لجريدة عمان:
2024-12-26@01:02:52 GMT

دفتر مذيع :تلفزيون عمان الملون «2»

تاريخ النشر: 27th, September 2023 GMT

بظهور صندوق الدنيا تغيرت أشياء كثيرة جدا، شعرنا بها أو لم نشعر.. نتسمر أمام الشاشة منذ بدء البث بالسلام السلطاني الذي يظهر فيه العلم العماني خفاقا، وصورة جلالة السلطان ممتطيا خيله الأصيلة، إلى السلام الثاني الذي يختتم به البث اليومي، وكم سمعنا من أقراننا الصغار -وما أبرئ نفسي- من ترديد محرف، غير متعمد، لكلمات السلام، مثلما يحدث كذلك في الأغاني، لدرجة أن تسمع من يردد كلمات هي (ليست كالكلمات) ولكنها كيفما وقعت على الأذن.

ونخشى في أوقات المشاهدة أن يكلفنا الأهل بأي شيء حتى لا يفوتنا شيء.. وكأي جديد يلامس حياة الناس بشكل مباشر فقد ظهر بعض الرافضين له، فالقاعدة العريضة من الناس رحبت وسعت إلى اقتنائه، إلا أن فريقا من الناس رفض إدخال هذا (الشيطان) إلى بيته، وشعر بخطر داهم على أسرته، وخاصة على نسائه وبناته بما يعرضه من مشاهد وخطاب لم يعتد عليه هذا المجتمع. فبعض الناس يسألون: هل يوجد في بيت سماحة الشيخ المفتي تلفزيون؟، وقد يشترط دخوله إلى بيته بتأكده من اقتناء المفتي له.. والبعض ينتقد التلفزيون في إشارة إلى الأفلام والمسلسلات وبعض الأعمال الرومانسية والعبارات الجديدة الصادمة لكثيرين: (ما شفنا من ذا التلفعيون غير حبيني واحبش).. وفريق اعتبره شرا لا بد منه، فحاول سن القوانين داخل أسرته للمشاهدة، وفئات وأوقات المشاهدة. وطبيعي أن هذه القوانين ستتلاشى بالتقادم. أما المحرومون منه وخاصة الأطفال إما أن يستسلموا لقرار رب الأسرة وينتظروا يوما يأتيهم الفرج باقتناعه واقتنائه، أو أن يخططوا يوميا لكيفية المشاهدة في بيت الجيران (المحظوظين)، خاصة إذا تعلق أحدهم بمسلسل معين. فكم سيتحمل الجيران هذه الاستضافة، والتبعات الواردة في حال علم ذلك المعاند بخططهم، وكم سيذهب البعض ليتشفعوه بالموافقة..

في العام التالي (1975/م) افتتحت استديوهات صلالة، وفي عام 1979/م تم ربط محطتي مسقط وصلالة ضمن قناة واحدة.. كما كان يُبث من صلالة برنامج أسبوعي خاص باللغة الجبالية/ الشحرية (البرنامج الريفي) فتنفصل محطة صلالة مؤقتا، فلا نشاهد هذا البرنامج في الشمال؛ لأنه موجه للمتحدثين بهذه اللغة في الجبل والريف..

نشاهد وجوها عمانية تشبهنا، ولكن بصور أخرى.. بدءا من قرّاء القرآن الكريم، الذي يُستهل به البث التلفزيوني مثل الشيخ القارئ سالم الراسبي، والشيخ القارئ والمنشد حسن الفارسي، الذي سأتشرف لاحقا أن أكون من تلاميذه لمادة التفسير، وقارئ آخر لا أتذكر اسمه ، فضلا عن قرّاء نشرات الأخبار، ومقدمي البرامج الذين تجولوا في عمان من أقصاها إلى أقصاها.. ولقلة الكوادر العمانية ظهر في البدء المذيع المصري الوسيم أحمد سمير وزوجته الحسناء سهير شلبي، حتى أصبحت عبارة (أعزائي المشاهدين) التي تستهل بها تقديماتها عبارة شعبية محببة. كما ظهر تباعا جيل من العمانيين المؤسسين، مثل الأساتذة ذياب صخر ومنى محفوظ وعبدالعزيز السعدون وعلي المجيني وحمد البلال وإبراهيم اليحمدي، ورحمة حسين وفتحية محمد، وفي استديوهات صلالة غانم الدعن وسعود الخالدي وآخرون لا أتذكرهم أو لم أعرفهم، غير متخيل أنني سأتشرف بمزاملتهم بعد حوالي ثماني سنوات.

الجميع ينتظرون نشرة الأخبار الرئيسية ويتحفزون للمتابعة. فقبلها بحوالي دقيقتين تظهر الساعة على الشاشة، مصحوبة بموسيقى ملائمة لإيقاع وتكّات عقاربها، فيضبط الناس ساعاتهم عليها، ويتأكدون من جودتها، تتبعها شارة النشرة المصممة بشكل يعكس هيبة النشرات والسياسة من خلال ظهور شعار الدولة على ألوان العلم، يليه مشهد دوران الكرة الأرضية، في دلالة على عالمية الأخبار، مؤطرا برمزية العين أو ما يسمى عدسة عين السمكة (Fish eye lens) وكأن لسان الحال يقول: هذه عيننا على العالم.. عندما ذهبت ورفاق الصغر في زيارة مدرسية للتلفزيون كان يهمنا جدا أن نرى الساعة، لنجدها ساعة حقيقية وليست افتراضية، موضوعة على قاعدة أفقية، محمية بصندوق تعلوه كاميرا خاصة بها، إضافة إلى نسخ منها في بعض المداخل والاستديوهات.. حرص التلفزيون على إبقاء واحدة منها تذكارا على مدخله الرسمي في المبنى الجديد.. أخبار العالم في الغالب كعادتها تحمل الدمار بكل صوره، ويمكن أن تختم ببعض المنوعات. أما أخبار البلاد فتحمل البشائر والأفراح بأنواعها، فمشروع هنا وآخر هناك، قوانين وتشريعات في كل مناحي الحياة تمهد لدولة المؤسسات والقانون بنفس طويل.. كثيرة هي الأعمال التي عرضها التلفزيون في سنواته الأولى خاصة قبل ظهور القنوات الفضائية، والتي حتما أعادت صياغة أفكار وتوجهات وأذواق الناس، وأدخلت مفردات جديدة لا تحصى في حياتنا اليومية. ولا يخفى الدور الذي لعبه في التنوير، وفي إبراز منجزات الحكومة، والحرب الإعلامية لما يجري عند الحدود الجنوبية للبلاد حتى نهاية عام 1975م، والمشروع النهضوي للسلطان قابوس -رحمه الله- بشكل عام، بل وتسنى للشعب أن يتعرف على سلطانه الذي لم يكن الأغلب يعرفون حتى بوجوده قبل أن يحكم، فالسلطان الأسبق لم ير الشعب صورته إلا من خلال صورة يتيمة في تلك المنظرة (المرآة) التي تتوسطها صورة صغيرة في أعلاها، أو تملء جانبيها رسمة لطاووسين متقابلين..

كل ما يظهر في التلفزيون هو حالة من الدهشة والإبهار.. تعبئة غير عادية للأدمغة والأمزجة، وإعادة صياغة لأمة بأكملها أرضا وشعبا.. فتدفق كل ما هو أجنبي يفتح نافذة واسعة جدا للتعرف على الآخر.. وعلى الصعيد الوطني عمان تتقارب وتتلاحم أكثر وأكثر.. نشاطات جلالة السلطان بشخصيتيه المدنية والعسكرية تجعل الجميع مشدوها أمام الشاشة. فيوما يضع حجر أساس لمشروع طموح، وآخر يعتلي منبر المسجد، وثالث يسلم راية جديدة لكتيبة عسكرية.. يتقبل أوراق اعتماد السفراء، ويستقبل زعماء دول أخرى فتدهشنا المراسم والبروتوكولات والسجاد الأحمر، والبزات والموسيقى العسكرية، ونشاهد في حفلات العشاء الرسمية، ملابس لم نألفها، ولم نكن نعلم أنها من موروثات البروتوكولات والمظاهر السلطانية التي توارثها سلاطين الدولة البوسعيدية.. احتفالات العيد الوطني في ذلك الوقت في استاد الشرطة بالوطية، تبعه ميدان الفتح بجواره، والذي قدمت فيه عروض التاتو القادمة من الخارج. كانت مثيرة جدا بقياسات ذلك الوقت على الأقل، ولاحقا أصبحت هذه العروض من مهارات الحرس السلطاني العماني، وبعض القطاعات. أصبح بإمكان من لا يتمكن من الحضور للاستاد وخاصة من خارج العاصمة أن يتابع من خلال التلفزيون.. بعض الناس يحملون معهم أجهزة راديو صغيرة لمتابعة المشهد بصريا في الميدان ومتابعة التعليق صوتيا على اللوحات من الإذاعة، ويتجلى ذلك أكثر في متابعة المباريات التي أتوقع أن البعض يمارسها إلى اليوم خاصة مع وجود الراديو ضمن تطبيقات الهواتف الذكية.

ظل التلفزيون سنوات طويلة يمتنع عن تقديم الإعلانات التجارية. فلا شيء يقطع المشاهدة إلا رفع الأذان بتوقيت مسقط، حتى ظهر أول إعلان تجاري يروج لزيت يعبأ في عمان، فيردد الناس أغنيته، وتشاكس ربة البيت زوجها بأشهر عبارة في الإعلان: (إن خلص الزيت، أنا سايبه البيت).

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

ما الذي يكشفه طعن نجيب محفوظ عن السلطة في مصر ؟

قبل ثلاثين سنة، وتحديدًا في الرابع عشر من أكتوبر سنة 1994، تعرض الروائي المصري الشهير الحائز على جائزة نوبل في الأدب نجيب محفوظ للطعن في العنق وهو جالس في سيارة صديق على الضفة الغربية لنهر النيل في طريقه إلى لقائه الأسبوعي بمقهى في وسط القاهرة، ونجا محفوظ -البالغ آنذاك من العمر اثنين وثمانين عامًا- بأعجوبة من محاولة الاغتيال لكنه بات شبه عاجز عن الكتابة لما تبقى من حياته، وكان مرتكب الهجوم عضوًا في حركة إسلامية متشددة تعرف بـ«الجماعة الإسلامية»، وكانت متورطة آنذاك في أعمال عنف بشتى أرجاء مصر بهدف زعزعة النظام السياسي في مصر، وباستهداف الكاتب المرموق، كان مرتكب الهجوم يتحرك بتحريض من عالم متطرف يدعى عمر عبدالرحمن ويعرف أيضًا بـ«الشيخ الأعمى»، وكان آنذاك هو الزعيم الروحي للجماعة.

وقبل سنوات قليلة من ذلك، كان المرشد الأعلى لإيران آية الله روح الله الخميني قد أصدر فتواه الشهيرة الداعية إلى اغتيال الروائي البريطاني سلمان رشدي، وانتهز عبدالرحمن فرصة تجدد جدل ديني قديم حول أشهر روايات محفوظ وهي «أولاد حارتنا»، فقال الشيخ الأعمى تعليقًا على فتوى الخميني: إن محفوظ أيضًا مرتد مثل رشدي، مضيفًا إنه لو كان محفوظ قد قُتل قبل ثلاثين سنة لما اجترأ رشدي على كتابة روايته «الآيات الشيطانية»، وفي حين أن كلمات عبدالرحمن ليست بفتوى في شكلها، فقد فسرها أتباعه بأنها أمر بوجوب قتل محفوظ.

وصدرت «أولاد حارتنا» للمرة الأولى مسلسلة في صحيفة الأهرام المصرية المؤثرة سنة 1959، قبل عقود من محاولة اغتيال محفوظ، ومنذ ظهورها الأول وهي محط نزاعات دينية بسبب محتواها التجديفي المزعوم، ولم تنشر الرواية كتابًا في مصر إلا بعد وفاة محفوظ سنة 2006.

وإذ نعيد النظر في تاريخ الكتاب المضطرب بعد ثلاثين سنة من استهداف حياة محفوظ، يبدو أن الجدل الديني في وقت صدور «أولاد حارتنا» الأول كان في واقع الأمر ستارًا ملائمًا للنظام العسكري للرئيس المصري آنذاك جمال عبدالناصر، فمن خلال إتاحة المجال لاحتدام الجدل ولقيام المؤسسة الدينية بإعاقة نشر الرواية، استطاع نظام عبدالناصر أن يجتنب تناول الحجة الأساسية الكامنة في صلب الرواية، وهي الانتقاد السافر للمنحى القمعي الذي نحاه الحكم العسكري منذ انقلاب 1952، دونما مهاجمة صريحة للكاتب الذي كان قد حاز بالفعل على قدر معتبر من الشهرة وكان محبوبًا للغاية حتى من عبدالناصر نفسه.

ويقوم بناء الرواية على سلسلة نوفيلات [روايات قصيرة] تلمح إلى الأديان الإبراهيمية الثلاث، أي اليهودية والمسيحية والإسلام، وتدور أحداثها جميعًا حول وقف الجبلاوي، ذلك الأب النائي المعزول ذي الهالة الإلهية الذي يتجاوز عمره حدود الطبيعة، وفي حدث يذكرنا بطرد آدم وحواء من جنة عدن، يطرد الجبلاوي ذريته من أملاكه، ويحكم على أبنائه بحياة الشقاء في ظل قسوة حكامهم الطغاة والفتوات.

وتهون على الحارة محنتها بين الحين والآخر بظهور شخصيات عبر الأجيال تضاهي رمزيًا [الأنبياء] موسى وعيسى ومحمد، الذين يصورهم قلم محفوظ الشعري في سمات شديدة البشرية، فالأنبياء جميعًا لهم ارتباط وثيق بالجبلاوي، ومباركة الجبلاوي نفسه لهم تتيح لهم هداية أبناء الحارة واستعادة العدالة مؤقتًا في إدارة الوقف، غير أن تعاليم الأنبياء -بمرور الوقت- تتحول إلى عقائد جامدة قمعية يسيء استغلالها حكام وفتوات جدد، فيحكمون على مواطني الحارة مرة أخرى بحياة المذلة والحرمان، وفي القسم الأخير من الرواية، يحل العلم محل الشرائع الدينية الثلاث باعتباره عقيدة العصر الحديث الراسخة، ويرتكب مجسِّد العقلانية الحديثة دنس قتل الجبلاوي لكنه، شأن جميع أسلافه من قبله، يكون منذورًا للفشل في مسعاه إلى تحرير الحارة من الشقاء.

وفي الرواية العديد من الثيمات والعناصر التي كان من شأنها أن تثير غضب المؤسسة الدينية المصرية في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، منها «قتل الإله» والإيحاء بأن الإسلام محض دين من أديان كثيرة تفشل في النهاية في تحرير الإنسانية من شقائها، ومشهد للشخصية المجسدة أدبيًا للنبي محمد وتسمى بقاسم في الرواية إذ يدخن الحشيش على الجوزة، ومثلما روى محمد شعير بالتفصيل في كتابه «الرواية المحرمة» (2022)، فقد استفزت الرواية فعلًا غضب شخصيات دينية كثيرة في تلك الحقبة، ومن هذه الشخصيات من كان منتميًا لجامعة الأزهر في القاهرة، وهي من أبرز مؤسسات التعليم الإسلامي في العالم.

غير أن شعير يذكر حوارين ذهب فيهما محفوظ إلى أن الجلبة المحيطة بـ«أولاد حارتنا» بدأت بالفعل على يد كتَّاب آخرين، وفي حكيه للواقعة، يبدو أن شعير يشير إلى احتمال أن يكون الشاعر صالح جودت -لأغراض شخصية أو سياسية- قد كتب رسالة باسم مستعار اتهم فيها الرواية بالتجديف، فلفت إليها أنظار علماء الأزهر، وفي حين أننا لم نعرف مطلقًا من الذي كان أول من أثار زعم تجديف نجيب محفوظ، فإن نقادًا كثيرين في تاريخ «أولاد حارتنا» المعقد يتفقون على أن الجدل الديني قد طغى على جوهر الرواية السياسي الذي لا يزال بعد خمسة وستين عامًا يمثل اتهامًا قويًا لجميع أنظمة الحكم القمعية.

وكتب محفوظ الرواية بعد فترة انقطاع طويلة، وكانت أعماله قبلها -في مرحلته الواقعية- قد بلغت ذروتها بـ«الثلاثية» التي حظيت بثناء واسع، وبعد تحقيقه الشهرة الأدبية، فقد محفوظ بوصلته بعد انقلاب 1952 الذي أطاح بالملكية المصرية، لكنه أطاح بالليبرالية أيضًا وبحمية العشرينيات والثلاثينيات الفكرية، وقد تجسد فقدان البوصلة ذلك في توقف دام خمس سنوات بين «الثلاثية» و«أولاد حارتنا»، بل لقد فكر خلالها محفوظ في التوقف عن الكتابة، ثم عاد إلى فنه بأسلوب مختلف تمامًا، فكتب أكثر أعماله سياسية.

لم يغب محتوى الرواية السياسية عن فطنة رئيس تحرير الأهرام محمد حسنين هيكل، وكان هيكل -المقرب من عبد الناصر- قد قال لشعير: «إنه أدرك رسالة الرواية وأهميتها الهائلة»، وبعد مشاورة عبدالناصر، مضى هيكل ونشر العمل مسلسلًا، برغم تصاعد الجدل في الدوائر الدينية.

وفقا لقراءتي، وقراءة كثير من النقاد المذكورين في كتاب شعير، تشكل «أولاد حارتنا» شهادة سياسية على إيمان محفوظ بالمساواة وتحرر الإنسان أكثر مما تشكل تمثيلًا أدبيًا لموضوعات دينية، فوفقا لسرد محفوظ الفاتن والمبدد للأوهام، ليس بوسع العقائد الدينية أو التطورات التكنولوجية في نهاية المطاف أن ترفع الشقاء عن الحارة -وهي تمثيل لمصر إن لم تكن تمثيلًا للإنسانية-، ويبقى قصر الجبلاوي الفخم المنيع الذي تعيش خارجه حشود المحرومين والبائسين سالمًا ومهيمنًا، في حين يبدو أن عِبَر الأجيال الماضية وتعاليم الأنبياء السابقين قد طواها النسيان، فـ«آفة حارتنا النسيان» مثلما يتكرر في كل قسم جديد من الرواية.

وتقوم شهرة الرواية بالدرجة الأساسية، في مصر وخارجها، على اتهامات التجديف والجدل الديني الذي أثارته، وكثيرًا ما يرتبط محفوظ برشدي بوصفهما مثالين للكاتب العلماني المستهدف من المتطرفين الدينيين، غير أن هذا قد لا يعدو الجانب الإثاري الأكبر في الموضوع، ففي الواقع، يجسد مأزق «أولاد حارتنا» كيف استطاع نظام حكم استبدادي علماني أن يستغل جدلًا دينيًا لكبت صوت كاتب مؤثر كان يعبر عن سخطه على الوضع السياسي في مصر في ظل حكم عبدالناصر.

ولقد تبنى محفوظ نفسه هذا التفسير صراحة، ففي عام 2001 نقلت عنه مجلة أدبية مصرية قوله: إن «أولاد حارتنا» في المقام الأول رواية سياسية، والذين كنت أفكر فيهم وأنا أكتبها فهموا معناها، فعرفوا من أعني بالفتوات، لذلك أعتقد أنهم ربما كانوا وراء المنعطف الديني الذي مضت إليه الأمور، وكان محفوظ شديد الوعي بأن الجدل الديني أدى إلى سوء فهم عام حيال رسالة الرواية الأعمق؛ لأنه أكَّد في مناسبات عدة أنه في أثناء كتابة الرواية قد تأثر بأسئلة عن السلطة السياسية وكيفية تحديها، وفي حديث إلى جريدة كويتية سنة 1975، أعرب عن أسفه «لعدم فهم رسالته»، موضحًا أن الدافع الحقيقي لتأليف الرواية جاء من «وقوع هوة بينه وبين المجتمع» بعد أن شاهد مصر متألمة في أعقاب 1952 إذ اعترتها «تناقضات وأخطاء مفزعة... وبخاصة ما تعلق بالتعذيب والاعتقال»، وبعد أن رأى «بعض الناس ينتفعون من الثورة انتفاعًا هائلًا إلى أن أصبحوا أغنى من الإقطاعيين» الذين صودرت أراضيهم على يد عبدالناصر.

وعلى مدار الرواية، كان محفوظ يسائل الحكام العسكريين الجدد: «في صف من أنتم؟ الفتوات أم الأنبياء؟»، وكان هذا السؤال الصريح شديد الإشكالية في مصر في أواخر الخمسينيات، في ظل إحساس عظيم بالإثارة تجاه النظام العسكري، وبخاصة بعد نجاح تأميم قناة السويس سنة 1956، ووسط كل تلك الضجة، كتب محفوظ رواية مليئة بالإشارات المستفزة، والواضحة أيضًا، إلى الوضع السياسي آنذاك، بما كان يعني أن الحارة في نهاية المطاف «لا تزال هي الحارة نفسها، والفتوات هم الفتوات أنفسهم».

وتمثل «أولاد حارتنا» أيضًا أول وأهم لحظة في سلسلة من الحلقات التي وضعت محفوظ في مرمى النظام بسبب موقفه الانتقادي، إذ استهلت الرواية فترة تجريب أدبي دامت طوال عقد الستينيات وأوائل السبعينيات، وتظهر في روايات من قبيل «السمان والخريف» و«اللص والكلاب» و«ثرثرة فوق النيل» التي يتضافر فيها الإحباط والسخط من النظام السياسي الاستبدادي مع مختلف ثيمات فقدان الاتجاه والاستياء والسخرية العدمية، وحدث في تلك الفترة أن تعرضت روايات محفوظ لحذف مقاطع منها على أيدي رقباء الحكومة، وحدث أن كان هو نفسه على شفا التعرض للاعتقال فلم ينقذه منه إلا تدخل عبدالناصر الشخصي.

ظلت تداعيات الجدل الديني حول «أولاد حارتنا»، بجانب التوترات مع المؤسستين السياسية والثقافية في تلك الحقبة، مستولية على محفوظ حتى بعد حصوله على جائزة نوبل في الأدب سنة 1988، فقد تجددت اتهامات الردة في الدوائر الدينية المتطرفة بعد إعلان الجائزة، وتعرض محفوظ لاستهداف من بعض البلاد العربية بسبب تأييده لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل سنة 1979 ومحاباته فكرة حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بموجب حل الدولتين، وفي كتاب «قصة الرواية المحرمة»، يذكر محمد شعير واقعة مثيرة مزعومة عن عرض أحد موظفي منظمة التحرير الفلسطينية على محفوظ قرابة نصف مليون دولار -أي قرابة ثلاثة أمثال قيمة جائزة نوبل- ليرفض الجائزة المرموقة بسبب تعاطف لجنتها المفترض مع إسرائيل.

وبرغم نشأته أصلًا في عائلة متدينة، كانت أخلاقيات محفوظ السياسية نتاجًا لتربيته السياسية في حقبة ليبرالية بعض الشيء -أي حقبة القومية المصرية والنضال من أجل الاستقلال عن الاحتلال البريطاني- وتنشئته على يد المثقف العلماني التقدمي سلامة موسى، ونجيب محفوظ، على احترامه للسلطات الدينية في مصر، كانت لديه قناعات راسخة بأن الدولة الحديثة لا يجب أن توالي دينا أو عقيدة، وكان مقدرًا لهذه الرؤية العلمانية للمجتمع والسياسة أن تدفع بمحفوظ إلى الصدام مع أغلب الأطراف المتشددة في المؤسسة الدينية، وقد حدث هذا على الرغم من حقيقة تبدو بأثر رجعي منطوية على مفارقة، وهي أن من أوائل من التفتوا إلى مواهب محفوظ الأدبية سيد قطب وليس غيره، وهو منظِّر الإخوان المسلمين المرموق ومؤلف كتاب في الجهاد، وكان لفترة من الزمن صديقًا مقربًا من الكاتب.

توشك محاولة اغتيال محفوظ سنة 1994 أن تكون واقعة منسية استعادتها الذاكرة أخيرًا إثر محاولة اغتيال رشدي في 2022، وهذه الواقعة توجز الدور الإشكالي للإسلام الراديكالي في مصر المعاصرة وعلاقته المعقدة بالحكم العسكري في البلد الذي لجأ على مدى عقود إلى قمع الإسلاموية في بعض الأوقات وإلى تشجيعها في البعض الآخر، غير أن الأهم، من منظور معاصر، هو أن هذه الواقعة تلقي الضوء أيضًا على إيمان محفوظ بالديمقراطية والمساواة المنبوذتين اليوم تمامًا في مصر، وكما في عالم «أولاد حارتنا» الأدبي، يبدو أن مصر الحقيقية اليوم قد نسيت دروس الماضي وتعاليمه، وأحدثها دروس وتعاليم ثورة 2011 التي أطاحت بنظام حسني مبارك البالي، ويبدو قصر الجبلاوي بكل هيلمانه الطاغي أقرب إلى مخطط لمعمار المجتمع المزدهر في مصر، متجسدًا في العاصمة الإدارية الجديدة، الشاسعة والمعزولة، وفي العديد من المجمعات السكنية الراقية التي تغير وجه القاهرة.

وبرغم مضي خمسة وستين عامًا، لا تزال الرواية إذن عدسة استثنائية الوضوح يرى المرء من خلالها ويفهم قضايا مصر البنيوية السياسية والاجتماعية، وكذلك مأزقها الراهن، فلقد أقام الحكم شرعيته على استئصال الأصولية الدينية، وإذا به يقيم على أطلالها نظام قمع زاد من تفاقم الأوضاع الخطيرة التي كان أغلب المصريين يعانون منها في ظل أنظمة الحكم الغابرة.

لقد كتب محفوظ «أولاد حارتنا» في لحظة استنارة من منحنى مساره ككاتب ومثقف عام، لكنه ينهي الرواية برؤية مشرقة مشجعة: «ولنرينَّ في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب»، وقبل أكثر قليلًا من عقد، أدى التجاهل والإعراض عن محنة جموع المحرومين في مصر إلى أن ثارت «الحارة» وأطاحت بنظام، ولم يكن ذلك بأقل من معجزة، وفي الوقت الذي انمحى فيه ذلك الاضطراب التاريخي تقريبًا من الذاكرة الجمعية النسَّاءة، فإن أسبابه الكامنة لا تزال حاضرة إلى حد كبير، وكذلك لا تزال حاضرة وكامنة بذور انتفاضة مستقبلية، ومثلما استغرق نشر «أولاد حارتنا» في مصر خمسين سنة، فقد تلزم فترة أطول من الزمن لظهور رسالتها أخيرًا، كاملة، بوصفها قوة تحرير ووضوح.

جابرييل كوسنتينو أستاذ مساعد في قسم الصحافة والإعلام بالجامعة الأمريكية في القاهرة

ذي نيو لاينز

مقالات مشابهة

  • سفارة أذربيجان بالقاهرة تفتح دفتر تعازي لضحايا حادث تحطم الطائرة
  • التلفزيون الأردني يدفع 10 آلاف دينار شهريا فواتير كهرباء لمحطة متوقفة منذ 15 عاما
  • إثبات غياب الطلاب في دفتر المعلم.. أهم تعليمات وكيل التعليم بالدقهلية خلال جولته بمدارس طلخا
  • ‏التلفزيون السوري: الجيش الإسرائيلي يتوغل في أطراف بلدة سويسة بريف القنيطرة
  • ما الذي يكشفه طعن نجيب محفوظ عن السلطة في مصر ؟
  • الزركلي شاعر سوريا الأكبر الذي مات غريبا عن وطنه
  • للقضاء على فوضى البرامج الدينية في مصر..منع المداخلات المباشرة عبر التلفزيون والإذاعات
  • عاجل. تلفزيون سوريا: انفجار سيارة ملغومة في في مركز بمدينة منبج وسقوط عدد من الضحايا
  • ليلة الكريسماس .. فيلم Carry-On يتصدر نسب المشاهدة في مصر
  • من هو كمال عدوان الذي سُمي مستشفى غزة باسمه؟