أثير – الروائي الأردني جلال برجس

أنا الحفيد الأول للعائلة. تزوج جدي ثلاث نساء؛ فأنجب أحد عشر ولدًا، وأربع بنات، وعى معظمهم في زمن القحط، والمحل، والفقر، لكنهم كبروا، وجدي يدفعهم بإصرار وعناد إلى أن ترحب بهم الحياة. وما أن صار له ذلك؛ حتى راح الخوف يتملك جدتي من أن تتمكن منهم العين الحاسدة. بقيت تحضهم على ألا يمشوا جماعة واحدة؛ تقول ذلك بصوت تختلط فيه نهنهة البكاء، بكركرة مبتورة.

يتملكها الخوف عليهم رغم أن نصفهم ليسوا أبناء رحمها؛ فقد أنجبتهن ثلاث نساء، مع ذلك فهي تحبهم بتساوٍ جميل لا يحدث عادة. كانت دائمًا تقاسي هاجسًا مرعبًا مفاده أن ضررًا ما سوف يصيبهم. تطرد هواجسها، وأثر كوابيسها بالبخور، والأدعية، ودخان نبتة (الحرمل). تخشى الأرواح الشريرة، وترى أنها تسكن قلوب بعض البشر، وتنفذ عبرهم ما تريد.

تغضب إن رأت امرأة من نساء أولادها تدلق ماء عند الغروب، وتلقي شيئًا في الظلمة، أو تسمع أحدًا يغني في تلك اللحظات المقدسة، والشمس تستريح من مهمتها اليومية. تزعم أنها ترى كائنات خفية، إن غضبت من أحد ما؛ فإن انتقامها سيكون شديدًا. لم أشعر بجدي يعاني ذلك الخوف؛ في وجهه ملامح رجل قوي، ذو شكيمة، وصبر، وعناد غريب. خليط من روح بدوية لا خشية فيها من الشقاء، ومن روح القرية القاسية. لكن مع الأيام أدركت أنه يحمل في دواخله خشية على عائلته من العين الحاسدة. لم يَخف عليهم من الجوع، وهو يرى جدتي تعصر ثديها في سنين المحل لترضع طفلًا يئن جوعًا. أو وهو يشاهد أبنائه يتسلحون بالخبز والشاي كإفطار قبل أن ينفقوا ساعات النهار في المدرسة بملابس رثة مرقعة، وأحذية ليست لهم؛ إذ يهبط إلى الوادي، يجمع الأحذية المهملة، وينقعها بالماء إلى أن تلين، ثم يعيد صناعتها من جديد، فيرتدونها رغم اختلاف ألوانها، وأشكالها، وحتى مقاساتها. لا يذهبون إلى الحلاق. يزيد من حدة موس الحلاقة مستخدمًا حزامه الجلدي. يجلسون واحدًا واحدًا على حجر ويستسلمون للموسى، الذي يترك في رؤوسهم جروحًا شتى يطهرها بالملح، غير مكترث لبكائهم. كانت على حد استذكار أبي لتلك السنين حفلة تعذيب يخرجون منها برؤوس فيها خرائط لأماكن مجهولة.

أما أبي، فهو رجل قَدَرِيٌ يمضي في الطريق غير آبه بالنتائج. أتذكر أني كنت ألعب في كومة رمل يستخدم للبناء، سقطتُ على يدي اليمنى، وتضرر شاهدها. لم يكترث لما أصابني من ألم؛ رأى أنه وجع مؤقت. بعد سنين انتبه إلى أن إصبعي أعوج، إن أردتُ الإشارة إلى شيء، أشار إلى آخر. ضحك وعيناه الجميلتان تتسعان، ثم قال هامسًا: لا بد أن في ذلك حكمة ما. كبرت ولم أغامر بأي إجراء طبي يصوب هذا الاعوجاج؛ خشيت خسران الكتابة إن فشل التصويب، احتمال يشبه فقدان مصباح في غابة معتمة تعج بالوحوش. ومع الأيام نسيت أمر إصبعي.

ذات ليلة جلست إلى طاولتي، يدي تمسك بالقلم، وتصوبه إلى الورقة. قبل أن أستسلم للكتابة تنبهت إلى إصبعي من جديد؛ فتساءلت: كيف لي أن أشير إلى نفسي بهذا الإصبع الأعوج؟ كنت على أهبة الشروع بكتابة رواية يدفعني إليها شغف كبير. أفضى السؤال إلى آخر: من الذي يكتب، ويشير؟ هل هو جسدي هذا الذي تغلب ملذاتُه ومطامحه روحي السجينة وراء قضبانه؟ أم روحي؟

في الكتابة أشير إليَّ، وإلى العالم، ونحن في خضم عاصفة من التيه. حين كتبت الشعر فإني كنت أدلني عليَّ كجزء لا يكاد يذكر في هذا الكون اللانهائي بمنطق مرعب. وحين كتبت الرواية فإني دللتني عليًّ عبر العالم. أعرف أن الإنسان كائن خائف من الله، والموت، والمجهول، ومن الحقائق الغامضة. وأعرف أن الخوف يحتل مساحة كبيرة من تاريخه الشخصي والعام، لكن الذي يخاف فيه هو جسدُه؛ يخاف الألم، وخسارة المتعة، بينما الروح لا تتنازل عن جرأتها في البحث عن الحقيقة، حقيقتنا، وحقيقة هذه الحياة التي تزداد تعقيدًا بعد أن صار جسد الآدمي سلعة للاختبارات الجينية، والتجميلية، والجنسية. إن أول ما يخشاه الأب عند اندلاع الحرب هو فقدان البيت، ليحتمي به من القذائف، والنيران، وأمراء الحروب، خشية على نفسه، وعلى العائلة. وحين يجد أن البيت غير قادر على حمايته يهرب لاجئًا، وإن لم يؤَمِن له لجوئُه ما يريد، يكتفي ببيته الداخلي.

إن أجسادنا بيوتنا التي تسكنها الأرواح؛ لهذا يتأقلم الإنسان في أوقات الحروب، إنه ليس لاجئًا بالمعنى المطلق، لكنه خائف، يخشى جسده الألم، ويخشى الموت، من هنا يخلق الانصياع الزائد عن حده للجسد كائًنا جبانًا.

المصدر: صحيفة أثير

إقرأ أيضاً:

هيئة المتاحف تطلق معرض “كتابات اليوم للغد” الذي يقدّم فن الصين المعاصر لأول مرّة في المملكة

المناطق_واس

افتتحت هيئة المتاحف اليوم معرض “كتابات اليوم للغد” في المتحف السعودي للفن المعاصر في حي جاكس، وينفرد بتقديم فن الصين المعاصر لأول مرّة لجمهور المملكة.

ويجمع المعرض أكثر من 30 فنانًا معاصرًا من أصل صيني ومن خلفيات متنوعة؛ ليقدّموا مجموعةً مبهرة بأكثر من 50 عملًا تعبّر عن منظورات غير مألوفة حول التحولات العميقة في المجتمع المعاصر.

أخبار قد تهمك أمريكا تُعلن حالة الطوارئ في ولاية نورث كارولينا بسبب إعصار هيلين 26 سبتمبر 2024 - 9:40 مساءً وكيل إمارة منطقة الرياض يحضر حفل سفارة جمهورية الصين الشعبية بمناسبة اليوم الوطني لبلادها 26 سبتمبر 2024 - 9:29 مساءً

ويستكشف المعرض أوجه التشابه بين الثقافتين العربية والصينية من خلال التركيز على عنصرَين أساسييَن مشتركين بينهما: الخط والحديقة، حيث يسلّط المعرض الضوء على أهمية الكتابة والخطّ كممارسة ثقافية واجتماعية عند العرب والصينيين. في كلتا الثقافتين، تؤدّي الكتابة دورًا محوريًّا، ليس فقط كوسيلة للتواصل، بل أيضًا كممارسة روحية وفنية.

ويشكّل التوازن بين الانضباط والطبيعة، الذي يمّثل شرطاً لإتقان فن الخط، العنصر الرابط بين الكتابة ومفهوم الحديقة.

فلِلحديقة رمزية في الثقافتين العربية والصينية: إنها ليست مجرد مكان؛ بل هي فضاءٌ للإبداع وتجسيد للكون ذاته، حيث تمثّل مسرحًا للجمال والروحانية، وملاذًا للتأمل والتواصل الاجتماعي.

وصُمّم المعرض كرحلة تأملية تستكشف التفاعل بين الحضور والغياب، العمل والتأمل، الذاكرة والخيال، وهو ينقسم الى ستّة محاور، هي: مواقع من الذاكرة, الحضور والغياب, الكلمة مفتاح اليقين, التراجع من أجل التقدم, ملاذات حُلمية, جود.

وسيتيح المعرض للزوّار فرصة استكشاف أعمال مميزة من مجموعتين بارزتين للفن الصيني المعاصر، هما مجموعة دونرسبيرغ (باريس) ومجموعة دي إس إل (باريس)، بالإضافة إلى ابداعات ابتكرها الفنانون خصيصًا للمعرض وقاموا بإنتاجها خلال إقامتهم في الرياض. كما سيتعرّف الجمهور على أعمال الفنان الفرنسي-الجزائري عادل عبدالصمد والفنان التايواني مايكل لين التي تعرض لأول مرة في المملكة العربية السعودية.

ويمثّل معرض “كتابات اليوم للغد” فرصة استثنائية للجمهور السعودي لاكتشاف الفن الصيني المعاصر وفهم تطوراته، ومدى ارتباطه بالماضي، ومحاكاته للحاضر واستشرافه للمستقبل.

وتعكس استضافة المتحف السعودي للفن المعاصر في جاكس لهذا المعرض دور المتحف في تعزيز التبادل والحوار الثقافي، وإسهاماته في إثراء المشهد الفني والثقافي في المملكة.

ويستمّر المعرض حتى 18 يناير 2025، ويمكن للمهتمين شراء التذاكر عبر الرابط: https://webook.com/ar/events/chinese-contemporary-art-exhibition .

نسخ الرابط تم نسخ الرابط 26 سبتمبر 2024 - 9:45 مساءً شاركها فيسبوك ‫X لينكدإن ماسنجر ماسنجر أقرأ التالي أبرز المواد26 سبتمبر 2024 - 9:27 مساءًبيان أممي يحذر من تداعيات تصاعد القتال في مدينة الفاشر السودانية أبرز المواد26 سبتمبر 2024 - 9:24 مساءًحرس الحدود يقيم مسيرة بحرية احتفاءً بيوم الملاحة البحرية العالمي أبرز المواد26 سبتمبر 2024 - 9:15 مساءًمصر تطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزة ولبنان أبرز المواد26 سبتمبر 2024 - 9:13 مساءًجامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز تحتفل باليوم الوطني الـ 94 أبرز المواد26 سبتمبر 2024 - 9:06 مساءًوزير الدولة للشؤون الخارجية يلتقي كبير مستشاري الرئيس الأمريكي لسياسة المناخ الدولية26 سبتمبر 2024 - 9:27 مساءًبيان أممي يحذر من تداعيات تصاعد القتال في مدينة الفاشر السودانية26 سبتمبر 2024 - 9:24 مساءًحرس الحدود يقيم مسيرة بحرية احتفاءً بيوم الملاحة البحرية العالمي26 سبتمبر 2024 - 9:15 مساءًمصر تطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزة ولبنان26 سبتمبر 2024 - 9:13 مساءًجامعة الأمير سطام بن عبدالعزيز تحتفل باليوم الوطني الـ 9426 سبتمبر 2024 - 9:06 مساءًوزير الدولة للشؤون الخارجية يلتقي كبير مستشاري الرئيس الأمريكي لسياسة المناخ الدولية أمريكا تُعلن حالة الطوارئ في ولاية نورث كارولينا بسبب إعصار هيلين أمريكا تُعلن حالة الطوارئ في ولاية نورث كارولينا بسبب إعصار هيلين تابعنا على تويتـــــرTweets by AlMnatiq تابعنا على فيسبوك تابعنا على فيسبوكالأكثر مشاهدة الفوائد الاجتماعية للإسكان التعاوني 4 أغسطس 2022 - 11:10 مساءً بث مباشر مباراة الهلال وريال مدريد بكأس العالم للأندية 11 فبراير 2023 - 1:45 مساءً اليوم.. “حساب المواطن” يبدأ في صرف مستحقات المستفيدين من الدعم لدفعة يناير الجاري 10 يناير 2023 - 8:12 صباحًا جميع الحقوق محفوظة لجوال وصحيفة المناطق © حقوق النشر 2024   |   تطوير سيكيور هوست | مُستضاف بفخر لدى سيكيورهوستفيسبوك‫X‫YouTubeانستقرامواتساب فيسبوك ‫X ماسنجر ماسنجر واتساب تيلقرام زر الذهاب إلى الأعلى إغلاق البحث عن: فيسبوك‫X‫YouTubeانستقرامواتساب إغلاق بحث عن إغلاق بحث عن

مقالات مشابهة

  • الجيش الأردني: سقوط صاروخ من نوع “غراد” في منطقة مفتوحة
  • معرض الرياض الدولي للكتاب 2024 يستضيف ندوة بعنوان: “مجامع اللغة.. الأدوار والتحديات”
  • مسيرة حاشدة في القبيطة بلحج بعنوان “يمن الإيمان في جهاد وثبات مع غزة ولبنان”
  • بعنوان “الفجر العظيم”.. وقفة تضامن في عمّان نُصرة للأقصى وغزة ولبنان
  • بعنوان “يمن الإيمان في جهاد وثبات مع غزة ولبنان”.. مسيرات حاشدة في بريمة تضامناً مع الشعبين الفلسطيني واللبناني
  • مسيرة في رداع بالبيضاء بعنوان “يمن الإيمان في جهاد وثبات مع غزة ولبنان”
  • السوداني يختتم زيارته لنيويورك بلقاء غوتيريش الذي أثنى على إنهاء عمل “يونامي” بالعراق
  • هيئة المتاحف تطلق معرض “كتابات اليوم للغد” الذي يقدّم فن الصين المعاصر لأول مرّة في المملكة
  • صحيفة إسرائيلية تحذر: الهجوم البري على لبنان سيكون “فخ الموت” الذي أعده حزب الله
  • ما القصة وراء منشور “وداعا للذكاء الاصطناعي” الذي تداوله الآلاف عبر “إنستغرام”؟