحْمل مزيجاً من هذه وتلك. لقد كانت أوروبا مهد الدّولة القوميّة (الدّولة- الأمّـة) منذ نهايات القرن الثّامن عشر؛ الدولة التي ظلّت موضوعَ استلهامٍ ومحاكاة من قِـبَل حركات سياسيّة عديدة في العالم حُمِلت على صهوة المسألة القومية؛ وها هي أوروبا، اليوم، مهْد نموذج الكيان الجامع فوق القومي الذي أبدعـتْه وسارت فيه سيرةً ناجحةً حتّى الآن. سيقال، هنا، ها هي تجربة الاتّحاد تضع الدولة القومية وراءها، وهذا صحيح، ولكنّها تضعها خَلْفها بعد أن أنجزتْها بلدانُها ومجتمعاتُها وأممُها سلفاً كي تنتقـل إلى اختبار نموذجٍ في الوحدة أعلى من نموذج الدّولة- الأمّة.

الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا السابقان، وإلى حـدٍّ ما، تشيكوسلوفاكيا السّابقة أمثلة لدولٍ اتّحاديّة متعدّدة القوميّات وإنْ كانت الواحدة منها موحَّدةَ الكيان. لا تشبه هذه النّماذج «الاشتراكيّة» السابقة النموذجَ الكنديّ أو النّموذجَ السّويسريّ إلاّ في نظام الاتّحاد اللاّمركزيّ (المقاطعات أو الكانتونات)، أمّا الموادّ الاجتماعيّة التي رُكِّـبَ منها - ورُكِّـب بها - كلُّ اتّحادٍ فمختلفة. ليس في كندا وسويسرا قوميّات ناجزة وكاملة، كما هي الحال في الاتحاديْن السّوفييتيّ واليوغوسلافيّ، بل مجموعات ثقافية ولغوية متباينة اندمجت داخل المجتمع والدّولة. صحيحٌ أنّ الرّابطة السّوفييتيّة والرّابطة اليوغوسلافـيّة نجحتا، إلى حدٍّ بعيد، في صهر مكوِّنات البلديْن القوميّة المتعدّدة أكثر بكثير ممّا استطاعتْهُ، مثلاً، الرّابطة العثمانية؛ وصحيح أنّ القوميتين الكبيرتين في البلدين (الرّوسيّة والصّربيّة) قادتا الاتّحاديْن من دون اضطهادٍ قومي للقوميات الأخرى، من نمط الاضطهاد التركي الطّورانيّ لقوميّات الإمبراطورية العـثمانية (العرب وشعـوب البلقان)، غير أنّ قـوميات الرابطتين لم تكـن قـد أنجزت وحدتها القوميّة - كما في حالة «الاتحـاد الأوروبي» أو كما في حالة القومية الروسية - الأمر الذي فرض وضعاً هجيناً لدولةٍ متعدّدة القوميّات قابلةٍ للتّفسُّخ والانحلال مع أيّ تأزُّمٍ سياسي كبير يستنفر الهويّات الخاصّة ويولِّد نزعات الانفصال لدى القوميّات الأصغر، خصوصاً إذا سَهُل إغراؤها بفكرة الانفصال (وراء شعار الاستقلال)؛ وهذا عينُ ما حصل في حالة انحلال الاتّحاديْن (السوفييتي واليوغوسلافي). مع ذلك، ما غيَّر ذلك الانفراطُ في شيءٍ من حقيقة أنّ الدّولتين أقامتا دليلاً على إمكانٍ تاريخيّ لوجود دولةٍ متعدّدة القوميّات يكون صعيدُها السّياسيّ أوْسَعَ من نموذج الدّولة- الأمّة.

أمّا الحالة الثالثة فعربيّة صِرف مع استثناءات أخرى قليلة (الصين، كوريا...)؛ إذ تُقدِّم التّجربة السّياسيّة للعرب، في العهد الحديث، مثالاً لدولٍ متعدّدة داخل أمّة واحدها مستقلّ بعضُها عن بعض أو، قُـلْ، تقـدِّم مثالاً لأمّةٍ توزّعت جغرافيّتُها البشريّة على جغرافيّات سياسيّة متعدّدة. لا تشبهها في ذلك، قليلاً، سوى أمم تفرّقت على كيانين واستمرت كذلك (الصين، كوريا، الهند)، أو أخرى تفرّقت على كيانين ولكنّها أعادت توحيد نفسها (فيتنام، ألمانيا). ومن الواضح في هذه الحالات من تَوزُّع أمّـةٍ على أكثر من كيانٍ واحد أنّ أيدي المستعمر لم تكن بعيدة عن هذه الهندسة التّفكيكيّة لها. غير أنّ انقسام الأمة العربية إلى كيانات دولتـية متعدّدة ومستقِلّـة، ما مَنَع تلك الكيانات من الاعتراف الرّسميّ - في دساتيرها وخطاباتها السّياسيّة - بعروبتها أو بأنّ اللّسان العربيّ لغتها الرّسميّة. لذلك يتعسّر اعتبارُ كياناتها السّياسيّة الوطنيّة انشقاقاً عن العروبة: كما يمكن أن يظنّ بعضُ الوعي الوحدوي العربي. وبالمثل، لم يمنع انقسامُها الكياني ذاك من انتظامها في نظام جماعي مؤسّسي مبناهُ على الرابطة القومية (العروبة) لا على الجوار الجغرافيّ أو سواه: هو جامعة الدول العربية؛ ولا منعها من إقامة علاقات الاعتراف المتبادل، والتعاون والشراكة، والتّنسيق في القضايا المصيريّة وقضايا الأمن القوميّ. الأهمّ من هذا وذاك - في ما يعْنينا - أنّ تجربة هذه الدّول العربيّة أثبتت إمكان قيام دولٍ متعدّدة داخل فضاءٍ قومي واحد، أي بناء نموذجٍ كياني مخالف لنموذج الدّولة- الأمّـة، ونموذج الدولة متعدّدة القوميّات، ونموذج اتحاد الدول/ الأمم الأوروبيّ، دون أن يعنيَ ذلك أيَّ حُكْمِ قيمةٍ في هذا النّموذج.

كلّ الذي يعْنينا في النمذجة السابقة للدّول واتّصالِها بالأمم والقوميات أن نسجّل حقائقَ سياسيّة تاريخيّة وقعت، وبعضُها مستمرٌّ في الوجود، لا أن نعبّر عن موقفٍ انتصاري لأي نموذجٍ منها. وليس الإحجام عن التعبير عن موقفٍ في هذا الباب إِفصاحاً عن غياب الموقف، بل لأنّ زاوية النّظر إلى الموضوع لا تسمح بأيّ مقاربةٍ معياريّة ننحاز فيها إلى نموذجٍ بعينه. وزاوية النّظر التي اخترناها لتناوُل الموضوع هي التصنيف الوضعي الحيادي لنماذج الدّول القائمة وعلاقاتها بمادتها الاجتماعية القومية. وهي زاوية سمحت لنا بأن نطِلّ على تلك الجدليّة الخصبة التي تعمل في الأمم والدول كما تعمل في المجتمع الواحد: جدليّة الوحدة والتّعدّديّة؛ وحدة الدولة - أو الاتّحـاد - وتعددية القوميّات، ووحدة الأمة وتعدُّد الدّول أو الوطنيّـات.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الات حاد الس یاسی القومی ة الأم ـة کما فی ة التی قومی ة الأم ة یاسی ة

إقرأ أيضاً:

ما هو جرح الأم المتوارث للأبناء ويؤثر على علاقتك بها؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

هناك مفهوم عميق يعرف بـ"جرح الأم" المفهوم ليس بالمعنى الحرفي فهو مفهوم نفسي واجتماعي يشير إلى الألم العاطفي أو النفسي الذي قد ينشأ بسبب العلاقة غير الصحية أو المليئة بالتحديات بين الأم وأطفالها، خاصة البنات، هذا الجرح يمكن أن يكون نتيجة لسوء المعاملة، أو النقد المفرط، أو التجاهل، أو عدم التعبير عن الحب بطريقة صحية، أو حتى بسبب التوقعات غير الواقعية التي تفرض على الأبناء.

جرح الأم ليس مقتصرًا على الفتيات، ويمكن أن يتأثر كل من الأبناء والبنات بعلاقتهم مع أمهاتهم، ولكن قد يظهر التأثير بطرق مختلفة بناء على نوع الجنس والثقافة والتوقعات الاجتماعية وتوضح “البوابة نيوز” معلومات أكثر عن هذا المعنى وتأثيرة على الأبناء وحياتهم وفقا لـpsychology today:

تأثيره على الأبناء:
الفتيات قد يشعرن بضغط أكبر لتحقيق توقعات الأمهات أو قد يعانين من نقص في الدعم العاطفي أو الثقة بالنفس إذا كانت العلاقة معقدة.

الأبناء قد يعانون من قضايا تتعلق بالرجولة أو الإحساس بعدم الكفاية إذا كانت الأم مسيطرة أو ناقدة بشدة.

جرح الأم لا يؤثر فقط على العلاقة بين الأم والطفل، بل يمتد تأثيره إلى الأبناء والبنات بشكل خاص البنات قد يتأثرن أكثر لأن العلاقة مع الأم غالبًا ما تكون عاطفية ومتشابكة بشكل خاص.

إذا لم يُشفا الجرح، قد ينتقل التأثير للأبناء والبنات من خلال أنماط التربية غير الصحية.

الأشخاص الذين يعانون من جرح الأم قد يواجهون تحديات في بناء علاقات صحية مع الشريك.

جرح الأم قد يؤدي إلى مشاعر القلق، الاكتئاب، أو تدني احترام الذات.

تأثير جرح الأم على علاقتك بوالدتك:

الانفصال العاطفي: 

قد تشعرين بعدم القدرة على التواصل معها أو الشعور بالدفء والراحة تجاهها.
الغضب والكراهية: 

قد يتسبب الجرح في مشاعر غضب مكبوتة، والتي قد تتحول أحيانًا إلى كراهية أو رفض.

التوقعات الزائدة: 

إذا كانت والدتك تفرض عليك توقعات كبيرة، قد تشعرين بالضغط المستمر لتحقيق رضاها، مما يخلق توترًا في العلاقة.

عدم الثقة: 

إذا شعرت أن والدتك لم تدعمك في الماضي، قد تجدين صعوبة في الوثوق بها أو بغيرها من الناس.

الإحساس بالذنب: 

قد تشعرين بأنك مسؤولة عن الفجوة في العلاقة أو عن عدم رضاها، مما يؤدي إلى أعباء عاطفية إضافية. 

نصائح لحماية بناتك من جرح الأم:

الحب غير المشروط: 

عبري عن حبك ودعمك دون ربطه بتوقعات أو شروط.

استمعي لمشاعرهن واحتياجاتهن دون حكم أو نقد.

كوني قدوة في التعبير عن مشاعرك بطريقة صحية ومفتوحة.

حافظي على حدود واضحة مع إظهار المرونة والعاطفة.

أظهري تفهمك لمشاكلهن ومخاوفهن، وشاركيهن في إيجاد الحلول.

إذا أخطأت لا تخجلي من الاعتذار لبناتك لتعليمهن قيمة التواضع والمسامحة. 

كيف نُشفى من جرح الأم:

التحدث عن المشاعر: 

عبري عن مشاعرك بطريقة صحية من خلال الحديث مع مختص أو كتابة يومياتك.

الاعتراف بالمشكلة:

تقبلي أن هناك جرحًا يحتاج إلى علاج بدلًا من إنكاره.

العلاج النفسي: 

الجلسات العلاجية مع متخصص نفسي قد تساعد في معالجة الجرح وفهم أسبابه.

وضع حدود صحية: 

إذا كانت العلاقة الحالية مع والدتك غير صحية، قد تحتاجين إلى وضع حدود للحفاظ على سلامتك النفسية.

المسامحة: 

المسامحة لا تعني بالضرورة النسيان أو التبرير؛ بل تحرير نفسك من ثقل الغضب واللوم.

بناء حياة مستقلة: 

اعملي على تقوية نفسك وتحقيق أهدافك الشخصية بغض النظر عن تأثير الماضي.

بالوعي والعمل على الذات، يمكن تجاوز هذا الجرح وبناء علاقات صحية مع الآخرين، سواء مع والدتك أو مع من حولك. 

مقالات مشابهة

  • الأهلي يستعد لمباراة بيراميدز بمران أولي للثنائي مصطفى العش ونيتس جراديشار
  • باحث بـ«المصري للدراسات»: نجاح أولي لوقف إطلاق النار في صفقة تبادل الأسرى
  • عامر حسن: فك الحصار عن سلاح الإشارة والقيادة العامة إعجاز عسكري وإعلان أولي بنهاية التمرد بالخرطوم
  • كوريا الجنوبية تكشف عن تقرير أولي بشأن حادثة تحطم طائرة “جيجو إير”
  • تحرك أميركي ضد الحوثيين والأمم المتحدة تندد باحتجازهم لموظفيها
  • الحوثيون يطلقون مبادرة إنسانية والأمم المتحدة تتهمهم باحتجاز موظفين
  • إعلاميّة الـأم تي في عن زيارة وزير خارجية السعوديّة: نوّر لبنان (صورة)
  • غادرت «إسرائيل» وبقيت المقاومة!
  • إيرادات السينما أمس.. الدشاش في المقدمة وهذا ما حققه سكر في أولي أيام عرضه
  • ما هو جرح الأم المتوارث للأبناء ويؤثر على علاقتك بها؟