في حضرة الموت الذي طال الآلاف وسحق مدنا بأكملها وخلّف أفئدة مكسورة في المغرب وليبيا للحد الذي لم نعد نتمكن معه من متابعة الخبر أكثر، في حضرة هذا الموت -الذي يجر معه الحديث لزاما عن التغيرات المناخية وما تعنيه وهل نحن بمنأى عنه- في حضرته تبدو الكتابة عنه شأنا مقبولًا ومعقولا، لكن ليس إن اقترب من محيطك النفسي أكثر ومس على غفلة حيوات على مقربة منك.
للموت هذه القدرة على أن يعطل خططك وأفكارك ويشغلك بالكامل ولو لحين. للموت هذه الهبة أن يجعلك تنغمس في اللحظة الراهنة وتفكر صدقًا أن الثانية القادمة قد لا تحدث وأن كل العابرين على هذه الأرض حين رحلوا لم يتوقعوا أن خططهم التي وضعوها بأمن وثقة لن يكتب لها التحقق وأنها ستكون رمشة العين الأخيرة وشهقة النفس الأخير وهكذا نذهب على غفلة.
الموت بارع جدا في أن يفتح في ذهنك ملفات الماضي كشريط مسجل صوتا وصورة وحياة كاملة بكل تفاصيلها، يا ربي هل مر كل هذا الوقت حقًا وهل كان هؤلاء الذين رحلوا هنا بيننا وهل عرفناهم حقا، وإلى كم من الوقت سنذكرهم؟ سيذكرون قبل التلاشي الأخير للأسماء في أذهاننا وللصور في المخيلة!!! إنه الغياب بكل فجاجته، يباغتك أيضا فتتذكر كم هي نعمة أن هنالك حياة موعودة أخرى وكم هو جلي أن علينا أن نعمل لأجلها فلسنا هنا إلا عابرين.
جاء خبر مقتل الزميل هود العلوي في مصر صادمًا وغير قابل للتصديق وكأنه مزحة ثقيلة لكن الخبر كان حقيقة ((وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) صدق الله العظيم.
وأيام تالية ليأتي كذلك خبر موت الزميل قيس البوسعيدي ورحيله وزملاؤه في غرفة الأخبار يستعدون لنشرة الواحدة ظهرا... موتان متعاقبان لا تستطيع معهما أن تكتب عن شيء آخر والكتابة عنهما أشبه بحديث تحدث به نفسك في مجمله.
الشخوص جزء من ذاكرة المكان وتاريخه. هم سلسلة في حلقة الأحداث وتكوينها. لا يسعك أن تفهم حقلا معرفيا ما أو التغيرات التي تنشأ في بيئة عمل ما منفصلة عن تأثير وتأثر البشر في ذلك المحيط. المهارات والأفكار والموضوعات والتحولات التي كانوا جزءًا منها. تلك البصمة التي وضعوها ربما أو حتى مجرد كونهم فردا في المنظومة مارس طقوسها وسياساتها وخياراتها راغبا.. قاصدًا ومؤثرا وموجهًا أو مساقًا ولا واعيًا فإنه كان جزءًا من هذا التكوين، وإن كانت الحياة تكمل مسيرتها دوننا جميعا كأننا لم نكن يوما فإنه لبعض الوقت يبقى ذلك الفراغ المر للبعض في قلوب المقربين منهم. في حيز الذين كانوا ضمن الحيز الذي يشغلونه..
انضم هود العلوي إلى التلفزيون في مسيرة طويلة للعمل الإعلامي. كان من الذين عايشوا المرحلة التي تلت فترة التأسيس الأولى للعمل في دائرة الأفلام التسجيلية بحكم عمله في الإعداد. الميزة التي كانت تتوفر لدى الرجل أنه جاء للعمل الإداري في مجاله المتخصص في الإعلام من ميدان العمل الفني الذي مارسه وتشربه. لذا فإن مهامه الإدارية التي تولاها في إدارته لدائرة البرامج العامة لبعض الوقت ومن ثم موقعه في الإعلام الخارجي وتمثيله لسلطنة عمان كملحق إعلامي في مصر لاحقا كانت إنجازاته الخاصة التي حققها بعد أن قبل أن يتحمل ما يمكن من صعوبات وعقبات في العمل الميداني تلك التي يعرفها فقط أولئك الذين مارسوا المهنة عن شغف وما يتطلبه من إصرار وعناد وسعي: الحقيقة التي أدركها هود العلوي مبكرًا وتطبع بها سمة لازمته حتى الختام.
قيس البوسعيدي خط لنفسه مكانا في مهنة الصعاب. في واحد من أكثر القطاعات تحديًا وضغطًا، قطاع الأخبار. لدى قيس ميزة لا تتوفر لدى كل المذيعين. كانت لديه القدرة والكاريزما والمهارة والقبول على أن يعمل مذيعا في المجالين الإذاعة والتلفزيون. التحق قيس بمجال الأخبار عام 1997 وهي الفترة التي بدأت فيها إرهاصات التغيير والتطوير. من أولى الخطوات كان التأكيد والالتزام لحد كبير بموضوع التخصصية بحيث يفصل مذيعو الأخبار عن البرامج الأخرى. الأمر التالي كان رفع كفاءة مذيعي النشرات ودمجهم بالعمل على تحرير النشرات الإخبارية ووقتها كذلك كانت هناك التغيرات الدورية التي تطرأ لتغيير شكل التقديم وتغيير استوديو الأخبار ليكون أكثر حداثة. قيس كان جزءًا من هذه التحولات وما تلاها من تغيرات بالانتقال إلى المبنى الجديد والاستوديوهات الحديثة للبث التلفزيوني. كان جزءًا من تغيير المنظومة الإدارية والتقسيمات الهيكلية في دوائر وأقسام العمل وما تبع ذلك. قيس بهدوئه المعروف وصداقاته المحددة ووده اللا محدود وخلقه النبيل بشهادة كل من تعامل وعمل معه.
كلا الرجلين عايشا حقبة في مسيرة العمل الإعلامي لها وعليها.
أفكر في هذا الحديث وأنا أقرأ مدونات الزميل محمد المرجبي دفتر مذيع وهو يتحدث عن بدايات السبعينيات عن ذلك التاريخ البعيد الذي لم يعايشه جيل بأكمله ويبدو الحديث عنه كأنه حلم. كأنه من حكايات ألف ليلة وليلة وكأن أحدهم فرك المصباح السحري ودخلنا عالم الحكاية إلى حيث لم نرَ ولم نعش.
وأفكر هل بدايات الألفية بعيدة أيضا. حوالي ربع قرن مر منذ اللحظة التي انضممت فيها لوزارة الإعلام قبل أن أتركها كمؤسسة وليس كقطاع، بعد ذلك بعشر سنين تلك النقطة في الزمن التي تقاطعت فيها لحظة وجودي في المكان بوجود هود العلوي وقيس البوسعيدي، وتعود إلى ذهني مع هذا الموت كل تفاصيل العمل (فنيًا وإداريًا) وذلك الخاطر الأكثر إلحاحًا الذي لا ينقطع ولم ينقطع عن أين نحن وما الذي علينا فعله وما التركة التي سنخلّفها للاحقين؟ وأفكر وقد آن لبعضنا الرحيل ما الذي تغير حقا منذ ذلك الوقت؟ من ذلك الذي سيأتي بعد عشر أو خمس عشرة سنة لاحقة وقد طبعت السنون في صوته ألفة جميلة ووزعت على محياه خبرات الزمان ليكتب عن بدايات الألفية الغابرة تلك التي كانت خارج التحول الرقمي والذكاء الصناعي والاستوديوهات الافتراضية وكان شعار قناتها الوحيدة شمس ذهبية وفي وسطها علم وخنجر. عن تلك الوجوه التي امتهنت هذه الصناعة وعلى كاهلها كانت ربما المرحلة المنسية تلك التي تقع بين التأسيس والمعاصرة.
في وداع الذين ينتمون للمكان كما ننتمي لا يسعك أن تشيعهم دون أن تتبع ذاك الأثر الذي ألقوا بظله في الذاكرة. ذاكرة المكان والوقت. ولا نملك لهم إلا الدعاء، اللهم ارحمهم واغفر لهم وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هود العلوی جزء ا من
إقرأ أيضاً:
أحمد عمر هاشم: نعمة الماء كانت من أسباب النصر يومي العبور والفرقان.. فيديو
قال الدكتور أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، إن الماء هو سر الوجود في هذه الحياة وفي الوقت نفسه كان آلية وسببا من أسباب النصر يوم الفرقان حين نزل المسلمون على أرض لا تصلح للكر ولا الفر، وحين احتاجوا إلى الماء ينزل الماء ليتطهر المحدث ويشرب الظمئان وتتجمد الأرض تحت أقدامهم.
واستشهد خلال خطبة الجمعة اليوم من مسجد أحباب المصطفى، متحدثا عن موضوع "حافظ على كل قطرة ماء .. واحذر من القمار بكل صوره"، بقول الله تعالى (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ).
وتابع: وكان في يوم العبور في عصرنا الحاضر وحين وقف أبناء القوات المسلحة في أعظم حرب في معركة العبور، ويقول القائل لهم من الدعاة (أفطروا بالفطر رخصة لكم في رمضان أنتم تحاربون عدوا شرسا، فيقول قائلهم: لا أريد أن أفطر إلا في الجنة، ويستبد الظمأ بهم بالقرب من عيون موسى، فإذا بالخالق العظيم 2 ينبع عيونا عذبة بالقرب من عيون موسى، فضلا من الله عزوجل.
وأشار إلى أنه كان للماء النعمة العظمى ، مناشدا الجميع بالحفاظ على نعمة الماء وعدم الإسراف فيها حتى ولو كان من أجل الوضوء للصلاة.