asmaalhusainy@hotmail.com
استبق قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) زيارة القائد العام للجيش السوداني ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لنيويورك وخطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتوجيه خطاب مصور للمجتمع الدولي أبدى فيه استعداده لوقف إطلاق النار والدخول في محادثات سياسية شاملة، في محاولة لإظهار نفسه كمدافع عن السلام والتهدئة، وربما للضغط على خصمه البرهان وإحراجه أو التشويش على مواقفه وتحركاته التي بدأها الأخير منذ خروجه من حصار الحرب في الخرطوم بعد قرابة خمسة أشهر من القتال الذي بدأ في 15 أبريل الماضي.
بينما سعى البرهان في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة لتبرئة الجيش من الانتهاكات التي ارتكبت خلال الصراع الدامي المدمر الوحشي الذي راح ضحيته حتى الآن وفقا للتقديرات الرسمية حوالي 5 آلاف قتيل، وتشرد بسببه أكثر من سبعة ملايين ما بين نازحين داخل السودان ولاجئين في دول الجوار.
ودعا قائد القوات المسلحة السودانية في كلمته المجتمع الدولي إلى تصنيف قوات الدعم السريع منظمة إرهابية والتعامل الحاسم معها، ومنع المرتزقة والأطراف التي تزودها بالسلاح والدعم، وهو ما بدا مرضيا لأنصار البرهان، مخيبا لآمال قوى سياسية أخرى وقطاعات واسعة من الشعب السوداني، كانوا يأملون في خطوة أكثر أهمية نحو السلام وإنهاء المعاناة والموت والخراب والدمار الذي يعاني منه السودان، لكن سرعان ما طرأ تغيرا ملحوظا في لغة البرهان خلال الأحاديث التليفزيونية التي أدلي بها لعدد من القنوات التليفزيونية العربية والدولية في نيويورك، حيث أعرب عن استعداد للدخول في مفاوضات مع قائد قوات الدعم السريع والقبول بالحلول السلمية.
ويثير هذا التحول تساؤلات حول أسبابه، وحجم الضغوط الدولية والإقليمية، والمواقف الحقيقية للأطراف المتصارعة، وهل الانفتاح الذي أبداه البرهان وحميدتي على التفاوض هو موقف مبدئي أم تكتيكات ومناورات، وما إذا كانت رسائل الاستعداد للتفاوض تعني نهاية وشيكة لهذه الحرب أم شكل من أشكال الخداع يهدف إلى تضليل وإيهام المجتمع الدولي والمنطقة والشعب السوداني بشأن نواياهم وخططهم الحقيقية، ومحاولة إلقاء اللوم على المعسكر الآخر في المسئولية عن استمرار الحرب.
وعلى الرغم من خطابات السلام هذه، فإن الواقع على الأرض يروي قصصا مختلفة، حيث يثير احتدام المعارك التساؤلات بشأن ما إذا كانت تلك التصريحات مؤشرا لتوسيع الصراع واستراتيجية لإطالة أمده مقدمة أم بداية للتوجه إلى تفاوض تؤكد العديد من التكهنات أنه ربما يتم استئنافه قريبا.
وتسلط مؤشرات مختلفة الضوء على الضغوط الدولية العديدة من أجل وقف الحرب وعودة الطرفين المتقاتلين إلى طاولة المفاوضات، وقد تجلى ذلك في كلمات وتصريحات عدد من زعماء خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذلك في العديد من الأنشطة التي جرت في مقر الأمم المتحدة على هامش الجمعية العامة.
وكان من بين الأحداث المهمة الاجتماع الوزاري رفيع المستوى الذي شاركت في تنظيمه نظمته الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، وحضرته السعودية ومصر وقطر تحت عنوان "تكلفة التقاعس في السودان".
وأكد المسئولون الدوليون المشاركون في الاجتماع عن اعتقادهم بأنه لا الجيش السوداني ولا قوات الدعم السريع قريبة من تحقيق النصر، وأنهما يواصلان الانخراط في قتال وحشي أدى إلى أعمال عنف واسعة، وأن الصراع في السودان يتفاقم بسبب تدفق المقاتلين والأسلحة والذخيرة، مما يهدد بإغراق المنطقة في صراع أوسع، وحذروا من التكاليف الباهظة إذا فشل المجتمع الدولي في اتخاذ خطوات أكثر حسما لوقف القتال وتمهيد الطريق لحل سياسي، وشددوا على أهمية العودة إلى منبر جدة لإرساء وقف حقيقي ومستدام لإطلاق النار، وأضافوا أن تحقيق ذلك يتطلب عزيمة سياسية وآليات مراقبة وتحقق قوية، والقدرة على محاسبة الأطراف المتحاربة على أفعالها.
وعقد لقاء مهم بين البرهان وكريم خان المدعي العام للمحكمة الجنائية ، وعقب الاجتماع أوضح خان أنه أبلغ البرهان أن تحقيقات الجنائية الدولية بشأن الجرائم المرتكبة في السودان ستشمل جميع الأطراف دون استثناء، بما في ذلك القائد العام للجيش.
وفي تحرك لافت، احتج رئيس الوزراء السوداني المستقيل الدكتور عبد الله حمدوك على دعوة الأمم المتحدة للبرهان للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة، معتبرا أن دعوته ترسل إشارات خطيرة للغاية ومشجعة للانقلابات العسكرية في القارة الأفريقية، وتسهم في إطالة أمد الحرب الجارية في السودان، ووقع على الرسالة ثلاثة من أعضاء مجلس السيادة هم محمد حسن التعايشي ومحمد الفكي سليمان والطاهر حجر، كما وقع عليها وزراء بارزون في حكومة حمدوك أبرزهم وزير شئون مجلس الوزراء خالد عمر يوسف.
واعتبرت الرسالة أن دعوة البرهان تتناقض مع المواقف الدولية الرافضة للانقلاب الذي أوقف به البرهان عملية التحول الديمقراطي في 25 أبريل 2021، والذي أدى لحدوث انهيار دستوري كلي في السودان، وترتب عليه حكومة أمر واقع، انهارت هي الأخرى باندلاع الحرب في 15 أبريل الماضي التي كانت نتيجة مباشرة للانقلاب على الحكومة المدنية.
وفي الوقت نفسه، يحشد الجانبان ويسعيان للحصول على الدعم داخل السودان، وما يثير القلق أن هذه الجهود تجري على أسس عرقية وقبلية ومناطقية وكذلك سياسية، وكان لافتا حديث رئيس حزب الأمة القومي فضل الله برمة ناصر عن اعتقاده بأن الدعم السريع تبدو أكثر التزاما بإنهاء الحرب مقارنة بالقوات المسلحة السودانية، وهو ما أيدته بعض قيادات قوى الحرية والتغيير.
وواصلت المجموعات المساندة للجيش أنشطتها منذ انعقاد مؤتمر أركويت في شرق السودان، وأعرب بعض قادتهم عن تطلعهم لتشكيل حكومة لقيادة البلاد خلال هذه المرحلة، لكن تصريح البرهان في نيويورك بعدم تشكيل حكومة إلا بعد انتهاء الحرب قد يضعف آمال هؤلاء القادة.
وبينما تتواصل الرسائل المتناقضة والتحركات التكتيكية والمناورات والمواقف السياسية لقادة المعسكرات المتحاربة في السودان، لا يجب أن نغفل المعاناة الهائلة للشعب السوداني في العاصمة الخرطوم وولايات دارفور وكل أنحاء السودان الذين يموتون كل يوم آلاف المرات، ويتحملون أعباء مروعة ومصاعب لا توصف ومآس لا حصر لها، وكذلك معاناة النازحين واللاجئين الذين تقطعت بهم السبل، وعز عليها الأمان والاستقرار.
وقد حذر برنامج الأغذية العالمي أن ثلث السكان في السودان يعانون انعداما حادا في الأمن الغذائي، وحذرت الأمم المتحدة أن أكثر من 6 ملايين شخص في السودان على حافة المجاعة، مشددة على أن هذه الأعداد ستستمر في الازدياد إذا لم تصمت الأسلحة.
كما تصاعدت التحذيرات في السودان من خطورة انتشار الكوليرا وحمى الضنك والملاريا وغيرها من الأمراض التي تؤدي إلى حالات وفيات كبيرة في ظل استمرار الصراع في السودان والانهيار شبه الكامل للنظام الصحي، حيث أعلنت منظمة الصحة العالمية تفشي وباء الكوليرا وحمى الضنك في شرق السودان، ومن جانبها أكدت منظمة "أطباء بلا حدود" أن الأزمة الصحية في السودان تقتضي بذل جهود أكبر، وأن النظام الصحي ينهار في السودان تحت وطأة العنف المدمر والاحتياجات الهائلة، فيما دعت نقابة الأطباء في السودان إلى وقف الانتشار الكارثي لهذه الأمراض الذي تسبب في مئات الوفيات، والمؤكد أن حجم الكارثة الإنسانية يفطر القلب، وهو ما يتطلب اهتماما وعملا عاجلين .
فإلى متى يجب على الشعب السوداني أن يتحمل عذاب هذه الرسائل المتضاربة والمناورات السياسية والأجندات الخفية التي تتلاعب بحاضره ومستقبله، بل تعرض وحدة أمته ومصير مواطنيه للخطر.
إن هذا الوضع الخطير يعرض أمن السودان واستقرار المنطقة لخطر شديد، ويترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام التدخلات والصراعات الدولية، ولابد أن يعمل المعنيون بأمن السودان وسلامه على إنهاء دوامة الحرب والخراب والتدمير بوقف فوري لإطلاق النار، والالتزام الصادق بمفاوضات هادفة غير مشروطة عبر منبر جدة بالتعاون والتنسيق مع كافة المبادرات المطروحة لتضييق الخناق على المتآمرين على السودان في الداخل والخارج.
ويقف السودان الآن على مفترق طرق، فإما الدخول في مفاوضات سياسية مباشرة لإنقاذ البلاد أو الإنزلاق إلى هاوية الاضطرابات، وسيكون على الجميع الآن تحديد مواقفهم بدقة، إما مع إنهاء الحرب أو تأجيجها، مع حقن دماء السودانيين أو استمرار نزيفها، مع وحدة السودان أو تقسيمه، مع وجود السودان أو إفنائه، ففي المعارك الكبرى والقضايا المصيرية لا منطقة وسطى ولا مواقف رمادية، فالتاريخ يسجل ولن يرحم، والجميع الآن على المحك، وسيكون من يشعلون النار أول من يكتوون بها أو تلتهمهم.
Tarig Algazoli
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع الجمعیة العامة الأمم المتحدة فی السودان
إقرأ أيضاً:
الضحية الأولى لأوّل رصاصة في السودان
حمّور زيادة
اختلف المختلفون، من أطلق الرصاصة الأولى في حرب السودان؟... يؤكّد بعضهم أن قوات الدعم السريع هي من فعلت. ومن شواهد ذلك أنه قبل الحرب (13 مارس/ آذار 2021) تحرّكت في خطوة مفاجئة نحو قاعدة مروي الجوية لمحاصرتها. يعتبر بعضهم أن الحرب بدأت في ذلك اليوم، سيّما أن المتحدّث باسم الجيش أعلن أنها تحرّكات من دون الرجوع إلى القيادات العليا للجيش. بينما ردّ المتحدّث باسم "الدعم السريع" أنها عملية انتشار عادية، ونقل للقوات، ضمن اختصاصاتهم لتأمين البلاد. ومن الشواهد أيضاً أنه في يوم إطلاق الرصاصة الأولى (صباح 15 إبريل/ نيسان 2023)، اعتقلت قوات الدعم السريع عدداً من كبار ضبّاط الجيش. بعضهم اعتقلوا في منازلهم، وهم يستعدّون ليوم عمل عادي.
ويؤكّد بعضهم أن الجيش هو من هاجم معسكر "الدعم السريع" في بالمدينة الرياضية (التي انتقلت إليها "الدعم السريع" في خطوة مفاجئة أخرى قبل أيام). هذه الرواية لا يقدّم أصحابها علناً أدلّةً، ولا حتى شواهد متماسكة. يقولون فقط إن "الدعم السريع" كانت مستعدّة، وأنه ما أن هاجم الجيش مقرّها في المدينة الرياضية، حتى انطلقت قواتها كلّها لتنفذ خطّة موضوعة مسبقاً للدفاع عن النفس. هكذا كان قائد المليشيا يردّد بغضب في القنوات الفضائية، "لقد هاجمونا. نحن ندافع عن أنفسنا. ماذا نفعل مع من يهاجمنا؟ هل نردّ عليه بالبسكويت والتفّاح؟". جزء من هؤلاء يتّهمون الحركة الإسلامية داخل الجيش بأنها من أطلقت الرصاصة الأولى، ووضعت الطرفَين قبالة الأمر الواقع. لكن هذا الاختلاف يوحي أن الحرب ظهرت من العدم (!)، رغم أن الخرطوم كانت تنتظرها.
في 18 مارس 2023، قبل الرصاصة الأولى بحوالي شهر، قال كاتب هذه السطور في خاتمة مقال في "العربي الجديد"، "لا يمرّ أسبوع من دون خطاب جماهيري للفريق أوّل عبد الفتاح البرهان، ولا يمرّ يوم لا يتبادل فيه سكّان الخرطوم الشائعات عن تحرّكات عسكرية، وعن دخول مزيد من قوات الدعم السريع إلى الخرطوم. ولا يعلم أحد بدقّة ما الحقيقة وما الشائعة. لكن الناس يؤمنون بأن شيئاً ما سيحدُث. بشكل ما، الخرطوم في انتظار طلقة الرصاص الأولى، إلى درجة أن احتفالاً بالألعاب النارية، في مساء 27 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) جعل المدينة ترتجف، وظنّ الناس أن الساعة التي يعلمون أنها آتية قد وقعت".
قبل عام من الحرب، نشرت "العربي الجديد" في فبراير/ شباط 2022، أن الفريق أوّل عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة (وقتها) أبلغ القاهرة مخاوفه من أن نائبه الفريق أوّل محمّد حمدان دقلو يرتّب انقلاباً بمساعدة أطراف خارجية. كان المكون العسكري يتفكّك منذ وقت قبل إطلاق الرصاصة الأولى.
في 16 مارس 2023 (شهر قبل الحرب)، هدّد البرهان علناً من يحاولون القدح في الجيش أو النيل منه، وقال إن الجيش امتلك تكنولوجيا تسليح حديثة، وطائرات مسيَّرة تجعله قادراً على حسم أيّ تهديد داخلي أو خارجي.
جدل من أطلق الرصاصة الأولى يأخذ الناس بعيداً من الضحية الأولى. فالرصاصات التي انطلقت، سواء في مدينة مروي، أو في المدينة الرياضية، أو في القيادة العامة للجيش، أيّاً كان مطلقها، أصابت العمل السياسي في مقتل. منذ لحظة الحرب الأولى قُتِلت العملية السياسية. إنها الضحية الأولى، وأصبح الرصاص والمسلحون هم من يحدّدون مستقبل البلاد.
بعد حوالي عامَين من الحرب، يظهر أن أحلام "الدعم السريع" أبعد من أن تتحقّق، في عاصمة البلاد المدمَّرة ووسطها على الأقل، بينما يقترب الجيش من إعلان انتصاره في الخرطوم. واستباقاً لهذا الانتصار أعلن أكثر من قائد عسكري "موت السياسة". فقائد الجيش سيبقى في رأس الدولة عدّة سنوات حتى بعد الانتخابات (!)، كما كُلّف قائد عسكري بتأسيس "تجمّع شبابي، يتجاوز الأحزاب التقليدية، ويصبح بديلاً لها" (!).
أمّا "الدعم السريع"، التي انهارت أحلامها في إعلان حكومة موازية في العاصمة الخرطوم، فالأمور في أماكن سيطرتها لن تختلف. فالحكومة الموازية أينما أُعلِنت ستكون مُجرَّد سكرتارية مدنية لقائد "الدعم السريع"، ناهيك عن أن تجارب المليشيات في العالم كلّه لا تبشّر بنموذج مختلف.
أمّا الشعب، فمن المؤكّد أن أولوياته قد تغيّرت. فبعد النزوح والتهجير والقتل والمذابح، يصبح الأمان هو أولويته ولزمن طويل. وهو ما يعده به حملة البنادق.
هكذا قتلت الرصاصة الأولى (أيّاً كان مطلقها) كل أحلام تحوّل السودان من دولة الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية، التي كانتها طوال تاريخها، إلى دولة ديمقراطية مدنية، فيها تداول للسلطة، وسلام وتنمية، وصديقة للعالم.
نقلا عن العربي الجديد