مَن يقوم حارسا على تحقّق الأخلاق والفضيلة في المجتمع، هل الأخلاق تحت وصاية شُرطة الأخلاق أو تحت وصاية سيف المُجتمع الذي يُحاسِب ويقمع ويُعذّب ويُقصي دون حاجة إلى محاكم وإلى سُجون أو أنّ القائم على الأخلاق هو القانون الوضعيّ الزاجر؟ كثُرت في زماننا، بسبب توفّر أرضيّة تواصليّة مفتوحةٍ وشاسعة، أصواتٌ تقوم راعية للأخلاق والفضائل، تُحدّد ما يجوز وما لا يجوز، تضبط الحسن والسيّئ، الجميل والقبيح، الأخلاقيّ وغير الأخلاقيّ، وتصل -عموما في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة- الأخلاق بالدين، وهو -لعمري- أمرٌ صائبٌ، فالأخلاق هي جوهر الدين، وهي جوهر الأحكام الوضعيّة، وهي -والأهمّ من ذلك- جوهر الإنسان في عمقه الروحيّ والفكري، فما الذي تفعله شُرَطُ الأخلاق التي تمكّنت بذاتها ومن ذاتها من ضبط أخلاقٍ واجبة الاتّباع؟ يقول إيمانويل كانط: «شيئان يملآن قلبي بالإجلال والإعجاب المتجدّدين المتعاظمين على الدوام كلّما أمعن التأمل فيهما: السماء المرصّعة بالنجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في داخلي»، فالأخلاق معطى داخليّ لا تحتاج واعظا أو قيّما أو حارسا، هي بُعْد من تحقّق إنسانيّة الإنسان، ولقد جاءت الأديان على اختلاف منابتها ومنابعها لضبط حدود أخلاقيّة للفرد والجماعة، منها ما تختصّ به المجموعات البشريّة في صِلاتها ومعاملاتها وعلاقاتها، وهو أمرٌ يضبطه الحلال والحرام أو سلطة القانون الوضعيّ، ومنها ما هو نابعٌ من داخل الإنسان لا يُمكن أن يحاسب الإنسانَ عليه قانونٌ، ولا يدخل في دائرة الحلال والحرام، وهو البُعد الجوهري في تحديد الأخلاق.
نحن أمّة «يُفتي» قليلو العلم فيها بما لا يعلمون ويسهل على «أهل التحرير والتحريم» فيها الإدلاء بما يجوز وما لا يجوز بل الأدهى والأمرّ أنّ هؤلاء الحُرّاس لا يتورّعون في التفكير وهم لا يمتلكون شروط التفكير ولا مبادئه. فلم يقف هؤلاء يوما -كما وقف الغرب مليّا- للتفكير في ماهيّة الأخلاق وفي تعريف الفضائل، ويحسبون أنّ أمر الأخلاق بيّن وماثلٌ في اتّباع شرع اللّه والالتزام بما أمر والكفّ عمّا نفَّر، ولا شكّ أنّ ذلك صحيحٌ إلى أبعد حدّ، ولكنّ رجال الأخلاق يركنون إلى الدين علّة لتجويز ما لا يفهمون أو ما لا يعقلون أو مالا يتقبّلون.
فهنالك وجهان للأخلاق، الوجه العامّ الظاهرُ وهو ما يلزمه حُرّاسُ الأخلاق، والوجه الأخلاقي الباطن، والشخصيّ، وقد يتوفّر الوجه العامّ رياءً أو إرضاءً للآخر ولا يتوفّر الوجه الشخصيّ الذاتي، أمّا إذا توفّرت الأخلاق الذاتيّة فإنّها تعمّ على العامّ.
هل الأخلاقُ هي حُسن السلوك وطيّب المعاملة فحسب؟ لقد خاض الفلاسفة في علوم الأخلاق ومظاهرها وأشكالها، وتفرّقوا شيعا ومذاهب، واتّفقوا إجمالا على أنّ الأخلاق هي كلّ ما احتوى طلبا للخير ونفورا من الشرّ، أي سعيا وراء الجمال الوجودي، وتنظّمت هذه المباحث في مشغل فلسفيّ وسيع خاض فيه كبار الفلاسفة وهو الإيتيقا التي تعني المقوّمات الأخلاقيّة السائدة أو الفلسفة الأخلاقيّة السائدة وممكنات نقدها وشروط تحقّقها في مجتمع ما.
فممّا لا شكّ فيه أنّ الأخلاق في جزء منها هي مسألة خلافيّة لا تتّفق فيها الشعوب، بل قد لا يتّفق فيها الأفراد، فما يُعتَبَر عند البعض «قلّة أدب» هو جوهر «الأدب» عند البعض الآخر، فإن أخذنا مثالا من شعوبنا طرق التعامل مع المرأة، ابنةً كانت أو زوجةً أو أختًا لأدركنا أنّنا نُشكّل أخلاقا في التعامل خاصّة ينسبها البعض إلى الدين، وهو منها بَراءٌ، فهل قال الإسلام أن نجعل ولدا لم يبلغ الرشد وصيّا على أخته الكبرى؟ وهل قال الدين أنّ المرأة لا تُستَشارُ وأنّ أمرها بيد «رجل» يُصرّفه كيفما أراد؟ وإن قامت هذه المرأة تبحث عن حقّ في الوجود عُنّفت ونُكِّل بها؟ فهل أنّ «أخلاق العامّة» مثل «أخلاق الخاصّة»؟ وهل أنّ ما يجري على «أخلاق الرجال» يجري على «أخلاق النساء؟ إنّ أمّة ما زالت المرأة فيها مُعطَّلة الرأي والرؤية لا يُمكن أن يصلح حالها.
لماذا ننفرُ من تجارب الغرب في هذه المسائل ومن وفرة المقاربات الفلسفيّة والاجتماعيّة ونحن عيالٌ على الغرب في مأكلنا وملبسنا؟ إنّ هذا الدور التوعويّ الذي يُعيد النظر في ماهية الأخلاق وفي تحديدها بأنّها الجمال والخير المطلقين هو مبحثٌ واجبٌ على أقسام الآداب وعلم الاجتماع والفلسفة في جامعاتنا، ولكن مع الأسف نجد أنّ هذه الأقسام مشلولة، لا دور لها في المجتمع، فإن انفتحت عليه كان ذلك بدوغمائيّة وتسرّع وإسراع إلى تسييد الساكن، ولفظ كلّ مقاربة عسيرة الفهم على أدمغتهم الساكنة، فيكون التكفير والاتّهام في الدين هو سلاح العاجز، ويكون الذود المبالغ فيه عن الدين، وكأنّ كلّ النظريّات التي باشرت الإيتيقا من سبينوزا إلى كانط إلى هابرماز إلى نيتشة هي نظريّات كَفرة فجرة، فما علاقتهم بالأخلاق وهم المنحلّون المتبرّجون الفاسقون المُلحدون الضاربون في الغواية شوطا وفي الغيّ أشواطا؟ أمّا نحن فالطاهرون أصحاب الأخلاق الساميّة، من انتحر منّا فقد اتّبع سُبل الكَفرة، ولم يكن يتلظّى في حالات من الرُهاب والتأزّم النفسي الناتج عن علل ذاتيّة أو اجتماعيّة أو أسريّة وجب مداواتها ومعالجتها، ومن ضلّ فقد اتّبع نهج المروق والخروج عن السبيل القويم، وليس العيب في نظم تعليميّة وثقافيّة بئيسة.
دوما كنتُ أتساءل متى يستفيق رُعاة الأخلاق والفضيلة ويُدركون أنّ الإنسان قيمة، وأنّ النفس البشريّة تحتاج رعاية وتقديرا وتهذيبا وتشذيبا، وألاّ وجود لصيغة مطلقةٍ مِسْطَرَةٍ في ضبط أخلاقٍ تُحكَّم في الظاهر والبواطن مليئة بالحسد والشرّ، ولقد قال المعرّي في سابق الزمن مشيرا إلى التمايز في الفضائل والتوحّد في المساوئ: إِن مازَتِ الناسُ أَخلاقٌ يُعاشُ بِها/ فَإِنَّهُم عِندَ سوءِ الطَبعِ أَسواءُ.
فلابدّ أن يعي حُرّاسُ الأخلاق أنّ الجمود والثبات سبيل الموت، وأنّ المجتمعات سائرة كرها أو حبّا إلى التغيّر، فإن لم نختر سبل تغيّرنا اختاره لنا الآخرون. حُرّاس الفضيلة مثل شُرَط الأمر بالمعروف يرعون ظاهرا ولا يهتمّون بباطنٍ والحال أنّ الفضيلة جمالٌ وأنسُ نَفْسٍ، والأخلاقَ قيمةٌ ذاتيّة منزوعة في الإنسان، وأنّ «الأخلاق لا تُعلّمنا كيف نكون سعداء بل تُعلّمنا كيف نكون جديرين بالسعادة» -على حدّ قول كانط-، والحمد للّه نحن مجتمعات لا تنقصنا السعادة ولن يُعلّمنا أحد كيف نكون سعداء وبين جنباتنا علماء اجتماع يحرسون طهارة أخلاقنا، ويحموننا من الزيغ، فظاهرنا سعيد وباطننا أسود من السعادة، ولا حاجة تحملنا أن نفهم لمَ يكسرون رؤوسهم في فهم معنى الفضيلة وفي تحديد مجالات الأخلاق حتّى يصل الإنسان -والعياذ بالله- إلى الكشف عن جوهره، وألاّ يبتسم في وجه من يكره، وألاّ يُلحّ في الترحاب في وجه من يُناصبه العداء، وأن يقول للمجيد أحسنت وللمسيء أسأت! فقد بلغنا شوطا من تجلّي حَميدِ الأخلاق أن نبتسم في وجه العدوّ وأن نكيد له في الخفاء، أمّا السطح فاستقامةٌ ووئام ومحبّة لا مثيل لها، فلننعم ما عشنا بذلك. أمّا حُرّاسُ الأخلاق فحسبهم أنّا لهم طائعون وأنّ الجمع لهم منصتون وأنّهم في محبّة سطح الأخلاق سائرون، وفي محبّة الغيّ والغمّ ساترون.
لقد صدق صاحبي إذ قال يوما: ولمّا رأيتُ الجهلَ في الناس فاشيا/ تجـاهلتُ حتى قيـل أني جـاهـلُ.
فوا عجباً! كم يدعي الفضل ناقـصٌ / ووا أسفًا ! كم يُظهـر النقـصَ فاضـلُ.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ة الأخلاق
إقرأ أيضاً:
دعا للمساواة في الميراث..كيف رد علماء الأزهر على سعد الدين الهلالي؟
القاهرة- أثار تصريح أطلقه أستاذ الفقه المقارن في جامعة الأزهر، سعد الدين الهلالي، حول إمكانية المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، موجة غضب واستنكار واسعة في الأوساط الدينية، باعتبار أن ما قاله يتنافى مع نصوص القرآن الكريم و"تعدٍّ على ثوابت الدين".
وكان الهلالي قد صرح أن المساواة بين الذكور والإناث في الميراث "ليست محرمة بنص صريح" في القرآن أو السنة، مشيرا إلى إمكانية ذلك حال تساوي درجة القرابة كالحال بين الأخ والأخت، واستشهد بتجارب دول أخرى مثل تركيا، إضافة لقانون المعاشات في مصر الذي يساوي بين الجنسين.
وشنَّ أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، أحمد كريمة، هجوما حادا على الهلالي، معتبرا تصريحاته "تجاوزا غير مقبول للحدود". وقال للجزيرة نت إن "نصوص القرآن الكريم واضحة وصريحة في تنظيم الميراث، ولا تقبل النقاش أو الاجتهاد، لأنها تمثل أحكاما قطعية لا مجال فيها للرأي".
وأضاف أن "مثل هذه القضايا ليست مسألة خاضعة للاستفتاء الشعبي، فالورث ليس قرارا ديمقراطيا يُتخذ وفق رغبات الناس، وإنما فريضة من الله، لا يجوز أن نتعامل معه وكأنه ماسورة مياه نركبها أو نغير اتجاهها حسب الحاجة".
إعلانوشدد كريمة على أن "الانتقائية في الاستدلال والتدليس من خلال تأويل النصوص لتبرير الحرام أو تطبيع المنكرات، هي جرائم فكرية ومعرفية يجب محاسبة مرتكبيها".
من جهته، أعرب المشرف على الرواق الأزهري، الدكتور عبد المنعم فؤاد، عن استيائه من تصريحات الهلالي، قائلا إنه "يختبئ خلف صفة أستاذ جامعي في الأزهر لتمرير أفكار تخالف الشريعة". وأن "الأزهر سبق أن أعلن انحراف هذا الفكر، وتصريحات الهلالي ليست سوى محاولة لتفريغ الدين من مضمونه".
وتساءل في تصريح للجزيرة نت "هل يجوز أن نستفتي الناس على الصلاة؟" واستدرك مجيبا "فكيف نطلب استفتاء الشعب في قضايا حددها الشرع؟".
وتابع يقول "لا شيء في الدين يعجبه -في إشارة للهلالي- لا فريضة الحج، ولا نظام الميراث، بل سبق وصرّح بأن الراقصة قد تُعد شهيدة، ومثل هذه التصريحات تدفع الناس إلى الإلحاد والكفر، لأنها تشوه صورة الدين وتخلق البلبلة في المفاهيم".
وأكد فؤاد أن الميراث هو الموضوع الوحيد في القرآن الذي فُصِّل بدقة، مشيرا إلى أن "النص القرآني واضح ولا يقبل الاجتهاد، ومن يزعم خلاف ذلك فإنه يتعدى على حق من حقوق الله عز وجل".
مطالب علمانيةوفي السياق، اعتبر أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين في جامعة الأزهر فرع أسيوط، مختار مرزوق، أن ما طرحه الهلالي يعكس ما وصفه بـ"الأجندة العلمانية" في العالم العربي.
وقال مرزوق في حديثه للجزيرة نت "تصريح الدكتور الهلالي نموذج واضح لما يطالب به العلمانيون، الذين يسعون إلى تبديل أحكام شرعية قطعية، رغم أن علم الميراث يُعرف بعلم الفرائض، أي أنه فُرض من الله عز وجل وليس مجالًا للاجتهاد أو التغيير".
وأضاف "المرأة في الإسلام لا تأخذ نصف ما يأخذه الرجل دائما، فهناك حالات تأخذ فيها مثله، بل وأحيانا تأخذ أكثر منه، وهذا معروف لكل من درس علم الفرائض بالأزهر أو في كليات الحقوق".
إعلانوأشار مرزوق إلى أن الفكر العلماني الذي يتبناه البعض أثمر عن "أقوال خطيرة"، مثل اعتبار الصلاة مجرد علاقة روحية بين العبد وربه، أو أن الخمر ليست حراما، والصيام ليس فرضا، وقال "هذه الطروحات ليست معزولة، وإنما تتكامل في إطار مشروع تفكيكي للدين".
وأكد أن الأزهر ودار الإفتاء والهيئات الشرعية في مصر تصدت لهذه الطروحات، وأن "بعض العلماء طالبوا الهلالي بالتوبة علنا من هذه الأفكار التي تُعد خروجا صريحا عن الشريعة الإسلامية" حسب قوله.
التفاف على الشرعوفيما يتعلق بظاهرة قيام بعض الأهالي بكتابة أملاكهم لأبنائهم أثناء حياتهم لتفادي توزيع الإرث وفقا لأحكام الشرع، قال مرزوق إنه "لا يشجع ذلك مطلقا"، مبينا أنه ومن الناحية الشرعية قد يُحرم ورثة آخرون مستقبلا مثل الأبناء من زوجة ثانية أو حتى الأحفاد، و"هذا يُعد تعديا صريحا على العدالة الإلهية في التوزيع".
وتابع "أحيانا يقع الشخص الذي كتب أملاكه في مأزق حين يحتاج المال لإجراء عملية أو تغطية نفقات، فيضطر إلى طلب العون من أبنائه الذين صاروا مالكين شرعيين، هذا الأمر يُفقده الكرامة، ويخلق مشكلات لا تُحمد عقباها".
وأوضح مرزوق أن كثيرين يُقدمون على هذه الخطوة بدافع "حرمان أشقاء الأب أو الورثة الشرعيين من نصيبهم"، معتبرا ذلك تهربا من تطبيق شرع الله، ومخالفا للأمانة التي كُلِّف بها الإنسان في ماله وأهله.
ويرى المراقبون أن التصريحات التي أطلقها الهلالي أعادت إلى الواجهة الجدل الدائم حول حدود الاجتهاد الديني، والفصل بين حرية الرأي والخروج عن النصوص القطعية.