أربعة دروس يمكن تعلمها من التضخم المفرط في فرنسا الثورية
تاريخ النشر: 27th, September 2023 GMT
قبل أكثر من 200 سنة فائتة، كانت "الثورة الفرنسية" هي الحدث الأكبر ⑴ الذي ألهم كثيرا من المجتمعات لمحاربة الاستبداد والسعي نحو "الحرية والإخاء والمساواة". واليوم يعود إليها بعض الباحثين والمؤرخين لمزيد من الدراسة، عن ذلك يشير الفرنسي لويس روانيت، وهو أستاذ مساعد في جامعة تكساس الأميركية متخصص التاريخ الاقتصادي، إلى أن فرنسا شهدت أول تضخم مفرط في العصر الحديث، وهو أمر من الممكن أن نستخلص منه دروسا مهمة فيما يخص التضخم الاقتصادي في عصرنا الحالي.
روانيت هو المؤلف الرئيسي لدراسة حديثة نُشرت في عدد أغسطس/آب 2023 من مجلة "المراجعة الاقتصادية الأوروبية"، تحت عنوان "الأسينات أو الموت: سياسات وديناميكيات التضخم في فرنسا الثورية" ⑵، وهي الدراسة التي تقدم مفهوما جديدا لفهم ظاهرة "التضخم المفرط" والسياسات التي اقترنت بها.
حيلة طباعة النقود الورقيةكانت الحكومات ⑶ التي لا تستطيع تغطية نفقاتها، وفي الوقت ذاته لا تستطيع الاستمرار في فرض ضرائب جديدة على رعاياها، عادة ما تلجأ إلى حيلة بسيطة لتمويل نفقاتها المتزايدة وهي طباعة النقود الورقية، وهو السيناريو الذي طبقته الحكومة الفرنسية في تسعينيات القرن الثامن عشر؛ لتغطية العجز المالي الحكومي غير المستدام.
كان الكونت أونوريه ميرابو رجلا ثوريا وواحدا من أبرز رجال الجمعية الوطنية الفرنسية. (مواقع التواصل)في أعقاب الثورة الفرنسية، أعلنت فرنسا الحرب على مملكة هابسبورغ النمساوية، نتيجة لذلك كانت هناك حاجة إلى الأموال لدعم الحرب من ناحية، وإصلاح الأضرار المالية الناجمة عن القتال المستمر مع إنجلترا من ناحية أخرى، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1789، سيقترح الكونت أونوريه ميرابو إصدار ورقة نقدية جديدة بضمان الممتلكات والعقارات التي صادرتها الحكومة الثورية من الكنيسة والنبلاء، واعتبر ذلك حلا لجميع الصعوبات المالية التي تواجهها الحكومة.
كان الكونت رجلا ثوريا وواحدا من أبرز رجال الجمعية الوطنية الفرنسية، وكانت النتيجة أن قررت الجمعية ⑷ طباعة عملة ورقية، على أمل أن يوفر هذا الإجراء لعامة الناس قدرة أكبر على الوصول إلى المال وبالتالي تنمية الاقتصاد؛ ومن هنا ظهرت الأسينات (assignat) عملة فرنسا الثورية.
أتى المؤرخ ول ديورانت على ذكر هذه العملة النقدية الورقية في موسوعته "قصة الحضارة" في الكتاب المعنون "عصر نابليون: تاريخ الحضارة الأوروبية من 1789 إلى 1815" ⑸، قائلا إن الفلاحين كان بإمكانهم دفع الضرائب من خلال عملة الأسينات وفق القيمة المكتوبة عليها، لكن المنتجات كانت تُباع بأسينات مضاعفة مئة مرة، وذلك حتى يضمن البائع أن قيمة العملة مكافئة لقيمة المنتج.،ومن هنا بإمكاننا أن نتعرف على المشكلة الرئيسية التي أحاطت بتلك العملة.
يقول ديورانت في كتابه إن الفلاحين كان بإمكانهم دفع الضرائب من خلال عملة الأسينات وفق القيمة المكتوبة عليها، إلا أن المنتجات كانت تباع بأسينات مضاعفة مائة مرة، وذلك حتى يضمن البائع أن قيمة العملة مكافئة لقيمة المنتج. (مواقع التواصل)في ذلك الوقت، كان التحول من العملات المعدنية إلى العملات الورقية يشبه إلى حدٍّ كبير التحول الذي نعيشه اليوم بعدما أصبح بإمكاننا استخدام بطاقات الدفع والحسابات الإلكترونية لإدارة المدفوعات المالية الخاصة بالشراء والبيع ودفع الفواتير بدلا من استخدام النقود. ففي القرن الثامن عشر كانت العملات المعدنية المصنوعة من الذهب والفضة ذات قيمة تتجاوز استخدامها بوصفها وسيلة للتبادل، وبالتالي لم تتضخم بالطريقة التي تضخمت بها الأوراق النقدية؛ أدى ظهور العملات الورقية إلى تغير شيء أساسي في الطريقة التي رأى بها الأوروبيون المال، فقد كانت الأجيال الأكبر سنا متشككة في قيمة النقود الورقية ورفض معظم التجار قبولها، والحقيقة أن العملات الورقية لم تصبح جاذبة وذات قيمة إلا في القرن التاسع عشر.
كان التصور الأول لتلك العملة أن يجري تداولها أولا في الإنفاق على الأشغال العامة والنفقات الحكومية، كما أنها كانت قابلة للاسترداد بقيمتها الاسمية خلال عملية شراء الممتلكات المصادرة، وقد بدا هذا التحول ناجحا في البداية، لكن الكمية الكبيرة من الأسينات التي جرى تداولها في الأسواق تسببت في ارتفاع أسعار السلع بسرعة كبيرة لدرجة أن الحبر اللازم لطباعة الأوراق النقدية سرعان ما أصبح يكلف أكثر من قيمة العملة الورقية نفسها.
دور التوقعات في تشكيل السياسة النقدية النقود الورقية المستخدمة خلال الثورة الفرنسية، وغيرها من النقود الورقية، 1790، فرنسا. (غيتي)يُعد الاقتصاد السياسي للثورة الفرنسية مثالا مأساويا على الكيفية التي حدث بها التضخم المفرط. فقد جرى استخدام الأراضي المصادرة من النبلاء الذين فروا من فرنسا بوصفها ضمانا وهميا وراء مليارات من الأسينات الورقية. في أبريل/نيسان 1790، طرحت الجمعية الوطنية الثورية 400 مليون من العملة الورقية الجديدة للتداول، أي ما يعادل (80 مليون دولار)، وبسبب نقص الأموال، أصدرت الحكومة 800 مليون أخرى في نهاية الصيف.
يتتبع سيمور هاريس، في دراسته "الأسينات" ⑹ الصادرة عام 1930 مسار انخفاض قيمة هذه العملة. وقد وجد أنه بحلول أواخر 1791، تم تداول 1.8 مليار من الأسينات، وانخفضت قوتها الشرائية بنسبة 14%، وفي أغسطس/آب 1793، ارتفع معدل تداول الأسينات إلى ما يقرب من 4.9 مليارات، وانخفضت قيمتها بنسبة 60%. وفي نوفمبر/تشرين الثاني من عام 1795، بلغ عدد الأسينات المتداولة 19.7 مليارا، وفي الوقت ذاته انخفضت قوتها الشرائية بنسبة 99% نسبة إلى قوتها حين إصدارها أول مرة، مما يعني أنه في غضون خمس سنوات، أصبحت قيمة أموال فرنسا الثورية أقل من قيمة الورق الذي طُبعت عليه.
في الدراسة الأخيرة قام لويس روانيت وفريقه بمراجعة العديد من المصادر والدراسات التي تناولت موضوع "التضخم والثورة الفرنسية" وتراوح تاريخ نشرها بين 1795-2023. وقد وجدوا أن العديد من المصادر استخدمت حالة الاقتصاد السياسي للثورة الفرنسية لتوضيح كيف يمكن أن يؤدي توقع التضخم المستقبلي إلى تضخم فعلي في الوقت المعاصر؛ بمعنى أن التوقعات المُسبقة عن التضخم عملت على التقليل من قيمة العملة قبل أن تسوء الأمور. ليس ذلك فقط، بل كلما زادت تلك التوقعات سيؤدي ذلك إلى سرعة تطور التضخم، وسيساهم بشكلٍ أكبر في التسريع من خفض القيمة الشرائية للعملة.
في حالة "الأسينات" مثلا، ساهم توقع التضخم في التداول الهائل لتلك العملة، وقد تزامن الطلب على النقود ⑺ مع انخفاض قيمتها الشرائية، الأمر الذي دفع بعض الباحثين إلى تطبيق "نموذج كاجان" ⑻ على حالة عملة فرنسا الثورية، وهو نموذج رياضي من نماذج التضخم اقتُرح عام 1956، ويقيس الطلب على النقود وفقا إلى التوقعات التضخمية. ويصف هذا النموذج حالة التضخم المفرط، حين تبدأ توقعات التضخم في التحكم بالأمور وتحديد كل شيء في الاقتصاد؛ بمعنى أنه إذا كانت توقعات التضخم منخفضة يقل الطلب على النقود، أما في حالة زيادة التوقعات التضخمية يزيد الطلب على النقود مما يؤدي إلى تضخم مفرط يصعب السيطرة عليه. رغم ذلك، يرى بعض الخبراء الاقتصاديين أن "نموذج كاجان" لا ينطبق إلا على السنوات الأخيرة من عمر "الأسينات" وليس مجمل وجودها بوصفها عُملة.
إذا كانت توقعات التضخم منخفضة يقل الطلب على النقود، أما في حالة زيادة التوقعات التضخمية يزيد الطلب على النقود مما يؤدي إلى تضخم مفرط يصعب السيطرة عليه. (شترستوك) تأثير عدم الاستقرار السياسيلفهم الحالة العامة التي قادت إلى "التضخم المفرط" في فرنسا الثورية؛ علينا أن نعرف أولا كيف كان الوضع السياسي قبيل وبعد الثورة. بدأت الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر عام 1789، عندما تحول السخط الشعبي إلى ثورة أطاحت بالنظام الإقطاعي، وهو نظام حكم هرمي وضع الملك في قمة الهرم والنبلاء ورجال الدين في المرتبة الثانية، أما الفلاحين فقد احتلوا الطبقة الدنيا، باعتبارهم جزءا من العوام جنبا إلى جنب العمال والخبازين والحرفيين، وقد أطلق عليهم لفظة "الشعب"، وهي الطبقة التي قادت حركات التمرد والإضرابات، حتى نتج عن هذا السخط الشعبي إعادة تشكيل الحكومة الفرنسية.
كان النظام الإقطاعي مجحفا بالأخص لحقوق الفلاحين، إذ كانوا ملزمين بدفع رسوم للسيد الإقطاعي نظير حيازتهم للأراضي، وكان هناك عقد ملزم لهم بالعمل لعدد من الأيام دون أجر (بالسخرة) لمساعدة السيد في زراعة أرضه وإصلاح الطرق في عزبته، كما فرضت عليهم رسوما عند استخدامهم تلك الطرق، ورسوما أخرى عند صيد الأسماك من المياه العذبة التابعة له وإذا رعوا أغنامهم في حقوله، وكانت تلك الرسوم تُجمع نقدا أو عينا، وكلما ارتفعت الأسعار نتيجة للتضخم الاقتصادي، كان المالك يعمد إلى استنزاف الفلاحين أكثر.
أما العمال فقد كان وضعهم لا يختلف كثيرا عن الفلاحين، فقد أدت اتفاقية تيسير التجارة التي عقدتها فرنسا مع بريطانيا العظمى عام 1786 إلى إغراق الأسواق الفرنسية بالمنتجات البريطانية رخيصة الثمن، وهو الأمر الذي نتج عنه فقدان آلاف العمال الفرنسيين لعملهم، ففي ليون فقد 25 ألف عامل عمله، وفي إميان 46 ألفا، و80 ألفا في باريس، الأمر الذي أدى إلى اضطراب وضع العمال وساعد في تمردهم، فكانوا هم القوة المسلحة التي خرجت إلى شوارع فرنسا لإسقاط حصن الباستيل عام 1789، الذي كان رمزا للسلطة والحكم المطلق، وسجنا يجمع كل مَن يلحق بهم غضب الملك أو النبلاء.
كان هناك أمر آخر عجَّل بنشوب الثورة وهو العجز الحكومي غير المستدام، فقد كانت فرنسا على وشك الإفلاس، وهو ما أتى المؤرخ ول ديورانت على ذكره بين إرهاصات الثورة الفرنسية في كتابه "عصر نابليون"، قائلا إنه قبيل الثورة عمل إصدار العملات الورقية بشكلٍ متكرر على ارتفاع الأسعار في أنحاء أوروبا كلها، وقد ارتفعت الأسعار في فرنسا بين عامي 1741-1789 بمقدار 65%، في حين لم ترتفع الأجور إلا بمقدار 22%، وكان هناك 100 ألف أسرة باريسية مدرجة في القوائم عام 1791 باعتبارها في حالة عوز، كما مُنع إنشاء اتحادات العمال ذات الأهداف الاقتصادية، وهو الوضع الذي تتالت بسببه الإضرابات.
هذه الأحداث كانت الوقود الذي أشعل فتيل الثورة، لكن الوضع الاقتصادي لم يتغير في رمقة عين بمجرد حدوثها، إذ أضيف إلى ذلك عبء الحرب على مملكة هابسبورغ النمساوية الذي أشرنا إليه، وبالتالي مهدت حالة عدم التوازن السياسي هذه الطريق إلى "التضخم المفرط".
في دراسة روانيت، جرى تسليط الضوء على تأثير عدم التوازن السياسي في الطلب الجماهيري على النقود، وفي ذلك الوقت كانت حركة اليعاقبة من الداعمين الأساسيين للأسينات، وهي حركة سياسية تشكلت إبان الثورة الفرنسية وأطلقت على نفسها "نادي اليعاقبة" ⑼ نسبة إلى دير الآباء اليعاقبة الذي كان يشهد اجتماعاتهم، لكنها أصبحت مع الوقت أحد أبرز المراكز القيادية في فرنسا الثورية، حتى إن رجالها سيطروا على (لجنة الخلاص العام)، وهي لجنة تأسست عام 1793 ومارس رجالها حكما مطلقا في فرنسا.
لكن قوة اليعاقبة بدأت في الانحسار منذ (انقلاب ترميدور) في يوليو/تموز 1794 الذي كان انقلابا بالأساس ضد قادة اليعاقبة ولجنة الخلاص العام. وبما أن حركة اليعاقبة كانت من الداعمين الأساسيين للأسينات، أدى ضعفها إلى انهيار العملة الثورية. لهذا السبب حدد الباحثون فترتين يعتبرونهما حاسمتين في تاريخ الأسينات وهما شهرا يونيو/حزيران ونوفمبر/تشرين الثاني من عام 1795، وهي الفترة التي تزامنت مع ضعف حركة اليعاقبة؛ إذ أدى ذلك إلى ضعف الدعم السياسي للعملة الوليدة، ومع نشأة نظام سياسي جديد في نوفمبر/تشرين الثاني 1795 كانت النتيجة سحب الأسينات من التداول نهاية المطاف.
بالأساس، كانت الحكومة الثورية قد دعمت الأسينات من خلال الممتلكات التي صادرتها من رجال الدين والنبلاء، وكان بالإمكان استخدام الأسينات لشراء تلك الممتلكات من المزادات التي عُقدت حينذاك، وهي الطريقة التي استخدمتها الحكومة الثورية لسحب العملة من الأسواق، وبالتالي كانت الأسينات نوعا من الأصول والأموال المدعومة. ومع ذلك، عمل ربط الأسينات بتصفية الممتلكات المصادرة على وضع حد لمسار النمو المستقبلي لهذه العملة الثورية، وفقا للباحثين، وبالتالي تحكم في الطلب الجماهيري عليها.
عبء "التضخم" يقع على الأكثر فقرا أدت التوقعات المُسبقة للتضخم المستقبلي إلى أن يقوم المضاربون والتجار بتخزين السلع الأساسية واحتكارها، وبالتالي أصبحت أكثر ندرة، مما أدى إلى انتشار الاضطرابات وأعمال الشغب في باريس. (مواقع التواصل)في فرنسا الثورية، وفي خضم هذه الظروف الصعبة، كان بوسع الممولين والتجار والمضاربين في السلع الأساسية حماية أنفسهم، إذ جمعوا الذهب والفضة وأرسلوها إلى خارج البلاد لحفظ ثرواتهم، كما استثمروا في المجوهرات الثمينة وقد مكنتهم الخبرة في المضاربة من البقاء في الصدارة أثناء التضخم والاستفادة من تقلبات العملة. أما الطبقة العاملة والفقراء فقد انتهى بهم الحال مع مليارات الأسينات الفارغة من القيمة الشرائية.
أدت التوقعات المُسبقة للتضخم المستقبلي إلى أن يقوم المضاربون والتجار بتخزين السلع الأساسية واحتكارها، وبالتالي أصبحت أكثر ندرة، مما أدى إلى انتشار الاضطرابات وأعمال الشغب في باريس. وفي الفترة من 24 إلى 26 فبراير/شباط 1793، تسبب انخفاض القيمة الشرائية لعملة الأسينات في المجاعة وأدى إلى ارتفاع أسعار الحبوب، فنهبت المخازن وهاجم الغوغاء أكثر من 200 متجر في باريس، ونهبوا كل شيء فيها من الخبز والقهوة إلى السكر والملابس.
حينذاك، لم يشعر أحد من العامة بأي ثقة في المستقبل، وفقد الجمهور ثقته في الحكومة الثورية بعدما أعلنت أكثر من مرة عن سحب "الأسينات" من التداول، دون أن يحدث ذلك فعليا على أرض الواقع، مما نتج عنه تعدد العرائض التي طالب أصحابها بحفظ قيمة ورق النقد، وجعل تداوله إجباريا، وتوقيع عقوبة الإعدام على المحتكرين.
____________________________________
المصادر:
What the French Revolution can teach us about inflation? Assignats or death: The politics and dynamics of hyperinflation in revolutionary France Inflation, Price Controls, and Collectivism During the French Revolution Understanding Hyperinflation, From Revolutionary France to Zimbabwe عصر نابليون، تاريخ الحضارة الأوروبية من 1789 إلى 1815 The Assignats The demand for money in developing countries: Assessing the role of financial innovation The Role of Assignats During the French Revolution: An Evil or a Rescuer? الصراع بين البورجوازية والإقطاع ١٧٨٩–١٨٤٨م (المجلد الأول)المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الثورة الفرنسیة تشرین الثانی قیمة العملة فی باریس أکثر من فی حالة أدى إلى
إقرأ أيضاً:
إعلام القوى الثورية مقابل إعلام الكيزان
صلاح شعيب
برغم القدرات التنظيمية للمؤتمر الوطني في توظيف الإعلام المضاد للقوى الثورية التي ساهمت في إسقاط مشروعه الإجرامي، إلا أنها لم تنجح تماماً في تشويه الحقائق بعد الحرب. فالفرق الوحيد بين إعلام المنادين للحرب واستمرارها وبين الرافضين لها هو المال فقط. فما نهبه المؤتمر الوطني من أموال الدولة طوال ثلاثة عقود توظف الآن عبر فضائيات، ومنصات في وسائل التواصل الاجتماعي، ومنظمات متخصصة في “الآي تي” لاختراق منصات المعارضين، وتنظيم حملات مؤسسة لشكاوى كاذبة ترسل يومياً لإدارة هذه المنصات ضد نشطاء ينادون بإيقاف الحرب.
هذا المال المنهوب من القطاعين العام والخاص أثناء سيطرة المؤتمر الوطني على الدولة وُظف بنسبة كبيرة في دعم تلك الفضائيات، والصحف، والمشاريع الإعلامية، ومنابر أخرى، ورشاوى لسياسيين من أجل تغييب الحقائق عن المواطنين. وأكبر دليل على ذلك ما قاله البشير عن قناة الشيخ عبد الحي التي دعمها بخمسة مليون دولار. والحقيقة أننا لا ندري ما إذا كان الأمر قد توقف عند هذا الحد أم أن عبد الحي قبض لاحقاً أموالاً أخرى تخص الدولة. بل ولا ندري هل عادت قناة طيبة للبث من خارج الحدود عبر ميزانية جديدة من مال الدولة المنهوب، أم أن الداعية الديني صار مليونيراً ليصرف على قناته بكل هذا السخاء.
ولأن كل القوى السياسي التي عارضت مشروع الحركة الإسلامية ليس لديها القدرات المالية الضخمة مثل المؤتمر الوطني، فقد عجزت عن إنشاء قناة فضائية واحدة أثناء فترة حمدوك. والآن تعتمد هذه القوى جميعها على وسائط التواصل الاجتماعي دون خطة إعلامية محددة لمواجهة دعاة استمرار الحرب الذين منهم متفرغون ليلاً ونهاراً للمهمة. إذ يبثون الأكاذيب عن الحرب، ويشوهون صورة الأحزاب المنضوية تحت لواء تنسيقية تقدم، ويزورون مواد النت بعشرات الآلاف من الأسماء المستترة.
بخلاف المال المنهوب لأغراض التدجيل، فإن المؤتمر الوطني يختلف عن بقية أحزابنا الوطنية الأخرى في أنه يعتمد على مرجعية إخوانية تبيح له تجاوز القيم، والأعراف الإنسانية، ومعاني الدين الضابطة للصدق حتى. ذلك إذا كان هذا الإجراء السياسي يخدم مصلحة الإخوان المسلمين الذين يعتمدون على البراغماتية، والتدليس، والغش بناءً على فقه الضرورة.
وبهذا النهج الشيطاني تمكنت الحركة الإسلامية قبل انشطارها في التفوق البراغماتي الانتهازي ما جعل البون شاسعاً بينها وبين منافسيها في استثمار الفرص السياسية. فهي قد اعتمدت على مناشط اقتصادية خاصة بها منذ فترة نميري، وبعد سيطرتها على الدولة ملكت الحركة الإسلامية وعضويتها آلاف الشركات في ظل الفساد الإداري الحكومي، واستغلاله وسيلةً لبناء حزب يدخر مليارات الدولارات، والتي تُسجل في البنوك بأسماء شخصيات إخوانية وانتهازية داخل السودان، وخارجه.
وبهذه الكيفية، فإن المؤتمر الوطني الذي فقد السلطة قبل ستة أعوام ما يزال يمول قناتي طيبة، والنيل الأزرق، وصحفاً إليكترونية، ونشاطاً إعلامياً منظماً من خلال منصات الإنترنت، وهناك غيرها من الوسائل المتبعة لتعويق حركة النشطاء المعارضين للحرب.
بغير المضمون التغبيشي للرأي العام عبر “عشرات اللايفات”، ومواد البودكاست، ومنصة “الكلوب هاوس”، وتطبيقات أخرى، فإن إستراتيجية المؤتمر الوطني الإعلامية اعتمدت ملاحقة رموز ثورة ديسمبر يومياً بشتائم تُوجه لأحزابهم، ولآبائهم، وسباب دائم لمواقفهم، وسخرية من أشكالهم حتى، واختلاق أكاذيب عن حيواتهم الشخصية. وهذا النهج مقصود لإفساد مناخ الرأي العام، وإجبار القادة السياسيين على الانزواء دون التعبير عن مواقفهم، وحتى لا تتعرض شخصياتهم المحترمة للحط من مكانتها الاجتماعية.
من ناحية أخرى اعتمد إعلام المؤتمر الوطني منذ بدء الحرب على استراتيجية “اكذب، اكذب، حتى يصدقك الناس”. وظل هذا الإعلام حتى يوم الناس هذا يخدر دعاة الحرب بانتصارات زائفة، بالإضافة إلى تحويل هزائم الجيش إلى نجاح في دحر مزعوم للدعم السريع. ومن ناحية أخرى اعتمد إعلاميو المؤتمر الوطني، وزملاؤهم الانتهازيون، والمغيبون من البسطاء في خلق ربط مستمر وماكر بين تنسيقية تقدم ومعظم المعارضين بخصمهم الذي يقاتل الجيش. ذلك رغم أن ادعاء هذا الرباط السياسي الكاذب لا يقوم على أساس منطقي، أو موضوعي. بل لا يستطيع أي محلل سياسي أمين أن يثبت ما يدعيه الكيزان، والبلابسة، بأن تقدم تمثل الجناح السياسي للدعم السريع. ولكن على كل حال فالكذبة التي جعلت زعيمهم يذهب للسجن حبيساً، والبشير للقصر رئيساً، هي بمثابة البذرة التي قننت الكذب الصراح وسيلة لكل التلاميذ بأن يستتبعوها بكذبات جديدة متى ما رأوا مصلحة للجماعة.
رغم المجهود الضخم لتلفيق الحقائق بهدف تقويض الثورة، والعودة إلى السلطة مجدداً، فإن إعلام المؤتمر الوطني مهزوم مهزوم إن آجلاً أم عاجلا. فالحق أبلج، والباطل لجلج، طال الأمد أم قصر.
الوسومصلاح شعيب