سماحة قائد الثورة: نحن على موعد في كلمة المناسبة للإعلان عن المرحلة الأولى من التغيير الجذري
تاريخ النشر: 27th, September 2023 GMT
التغيير الجذري ضرورة وطنية وكان لا بد من التغيير الجذري من بعد انتصار ثورة 21 سبتمبر كانت الأولوية الكبرى لشعبنا في التصدي للعدوان فقد كاد شعبنا أن يفقد حريته وأن يتحول لبلد محتل التغيير الجذري ليست مسألة تعود لمستجدات أو ضرورة جديدة فالخلل قديم والمواطن يصيح منذ فترة طويلة المولد النبوي أهم مناسبة لإصلاح النفوس وتقييم علاقتنا بالرسول والقرآن وهي منطلق لإصلاح الوضع وصولاً إلى تحقيق التغيير الجذري الخلل قديم ويعود للعمق وهناك اختلالات في الأنظمة والقوانين والإجراءات الخلل في القضاء والفساد ونهب الثروات وتحويل المناصب إلى مكاسب شخصية اختلالات قديمة لا بد من إصلاحها التغيير الجذري مطلب شعبي وضرورة وطنية ويجب أن يترافق مع توجه شعبي فهذا التغيير يتطلب تحركًا شاملًا التغيير الجذري لا يعني الحكم على المسؤولين بأنهم فاشلون وغير جديرين بالمسؤولية فهناك صادقون تماسك هذه المؤسسات في السنوات الماضية شكل إنجازًا رغم الظروف التي فرضها العدوان والحصار البعض يذر الملح على الجرح في معاناة شعبنا العزيز ويحمّل المسؤولية مؤسسات الدولة في هذه المرحلة بإذن الله وتوفيقه وبالعزم والإرادة يستطيع شعبنا أن يغيّر واقعه الاقتصادي بشكل تام وأن يتحول لبلد منتج نحن نريدها جمهورية تجسِّد الانتماء الإيماني الأصيل لشعبنا وتحقق العدالة والاستقلال والأعداء لا يريدون ذلك من المتوقع أن يحارب الأعداء مسار التغيير وأبواقهم لا يجب أن يلتفت الشعب إليهم
الثورة /
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في هذه الليلة المباركة، نتوجه إلى شعبنا اليمني المسلم العزيز، وأمتنا الإسلامية كافّة، بالتهاني والتبريكات، بقدوم المناسبة المجيدة، والذكرى العزيزة: ذكرى مولد النبي الأكرم، خاتم النبيين وسيد المرسلين محمد بن عبد الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”.
هذه المناسبة التي يتفاعل معها شعبنا بما يليق به، وبمستوى أهميتها، وعظمتها، وجلالها، وقدرها؛ إذ هي أعظم المناسبات قدراً، وأجلها وأعظمها؛ ولأنها محطةٌ غنيةٌ جدًّا بالدروس والعبر، التي نحن في أمسِّ الحاجة إليها، هي ذكرى لرسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، القدوة والأسوة، والقائد والهادي، الذي يهدينا إلى الصراط المستقيم، وإلى الخير، والفلاح، والرشد، والفوز، في الدنيا والآخرة، وهي تصلنا بأعظم رمزٍ لنا، وهو رسول الله “صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله”، تصلنا بالإسلام، بالقرآن، تعزز من هذا الانتماء، من هذا الارتباط، وتفيدنا الكثير من الوعي، ومن زكاء النفوس، وتزيدنا طاقةً إيجابيةً في عزمنا، وإيماننا، وثباتنا، واستقامتنا، وانطلاقتنا العملية.
هذه المناسبة، التي نأمل- إن شاء الله تعالى- أن يحضر فيها شعبنا يوم الغد حضوراً عظيماً كبيراً، كما في الأعوام الماضية، ونحن نشاهد في الواقع مدى الفرح والابتهاج في أوساط شعبنا، ومدى السرور الذي يظهر على الناس، ويُعبِّرون عنه في ابتهاجهم وفرحهم وتفاعلهم بأشكال كثيرة، هذا يُعَبِّر عن الإيمان، عن المحبة الصادقة لرسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” من شعبٍ يتجه عملياً على مبدأ الاتِّباع لرسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، والتَّمسُّك بالقرآن الكريم، والانتماء الإيماني الأصيل، هو الشعب الذي قال عنه رسول الله “صلوات الله عليه وسلامه عليه وعلى آله”: ((الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَّة)).
حديثنا في هذه الليلة هو بهدف: أن نتحدث ببعض النقاط، وعن بعض المواضيع؛ حتى لا نطيل في خطاب الغد زيادةً على اللازم، حتى لا نحتاج إلى التطويل الكبير في كلمة المناسبة؛ مراعاةً لظروف الناس الذين يحضرون في ساحات الاحتفال، ونترك الكلمة غداً- إن شاء الله- للنقاط الأكثر أهمية، والمواضيع الأكثر أهمية، وإنما نتحدث في كلمة الليلة عن بعضٍ من النقاط والمواضيع، التي تتعلق بالمناسبة وأهميتها من جهة، وكذلك ما يتعلق بعنوان التغيير الجذري.
فيما يتعلق بالمناسبة العزيزة، ومدى تفاعل شعبنا معها؛ للاستفادة منها في ترسيخ الإيمان والوعي، والتزكية للنفوس، وتعزيز الارتباط بالعلاقة الإيمانية بالرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، والقرآن الكريم، فمدى هذا التفاعل وهذه الاستجابة هو فعلاً يعزز الأمل في هذا الشعب العزيز، أنه مؤهل- إن شاء الله- ليقدم النموذج المتميز في انتمائه الإيماني، في وفائه لرسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، في تقديمه الشواهد والمصاديق من واقعه العملي، والتزامه العملي ومواقفه، وأخلاقه وقيمه، وثباته وتماسكه، وصدق انتمائه، المصاديق لقول رسول الله: ((الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَّة))؛ لأنها جملةٌ عظيمة، ذات أهمية كبيرة ومدلول عميق: ((الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَّة))، ونحن نلمس- كما في الأعوام الماضية- البركة الكبيرة، والأثر العظيم لهذه المناسبة، في النفوس، وفي الواقع العملي، ونحن بحاجة إلى الاستفادة منها.
المسلمون في هذه المرحلة أحوج ما يكونوا في أن يعززوا ارتباطهم وصلتهم الوثيقة بالرسول والقرآن، وهم يواجهون الخطر الكبير في التبعية لأعداء الإسلام، حركة اللوبي اليهودي الصهيوني في العالم، وأذرعه (أمريكا وإسرائيل، وبعض الأنظمة الأوروبية، ومن يواليهم)، هي في اتجاه احتواء المسلمين، واختراقهم، اختراقهم في كل شيء: ثقافياً، وفكرياً، إلى درجة التدخل في مناهجهم الدراسية، كما يحدث في كثيرٍ من البلدان العربية والإسلامية، ومن ضمنها المملكة العربية
السعودية، التي فتحت المجال حتى لحذف آياتٍ قرآنية من مناهجها الدراسية، مما يستاء اليهود منها، وتعديل مفاهيم، وتغيير مفاهيم… وغير ذلك، في العالم الإسلامي هذا الخطر يتفاقم، هو ليس بجديد، ولكنه يتفاقم، مع الوقت يكثر التأثير في تغيير كثيرٍ من المفاهيم، والرؤى، والأفكار، والعقائد، والثقافات، وهذه قضية خطيرة جدًّا؛ لأنها تبعد الناس بحيث يبقى انتمائهم للإسلام انتماءً شكلياً، لكن بدون أن يحملوا رؤية الإسلام، معتقدات الإسلام، ثقافة الإسلام، رؤية الإسلام في شؤون الحياة، يصبح الشخص ينتمي للإسلام، لكن ثقافته، ومفاهيمه، وأفكاره، وتصوراته، بعيدةً كل البعد عن القرآن الكريم، عمَّا كان عليه رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، فهي حالة خطيرة جدًّا على المسلمين؛ لأنها تفتح المجال لأعدائهم للسيطرة عليهم، إذا سيطر أعداء الأمة عليها ثقافياً وفكرياً، وكسبوا ولاءات أبنائها، فهم يعتبرون مسيطرين عليها سيطرةً تامة، السيطرة على الإنسان في فكره، وثقافته، وولائه، هي أخطر من السيطرة على أرضه وترابه؛ لأنه إذا بقي له أصالة الانتماء، في الفكر، والمعتقد، والثقافة، والمبدأ، والقيم، والأخلاق؛ سيستعيد الأرض، يمكن للأمة أن تستعيد الأوطان، أن تستعيد التراب، لكن إذا فقدت إيمانها، إذا فقدت ثقافتها، إذا فقدت فكرها، إذا فقدت وخسرت قيمها ومبادئها؛ خسرت كل شيء، وتمكن أعداؤها من السيطرة التامة عليها، وهذا ما أصبح من أهم الوسائل التي يعتمد عليها الأعداء في سعيهم للسيطرة على الأمة، فيما يسمى بالحرب الناعمة، التي تتجه إلى السيطرة والاستحواذ من كل الجهات: على المستوى الثقافي، والفكري، والإعلامي، وعلى مستوى العادات والتقاليد، وعلى مستوى الوضع الاقتصادي، وفي كل شيء.
فالأمة بحاجة لكي تكون أمة متماسكة، ثابتة، تتجه من جديد لاستعادة دورها الريادي في العالم، ولاستعادة حريتها واستقلالها وكرامتها، تحتاج إلى أن ترسخ هذا الانتماء، بالأسس المهمة جدًّا، فيما يربطها بالرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” وبالقرآن الكريم.
ومن الملاحظ أن التركيز على مثل هذه المواضيع لا يروق للبعض، ولا يعون ولا يدركون مدى أهميته؛ إمَّا بسبب الجهل والغباء المفرط، وإمَّا بسبب الهزيمة النفسية واليأس، لا يدركون أنه يمكن لهذه الأمة من خلال استعادة علاقتها بالرسول والقرآن، وعودتها الصادقة الواعية إلى الله، عودة وعي وعمل والتزام، أن تستعيد حريتها وكرامتها واستقلالها، وأن تتحرر من كل أشكال التبعية لأعدائها، ومن الانجرار وراء أعدائها، هي أمة لا تحتاج أن تكون مرتكزاتها في حماية نفسها، أو في نهضتها، إلى ارتماء في أحضان الآخرين هنا أو هناك من خارج العالم الإسلامي، كما تسعى إليه بعض الدول، تريد أن تؤمِّن نفسها، أو أن تحمي نفسها، بالارتهان التام لأمريكا، والخضوع التام لأمريكا؛ مقابل أن توفر لها أمريكا الحماية، والخطر على كل المسلمين هو من أمريكا! ثم يصير الحال كما يقال في الشعر العربي:
وَالْمُستَجِيرُ بِعَمْروٍ عِنْدَ كُرْبَتِهِ كَالْمُسْتَجِيرُ مِنَ الْرَّمضَاءِ بِالنَّارِ
الخطر هو هناك.
مشكلة الكثير من المفكرين والثقافيين، والكثير من السياسيين، هي: في النظرة الخاطئة تجاه القرآن والرسول، النظرة التي شابها الظلام، ليست نظرة صافية، ليست نظرة صحيحة، مشوبةٌ بكثيرٍ من الأفكار الظلامية، التي جعلت الدور في هذه العلاقة، والمساحة في هذه العلاقة، في مستوى محدود رسموه هم من تلقاء أنفسهم: أن علاقتنا بالرسول، وعلاقتنا بالقرآن، هي في حدود الاستفادة والاهتداء والاتِّباع والاقتداء في الشعائر العبادية: في الصلاة، والصيام، والحج، ونحو ذلك. أو أيضاً عند البعض- يضاف إلى ذلك- في بعض مسائل العبادات والمعاملات، في نطاق محدود، وبرؤية محدودة ونظرة ضيقة، ليست الرؤية الصحيحة إلى القرآن الكريم، وإلى الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، وفق ما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم، وهو يبين لنا الدور الحقيقي الذي نبني عليه علاقتنا بالرسول والقرآن، في مقام الاهتداء والاقتداء والاتِّباع والعمل:
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}[إبراهيم: 1-2]، هنا يبيِّن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن المهمة الأساسية للرسالة الإلهية، ولحركة الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” بها، عندما أنزل عليه الكتاب: هو لإخراج الناس- بهذا المنطق العام الشامل- الناس كل الناس في كل أرجاء الدنيا، هي رسالةٌ عالمية، تملك من الخصائص، تملك من الحكمة، تملك من الهدى، ما هو كفيلٌ بإخراج كل الناس- في كل المجتمعات البشرية في أنحاء الأرض كافَّة- من الظلمات، لهداية الجميع وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
والرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” تحرك في إطار هذه المهمة، وعبَّد الطريق، وهيأ السبيل، ليسلك المجتمع البشري صراط الله المستقيم، الواضح، البيّن، الذي يصل بالمجتمع البشري إلى الغايات العظيمة والأهداف الكبيرة، والتي بها نجاتهم وفلاحهم وفوزهم.
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، الظلمات التي يرزح فيها البشر، رزحوا تحتها في الجاهلية الأولى، وشملتهم في أفكارهم، في تصوراتهم، في ثقافاتهم، في معتقداتهم، التي انفصلوا بها عن هدى الله، عن تعاليم الله، عن نور الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والبديل عن نور الله هو الظلمات، وهذه هي مشكلة البشر عندما ينفصلون عن هدى الله، وعن تعليماته، وعن نوره، ثم يعتمدون على بدائل أخرى مخالفة لهدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” وتعليماته: مفاهيم، أفكار، تصورات، وقد يكونون مغرورين بها، مرتاحين لها، متشبثين بها، إلى درجة ألَّا يتيحوا لأنفسهم الفرصة في أن يفهموا أو يطَّلِعوا بتجرد وموضوعية على هدى الله وعلى تعليماته، ثم- بناءً على ذلك- تغيب عنهم الحقائق المهمة، والرؤية الصحيحة، والنظرة الصائبة لكثيرٍ من الأمور، ويتشبثون بتلك المفاهيم البديلة، والأفكار البديلة، والتصورات البديلة، التي هي ظلمات تعميهم، وتتجه بهم نحو الهاوية، نحو الهلاك، نحو الخسران المبين والعياذ بالله.
{لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، الذي هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” عندما نسير في صراطه هو العزيز، ويمنحنا من عزته، وهو الحميد، ويمنحنا الشرف الكبير عندما نسير في الطريق الذي رسمه لنا.
هذه الآية المباركة وحدها تكفي في أن ترسم للإنسان اتجاهه وما يعتمد عليه، في اكتساب الفكر، والثقافة، والمعتقد، والرؤية تجاه الأمور في مختلف شؤون الحياة؛ لأن الإنسان إمَّا أن يكون في دائرة النور، وإلَّا فهو حتماً في دائرة الظلام، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بيَّن لنا واقع الخارجين عن دائرة النور الإلهي، عندما قال “جلَّ شأنه”: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}[النور: الآية40].
الإنسان إذا لم يكن متصلاً بالنور الإلهي– والنور الإلهي أين هو؟ في رسالة الله، في كتابه، في الاقتداء برسوله “صلوات الله عليه وعلى آله”- فهو في حالة الظلمات: أفكاره ظلامية، مفاهيمه ظلامية، تصوراته- في أكثرها- ظلامية، اتجاهه في مواقفه خاطئة، فنحن بحاجة ماسّة إلى نور الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
والإنسان عندما يخرج عن دائرة النور، ويتحرك بأفكاره الظلامية وتصوراته الظلامية، هو تلقائياً يتحول إلى صادّ عن سبيل الله، ومناوئ لأي تحركٍ مبنيٍ على أساس نور الله وتعاليمه القيِّمة، ضداً لكل تحركٍ قرآني، لكل تحركٍ مبنيٍ على الاتِّباع والاقتداء والاهتداء برسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” في حركته لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهو ممن تشبثوا بالبقاء في دائرة الظلام، ولم يقبلوا أن يخرجوا منها، بعد أن قدَّم الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” في حركته بالقرآن ما يخرج من يستجيب منها، لكن من لا يستجيب يتشبث ويبقى في الظلمات، وهي حالة خطيرة على الإنسان.
فمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف هي أهم مناسبة، لإعادة النظر والتقييم لمدى علاقتنا بالرسول والقرآن في حياتنا، في شؤون حياتنا، في واقعنا، وهي منطلقٌ مهم لتصحيح الوضع، وإصلاح الواقع، وهذا من أهم ما نحتاج إليه، نحن بالتوجه الرسمي والشعبي في بلدنا نأمل- إن شاء الله- أن يكون ذلك مما يساعد على صلاح الأنفس، وهدايتها، وتزكيتها، وصلاح الواقع؛ لأن هذا هو مما لابدَّ منه لتحقيق التغيير، إن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد: من الآية11]، يبدأ التغيير من داخل الأنفس.
وهذا يأخذ بنا إلى القسم الثاني من الموضوع، وهو: التغيير الجذري، نحن تحدثنا في الأيام الماضية عن التغيير الجذري، ونحن على موعدٍ- إن شاء الله تعالى- غداً مع الحديث عن المرحلة الأولى من التغيير الجذري.
التغيير الجذري كان ضرورةً منذ البداية، يعني: مما بعد انتصار ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر، كان لابدَّ من القيام بالتغيير الجذري، لكننا انشغلنا جدًّا بالتصدي للعدوان، العدوان الشامل الذي استهدف بلدنا في كل شيء، حجم العدوان معروف لدى الشعب العزيز، لا يحتاج إلى توضيح؛ لأنه عانى من هذا العدوان الذي استهدفه في كل شيء: بالقتل، والتدمير الشامل، والاستباحة لكل شيء، والحصار الخانق، والسعي لاجتياح البلاد والسيطرة عليها كلها، حاول العدو أن يسيطر على البلد بكله، لكنه فشل، سيطر على أجزاء واسعة، لكنه فشل في
إكمال عمليته، التي كان يطمح من ورائها إلى السيطرة التامة على كل البلد. حجم العدوان حدد وأوجب أن تكون الأولوية الأولى والكبرى هي: في التصدي له؛ لأنَّا كنا على وشك أن يخسر الشعب اليمنى حريته واستقلاله بشكلٍ تام، وأن يخسر مستقبله، وأن يتحول إلى بلدٍ محتلٍ بالكامل، وشعبٍ محتل، يخضع للسيطرة الخارجية بشكلٍ تام، وهذا مؤسف.
ولذلك فمسألة التغيير الجذري ليست مسألةً تعود إلى مستجدًّات، أو ضرورة جديدة، أو مسألة طارئة، بحيث نقول: أن الواقع كان صالحاً، وأن مؤسسات الدولة كانت كما ينبغي، وأن الوضع في أدائها على مدى المراحل الماضية كان بالشكل المطلوب، ثم ساء وضعها، وتطلب الأمر العمل على إصلاحها. الخلل قديم، المواطن يصيح منذ فترة طويلة، المواطن هو الذي يردد على لسانه منذ زمن طويل: (يوم الدولة سنة).
الروتين الطويل، الابتزاز المالي، المظاهر السلبية، الخلل الكبير في كل مؤسسات الدولة، مسألة معروفة للشعب منذ زمن، ومواقف الشعب- ومن ذلك ثورته في الحادي والعشرين من سبتمبر- هي من أجل ما يعاني منه، نتيجةً لذلك الخلل الكبير والمتجذر في معظم مؤسسات الدولة، ولذلك فالخلل يعود إلى مشكلة كبيرة، يعود إلى العمق، يعني: هناك كثير من الأنظمة، من القوانين، من اللوائح، وهناك إشكالية في الكثير من المفاهيم المترسخة في الأداء الرسمي، لها تأثير كبير وسلبي في أداء مؤسسات الدولة، مفاهيم غير سليمة عن المسؤولية، المسؤولية والمنصب في الدولة عند الكثير من الناس: هو موقع للحصول على الامتيازات والمصالح الشخصية، وتحقيق المكاسب الشخصية، وليس موقعاً لخدمة المجتمع، ولأداء مسؤولية بين الإنسان وبين الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذه تؤثر على الكثير من المسؤولين، والكثير من الموظفين، ولا شك أن هناك في الموظفين والمسؤولين من يختلفون عن ذلك، من لديهم الكفاءة، النزاهة، من لديهم النيَّة الصادقة في العمل لخدمة الشعب، من يستشعرون المسؤولية بما تعنيه الكلمة، لكنهم يعانون حتى هم من مشكلة الكثير من القوانين، من الكثير من الإجراءات، الكثير من السياسات السلبية الخاطئة، التي تؤثر على أدائهم، وتكبلهم عن خدمة شعبهم كما ينبغي.
بل من الشيء الغريب في الأنظمة والقوانين هو: غياب معيار الكفاءة بشكلٍ تام، من أكبر وظيفة ومن أكبر موقع في الدولة، إلى أصغر موقع، غياب معيار الكفاءة، حتى في موقع الرئيس، ليس هناك لا في الدستور ولا في غيره ما يشترط مؤهلات ومعيار الكفاءة، في من يكون حتى في أهم المناصب في الدولة غائب تماماً هذا الموضوع، هذا فتح الباب لكل من هب ودب، بإمكانه وفق اعتبارات معينة وأمور معينة أن يصل إلى موقع معين ثم يتصرف كما يشاء ويريد، فالمشكلة قديمة، وليست طارئة ولا جديدة، والمواطن طالما شكا:
سواءً على مستوى القضاء، قضايا لها من خمسٍ وعشرين عاماً لم تصل بعد إلى نتيجة، لماذا؟ لأنه حتى القوانين والأنظمة، تساعد على أن تأخذ القضية مدىً بعيداً ومساراً طويلاً جدًّا، ولا تصل في نهاية المطاف إلى نتيجة، قوانين البلد، نظمه، تساعد على هذا الضياع.
الحرمان في الخدمات، مسألة يشكوا منها المواطن في كل المحافظات، في ضواحي صنعاء، في المديريات القريبة من العاصمة [في بني مطر، في مديريات أخرى] قرى لحد اليوم لم تصل إليها طرق السيارات، الطرق العادية غير المعبدة، الطريق إليها مشياً على الأقدام فقط، أو استخدام وسائل النقل القديمة (على الحمير) تنقل إليها بعض الأشياء، ما بالك ببقية المحافظات؟
الثروة الوطنية على مدى عشرات الأعوام أُهْدِرت، وَنُهِبت، وَسُرِقَت، ولم تُسَخّر لخدمة هذا الشعب، ولم تُسَخّر للبنية التحتية لهذا الشعب، على مدى عشرات السنوات كانت تقدم لهذا الشعب الوعود، وعود بالخدمات بكل أشكالها وأصنافها وأنواعها: بالطرق المعبدة، بالكهرباء… بغير ذلك من الخدمات، ولكن لم تصل حتى على مستوى بعض ضواحي صنعاء، وأثرى مسؤولون، وأثرى شخصيات حزبية امتلكت شركات ضخمة جدًّا، واستثمارات هائلة، أصبحت اليوم تتنعم فيها في الإمارات، وفي مصر، وفي تركيا، وفي ماليزيا، وفي دول أخرى، والبعض في أثيوبيا، البعض منهم ممن يذرفون دموع التماسيح في هذه المرحلة، على شعبنا العزيز، وعلى ظروفه الصعبة، البعض منهم ممن هو في صف العدوان، وأيَّد وساهم في سفك دماء شعبنا، وفي تدمير مصالحه الحيوية: في تدمير البيوت، في تدمير المدن، في تدمير القرى، في تدمير الشيء المحدود الذي كان قد توفر لهذا البلد، من بعض الخدمات المحدودة والقليلة جدًّا، مقارنةً بثروته الوطنية، في بعض الحسابات لما كان قد توفر، أو يمكن أن يكون قد توفر من الثروة النفطية والغازية للبلاد خلال أكثر من خمسٍ وعشرين سنة، يطلع الرقم بشكل هائل، كم يمكن أن يتحقق منه من خدمات، وبنية تحتية لهذا البلد، ولكن ذلك كله غائب.
فالمشكلة مشكلة قديمة، ليست جديدة، والبعض كان يتوقع (أو يريد) أن يكون من المعايير المعتمدة للإنجاز من الحكومة، من المؤسسات الرسمية، في الظروف التي شنَّ التحالف العدوان الشامل على هذا البلد، والحصار الخانق، والدمار الشامل، والاستيلاء على ثروة البلد من نفطٍ وغاز، والاستيلاء على أكثر الموانئ والمطارات، ومحدودية الإيرادات، كان يريد أن يكون ما يفترض من مؤسسات الدولة في هذه المرحلة بالذات، في هذا الظرف العصيب جدًّا، أن تقدِّم ما لم تقدِّمه تلك الحكومات المتعاقبة على مدى عشرات السنين، هذا ليس معياراً منصفاً، ليس معياراً منصفاً، البعض هي في إطار الدعاية العدائية، والتحريض المستمر، الهادف إلى تفكيك الجبهة الداخلية، واختلال الوضع الداخلي للبلد.
مستوى الظروف يجب أن نقيِّمها بشكل صحيح، مستوى الظروف لمؤسسات الدولة، والواقع الذي هي فيه، من محدودية الإيرادات، من ضغط العدوان ودماره الشامل، معروف، فلا يمكن أن نتوقَّع منها تقديم المستحيل، كان التماسك بحد ذاته في السنوات الماضية يمثِّل إنجازاً مهماً، التماسك لمؤسسات الدولة، ثم السعي نحو التعافي خطوة مهمة جدًّا، ومع ذلك لا ينبغي أن يستمر الحال كما هو عليه؛ لأنه هناك اختلالات فعلاً، واختلالات عميقة، في الأنظمة، في القوانين، في المفاهيم الخاطئة، في الإجراءات، في السياسات… في كل شيء، اختلالات كبيرة، مؤثرة سلباً، كان بالإمكان من دون تلك الاختلالات أن يكون الأداء أفضل- بلا شك- مما هو عليه، وبشكلٍ ملموس، لكن النظرة غير الواعية، غير المنصفة، أو النظرة المتأثرة بالأعداء، بأطروحاتهم التي هي في سياق الحرب على هذا البلد، على شعبه، وعلى بنيته ومؤسسات دولته، هي النظرة التي تقدِّم تصوراً سلبياً قاتماً، وكأنه ليس هناك أي إنجاز.
الذين لديهم هذا التصور لا يمكن أن يعتبروا أي إنجازٍ إنجازاً على الإطلاق، بما في ذلك القدرات العسكرية التي امتلكها بلدنا في ظل هذه الظروف الصعبة، والكبيرة، والمعاناة الرهيبة، والمحدودية في الإمكانات، القدرات العسكرية والتي شاهد الشعب جزءاً منها في العرض العسكري في يوم الحادي والعشرين من سبتمبر، وشاهد الأعداء وعرفوا مدى فاعليتها في ضرباتها لمنشآتهم النفطية والحيوية، بوصول الصواريخ والطائرات المسيَّرة إلى العمق السعودي، والعمق الإماراتي، وتحقيق أهدافها، بالرغم من وجود منظومات متطوِّرة جدًّا في التصدي للصواريخ والطائرات المسيَّرة، من مثل أنظمة الباتريوت الأمريكية، ومنظومات ثاد، حجم هذا الإنجاز الكبير يرسِّخ الأمل لهذا الشعب، أنَّه بالإمكان أن يكون هناك تغيير حقيقي، وإصلاح فعلي لوضع مؤسسات الدولة، وتغيير للواقع، وتحويل الحالة التي يعيشها شعبنا العزيز إلى حالة بنَّاءة؛ لأن هناك من يرسِّخ اليأس دائماً في أوساط الناس، من يسعى للتشويش الذهني عليهم، من يسعى لترسيخ حالة الإحباط في نفوسهم، من يذرُّ الملح على جرح الهم المعيشي، والظروف الصعبة، التي يعاني منها شعبنا، وسببها الأكبر: العدوان، والحصار، والدمار، والخراب، مضافاً إليه: أنَّه لم يكن هناك بنية اقتصادية بنيت في عشرات السنوات الماضية، يوم كانت كل موارد البلاد متاحة، لم تستثمر تلك الموارد لبناء اقتصادي حقيقي يبني بلدنا كبلدٍ منتج، بالعمد حوَّلوا وجعلوا السياسة الأساسية التي يعتمدون عليها في المجال الاقتصادي: أن يكون بلدنا مستورداً ومستهلكاً، وليس بمنتج، سياسة متعمّدة، ساروا عليها عشرات السنوات، حتى أصبح الاستيراد في بلدنا لكل شيء، من الملخاخ، إلى الصلصة، إلى أبسط الأمور، وحتى ضاعت الحرف اليدوية، وتعطَّل أي مسار لتطوير الإنتاج، وبناء بنية للإنتاج، لا في المجال الزراعي، ولا غيره، أشياء بسيطة، بقي اهتمام المواطن وهو يعيش حالة حرب وصراع ومعاناة في تشبثه بالزراعة إلى حدٍ أو إلى مستوى محدود.
البعض من المواطنين في بعضٍ من المحافظات بقوا متشبثين بالعمل الزراعي؛ لأنه أساسي في حياتهم، لكن كم تراجعت الزراعة حتى عن الماضي، تراجعت كثيراً عمَّا كان عليه الأجدًّاد، وأجدًّاد الأجدًّاد، تراجعت كثيراً، كثيرٌ من الأشياء التي كان ينتجها بلدنا تعطَّل إنتاجها حتى زراعياً، والمزارع لم يكن يشعر بأي مساندة من الدولة، ولا من أيٍّ من مؤسساتها.
فالبعض يأتي ليذرّ الملح على الجرح المعيشي، والهم المعيشي والاقتصادي، والمعاناة التي يعاني منها شعبنا العزيز، ويحمِّل كل المسؤولية، وكل الملامة على مؤسسات الدولة في هذه المرحلة بالذات؛ لأنه يقدِّم تصوراً عمَّا عليها أن تنجزه يفوق المستحيل.
ينبغي أن تكون النظرة واعية ومتفهِّمة؛ لأن هذا هو الذي يفيد في الاتجاه الصحيح، بإذن الله تعالى، وبتوفيقه، وبالأمل في فضله ومعونته، وبالعزم، والإرادة، والهمة، والوعي، يستطيع شعبنا أن يغيِّر واقعه الاقتصادي بشكلٍ تام، وأن يتحوَّل إلى بلدٍ منتج، وأن يغيِّر سياسته الاقتصادية، وأن يزيح من أمامه العوائق في وضعه الداخلي، سواءً العوائق في مؤسسات الدولة، من: قوانين، أو أنظمة، أو سياسات خاطئة، أو بعض
المسؤولين الذين يعملون لمصلحة العدو في إعاقة أي نهضة لهذا الشعب، أو بعض المسؤولين من قليلي الخبرة، أو منعدمي الكفاءة، الذين لا يؤدون مسؤولياتهم بالشكل المطلوب.
التغيير الجذري يجب أن يترافق معه توجهٌ شعبي، وتحركٌ فاعل من أجل تغيير هذا الواقع؛ لأن تغييره يتطلب تحركاً شاملاً من الجميع، وتغييراً يبدأ من الأنفس.
عندما نأتي إلى مسألة التغيير، من أهم ما نلفت النظر إليه: أنَّ التغيير لا يعني الحكم على كل المسؤولين بأنهم فاشلون، بأنهم سيئون، بأنهم غير جديرين بالمسؤولية، هناك من المسؤولين من ذوي الكفاءة، والوفاء، والإخلاص، والصدق، والجد، من بذلوا الجهد الكبير في هذه المراحل، وهم حاضرون لخدمة وطنهم، مشكلتهم في الظروف التي يعيشونها، في الأنظمة والقوانين التي تكبِّلهم، في محدودية الإمكانات… في أشياء كثيرة، فحتى لو تغيَّر الشخص من موقعه العملي، لا يعني ذلك إدانةً له، التغيير له أسباب متعددة ومتنوعة، ولا يعني ذلك الإدانة، والنظرة السلبية، والإساءة إلى كل شخص يتغيَّر من موقعه العملي، وهذه نقطة مهمة، هناك كوادر فاعلة ووفية من المخلصين، الذين خدموا البلاد بجد، وهم من مختلف المحافظات، لابدَّ أن يكون هناك نظرة منصفة، هناك أيضاً كوادر ضعيفة، البعض أيضاً قد يكون استغل موقعه، البعض قد يكون حاقداً، أو مرتبطاً بالأعداء، لكن مستوى التغيير- إن شاء الله- ووفق مراحل سيفيد في إصلاح الوضع بإذن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
أمام التوجه للتغيير تأتي أحياناً دعايات، أو زرع مخاوف، أو الحديث عمَّا يردده الأعداء أحياناً، في مقدمة ذلك؛ لأننا نتحدث عن تغيير جذري يصل إلى العمق، يغيِّر السياسات، يغيِّر أشياء كثيرة، فيأتي البعض مثلاً ليتحدث عن الخطر على الجمهورية، هذا منطق الأعداء في كل المراحل الماضية، وطالما وضَّحنا فيما يتعلق بهذه النقطة: أنَّ الذي يهمنا نحن هو قيام الحق والعدل، وتحقيق الخير لهذا البلد، ليس لدينا مشكلة مع الجمهورية، نحن نريد الجمهورية أن تجسِّد الانتماء الأصيل الإيماني للشعب اليمني، وهويته الإيمانية، وأن تحقق تطلعات وآمال هذا الشعب في الحريَّة، والاستقلال، والعدالة، والعيش الكريم، هذا ما نريده من الجمهورية، ليس عندنا مشكلة لا من هذا المصطلح، ولا من هذا الاسم، نحن نريده أن يكون على هذا النحو: يجسِّد انتماء هذا الشعب الإيماني، يحقق تطلعات وآمال هذا الشعب في الحرية، والاستقلال، والعدالة، والعيش الكريم، وهذا ما نسعى له بالتحديد، فمن يعتبر هذا التوجه أنَّه يمثِّل مشكلة، فذلك إدانةً له هو؛ لأن هذا يوضِّح أنَّ لديه مفهوم سلبي عن الجمهورية، ويريد من الجميع أن يتجهوا وفق مفهومه السلبي والمتناقض مع ما ذكرنا، فلا داعي لهذا.
البعض أيضاً يقلق من حديثنا عن الهوية الإيمانية، وينزعج جدًّا، البعض من الأعداء الذين يحرصون ويسعون إلى تجريد هذا الشعب من هوية الإيمانية؛ لأن ذلك بالنسبة لهم شيءٌ مهم لتحقيق هدفهم في السيطرة على هذا الشعب، إذا أصبح شعباً بلا هوية، بلا انتماء، بلا مبادئ، بلا قيم، هي وسيلة للسيطرة عليه، شعباً مفككاً، مبعثراً، ليس لديه ما يعتز به، ولا ما يجمعه، هم يريدونه هكذا؛ لتسهل عليهم السيطرة عليه.
نحن في كثيرٍ من المواقف، والمقامات، والمناسبات، والكلمات، بيَّنا أنَّ لشعبنا العزيز خصوصية في مستوى انتمائه الإيماني، هو شعبٌ أصيلٌ في انتمائه الإيماني، عميقٌ في انتمائه الإيماني، متجذرٌ في انتمائه الإيماني، تاريخه عريقٌ في الانتماء الإيماني والإسلامي، والتمسك بالإسلام منذ صدر الإسلام، منذ فجر الإسلام، هذا الشعب والأجدَّاد الأوائل: (الأوس والخزرج)، نماذجه من السابقين إلى الإسلام: (عمار بن ياسر وأمثاله)، هذا شعبٌ هو يمتلك هذه الهوية على مرِّ التاريخ، هي هوية أصيلة، متجذرة، ولذلك حديثنا عنها، هو حديثٌ عمَّا هو محل فخر واعتزاز لشعبنا العزيز، وفي نفس الوقت هي مسؤولية؛ لنحافظ عليها، وليتوارثها أجيال بلدنا وأبناء شعبنا جيلاً بعد جيل، كما توارثها الآباء والأجدًّاد على مرِّ التاريخ.
الهوية الإيمانية منظومة من المبادئ، والقيم، والأخلاق، تجذَّرت في واقع شعبنا، لدرجة أن يتحوَّل كثيرٌ منها في إطار العادات والتقاليد المتوارثة، التي يستمر عليها شعبنا العزيز، ويفتخر بها، وشعبنا اليوم قد يكون من أكثر الشعوب في العالم محافظةً على إيمانه، ودينه، وأخلاقه، وقيمه الإيمانية، ومتمسكاً بمبادئه الإيمانية، وهذا يتجلَّى أيضاً في مدى تفاعله مع مناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف.
الهوية الإيمانية من مبادئها مبادئ تحررية: أننا شعبٌ يأبى أن يخضع إلَّا لله، يأبى أن يستعبده أحد، لا أمريكا، ولا أيٌّ من عملاء أمريكا، يأبى أن يضام، أن يذل، أن يقهر، أن يهان، أن تصادر حريته واستقلاله وكرامته، مهما حاول الأعداء، ومهما حاول عملاؤهم.
القيم أيضاً شيءٌ أساسي، حتى لإصلاح وضع مؤسسات الدولة، نحتاج إلى من يمتلكون القيم، من يعمل بصدق، بإخلاص، بنزاهة، بتقوى لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من لا يستهتر بالمسؤولية، من يخجل على نفسه من أن يتورَّط في الخيانة والغش، من يمتلك من المبادئ والقيم ما يصونه عن أن ينزل إلى تصرفات سيئة، باستغلال وظيفته أو موقعه في تحقيق مكاسب شخصية، على حساب العدالة والحق والخير لشعبه، فهي مسألة مهمة جدًّا بكل الاعتبارات.
ولذلك مهما كان استياء البعض من ذلك، فلا قيمة لاستيائهم، الهوية الإيمانية مسألة أساسية، ومتجذرة، وأساسية، ولن نرضى ولن نقبل بأن نكون شعباً بلا هوية، أو أن نجرَّد من هويتنا وانتمائنا كشعبٍ يمني، هذا شيءٌ أساسي، وشيءٌ يبنى عليه حضارة، يبنى عليه خير، شيءٌ لابدَّ منه في تماسك شعبنا، في ثباته.
في إطار التغيير– إن شاء الله- سيبقى هناك اهتمام بأولويات:
في مقدمتها: السعي لإنهاء العدوان والحصار والاحتلال بكل الوسائل المشروعة: في المفاوضات، إذا لم تنجح بالمفاوضات، في كل ما هو حقٌ لشعبنا من الوسائل المشروعة.
كذلك في الاستعادة لِلُّحْمَة الوطنية، وتحقيق الاستقلال التام والحريَّة.
وسيبقى الوضع الاقتصادي والهم المعيشي للشعب ضمن الأولويات.
وكذلك السعي لتحويل البلد إلى منتج، كما أصبح منتج عسكرياً، أصبح منتجاً على المستوى العسكري، اليوم بلدنا ينتج كل (أو أبرز) الوسائل العسكرية، من المسدس، إلى الصاروخ، كيف لا يمكنه إنتاج بقية الأشياء؟!
وأيضاً السعي لاعتماد سياسة تنمية الموارد؛ لتنمية الإيرادات، بدلاً من الاعتماد على الإيرادات بدون موارد، بما يسبب إرهاق المواطن.
مسار التغيير سيترافق معه– إن شاء الله- معالجة بعض الإشكالات والسلبيات، التي تزيد من معاناة شعبنا العزيز. مسار التغيير من المتوقع أن يحاربه الأعداء وأبواقهم، فلا يلتفت إليهم الشعب، الشعب عليه أن يدرك أنهم يسعون لمحاربته في كل شيء.
سنكون على موعدٍ- إن شاء الله- في كلمة الغد، في إعلان المرحلة الأولى للتغيير الجذري، نأمل من شعبنا العزيز الحضور الجماهيري الواسع، والمشاركة في الفعاليات الكبرى يوم الغد إن شاء الله تعالى، في المناسبة العظيمة المباركة: ذكرى المولد النبوي الشريف.
حرصنا بهذه المقدمة الإيضاح لبعض النقاط؛ حتى لا تسبب الإطالة الزائدة في كلمة يوم الغد إن شاء الله، موعدنا يوم الغد- إن شاء الله- في كلمة المناسبة
أَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
المصدر: الثورة نت
إقرأ أيضاً:
في محاضرته الرمضانية الثالثة عشرة.. قائد الثورة : ما جاء من الله رحمة وهداية لما فيه الخير في الدنيا والآخرة
الثورة /
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في سياق الحديث على ضوء الآيات المباركة القرآنية من (سورة الشعراء)، في مقامٍ مهمٍ من مقامات نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وهو يسعى لهداية قومه، وإنقاذهم من الشرك، والاتِّجاه بهم إلى عبادة الله وحده «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وجدنا كيف أنه اتَّجه إلى استخدام أسلوبٍ، يختلف عن الأسلوب في المقام الذي تم الحديث عنه، على ضوء الآيات المباركة من (سورة الأنعام)؛ لِيُنَوِّع معهم الأساليب، ويعرض لهم أيضا المزيد من الحجج والبراهين، وكذلك ليعرض لهم الحقائق المهمة كذلك بطريقةٍ جديدة، وهدفه هو: السعي للوصول بهم إلى الهداية، وإلى إنقاذهم مما هم فيه من الضلال، والاتِّجاه بهم إلى عبادة الله وحده «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
استخدم معهم أسلوب (الأسئلة التي تستنطق الحقيقة)، فبعد أن سألهم: {مَا تَعْبُدُونَ}[الشعراء:70]، وكان ردهم كما تلوناه في الآية المباركة: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}[الشعراء:71]، وجَّه لهم أيضاً أسئلة تصل بهم إلى الحقيقة، عن أن تلك الأصنام غير جديرة إطلاقاً بأن يتوجَّهُوا إليها بالعبادة: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}[الشعراء:72-73]، وهنا كان جوابهم يتضمن ضمنياً الاعتراف بأنها لا تسمعهم، ولا تنفعهم، ولا تضرهم؛ وإنما يعتمدون فقط في عبادتهم لها باعتبار أنها من موروثهم الاجتماعي، الذي ورثوه عن آبائهم، وكان فيهم رموز يعتمدون عليهم، ويتقبَّلون منهم كل أشكال الضلال، بما فيه هذا المعتقد.
حينها اتَّجه إليهم بموقفه الحاسم، بعد أن تبين- حتى لهم هم- أنهم لا يمتلكون أي حُجَّة، ولا برهان، يعتمدون عليه في عبادتهم لها، والتَّوجُّه بالعبادة لها؛ وإنما اتَّجهوا كموروث اجتماعي، ولكن المسألة خطيرة جدًّا، هي خرافة يتشبَّثون بها، وهم يدركون في أنفسهم بأنها مجرد جمادات، لا تنفعهم بشيء، لا تسمعهم، لا تمتلك الحياة، ليست متفاعلةً معهم بأي مستوى من التفاعل.
ولكنَّ الخطير جدًّا في هذا الموضوع هو: أنَّهم انصرفوا بذلك عن عبادة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» بمفهومها الشامل، بما في ذلك: الالتجاء إلى الله، والسير على نهجه وهديه؛ وهذا هو الخطر الكبير في ضلال الشرك وباطل الشرك:
• أنه يصرف الإنسان عن الله، عن نهجه، عن هديه، يصرفه بشكلٍ كامل، انصراف تام، وهذه قضية خطيرة جدًّا.
• إضافةً إلى أن ذلك تنكُّر لأكبر الحقائق، التي هي: أن الله وحده هو الإله، الإله الحق، الذي لا معبود بحقٍ إلا هو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
فهنا اتَّجه بالموقف الحاسم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، مسألة اعتمادهم على الإرث الاجتماعي في مسألة الشرك، وخطورتها الكبيرة، مسألة خطيرة؛ ولهـذا كانت براءته تشمل ما كان عليه أيضاً آباؤهم، وهم يتَّبعون آباءهم من باب العصبية، ومن باب الارتباط الاجتماعي، ومن باب التأثُّر بمن في آبائهم من رموز الضلال، ولكن لأن المسألة خطيرة جدًّا وجَّه هذا الموقف الحاسم، وأتى بهذا التعبير: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، وكما قلنا في المحاضرة الماضية: هذا قمة البراءة عندما يعلن العداء.
واختار هذا التعبير: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}؛ لأن معنى ذلك أنه سيسعى للتصدي لهذا الضلال والباطل، سيسعى لإزالته؛ لأنه يعمل من أجل ذلك: من أجل إزالة ذلك الباطل، واختار عبارة: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}[الشعراء:77]، لماذا، مثلاً: لم يختر عبارة [فإنني عدوٌ لهم]، (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي)؟ وهنا فوائد متعددة لهذا الاختيار بنفسه في هذا التعبير.
عندما نتحدث عن مسألة العبادة لغير الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، فإن من أخطر ما فيها: أنها- كما قلنا- تصرف الإنسان عن نهج الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، بكل ما يترتب على ذلك من مخاطر كبيرة، وتُعرِّض الإنسان لغضب الله وسخط الله، فالعبادة لغير الله هي مصدر خطر كبير على الإنسان، وشر كبير على الإنسان، وعواقبها السيئة، وآثارها الخطيرة، كبيرة على الإنسان.
ولـذلك، ولأنها مصدر شر على الإنسان، يجب أن ينظر الإنسان إليها هذه النظرة: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}[الشعراء:77]؛ لأن عبادتهم هي مصدر خطر، مصدر شر، وشيءٌ لا يمكن أن أتقبله على الإطلاق، هو باطلٌ فظيع، باطلٌ شنيع، فيه إنكارٌ لأكبر الحق والحقائق، تعدٍ على أكبر الحقوق، وفي نفس الوقت مصدر شرٍ كبير في الحياة؛ فلـذلك النظرة إليه كعدو، وخطر لابدَّ من التصدي له، والسعي لإزالته، فهذه مسألة مهمة جدًّا في هذا التعبير، يعني: ليست مسألة يمكن التأقلم معها، التغاضي عنها، تعتبر- مثلاً- تأثيراتها السلبية والسيئة في واقع الحياة محدودة.
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، ونلاحظ كيف أن المسألة هي- فعلاً- عبادةٌ للعدو، عندما يتَّجه الإنسان بالعبادة لغير الله بكل ما يُشكِّله ذلك من شر، من خطر، من ضر، من مفاسد، من أضرار كبيرة جدًّا، فمعناه: أن الإنسان يتَّجه بالعبادة للعدو، وهذا هو سخافةٌ وحمقٌ، وفي نفس الوقت غباءٌ كبيرٌ، وضلالٌ رهيبٌ مبينٌ، الاتِّجاه بالعبادة للعدو، يعني: بدلاً من أن تعبد الله، الذي هو ربُّك، الخالق لك، المنعم عليك، ملك السماوات والأرض، ربُّ العالمين، الذي يجازيك، والذي إليه مصيرك، والذي يربطك به كل شيء- وسيأتي الحديث عن هذه المسائل، فيما ذكره نبي الله إبراهيم «عَلَيْهِ السَّلَامُ»، وهو يعرض براهين ودلائل مهمة- يتَّجه الإنسان لِيُعَبِّد نفسه لمن؟ لعدو، لعدوه! حالة خطيرة على الإنسان، وغباء رهيب، وضلال مبين بكل ما تعنيه الكلمة، وخسارة على الإنسان، الإنسان يخسر بذلك، حينما يتوجَّه إلى عبادة العدو، مما يُشكِّل عليه ذلك من خطر.
ولهـذا ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يس:60]، الشيطان عدوٌ لكم، كيف تتوجهون بالعبادة له عندما تجعلون طاعته فوق طاعة الله، وتطيعونه في معصية الله؟! حينها أنتم أعطيتموه ما لا ينبغي أن تعطوه إلَّا لله؛ لأن الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو ربُّنا الذي هو الجدير بأن نطيعه فوق كل طاعة، وأن تكون الطاعة له طاعةً مطلقة، فوق طاعتنا لأي أحد؛ فعبادة العدو غباءٌ، وضلالٌ، وخسارةٌ رهيبةٌ جدًّا.
والحالة المشابهة لذلك في واقع العرب اليوم: عندما يتَّجهون بالعبادة لأمريكا، كيف ذلك؟ عندما يجعلون أوامر أمريكا فوق أوامر الله، فوق كتاب الله، فوق تعليمات رسول الله «صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ»، عندما يتَّجهون إلى تحريف دينهم، في المناهج الدراسية، والخطاب الديني، من أجل من؟ من أجل أن يتأقلموا مع أمريكا ومع اليهود، ويحذفون ما يريد اليهود حذفه من الآيات القرآنية من المناهج الدراسية، ويقومون أيضاً بالتزييف للمعاني للآيات القرآنية ودلالاتها، بما يتناسب مع الأطروحات اليهودية؛ من أجل التطبيع، ومن أجل التأقلم مع الأمريكي والإسرائيلي، ومراعاة مشاعر اليهود.
فهم عندما يجعلون أمر أمريكا وإسرائيل واليهود فوق أمر الله، فوق دين الله، وفوق توجيهات الله، ويتَّجهون اتِّجاها معاكساً لمبادئ دينهم، حتى على مستوى الموالاة والمعاداة، حينما يوالون أعداء الإسلام، والله نهاهم عن ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة:51]، فيخالفون أمر الله، ونهي الله، ويرمون بتوجيهات الله في كتابه الكريم عرض الحائط، ويتَّجهون باتِّجاه معاكس لذلك، فهذه هي من عبادة العدو، جعلوا أمرهم فوق أمر الله، جعلوا طاعتهم فوق طاعة الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، يخشونهم أكثر من الله، {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[التوبة:13]، {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران:175].
والذي يتأمل في وضع الأنظمة الرسمية في أغلبها، يجد أنهم يعيشون هذه الحالة: إنهم يخشون أمريكا وينسون الله، وإنهم يطيعونها فوق طاعتهم لله، ويجعلون أمرها فوق أمر الله، والتعليمات الصادرة منها، والإملاءات التي تقدمها، فوق القرآن الكريم، وما فيه من هدى وتعليمات من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وهذه خسارةٌ عليهم، لماذا؟ لأن أولئك أعداء لهم، وكل ما يوجهونهم به، وكل ما يأمرونهم به، فينصاعون لأوامرهم، هو مما فيه شرٌّ على العرب، وعلى الأنظمة نفسها، وعلى شعوبها وبلدانها، وما يؤدي إلى ذُلِّهم، وهوانهم، وضياعهم، لخدمة أعدائهم.
أمَّا ما يأتينا من الله فكله رحمة، هداية لما فيه الخير لنا في الدنيا والآخرة؛ لأن الله غنيٌ عنَّا، ثم هو ربُّنا الرحيم بنا، ليس عدواً لنا، عندما نستجيب له يمنحنا رحمته، رعايته، يَمُنُّ علينا من واسع فضله، ويحيطنا برعايته في النصر، والمعونة، والتأييد، والتسديد، ورعايته الواسعة، يخرجنا من الظلمات إلى النور؛ أمَّا أولئك فهم يخرجون الناس من النور إلى الظلمات، هم طاغوت بكل ما تعنيه الكلمة.
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}[الشعراء:77]، فأولئك رموزهم من رموز الضلال، لا ينبغي أن يخلِّدوا الباطل من أجلهم، آباؤهم الأقدمون الذين كانوا منحرفين، لم يكونوا مهتدين؛ ولـذلك ليس لهم مبرر أن يتشبَّثوا بما قدَّموه لهم من الضلال، وأن يُخَلِّدوا الباطل من أجلهم، والباطل هو الطارئ في واقع البشر.
{إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، ربَّ العالمين هو الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، شرحنا عن كيف كان يعتمد في خطابه لهم، أن يتحدث مثل ما ذكر في المقام السابق في الآيات المباركة من (سورة آل عمران)، كذلك استخدام عبارة (ربّ)؛ لأنه كان هناك حظر على استخدام كلمة (الله)، هو يريد أن يراعيهم هم؛ أمَّا من جانبه فهو يُصرِّح؛ ولـذلك عندما دخل في نقاش معهم، في الآيات السابقة من (سورة الأنعام)، كان صريحاً في الحديث عن الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
{إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، ولأن المقام المرتبط في مسألة الألوهية، هو مرتبط أيضاً بالربوبية، يعني: الذي له الحق أن نعبده هو ربُّنا، ربُّنا هو الله؛ لأنه المالك لنا، المنعم علينا، المربِّي لنا، الخالق لكل شيءٍ في العالم، فهو الربّ، المالك والمنعم.
{إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، هم يعرفون أن ربَّ العالمين هو الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، وهم لا يدَّعون لأصنامهم الربوبية المطلقة، وهذا كان من المعروف في واقع المشركين، يعني: يعتبرون أصنامهم آلهة محلِّية في معتقدهم الباطل، بل أحياناً على مستوى محدود جدًّا، يعني: أحياناً على مستوى منطقة معيَّنة، أو قبيلة معيَّنة معها صنم، وقبيلة أخرى معها صنم آخر، وليس عند القبيلة تلك إشكالية لماذا لا تعبد تلك القبيلة صنمهم هم، عادي عندهم الموضوع، الموضوع متعدد، هم يعتمدون مبدأ تعدد الآلهة، بل أحياناً على مستوى الأسر: أسرة معها صنم خاص بها، تعتبره آلهة لها في معتقدها الباطل، أسرة أخرى معها صنم آخر، ولا تؤمن بصنم تلك الأسرة… وهكذا، يعني: حالة فوضى، حوَّلوا مسألة الألوهية إلى حالة من الفوضى؛ فلـذلك هم كانوا يعتبرون أصنامهم آلهة محلِّية، يعني: في مستوى محدود.
بل أحياناً في مجال التخصصات، يعني: من المعروف عن الرومان، أنهم وصلوا في مرحلة من المراحل إلى أن كانت آلهتهم في معتقدهم الباطل أكثر من ثلاثمائة، ووزَّعوا عليها تخصصات كثيرة: إله الحب، إله العشق، إله النصر، إله الحرب، إله المطر، إله… حتى في نهاية المطاف تعبوا، تعبوا من كثرة ما وزَّعوا هذه المسألة: مسألة الآلهة والألوهية، وأصبحت فوضى إلى درجة لا تطاق في واقعهم، فتعبوا في الأخير من ذلك.
فهم يدركون عندما يقول: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، أن الربوبية المطلقة- الذي هو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» الله «جَلَّ شَأنُهُ»، هو ربُّ العالمين- أن ذلك ليس إلَّا لله، فهو الإله الحق، الذي لا معبود بحقٍّ إلَّا هو، يعني: هم يعترفون أن ربَّ العالمين هو الله، أن الذي له الربوبية المطلقة هو الله على العالمين جميعا، فهو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» الإله وحده، الذي لا معبود بحقٍّ إلَّا هو؛ لأنهم يعترفون حتى هم أنَّه ربُّ العالمين، فعندما يأتي بهذا الاستثناء: {إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، يعني: فأنا أتولاه، وأعبده وحده، أتوجَّه إليه بعبادتي له وحده «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
ثم اتَّجه معهم إلى العرض المهم، لما يربطنا بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، أولاً: هو ربُّ العالمين، يعني: ربُّ الخلائق أجمعين، ربُّ هذا الكون بكله، والمالك له بأجمعه، فلماذا يتَّجه الإنسان بالعبادة لغيره، هذه قضية خطيرة، تَنَكُّرٌ لأعظم حق، اعتداءٌ على حق الله في العبادة، وفي نفس الوقت إساءةٌ إلى الإنسان عندما يُعَبِّد نفسه لغير الله، هذا لا يُشرِّفه، ثم في نفس الوقت أيضاً الإنسان بذلك ينصرف عن نهج الله، قضية خطيرة، يترتب عليها ضلال واسع، باطل كثير، يمتد إلى حياة الناس، يتحوَّل إلى إجرام، إلى طغيان، إلى مفاسد، إلى مساوئ، إلى رذائل… إلى أشياء كثيرة في الحياة، وشقاء عظيم في الدنيا والآخرة.
ما يربطنا بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو كل أساسيات ومتطلبات حياتنا، ووجودنا كذلك، وجودنا هو من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؛ ولـذلك ليس للإنسان من مبرر أن يبحث له عن إلهٍ آخر، ما الذي تريده من الإله الآخر، الذي تريد أن تتَّجه بعبادتك إليه، فتتولاه، وتخشاه، وتخضع له، وتُعبِّر عن عبوديتك له، ما الذي تريده منه؟ الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو مصدر كل النعم، كل أساسيات حياتك، كل متطلبات حياتك، هي- أصلاً- مرتبطة بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، لا يمكن أن تكون من عند غيره.
ولـذلك أتى يُذَكِّرهم، وباستعراضٍ تأمُّلي؛ ليُبَيِّن لهم أن الله وحده هو الجدير بأن نتولاه، وأن نعبده، ونثق به، ونتَّجه إليه، وهو الربُّ الرحيم، العظيم؛ ولذلك أتى بهذا الاستعراض، الذي يعرض فيه هذه الحقائق؛ لِتُبَيِّن أنَّ كل شيء مهم هو يربطنا بالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، ولا مبرر للانصراف عنه.
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}[الشعراء:78]، ابتدأ في سرد هذه النعم، والدلائل الواضحة على احتياجنا وافتقارنا إلى الله، وأنَّه الإله الحق «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، في مقابل أنَّ تلك الأصنام لا تسمع، ليس فيها حتى الحياة، أنَّ كل الكائنات لا تقدر على أن تكون في مستوى الألوهية، لا تمتلك الجدارة بذلك أبداً، كلها مفتقرة إلى الله، كلها ضعيفة، كلها محتاجة، كلها مرتبطة بالله في أسباب بقائها، وفي وجودها، وما يتصل بذلك، فالله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو الخالق.
اختار نبي الله إبراهيم أن يعبِّر بهذا الأسلوب الشخصي، عندما قال بدءاً: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي}[الشعراء:77]، ثم: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء:78-80]، مع أنَّ هذا لكل الناس، لكل الخلق، الله هو الذي خلقهم، والله هو الذي يهديهم، والله هو الذي يطعمهم، والله هو الذي يسقيهم أيضاً، فلماذا اختار أن يعبِّر بطريقة شخصية؟ هو يعبِّر لأسباب متعددة، منها: أنه يبيِّن لهم أنَّ هذه قناعة أنطلق منها، وإيمانٌ وتوجُّهٌ أنا على ثقةٍ منه، يعني: ليست مسألة أنه يريد أن يدفع بهم إلى شيءٍ هو بعيدٌ عنه، بل شيءٌ يثق به، يعتمد عليه، شيءٌ يرتضيه لنفسه، ويثق به لنفسه، ويتَّجه فيه بنفسه، وهذا ليطمئنهم على أنه يريد أن يدفعهم في الاتِّجاه الذي هو اتِّجاهٌ ارتضاه لنفسه، ليس أنه يريد أن يورِّطهم في اتِّجاه هناك، أو في قضية هناك، بل يتَّجه بهم فيما ارتضاه لنفسه، فيما يثق به كل الثقة، فيما يعتمد عليه هو، ويسير فيه؛ ليعزز الثقة بهذا الاتِّجاه الذي يدعوهم إليه، هذا واحدٌ من الأسباب.
كذلك نجد مثل هذا العرض أيضاً في مقامات أخرى، لأنبياء آخرين، لمؤمنين آخرين، ولأسباب أخرى يمكن أن نشير إليها إن شاء الله.
{الَّذِي خَلَقَنِي}[الشعراء:78]، الله هو الذي خلقني، فهو المالك لي، والمنعم عليّ، والذي خلق الجميع، كل المخلوقات والكائنات هو الذي خلقها.
نعمة الخلق في الوجود هي نعمةٌ كبيرة، وفي مسألة الإقرار بأنَّ الله هو الخالق، هذه مسألة يقرُّ بها المشركون عبر التاريخ، حتى في الاستبيان الذي في القرآن الكريم، يبيِّن هذه الحقيقة، لم يكونوا ينكرون أنَّ الله هو الذي خلقهم، بل يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}[الزخرف:87]، فهم يقرُّون بهذه الحقيقة: أنَّ الله هو الخالق، وهو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» بما أنَّه الخالق هو المالك، هو المنعم، ونعمة الخلق نعمةٌ عظيمة، في مقدِّمة النعم أنَّ الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» خلقك، وهبك الحياة، وهبك الوجود، هو الذي أتى بك إلى هذا العالم أنت كإنسان.
ثم في نعمة الخلق للإنسان نعمٌ كبيرة، الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» قال عن خلقه للإنسان: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين:4]، فالوجود بنفسه نعمة، والوجود بهذه الصورة، بهذه القدرات التي وهبك الله، بهذه النعم التي وهبك الله، هي نعمةٌ كبيرة، الخلق في أحسن تقويم نعمةٌ عظيمةٌ على الإنسان، ومن التكريم له أنَّه خلقه في أحسن تقويم، وما وهبك الله في خلقه لك من جوارح، من أعضاء، من حواس، من مدارك، من طاقات، من قدرات، من مواهب، هذا كله نعمةٌ عظيمةٌ عليك من الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
ولذلك الإنسان عندما يتأمل في نعمة الله عليه في خلقه له، فيما وهبه- كما قلنا- من جوارح، وأعضاء، ووسائل، يستفيد منها في حياته، من حواس، من مدارك… من غير ذلك، ويدرك كم أنَّ نعمة الله عليه عظيمةٌ جدًّا، وأنَّ كل نعمة مما خلق الله له، هي نعمة عظيمة مهمة، ذات أهمية كبيرة للإنسان في حياته، وفي شؤون حياته، لا تقدَّر بثمن، يعني: أغلى من كل سعر، فالإنسان عليه أن يدرك هذه الحقيقة، والله يذكِّرنا بهذه الحقيقة؛ باعتبارها نعمةً عظيمةً علينا: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:6-8]؛ لأن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم وأحسن صورة.
عندما يقارن الإنسان في تأملاته بين صورة الإنسان وشكله، وكيف عدَّل الله شكله وقوامه، يقارن مع بقية الحيوانات، وبين ذلك وبين بقية الحيوانات، يجد- فعلاً- أنَّ الله خلق الإنسان في أحسن تقويم، والإنسان لا يرتضي لنفسه شكلاً آخر، أو حالاً آخر غير ذلك؛ ولـذلك تعتبر عقوبات المسخ من أشد العقوبات، عندما مسخ الله من بني إسرائيل قردةً وخنازير، كانت عقوبة رهيبة جدًّا، رهيبة جدًّا، عندما حوَّلهم إلى أشكال حيوانات أخرى؛ لأن شكل الإنسان وخلقه مُمَيَّز جدًّا بين كل الحيوانات.
الآخرون لا يخلقون، كل من يتَّجه الناس إليهم بالعبادة من غير الله، ليسوا هم من خلقوهم، ولا خلقوا أي شيءٍ من الكائنات الأخرى؛ ولهـذا يُذَكِّر الله بهذه الحقيقة: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الرعد:16]، يقول لهم أيضاً في آيةٍ أخرى كذلك: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}[الحج:73]، (ذُبَاب) لو اجتمعت كل معبوداتهم الزائفة لتخلق ذُبَاباً واحداً؛ لعجزت عن ذلك، فما بالك ببقية المخلوقات والكائنات.
فالله هو الخالق، وهو المالك المنعم، لأنه الخالق؛ هو المالك المنعم، المقتدر، الرحيم، العظيم، فكيف يتَّجهون بالعبادة لغيره «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»؟!
ولـذلك الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» لأنه الخالق؛ هو المالك المنعم، الذي يستحق العبادة وحده، الذي له حق الأمر والنهي في عباده، والتدبير لشؤون عباده، وهو الذي ينبغي أن يلتجئوا إليه بما يحتاجونه، بافتقارهم إليه؛ لأن كل الخير منه، ومصدر وجودهم وخلقهم هو «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»، كيف يتَّجهون إلى غيره؟! يعني: ليس مجرد فاعل خير فيهم، ويريد أن يفرض نفسه فضولياً عليهم، ويدعوهم إلى عبادته، فيقولون: [أنت لا شأن لك بنا، لماذا تريد أن تفرض نفسك علينا وتطلب منا ذلك؟]، المسألة أنَّهم مملوكون له، وهو مصدر وجودهم «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى».
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}[الشعراء:78]، ونعمة الهداية نعمةٌ عظيمةٌ جدًّا، في صدارة النعم، والإنسان بعد خلقه يحتاج قبل كل شيء إلى الهداية، حتى قبل طعامه، وقبل شرابه، نجد في هذا العرض لنبي الله إبراهيم، أنَّه قدَّم الهداية حتى قبل قوله: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}[الشعراء:79]، حتى قبل ذلك، ونجد أيضاً في آياتٍ قرآنية أخرى، أنَّ القرآن يُقَدِّم هذه النعمة قبل غيرها، أحياناً حتى قبل خلق الإنسان؛ من شدة أهميتها، ولشدة حاجة الإنسان إليها، {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ}[الرحمن:1-3]؛ فلأهمية نعمة الهدى، وحاجة الإنسان إليها، وهي نعمة عظيمة ومهمة وأساسية جدًّا جدًّا جدًّا للإنسان، قدَّمها هنا حتى قبل الطعام والشراب.
الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» هو الذي يهدي، هو مصدر الهداية، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}[الشعراء:78]، هو عندما خلق الخلق لم يتركهم بدون هداية، لو تركهم بدون هداية؛ لما استطاعوا أن يتحركوا لأي شيءٍ في شؤون حياتهم على الإطلاق، لكانوا في حالة عناء رهيب جدًّا، ولما تمكنوا أصلاً من الاستمرار في الحياة ربما ولو لفترة وجيزة، أو صغيرة، أو بسيطة؛ لأن مسألة الهداية مسألة أساسية للإنسان، فنعمة الهداية أهميتها عظيمةٌ للإنسان؛ ولـذلك وردت في صدارة النعم، والإنسان يحتاج إليها بشكلٍ مستمر.
حاجة الإنسان للهداية هي حاجةٌ في كل مجالات حياته، ومرتبطةٌ بوجوده، يحتاج إليها احتياجاً كبيراً جدًّا؛ ولهـذا كانت هداية الله واسعة للإنسان، وفي جزءٍ من الهداية يشترك به مع بقية الكائنات الحيَّة، والحيوانات الأخرى، وجزء آخر للإنسان لاتِّساع حياته، واتِّساع شؤونه.
فهناك في البداية، في بداية الهداية الإلهية هي: الهداية الفطرية، بما غرزه الله في فطرة الإنسان، وهذه الهداية أيضاً لكل الكائنات الحيَّة، بمقدار دورها ومهامها في الحياة، وبحسب المقدَّر لها؛ ولـذلك يقول الله «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى»: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}[الأعلى:2-3]، {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه:50]، نجد كيف أهمية الهداية الفطرية للإنسان، والتي يحتاجها بعد وجوده، بعد أن تلده أمه مباشرةً قبل كل شيء؛ لأنه كيف سيتصرف لأسباب بقائه، في مسألة الغذاء، كيف سيعرف كيف يتغذى، كيف يرضع من أمه.
والشيء العجيب، الملاحظ لدى الكثير من المولودين من الناس مثلاً: أنه بعد ولادته يبدأ على الفور يبحث يُحَرِّك فمه، البعض حتى قبل أن يفتح عيونه، يُحَرِّك فمه يريد أن يرضع، ولولا هداية الله له، وإلهامه له بهذه الهداية الفطرية؛ لكان هناك مشكلة كبيرة في كيف يفهم أن يرضع، وأن يتقبَّل الرضاعة، وأن يَمُصَّ ثدي أمه ليرضع، لكانت هذه مشكلة كبيرة، لو كانت معتمدةً- مثلاً- على التلقين، والتفهيم، يقولوا له: [يا وُلِيد ارضع، اعمل كذا، سوِّي كذا…]، لما استطاعوا أن يفهموه بشيء؛ لأنه في مرحلة لا يتلقَّن فيها شيئاً، ولا يتقبَّل فيها أي تلقين، لكن بفطرة الله، بهداية الله الفطرية له، يُحَرِّك فمه يبحث عن ثدي أمه يريد أن يرضع؛ في الوقت الذي من المستحيل تفهيمه وتعليمه بكيفية الرضاعة، لولا أنَّ الله ألهمه وهداه لذلك.
للاستكمال عن موضوع الهداية كنعمةٍ عظيمة، وحاجةٍ ضرورية، يحتاج إليها الإنسان، وأنَّها من الله، وأنَّها مما يربطنا بالله، وأنَّها ليست من غيره، نُكْمِل الحديث- إن شاء الله- في المحاضرة القادمة عن ذلك.
نَسْألُ اللَّهَ «سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى» أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهْدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛