لجريدة عمان:
2025-04-10@22:51:14 GMT

عرَب المَهجَر

تاريخ النشر: 26th, September 2023 GMT

أقصد بعرب المهجر أولئك العلماء والمفكرين والأدباء الذين هاجروا إلى الغرب وعاشوا فيه معظم حياتهم أو عملوا في مؤسساته لفترات طويلة من العمر، فعاد منهم من عاد وعاش فيه من عاش حتى الممات. أولئك كانوا من المساهمين بقوة في نهضة العلم والثقافة العربية خلال القرن الفائت، خاصة خلال النصف الأول منه. حدث هذا في مصر وبلاد الشام، ثم حدث من بعد في بلدان المغرب العربي.

كانت مصر -وكان هذا قدرها- أن تكون رائدة في هذا الأمر حينما رأى محمد علي أن نهضة البلاد وقوتها تقتضي إرسال البعثات إلى أوروبا في سائر المجالات التي يمكن أن تنهض بأحوال البلاد، خاصةً في المجالات العسكرية والهندسية والطبية والتعليمية والثقافية، وهذه السياسة الحكيمة -التي تواصلت مع أبنائه من بعده- هي السياسة التي أوفدت إلى التعلم في الخارج رفاعة رافع الطهطاوي رائد الترجمة في مصر، وعلي باشا مبارك رائد التعليم الحديث، ومن بعد ذلك طه حسين الذي أصبح عميدًا للأدب العربي، فضلًا عن الأدباء والمفكرين أمثال: أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي، والعلماء أمثال: علي مصطفى مشرفة رائد العلم العربي الحديث ومن بعده السير مجدي يعقوب وأحمد زويل، ومن هم على شاكلتهم من الرواد في سائر المجالات. وقِس على هذا ما جرى بعد ذلك في كثير من البلدان العربية في الشام والمغرب العربي، ويكفي أن نذكر هنا دور العلَّامة المفكر والناقد العظيم إدوارد سعيد. لقد قرأت عن هذه المرحلة الخصبة من تاريخ النهضة العربية، وعرفت مدى التأثير الذي يمكن أن يحدثه إرسال البعثات التعليمية في مصر وغيرها من بلدان العالم العربي. ولقد عايشت أنا شخصيًّا أواخر هذه التجربة التي كانت الدولة لا تزال تحرص فيها على إيفاد البعثات إلى الخارج ولو بشق الأنفس: ففي سنة 1983- أي منذ قرابة أربعين سنة- كنت أول المرشحين للسفر إلى الاتحاد السوفييتي لدراسة الفلسفة من أجل الحصول على درجة الدكتوراة؛ وقد سألني الموظف المسؤول يومئذ إذا كنت سأقبل السفر أم لا؛ لأن طابور المنتظرين طويل من أجل الحصول على هذه المنحة. أجبت بالرفض لسببين: أولهما أنني قد رُزقت يومها بأول أبنائي الذي هو منحة الله الكبرى، وقلت للموظف إن منحتكم سوف تحرمني من ولدي؛ والثاني أنني رأيت أن ما أتعلمه من قراءاتي للفكر الأوروبي أهم مما يمكن أن أتعلمه عن الفلسفة في روسيا. كانت المنح إلى روسيا شائعة آنذاك بحكم اتفاقيات ثقافية وتعليمية تحددت في المرحلة الناصرية. لا أقصد من وراء ذلك التقليل من شأن التعليم في روسيا الذي تطور الآن بشكل ملحوظ.

حدث هذا في مصر مثلما حدث في بلدان المشرق، ومثلما حدث من بعد في بلدان المغرب العربي. وفي هذا الصدد أود القول صراحة ومن دون مواربة إن بلدان المغرب العربي قد تفوقت خلال العقود الأخيرة على بلدان المشرق العربي؛ بالضبط لهذا السبب، أعني أن بلدان المغرب اضطلعت بالدور الذي كانت تضطلع به بلدان المشرق فيما مضى، من حيث الاهتمام بإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، فضلًا عن المبادرات الشخصية التي يقوم بها الأفراد للدراسة والتعلم في الخارج. ولا شك في أنه مما ساعد على ذلك قرب المسافة بين هذه الدول والبلدان الأوروبية المتقدمة، خاصة فرنسا. وفضلًا عن ذلك فإن الاحتلال الفرنسي الطويل لتلك الدول كانت له فائدة لا تُنكَر، أهمها إجادة اللغة الفرنسية ذاتها؛ ولذلك فإن مَن لم يرحل إلى هذه البلدان يظل قادرًا على الاطلاع على ثقافتها عبر بوابة اللغة والثقافة الفرنسية.

أما عرب المهجر الآن، فهم -في معظمهم- مجرد أقوام يعيشون في الغرب الأوروبي أو الأمريكي، وأولئك حالهم عجيب. عرفت من هؤلاء مثقفين حقيقيين من أمثال وليد حمارنة، ولكني عرفت من هؤلاء أيضًا كثرة من المزيفين، ممن يتصورون أن مجرد إجادة اللكنة الإنجليزية أو الأمريكية كافٍ لأن يجعلهم مثقفين يعرفون ما لا تعرفه أنت؛ ومن ثم فإنهم يمتازون عليك باعتبارهم أفرادًا يعيشون في بلدان متحضرة. أولئك يتمسحون في هوية البلدان التي يعيشون فيها من دون أن تكون لهم هوية حقيقية؛ ولذلك ترى معظمهم حينما يأتون إلى بلدانهم الأصلية في زيارات عابرة، تراهم في هيئة مختلفة تمامًا عن هيئة الأهل والشعب الذي ينتمون إليه، فترى الرجال قد أطالوا شعورهم حتى تنسدل تحت أقفائهم، وارتدوا القبعات وغير ذلك من المظاهر التي تدل على اختلافهم عن بني وطنهم، وكأن هذه المظاهر والعلامات هي أمارات على تميزهم. لم يفعل ذلك المتميزون حقًّا.. لم يفعل ذلك إدوارد سعيد (على سبيل المثال)، رغم أن بداية تألقه كانت في عصر التقاليع أو التحولات الكبرى في الفن والموضة (عصر الهيبيز). المفلسون يركزون دائمًا على المظاهر الشكلية في هيئتهم وفي كلامهم أيضًا، فتراهم يركزون على استخدام كلمات أجنبية من دون حاجة إلى استخدامها في الحوار؛ لأنها ليست بكلمات علمية أو اصطلاحية، وإنما هي مجرد كلمات أجنبية يستخدمونها من باب التعالي على لغتهم الأم، أعني: اللغة العربية التي هي من أسمى اللغات في القدرة على التعبير.

ما أود قوله هو أن فقدان الهوية الأصلية يهدد بالانسحاق في الآخر، بل في أسوأ المظاهر الشكلية للآخر، ولم يكن هذا هو حال عرب المهجر الأوائل الذين ظل وطنهم وهويتهم العربية حاضرَين بقوة في أدبهم وفكرهم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المغرب العربی بلدان المغرب فی بلدان فی مصر من بعد

إقرأ أيضاً:

ما الذي يحدث في العالم ؟

 

نحن اليوم أمام سؤال كبير لن ندركه بكل أبعاده طالما ونمط التفكير الذي يسيطر في التفاعل مع الأحداث هو نفسه دون تغيير، ثمة أحداث مماثلة قد حدثت في سياق التاريخ البشري حملت إجابات واضحة، لكننا ما نزال نتعامل مع القضايا الكبرى في حياتنا بذات نمط التفكير القديم الذي يؤمن بالكليات دون تحليل، أو تدقيق، أو معرفة الأبعاد والآثار، التي تترك ظلالا على الحياة بكل تموجاتها، ولذلك نجد التاريخ يتكرر في حياتنا، وتتكرر كل مآسيه وأحداثه دون وعي منا أو إدراك.

القضية ليست انسياباً وجدانياً، ولا الحياة عاطفة وطاقات إيمانية، ولكنها نظام دقيق، وقانون أكثر دقة، من أدرك تفاصيله وأبعاده استطاع البناء، وحقق وجودا فاعلا ومؤثرا في الحياة، وربما وجدنا في التاريخ القريب والبعيد ما يؤيد ذلك من خلال التأمل والتفكير، فمثلا في وقعة الخندق لم يمنع القوة الإيمانية من التعامل والتفاعل مع تجارب الأمم الأخرى، فكان الخندق فكرة جديدة غيرت مسارا وأحدثت متغيرا في النتائج، وفي الحديبية كانت هناك قوة مؤمنة ضاربة قادرة على الغلبة لكنها مالت إلى العقل، وقبلت ببنود صلح مجحفة فكان الانتصار من حيث ظن الكثير الهزيمة والهوان، فالعقل هو القوة الموازية للقوة الإيمانية وبتظافرهما يتحقق الوجود، وتنتصر إرادة الخير والعدل في المجتمعات الإنسانية .

والعالم اليوم يخوض صراعا وجوديا في مستويات متعددة ذات أبعاد وثقافات وتغاير كبير، ففي المستوى الحضاري حدث انفجار كبير جعل العالم يبدو كقرية صغيرة، وفي المستوى الثقافي المتعدد والمتنوع تاهت الحقائق والمسلمات ولم تعد هناك من ثوابت بل كادت الرياح أن تموج بكل القضايا ذات المنطق السليم، وقد تعددت وسائل التفاعل الاجتماعي والوسائط، حتى وصل الفرد إلى مرحلة الضياع والتيه، وتعززت قيم جديدة، وضاعت قيم كانت من الثوابت الجامعة للمجتمع البشري، وسادت نظم ثقافة التفاهة والانحطاط، وكل مشاهير الزمن اليوم والمؤثرين من الرعاع وعوام الناس من الذين لا يملكون فكرة أو معرفة سوى فكرة الابتذال والسقوط القيمي والأخلاقي، أما الجانب الاقتصادي فقد تبدلت وتغيرت كل أدواته وعلاقاته وبشكل متسارع وكبير فالغني بين غمضة عين وافتتاحها قد يصبح فقيرا، والفقير قد يصبح غنيا، والصراع اليوم على أشده في العالم، وبالعودة إلى زمن الدولة العربية القديم وتحديدا في زمن الدولة العباسية، نجد اتساع الدولة، وهذا الاتساع في الجغرافيا فرض اتساعا في التفاعل مع الثقافات، ولذلك نشأت مدارس فقهية متعددة تتعاطى مع الواقع الجديد وتدرسه وتحاول أن تشرعنه بالدليل النصي، أو النقلي، أو العقلي، أو الاجتهادي، حتى أصبحت الدولة ذات شأن عظيم يخافها الأعداء ويرسلون الهدايا تودداً إليها، فكان وجود الدولة الإسلامية قويا وقائدا للمجتمع الإنساني والحضاري والثقافي والتقني والعلمي، وبعد أن دبَّ الضعف في أركانها وتشتت أمرها بزغت الحضارة الغربية على أنقاضها واستفادت من العلوم والمعارف التي تركتها بين ظهرانينا، فكان العلماء المسلمون هم النبراس الذي أضاء مسالك الحضارة المعاصرة، وقد أضافوا إلى تلك المعارف معارف وعلوما جديدة فاشتغلوا دون ملل أو كلل ومال المسلمون إلى الدعة والسكينة دون أن يحققوا وجودا حضاريا وثقافيا جديدا على الرغم من أنهم يحملون رسالة الخيرية إلى البشرية جمعاء .

والسؤال اليوم الذي يجب أن نقف أمامه هو : ما الذي جعلنا نبدو في تصور العالم أننا أمة متوحشة تشكل عبئا على الحضارة الإنسانية المعاصرة وعلى الرفاه والحياة الكريمة ؟ هذا السؤال هو نفسه الذي يبعث فينا روح الهزيمة، وفي السياق روح الانتصار على الذات المنكسرة في كوامن انفسنا، فنحن نملك مقومات الحياة والرفاه ومقومات الحياة الكريمة للإنسان ونملك مقومات الانتصار للإنسان الذي يؤكد ديننا على حريته وتعزيز عوامل التكريم فيه، ويرفض استغلاله واستعباده والحط من قدره أو النيل من آدميته وبشريته، فالإسلام جاء من أجل تحرير الإنسان من عبادة البشر ومن استغلال البشر لبعضهم ليكون إنسانا حرا كريما، ومسار التاريخ الإسلامي وشواهده وقصصه وأخباره كثيرة وهي مبثوثة في التراث الثقافي الذي أم نعد نقرأه، وفي المقابل نجد تاريخ الأمم الأخرى التي توازى وجودها مع بزوع الحضارة الإسلامية يتحدث عن استغلال واستعباد للإنسان بل كادت بعض الأمم أن تأكل بعضها بعضا ولا ترى للبشر أي قيمة أو معنى سوى أنهم موجودون لخدمة أسيادهم الذين امتازوا عليهم بالثروة والسلطة والقوة، هذه الصورة تغايرت مع الضعف الذي أصاب المسلمين وضياع أمرهم وشتاته، ولعل أبلغ عبارة موجزة في هذا الأمر ما قاله أحد أقطاب عصر النهضة العربية الشيخ محمد عبده حين عاد من الغرب فقال : “ذهبت إلى الغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين وعدت للشرق فوجدت مسلمين ولم أجد إسلاما ” وهنا تكمن الإشكالية للسؤال الذي علينا أن نبحث له عن إجابة في عالم اليوم الذي نعيش فيه ونشعر بعدم وجودنا فيه .

اليوم الأمة تباد في الشرق، تباد في فلسطين، وفي لبنان، وفي سوريا، وفي اليمن، وشتاتها وضياعها واضح للعيان، وقضية وجودها في خارطة العالم الجديد لا قيمة ولا معنى له بل هناك من يساهم ويعزز هذا الضياع من بني جلدتنا ممن يتحدثون بلساننا ويؤمنون بديننا ولا سبيل لنا إلا بالعودة إلى مقومات وجودنا الثقافية والحضارية وبدون ذلك سنكون ضحايا هذا العالم المتغطرس والمستغل .

مقالات مشابهة

  • ما الذي يحدث في العالم ؟
  • دراسة تكشف: صحراء الجزيرة العربية كانت واحة خضراء قبل 8 ملايين عام
  • دراسة: صحراء الربع الخالي كانت تضم بحيرة ومروج خضراء قبل 9 آلاف سنة
  • وزير الدفاع الأمريكي: إيران هي التي تقرر إن كانت القاذفات B-2 رسالة موجهة لها
  • مضى هذا الوفيّ الشجاع ، الذي جسد كل قيم النُبل
  • نجوى كرم: أمي كانت حريصة على إسعاد والدي وأنا مثلها.. فيديو
  • برلماني: نمتلك بنية تحتية وتشريعية لجذب المزيد من الاستثمارات من مختلف بلدان العالم
  • كاريكاتير.. حقيقة الدور الذي تلعبه قناة “الجزيرة” في غزة
  • ديسمبر كلها كانت “جنجويدية”
  • لماذا كانت زيارة نتنياهو إلى واشنطن "مخيبة للآمال"؟