أولوية «احتواء الصين»... بين النوايا والوقائع
تاريخ النشر: 27th, September 2023 GMT
أولوية «احتواء الصين»... بين النوايا والوقائع
بينما تتّجه الأنظار نحو الشرق الأوكرانيّ، تتمدّد الصين غرباً نحو الشرق الأوسط.
من الأجدى بالنسبة إلى واشنطن تعديل سياساتها، وأن تأخذ في الحسبان الفرص الضعيفة جداً لنجاح أوكرانيا في اختراق الخطوط الدفاعية الروسية المحصّنة.
تحوُّل حرب أوكرانيا لحرب استنزاف مكلفة وممتدّة جدّد الشكوك بأوساط معتبَرة من النخب حول وجاهة سياسة بايدن حيالها، ودرجة اتّساقها مع أولوية احتواء الصين.
قد تؤدّي حرب أوكرانيا المديدة ومفاعيلها غير المنتظرة، لتورّط واستنزاف أميركي أكبر للقدرات والموارد، بدل تعبئتها وتركيزها في خضمّ المجابهة المركزية الصعبة مع الصين.
واشنطن لا تمتلك ترف المضيّ في صراع مديد في أوكرانيا على حساب معركة آتية مع الصين بالعقد الحالي. ما يحتم تصحيح الوجهة والاحتفاظ بموارد وقدرات ضرورية لهزيمة أيّ هجوم صينيّ.
* * *
لم تَعُد أولوية «احتواء الصين» والتصدّي لصعودها على المستوى الدولي في الأجندة الإستراتيجية للولايات المتحدة محطّ نقاش بين نخبها السياسية الرئيسية منذ مدة طويلة.
هذا النقاش بات متمحوراً حول مدى خضوع سياسات الإدارات المتعاقبة للأولوية المذكورة، أو حتى مدى انسجامها معها. أُخذ على إدارة دونالد ترامب، مثلاً، نتيجةً لتعاملها العدوانيّ والمتغطرس مع نظرائها الغربيين، إضعافها للتحالف العابر للأطلسي الذي لا بدّ منه لترجمة مثل هذه الأولويّة على أرض الواقع.
وعدّ البعض، وهم من أنصار إدارة جو بايدن، أن بين أبرز إنجازاتها، على خلفية الحرب في أوكرانيا أساساً، نجاحها في إحياء «حلف الناتو»، ما سيعزّز الموقع الدوليّ لواشنطن، ويمكّنها من خوض المواجهة مع بكين جنباً إلى جنبِ أبرز «الديموقراطيات المزدهرة».
غير أنّ التطوّرات الدولية في الآونة الأخيرة، وفي مقدّمتها تحوُّل النزاع في أوكرانيا إلى حرب استنزاف مكلفة وممتدّة إلى أجل غير منظور، جدّدت الشكوك في أوساط معتبَرة من هذه النخب حول وجاهة سياسة فريق بايدن حيالها، ودرجة اتّساقها مع أولوية احتواء الصين.
فبينما تتّجه الأنظار نحو الشرق الأوكرانيّ، حيث تحتدم المعارك في سياق هجوم مضادّ تشنّه قوات نظام كييف منذ الربيع الماضي، ولم يحقّق أهدافه الموعودة، تتمدّد الصين غرباً نحو الشرق الأوسط.
مراجعة التطوّرات في الأشهر الماضية، من زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى السعودية، ومشاركته في قِمم ثلاث، مروراً برعاية بكين الاتفاق الإيرانيّ - السعوديّ، وصولاً إلى زيارة الرئيس السوري، بشار الأسد، إلى العاصمة الصينية، وتوقيع البلدَين اتفاقية شراكة إستراتيجية، تؤكد جميعها حقيقة توسُّع نفوذ الصين وتأثيرها في هذه المنطقة.
وتشكّل هذه التطوّرات هاجساً لروبرت كابلان، أحد الخبراء الإستراتيجيين الأميركيين البارزين، إلى حدّ إطلاق البعض عليه تسمية «ماكيندر القرن 21»، الذي يرى، في كتابه الأخير «نول الزمن: الإمبراطورية والفوضى من المتوسط إلى الصين»، أنها مؤشرات إلى اتّجاه تاريخيّ معاكس لذلك الذي ساد منذ أواسط القرن 17:
«ربّما تكون الإمبراطوريات قد ماتت، لكن العقلية الإمبراطورية ما زالت حيّة، كما يُظهر مثال الصين في الشرق الأوسط. شركة الهند الشرقية البريطانية هي التي دشّنت في الماضي، مع بدايات العصور الحديثة، التقدّم من أوروبا عبر الشرق الأوسط نحو الصين، لكنّنا نشهد اليوم تقدّماً صينيّاً في الاتّجاه المعاكس غرباً، ولنفس الدوافع التجارية والإستراتيجية».
أصحاب المنظور التاريخيّ يدركون الأبعاد العميقة والتاريخية بالمعنى الحقيقي للكلمة للتحدّي الصيني بالنسبة إلى الهيمنة الغربية بمجملها، ويدعون إلى تعبئة الموارد والطاقات للتركيز على التصدّي له بشكل شبه حصريّ.
أحد هؤلاء، ألريدج كولبي، مساعد وزير الدفاع الأميركي في عهد ترامب بين عامَي 2017 و2018، ومؤسّس «مبادرة ماراتون» الهادفة إلى تشجيع المستوى السياسيّ في الولايات المتحدة على الإعداد لمرحلة استعار المنافسة الإستراتيجية بين القوى العظمى، أكد، في مقال له في مجلّة «تايم» بعنوان «كيف نستطيع مساعدة أوكرانيا مع إعطاء أولوية مركزية لآسيا»، أن على واشنطن الاستدارة مجدّداً وبسرعة نحو غرب المحيط الهادئ للتهيؤ لاحتمال متزايد لنزاع مع الصين.
وللتذكير، فإن لكولبي كتاب مهمّ صدر في عام 2021، بعنوان «إستراتيجية الإنكار: الدفاع الأميركي في عصر صراع القوى العظمى»، يتمحور حول السبل «الأنجع والأكثر هجومية» لاحتواء تعاظم نفوذ بكين.
وبالعودة إلى مقال «تايم»، يعتقد الخبير الأميركي أنّ واشنطن لا تمتلك ترف المضيّ في التورّط في صراع مديد في أوكرانيا على حساب ما يظنّه معركة آتية مع بكين في العقد الحالي. هو يحضّ على «تصحيح الوجهة والاحتفاظ بالموارد والقدرات الضرورية لهزيمة أيّ هجوم صينيّ ضدّ خط الجزر الأول.
يتضمّن ذلك أسلحة هجومية، مثل: هايمرس وأتاكمس والمسيّرات التكتيكية، والمنظومات الدفاعية، مثل: باتريوت وهاربونز وستينغر وجافلين التي يحتاجها المدافعون التايوانيون والأميركيون لصدّ القوات الغازية.
يتضمّن ذلك أيضاً وسائل أخرى غير السلاح، كالمال والرأسمال السياسي والمصادر الاستخبارية والقاعدة الصناعية العسكرية». وعلى الأوروبيين، وفقاً لكولبي، تحمُّل القدر الأكبر من عبء مساندة أوكرانيا، مع تقديم الولايات المتحدة منح أسلحة وتجهيزات لن تحتاجها في حربها المحتملة في المحيط الهادئ كالمدافع والمدرعات والأسلحة الخفيفة وأجيال سابقة من المقاتلات، إضافة إلى المساعدات الاستخبارية.
بكلام آخر، وبمعزل عن حرص كولبي عن عدم الظهور بمظهر مَن يدعو إلى التخلّي عن الحلفاء الأوكرانيين، فإن جوهر ما يقوله هو أن المواجهة المصيرية بالنسبة إلى مستقبل بلاده، ليست في أوكرانيا.
أما دانييل ديفيز، الكولونيل السابق في الجيش الأميركيّ، والباحث الرئيس في «مركز الأولويات الدفاعية»، فقد أوضح، في مقال نشر على موقع مجلّة «نيوزويك» بعنوان «حان الوقت لقول الحقيقة حول الحرب في أوكرانيا وتصحيح المسار»، أنه «من الأجدى بالنسبة إلى واشنطن تعديل سياساتها، وأن تأخذ في الحسبان الفرص الضعيفة جداً لنجاح أوكرانيا في اختراق الخطوط الدفاعية الروسية المحصّنة.
لقد أنفق الأميركيّون ما يوازي 113 مليار دولار على هذه الحرب وجهّزوا أوكرانيا بكمّ مهول من الأسلحة الحديثة والذخائر، وقاموا بتدريب أعداد ضخمة من الجنود والضباط، وأمّنوا الدعم الاستخباري. وبعد حوالى سنة من الإعداد، بالكاد أثّر ذلك في خطوط الدفاع الروسية». ينصح دافيس، في خاتمة مقاله، بالبحث عن طرق ديبلوماسية وسياسية لوقف الحرب.
يخشى أنصار هذه الآراء من أن تؤدّي الحرب المديدة في أوكرانيا ومفاعيلها، بخاصّة تلك غير المنتظرة، إلى تورّط أميركي أكبر، واستنزاف أكبر للقدرات والموارد، بما في ذلك الموارد الذهنية، بدلاً من تعبئتها وتركيزها في خضمّ المجابهة المركزية وبالغة الصعوبة والشاملة مع الصين.
صحيح أن مجمل السياسات التي اعتمدتها إدارة بايدن في السنوات الماضية، من إقامة الأحلاف في منطقة آسيا - المحيط الهادئ إلى إعادة التوطين لمصانع أشباه المواصلات في أميركا، مروراً بمجمل حركتها السياسية والديبلوماسية في الشرق الأوسط، كدفعها المحموم من أجل تطبيع سعوديّ إسرائيليّ، كانت جميعها محكومة أساساً بأولوية احتواء دور الصين الصاعد.
لكنّ البعض في واشنطن مقتنع بأن ما أُنجز إلى الآن في هذا المضمار غير كافٍ، وبأن المطلوب هو التفرّغ تماماً لهذه المهمّة الشاقة وغير مضمونة النتائج.
*د. وليد شرارة كاتب وباحث في العلاقات الدولية
المصدر | الأخبارالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الصين أميركا احتواء الصين تايوان حرب أوكرانيا حرب استنزاف احتواء الصین الشرق الأوسط بالنسبة إلى فی أوکرانیا نحو الشرق مع الصین
إقرأ أيضاً:
ترامب يخطط لطرد المتحولين جنسيا من الجيش الأميركي
من المتوقع أن يوقع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب على أمر تنفيذي يقضي بتسريح الجنود المتحولين جنسيا في الجيش وذلك في وقت مبكر من ولايته الجديدة.
وذكرت تقارير أن الرئيس المنتخب يستعد لإصدار أمر تنفيذي بهذا الصدد بعد تنصيبه في 20 يناير/كانون الثاني 2025، وهو ما من شأنه أن يحظر فعليا خدمة الأشخاص المتحولين جنسيا في الجيش ويؤدي للاستغناء عن الآلاف منهم.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2نيويورك تايمز: إدارة ترامب تظهر الوحدة وتضمر تعدد الأيديولوجيات والتوجهاتlist 2 of 2لوبوان: هل يجب أن نأخذ تهديدات بوتين النووية على محمل الجد؟end of listوكان ترامب، في ولايته الأولى قد أعلن أن الولايات المتحدة لن "تقبل أو تسمح" بعد الآن للأشخاص المتحولين جنسيا بالخدمة في الجيش، مشيرا إلى "التكاليف الطبية الهائلة والاضطرابات"، كما كتب في عام 2017، ودخل ذلك الحظر حيز التنفيذ في عام 2019.
وذكرت صحيفة تايمز البريطانية أن ترامب قد يوقع في وقت مبكر من أول يوم له في البيت الأبيض، على ذلك مما قد يجبر 15 ألف شخص على ترك مناصبهم.
وأوضحت الصحيفة -في تقرير بقلم أليستير داوبر من واشنطن- أنه سيتم بموجب هذا الأمر التنفيذي تسريح المتحولين جنسيا على أنهم غير لائقين طبيا للخدمة.
وسيؤدي هذا كذلك إلى حظر انضمام المتحولين جنسيا إلى الجيش في المستقبل، وذلك في وقت لم تستطع فيه جميع فروع القوات المسلحة الأميركية تقريبا تلبية أهداف التجنيد المطلوبة.
وقال ترامب (78 عاما) إن بعض الضباط رفيعي المستوى غالبا ما يكونون أكثر اهتماما بالتنوع والمساواة والدمج من التخطيط للقتال، ولذلك يتوقع أن يكون الحظر أوسع نطاقا من أمر مماثل ألغاه الرئيس الحالي جو بايدن، منع ترامب بموجبه الأشخاص المتحولين جنسيا من الانضمام إلى القوات المسلحة، ولكنه ترك من هم في الخدمة في وظائفهم.
وتحول سياسات الخصوصية -حسب البنتاغون- دون قياس عدد الأشخاص المتحولين جنسيا في الخدمة بدقة، ولكنه تم تشخيص حوالي 2200 منهم باضطراب الهوية الجنسية عام 2021، عندما تم رفع حظر ترامب الأول، ويُعتقد أن هناك آلافا آخرين معنيون بهذا الأمر.
أزمة تجنيد أكبرولفتت تايمز إلى أن الجمعيات الخيرية العسكرية التي حاربت حظر المتحولين جنسيا أثناء ولاية ترامب الأولى على دراية بخططه لاتخاذ خطوة مماثلة.
ونقلت عن راشيل برانامان، المديرة التنفيذية لمؤسسة تطلق على نفسها "الرابطة العسكرية الحديثة في أميركا"، قولها: "إذا تم تنفيذ حظر المتحولين جنسيا منذ اليوم الأول لإدارة ترامب، فسيؤدي ذلك إلى تقويض استعداد الجيش وخلق أزمة تجنيد أكبر، ناهيك عن الإشارة إلى الضعف أمام أعداء أميركا".
برانامان: إذا تم تنفيذ حظر المتحولين جنسيا منذ اليوم الأول لإدارة ترامب، فسيؤدي ذلك إلى تقويض استعداد الجيش وخلق أزمة تجنيد كبرى، فضلا عن الإشارة إلى الضعف أمام أعداء أميركا
وأوضحت راشيل برانامان أن "تسريح أكثر من 15 ألف عضو في الخدمة بشكل مفاجئ، خاصة أن أهداف التجنيد العسكرية لم تصل إلى المستوى المطلوب بواقع 41 ألف مجند في العام الماضي، يضيف أعباء إلى وحدات القتال الحربي، ويضر بتماسك الوحدة، ويزيد من تفاقم فجوات المهارات الحرجة، وستكون هناك تكلفة مالية كبيرة، فضلا عن فقدان الخبرة والقيادة".
وقد انتقد مرشح ترامب بيت هيجسيث (44 عاما) لوزارة للدفاع علنا القيادة "الضعيفة" و"الأنثوية" في الجيش، وأكد أن "القائد الأعلى القادم سيحتاج إلى تنظيف المنزل"، وأشار إلى أن الرعاية الطبية للأفراد المتحولين جنسيا إسراف لا يستطيع البنتاغون تحمله، مضيفا أن التركيز على القضايا التي تؤثر على عدد صغير من الأشخاص في الجيش مثال على "جنون المتحولين جنسيا".
وقال ضابط صف في القوات الجوية الأميركية، فضل عدم ذكر اسمه، إن "هناك عددا قليلا جدا ممن لديهم مثل خبرتي في مجالي العملي، وسيكون من الصعب استبدال مستوى الخبرة التي أحملها"، وقال باولو باتيستا، وهو محلل متحول جنسيا في البحرية، إن الحظر لن يضع نهاية مبكرة لمسيرته المهنية فحسب، بل سيؤدي أيضا إلى اضطرابات في جميع أنحاء القوات.
ورفض باتيستا حجة قدمها المعارضون لخدمة الأشخاص المتحولين جنسيا في الجيش، وهي أن البنتاغون عليه تغطية التكاليف المتصاعدة لعلاج اضطراب الهوية الجنسية، وقال إنه "لا يتم إنفاق أي أموال، إنها مجرد رعاية مستمرة. وإن طرد 15 ألفا سيؤثر على الأسطول بأكمله".