لجريدة عمان:
2025-01-19@23:19:25 GMT

السعادة، علم النفس.. وأشياء أخرى

تاريخ النشر: 27th, September 2023 GMT

كوب من مشروب ساخن أو بارد أو مُتخيَّل أمام البحر أو في قُلة جبل ما، سهرة مع أصدقاء هم مرآة لذاتك القصية التي لا تعدو أن تكون شبحا هلاميا يختبئ خلف سحابة من الضباب الهائل ينقشع فور لقائك بهم، العودة إلى المنزل بعد أسبوع عمل شاق.. العودة إلى «البلاد» يوم الخميس؛ جرعات من السعادة المجزأة التي نتمنى استمرارها لنستقر ذاتيا وتهجع نيران التشتت المضطرمة بدواخلنا، ويشعر بها كل إنسان في مرحلة ما من حياته.

تتجسد لحظات السعادة والبؤس في حياة كل إنسان، وتُعاد على مدى سيرورة حياته، ولا تمتد لحظة إلا وتنحسر عن نقيضتها متأرجحة بين الضفة والضفة المعاكسة لها. يعجبني في الأدب أنه خالد لا يتغير، وذلك لأن الأدب الذي يناقش ويوصِّف لحظات النفس الإنسانية بتقلباتها وتأرجحها وبنائها وانهيارها؛ هُوَ هُوَ مذ بدأت الخليقة حتى يومنا. الثابت في التاريخ البشري هو التغيُّر والتغيُّر المستمر، فما كان يعد فتحا طبيا، ينقلب خرافة وخزعبلات في الزمن الذي يليه. وما كانت نظرية علمية، تتهاوى أمام نظرية علمية أخرى مناقضة لها أو مكملة لنقصها. وما كانت فكرة فلسفية عبقرية تتحول إلى واقع عملي ملموس طافح بالبؤس والفشل، تتهافت أمام فكرة فلسفية أخرى تأتي بعدها وتهدم صرحها على رأسها. أما الأدب؛ فمنذ النصوص المنقوشة على الألواح الطينية لحضارة بلاد الرافدين، مرورا بالإلياذة والأوديسة الإغريقيتين، والشاهنامة الفارسية، والشعر السامق العالي فيما يعرف اليوم بالشعر الجاهلي، وصولا إلى الأدب الحديث عربيِّهِ ومترجمه؛ كلها تلامس شغاف قارئها، وتمثل بلسما خاصا لعذابات الروح القديمة والحديثة، أو لنقل لعذابات الإنسان القديم والحديث. وتقترب من مشاكله وهمومه الوجودية والنفسية، فبيت شعر جاهلي -أستدل به هنا لأنني أشد التصاقا بالشعر ولغته من النصوص الخالدة بلغات أخرى- يفجؤنا أمام نظريات علم النفس الحديثة التي تعب علماء النفس حتى يتوصلوا إليها، وجملة نثرية من كتاب قديم، تحلل مشكلة نفسانية كما لم يستطع الطب السلوكي فعله بتلك الدقة. فقول أبي الطيب المتنبي رغم كونه من المتأخرين عن مرحلة الشعر الجاهلي:

إذا ساء فعلُ المرء ساءت ظنونه

وصدّق ما يعتاده من توهمِ

وعادى محبّيه بقول عداته

وأصبحَ في ليلٍ من الشك مُظلمِ

نجد نظيرا له في قول معن بن أوس المزني المخضرم الذي عاصر العصرين الجاهلي والإسلامي:

كَأَنَّكَ تَشفي مِنكَ داءً مَساءَتي

وَسُخطي وَما في رِيثَتي ما تَعَجَّلُ

وهما يشرِّحان حالة المصاب بـ«مرض الشك» كما نعرفه اليوم في الطب السلوكي، قبل أن نعرف ما الطب السلوكي أصلا!. وهلم جرا من الدلائل الكثيرة التي لو جمعناها من الأدب القديم حتى يومنا لحصلنا على مجلد ضخم يربو على حمل بعير أو شاحنة عملاقة من نوع بيك-أب.

يتمثل جوهر الأدب في شموليته الإنسانية وتجاوزه للزمان والمكان على السواء، وتتمثل في هذا الأمر عظمته كذلك.

يقول لك الناصح، اقرأ كل شيء فستنتفع بما تقرؤه في يوم ما؛ أما الجاهل والمتجاهل فيقولان لك «احذر أن تقرأ» «احذر أن تعرف»، وما بين هذين النقيضين؛ تظهر شخصية وسطية، ذلك هو الصديق.

فالصديق الحقيقي، هو الذي تتجرد أمامه من الفذلكات اللغوية والمماحكات اللفظية وتصبح أمام المرآة الصافية التي لم يتيسر لك النظر إلى دواخل نفسك عبرها قبلُ.

تكمن مشكلة البشر في كونهم بشرا؛ فالإنسان مهما ادعى التجرد والحيادية، لا بد له من جانب يركن إليه ويميل بكلِّيَّته نحوه. وهنا تكمن فائدة الصديق أيضا، ذلك الآخر الذي لا يرجو نفعا ولا ضرا منك ويحب لك ما يحبه لنفسه.

السعادة حالة إنسانية عالية، قد نجنيها من حوار صادق، كتاب عذب، بيت شعري حالم، علاقة إنسانية صافية، صلاة خاشعة صادقة؛ فهي حالة ما في فترة ما، وليست خطا مستقيما لا اعوجاج فيه.

أما تلك التي تكون ثابتة مستقرة، فهي الطمأنينة. ويقع اللبس بينها هي الثابتة الراسخة وبين الحالة التي تشبه الانتشاء في لحظة ما وفق ظرف ما والتي نصطلح عليها باسم السعادة. من هنا يقع اللبس لقراء كتب التنمية البشرية ومراجعة الذات بين الحال الراسخة واللحظة التي تشبه الومضة الشعرية.

فالطمأنينة هي الرضا والرسوخ والتجلد أمام نوائب الدهر وحوادثه، كما في قوله تعالى: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا). وكذا قول رَسُولُ الله: «عَجَبًا لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْرًا لَهُ».

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

اليوم.. «ذاكرة وطن» يحتفل بذكرى ميلاد يحيى حقي ببيت السحيمي

يقيم مركز إبداع بيت السحيمي، بشارع المعز، وفي إطار الاحتفال بذكرى ميلاد الكاتب الكبير يحيى حقي، فعالية مميزة بعنوان «يحيى حقي في صالون ذاكرة الوطن»، اليوم الأحد 19 يناير الساعة السادسة مساءً.

يشارك في الفعالية كل من الإعلامية نهى يحيى حقي «نجلة الاديب الكبير»، والدكتور خيري دومة، أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب جامعة القاهرة، ويدير الحوار الكاتب الصحفي والناقد محمد الشافعي.

تتضمن الفعالية مناقشات ثرية حول حياة وأعمال يحيى حقي، أحد أبرز رموز الأدب العربي الحديث، ودوره الرائد في تشكيل المشهد الثقافي المصري والعربي.

تتضمن الفعالية مناقشات ثرية حول حياة وأعمال يحيى حقي، أحد أبرز رموز الأدب العربي الحديث، ودوره الرائد في تشكيل المشهد الثقافي المصري والعربي.

تأتي هذه الفعالية ضمن سلسلة «صالون ذاكرة الوطن»، التي تُعقد شهريًا في بيت السحيمي لإحياء ذكرى الشخصيات التي أثرت في الفكر والثقافة المصرية، يعقب الأمسية حفل فني تقدمه فرقة النيل للآلات الشعبية، بالتعاون مع الهيئة العامة لقصور الثقافة، لتقديم لوحات فنية من التراث المصري الأصيل.

اقرأ أيضاًنظمت عددا من الفعاليات التثقيفية.. قصور الثقافة بالغربية تستعرض أسباب الوقوع في فخ الإدمان

وزير الثقافة الأردني: مصر منارة وإشعاع ثقافي وحضاري للعالم وعلاقاتنا معها «تاريخية»

بالتعاون مع الأوقاف.. قصور الثقافة بالغربية تستعرض حقوق المرأة في الإسلام

مقالات مشابهة

  • الجمعة.. ندوة لمناقشة كتاب "إحياء الحب" بجزويت الإسكندرية
  • إدغار آلان بو.. سيد الغموض أسرار وفاته حيرت العالم ما القصة؟
  • الهيئة السعودية المحامين تعلن بدء سريان اللائحة التنفيذية الجديدة لنظام المحاماة
  • شريك هيئة الأدب بتبوك يستعرض تاريخ الرواية في الأدب الإنجليزي
  • اليوم.. «ذاكرة وطن» يحتفل بذكرى ميلاد يحيى حقي ببيت السحيمي
  • ماذا نعلم عن اللاعب الجزائري محمد عمورة الذي برز بقوة أمام بايرن ميونخ؟
  • صلوات وأكل وشاى ورقص.. وأشياء أخرى
  • سلفاكير يحث مواطني دولة الجنوب على ضبط النفس وعدم الإنتقام من السودانيين
  • ثقافة الإسماعيلية تحتفي بالشاعر مازن المصري
  • هيئة محامي دارفور تستنكر أحداث كبكابية و تطالب بضبط النفس