في مسألة المصطلحات المعاصرة بين الثبات والتغير
تاريخ النشر: 27th, September 2023 GMT
لا تزال قضية المصطلحات الفكرية والسياسية في واقعنا المعاصر، منذ نصف قرن أو يزيد، تلقى الاهتمام والمتابعة البحثية في الندوات والمؤتمرات، على مستويات فكرية مهمة، خاصة بعد قيام العديد من الباحثين الغربيين، بإدخال هذا المصطلح في مجالات متعددة وتعميمها على نطاق عالمي ومنها مصطلح الأصولية، ومن هذه المنطلقات جاء الكثير من المهتمين والباحثين العرب والغربيين أيضا ومنهم من الأكاديميين وصبغوا هذا المصطلح بصبغة فكرهم وثقافتهم التي تتميز عن غيرها من الثقافات الأخرى، ومنها الثقافة العربية/الإسلامية التي لها تفسيرها الخاص عن هذا المصطلح، ونتج عن هذا المنحى بصورة مطردة في العقود الماضية، وحتى الآن، ظهور العديد من المؤلفات والدراسات والبحوث التي تناقش قضية الأصولية، لكن بمعناها الغربي، إلا أن الإشكال الذي يواجه هذه المصطلحات، هي عملية إسقاطها على ثقافات أخرى، تختلف اختلافا كبيرا عن المنزع الفكري والثقافي الغربي، ذلك أن لكل ثقافة من الثقافات رؤيتها الثابتة عن مصطلح الأصولية، نتيجة لتراكم المعرفة في الجانب الاجتماعي والبيئة الفكرية التي تنحت عن هذه المصطلحات وتعطيها تفسيرها نتيجة المعايشة والمقاربة لها من خلال سلوكيات بعينها، التي قد لا تتقارب مع مفاهيم أخرى سائدة في مجتمعات أخرى لها تفسيرها لهذه المفاهيم، ومن هنا يأتي عدم التيقن من تحديد المصطلحات بصفة دقيقة، وهل كل المصطلحات يمكن دمجها؟ ومنها مصطلح الأصولية.
فتعريف الأصولية في لغة العرب كما ساد عند أهل اللغة والبيان متباين عن لغات شعوب أخرى، ففي اللغة عند العرب، نسبة للجمع أصول، بصفة عامة، أما المفرد فتأتي أصل، والأصل في لسان العرب لابن منظور تعني «أسفل كل شيء، وجمعه أصول لا يكسر على غير ذلك». وأيضا كلمة أصل/أصول تأتي بمعنى مبادئ، ولذلك الأصول والمبادئ في الثقافة العربية الإسلامية تتطابقان في المعنى بصفة عامة.
أما مصطلح الأصولية في الفكر الغربي -وهو في الأصل مصطلح غربي- كما سنأتي إلى ذلك تاليا، يعني الجمود والثبات والتحجر وعدم التطور وعدم تجديد الأفكار التي ربما لا تتناسب مع ظروف وتحولات الزمن، أو عدم الخروج على مبادئ الكنيسة في الغرب قبل التحولات الفكرية في القرن الثامن عشر وما بعدها، كما نعرف، وبهذا لا يقترب هذا المصطلح كمفهوم -كما أشرنا- لا من قريب ولا من بعيد في الرؤية العربية/الإسلامية، خاصة في قضية الجمود أو التحجر، ثم أضيف لها مصطلح التطرف والإرهاب وفق الرؤية الغربية ثم تم تعميمه على كل الثقافات الإنسانية، كمثل الماركة المسجلة، كما هو متبع في الجانب التجاري.
ومن الباحثين العرب الذي اهتموا بالمصطلح، المفكر والباحث المعروف د. محمد عمارة، وذلك في كتابه: (إزالة الشبهات عن معاني المصطلحات)، وسرد د.عمارة الفرق الشاسع بين الرؤية الغربية للأصولية، عنها في الرؤية العربية/الإسلامية، ولا يتقارب مع النظرة الغربية، فيقول إن: «الأصولية، في المحيط الغربي، هي في الأصل والأساس، حركة بروتستانتية التوجه، أمريكية النشأة، انطلقت في القرن التاسع عشر الميلادي، من صفوف حركة أوسع، هي «الحركة الألفية» التي كانت تؤمن بالعودة المادية والجسدية للمسيح ثانية إلى هذا العالم؛ ليحكمه ألف عام تسبق يوم الدينونة والحساب». والاستنتاج الذي وضعه د. محمد عمارة، يعني أن النظرة الغربية لهذا المفهوم من خلال هذا المصطلح، له دلالات تتعلق بالنظرة الكنسية، لما ساد في القرون الوسطى في الغرب من وضع نظرات للكتاب المقدس، وهي ليست أصلا من الكتاب المقدس، إنما هي أطروحات أخرى من القساوسة الذين لا يريدون، مخالفتهم في الموقف الفكري الذي ميز ويميز هذه الأصولية بحسب د. عمارة، وهو: «التفسير الحرفي للإنجيل وكل النصوص الدينية الموروثة، والرفض الكامل لأي لون من ألوان التأويل لأي نص من هذه النصوص -حتى ولو كانت، كما هو حال الكثير منها، مجازات روحية ورموزا صوفية- ومعاداة الدراسات النقدية التي كتبت للإنجيل والكتاب المقدس». «أما في المنظور العربي والمفهوم الإسلامي، فإننا لا نجد في معاجمنا القديمة -لغوية كانت أو كشافات للمصطلحات- ذكرًا لهذه النسبة «الأصولية»، وإنما نجد الجذر اللغوي «الأصل» بمعنى: أسفل الشيء، وجمعه: أصول، وفي القرآن الكريم: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله)،[الحشر5]، ورجل أصيل، له أصل، ومتمكن في أصله، وثابت الرأي عاقل، ورأي أصيل له أصل، ومجد أصيل: أي ذو أصالة، والأصل-كذلك- القرار كما في القرآن الكريم: ( إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) [الصافات64]، والجذر: قال تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)[إبراهيم24]، والأصلي: يقابل الفرعي، أو الزائد، أو الاحتياطي، أو المقلد». ومن هذه المنطلقات، تم تحديد المعنى الدقيق لكلمة أصل وأصول وأصولية، لكن معناها لا يتقارب مع المصطلح العربي الغربي، حتى في اشتقاقات المعاني لا يتقارب هذا المفهوم مع المصطلح الغربي للأصولية.
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، خرجت العناوين في المؤسسات الصحفية والقنوات الفضائية، بالاتهامات لكل العرب والمسلمين بالنظرة الأصولية الكامنة في الدين الإسلامي وعقلية الإرهاب والتطرف، مع أن كل الدول العربية والإسلامية، عانت من هذا الإرهاب والتطرف حتى الآن، وكل الدول والهيئات ومؤسسات الدينية أدانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، في نيويورك وواشنطن، لأنه أصاب الأبرياء دون وجه حق، لكن الأحكام المسبقة هي التي تحرك الحملات، دون تمييز وفرز في طرق وأساليب العنف والتطرف والإرهاب، والذي لا دين له ولا جغرافيا محددة في هذا العالم، فالاتهامات والإشارات الموجهة للعرب بالأصولية وبالإرهاب والتطرف، وهي اتهامات بالطبع ليست جديدة على خلفية تفجيرات نيويورك وواشنطن، بل إنها قديمة ومستهلكة لأنها من مخلفات وطرق وأساليب الاستعمار الذي يصف كل مقاوم ضد احتلاله بأنه أصولي وإرهابي، وكلما برزت مشكلة أو أزمة، يتم استعادتها بسهولة كلما جاءت نازلة هنا وهناك، لكونها نمطية وجاهزة للعرب والمسلمين. ولذلك في الغرب هناك تيارات أصولية لها حضورها في أغلب أوروبا، تقتات على هذه القضايا والاختلافات التي تحدث في الدول الغربية من بعض الجماعات المتطرفة، لا سيما العداوة القديمة للعرب والمسلمين على وجه الخصوص، وبدعم من اللوبي الصهيوني الذي يمتلك أغلبية المؤسسات المؤثرة في العديد من هذه الدول كالاقتصاد والإعلام. ووجد في قضية تفجيرات نيويورك وواشنطن ضالته المنشودة في التحريض والكراهية وتأجيج المشاعر ضد الإسلام والمسلمين، وما سمي بالخطر الإسلامي والإرهاب الأصولي والصدام القادم بين الغرب والإسلام.
لكن الملك تشارلز ملك المملكة المتحدة عندما كان آنذاك وليا للعهد تحدث عن جوانب عديدة وكتبت في ذلك في مناسبة سابقة منها ما يتعلق بسوء الفهم من بعض الغربيين تجاه الإسلام والمسلمين، ومما قاله الملك في هذا الصدد: «إنه على الرغم من التقدم في مجال التكنولوجيا ووسائل الاتصال في النصف الثاني من القرن العشرين، وبالرغم من سفر الناس على نطاق واسع واختلاط الأجناس وإماطة اللثام عن الكثير من ألغاز هذا العالم -ويقصد الصورة المستقرة عن العرب والإسلام والشرق عموما- فإن سوء الفهم بين الإسلام والغرب ما زال مستمرا، ويعزو الملك تشارلز السبب في محاضرته الشهيرة في أكسفورد إلى أن «الكثير من الغربيين ينظرون إلى الإسلام بمنظار، ما يشار إليه بعبارة «الأصولية الإسلامية»، وقال: «لقد عانى حكمنا على الإسلام من التحريف الجسيم نتيجة الاعتبار بأن التطرف هو القاعدة، وأضاف: إذا كان هناك قدر كبير من سوء الفهم في الغرب لطبيعة الإسلام، فإن هناك أيضا قدرا مساويا من الجهل بالفضل الذي تدين به ثقافتنا وحضارتنا للعالم الإسلامي. وأعتقد أن هذا الفشل ينبع من النظرة الجامدة للتاريخ التي ورثناها!. كان الإسلام في القرون الوسطى معروفا بالحلم والتسامح عندما كان يسمح لليهود والمسيحيين بممارسة شعائرهم الدينية، واضعا بذلك مثالا لم يتعلمه الغرب لسوء الحظ لعدة قرون».
إذن الأصولية في الغرب هي النظرة المتزمتة التي تحارب العلم والاختراع والعصرنة، وهذا ما ينكره الإسلام فكرا ومنهجا، إلا إذا أراد البعض في الغرب أن يتجاوز مفاهيم وثقافات الآخرين، بحجة عالمية الثقافة الغربية وكونيتها، فذلك مقصد آخر لن تقبله الأمم الأخرى لنفسها مهما اختل التوازن السياسي والعسكري والاقتصادي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العربیة الإسلامیة الکثیر من فی الغرب من هذه
إقرأ أيضاً:
الغرب وحقوق المرأة في سوريا
الغرب وحقوق المرأة في سوريا