لجريدة عمان:
2024-11-05@05:35:52 GMT

حُرّاسُ الفضيلة والأخلاق

تاريخ النشر: 26th, September 2023 GMT

مَن يقوم حارسا على تحقّق الأخلاق والفضيلة في المجتمع، هل الأخلاق تحت وصاية شُرطة الأخلاق أو تحت وصاية سيف المُجتمع الذي يُحاسِب ويقمع ويُعذّب ويُقصي دون حاجة إلى محاكم وإلى سُجون أو أنّ القائم على الأخلاق هو القانون الوضعيّ الزاجر؟ كثُرت في زماننا، بسبب توفّر أرضيّة تواصليّة مفتوحةٍ وشاسعة، أصواتٌ تقوم راعية للأخلاق والفضائل، تُحدّد ما يجوز وما لا يجوز، تضبط الحسن والسيّئ، الجميل والقبيح، الأخلاقيّ وغير الأخلاقيّ، وتصل -عموما في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة- الأخلاق بالدين، وهو -لعمري- أمرٌ صائبٌ، فالأخلاق هي جوهر الدين، وهي جوهر الأحكام الوضعيّة، وهي -والأهمّ من ذلك- جوهر الإنسان في عمقه الروحيّ والفكري، فما الذي تفعله شُرَطُ الأخلاق التي تمكّنت بذاتها ومن ذاتها من ضبط أخلاقٍ واجبة الاتّباع؟ يقول إيمانويل كانط: «شيئان يملآن قلبي بالإجلال والإعجاب المتجدّدين المتعاظمين على الدوام كلّما أمعن التأمل فيهما: السماء المرصّعة بالنجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في داخلي»، فالأخلاق معطى داخليّ لا تحتاج واعظا أو قيّما أو حارسا، هي بُعْد من تحقّق إنسانيّة الإنسان، ولقد جاءت الأديان على اختلاف منابتها ومنابعها لضبط حدود أخلاقيّة للفرد والجماعة، منها ما تختصّ به المجموعات البشريّة في صِلاتها ومعاملاتها وعلاقاتها، وهو أمرٌ يضبطه الحلال والحرام أو سلطة القانون الوضعيّ، ومنها ما هو نابعٌ من داخل الإنسان لا يُمكن أن يحاسب الإنسانَ عليه قانونٌ، ولا يدخل في دائرة الحلال والحرام، وهو البُعد الجوهري في تحديد الأخلاق.

نحن أمّة «يُفتي» قليلو العلم فيها بما لا يعلمون ويسهل على «أهل التحرير والتحريم» فيها الإدلاء بما يجوز وما لا يجوز بل الأدهى والأمرّ أنّ هؤلاء الحُرّاس لا يتورّعون في التفكير وهم لا يمتلكون شروط التفكير ولا مبادئه. فلم يقف هؤلاء يوما -كما وقف الغرب مليّا- للتفكير في ماهيّة الأخلاق وفي تعريف الفضائل، ويحسبون أنّ أمر الأخلاق بيّن وماثلٌ في اتّباع شرع اللّه والالتزام بما أمر والكفّ عمّا نفَّر، ولا شكّ أنّ ذلك صحيحٌ إلى أبعد حدّ، ولكنّ رجال الأخلاق يركنون إلى الدين علّة لتجويز ما لا يفهمون أو ما لا يعقلون أو مالا يتقبّلون.

فهنالك وجهان للأخلاق، الوجه العامّ الظاهرُ وهو ما يلزمه حُرّاسُ الأخلاق، والوجه الأخلاقي الباطن، والشخصيّ، وقد يتوفّر الوجه العامّ رياءً أو إرضاءً للآخر ولا يتوفّر الوجه الشخصيّ الذاتي، أمّا إذا توفّرت الأخلاق الذاتيّة فإنّها تعمّ على العامّ.

هل الأخلاقُ هي حُسن السلوك وطيّب المعاملة فحسب؟ لقد خاض الفلاسفة في علوم الأخلاق ومظاهرها وأشكالها، وتفرّقوا شيعا ومذاهب، واتّفقوا إجمالا على أنّ الأخلاق هي كلّ ما احتوى طلبا للخير ونفورا من الشرّ، أي سعيا وراء الجمال الوجودي، وتنظّمت هذه المباحث في مشغل فلسفيّ وسيع خاض فيه كبار الفلاسفة وهو الإيتيقا التي تعني المقوّمات الأخلاقيّة السائدة أو الفلسفة الأخلاقيّة السائدة وممكنات نقدها وشروط تحقّقها في مجتمع ما.

فممّا لا شكّ فيه أنّ الأخلاق في جزء منها هي مسألة خلافيّة لا تتّفق فيها الشعوب، بل قد لا يتّفق فيها الأفراد، فما يُعتَبَر عند البعض «قلّة أدب» هو جوهر «الأدب» عند البعض الآخر، فإن أخذنا مثالا من شعوبنا طرق التعامل مع المرأة، ابنةً كانت أو زوجةً أو أختًا لأدركنا أنّنا نُشكّل أخلاقا في التعامل خاصّة ينسبها البعض إلى الدين، وهو منها بَراءٌ، فهل قال الإسلام أن نجعل ولدا لم يبلغ الرشد وصيّا على أخته الكبرى؟ وهل قال الدين أنّ المرأة لا تُستَشارُ وأنّ أمرها بيد «رجل» يُصرّفه كيفما أراد؟ وإن قامت هذه المرأة تبحث عن حقّ في الوجود عُنّفت ونُكِّل بها؟ فهل أنّ «أخلاق العامّة» مثل «أخلاق الخاصّة»؟ وهل أنّ ما يجري على «أخلاق الرجال» يجري على «أخلاق النساء؟ إنّ أمّة ما زالت المرأة فيها مُعطَّلة الرأي والرؤية لا يُمكن أن يصلح حالها.

لماذا ننفرُ من تجارب الغرب في هذه المسائل ومن وفرة المقاربات الفلسفيّة والاجتماعيّة ونحن عيالٌ على الغرب في مأكلنا وملبسنا؟ إنّ هذا الدور التوعويّ الذي يُعيد النظر في ماهية الأخلاق وفي تحديدها بأنّها الجمال والخير المطلقين هو مبحثٌ واجبٌ على أقسام الآداب وعلم الاجتماع والفلسفة في جامعاتنا، ولكن مع الأسف نجد أنّ هذه الأقسام مشلولة، لا دور لها في المجتمع، فإن انفتحت عليه كان ذلك بدوغمائيّة وتسرّع وإسراع إلى تسييد الساكن، ولفظ كلّ مقاربة عسيرة الفهم على أدمغتهم الساكنة، فيكون التكفير والاتّهام في الدين هو سلاح العاجز، ويكون الذود المبالغ فيه عن الدين، وكأنّ كلّ النظريّات التي باشرت الإيتيقا من سبينوزا إلى كانط إلى هابرماز إلى نيتشة هي نظريّات كَفرة فجرة، فما علاقتهم بالأخلاق وهم المنحلّون المتبرّجون الفاسقون المُلحدون الضاربون في الغواية شوطا وفي الغيّ أشواطا؟ أمّا نحن فالطاهرون أصحاب الأخلاق الساميّة، من انتحر منّا فقد اتّبع سُبل الكَفرة، ولم يكن يتلظّى في حالات من الرُهاب والتأزّم النفسي الناتج عن علل ذاتيّة أو اجتماعيّة أو أسريّة وجب مداواتها ومعالجتها، ومن ضلّ فقد اتّبع نهج المروق والخروج عن السبيل القويم، وليس العيب في نظم تعليميّة وثقافيّة بئيسة.

دوما كنتُ أتساءل متى يستفيق رُعاة الأخلاق والفضيلة ويُدركون أنّ الإنسان قيمة، وأنّ النفس البشريّة تحتاج رعاية وتقديرا وتهذيبا وتشذيبا، وألاّ وجود لصيغة مطلقةٍ مِسْطَرَةٍ في ضبط أخلاقٍ تُحكَّم في الظاهر والبواطن مليئة بالحسد والشرّ، ولقد قال المعرّي في سابق الزمن مشيرا إلى التمايز في الفضائل والتوحّد في المساوئ: إِن مازَتِ الناسُ أَخلاقٌ يُعاشُ بِها/ فَإِنَّهُم عِندَ سوءِ الطَبعِ أَسواءُ.

فلابدّ أن يعي حُرّاسُ الأخلاق أنّ الجمود والثبات سبيل الموت، وأنّ المجتمعات سائرة كرها أو حبّا إلى التغيّر، فإن لم نختر سبل تغيّرنا اختاره لنا الآخرون. حُرّاس الفضيلة مثل شُرَط الأمر بالمعروف يرعون ظاهرا ولا يهتمّون بباطنٍ والحال أنّ الفضيلة جمالٌ وأنسُ نَفْسٍ، والأخلاقَ قيمةٌ ذاتيّة منزوعة في الإنسان، وأنّ «الأخلاق لا تُعلّمنا كيف نكون سعداء بل تُعلّمنا كيف نكون جديرين بالسعادة» -على حدّ قول كانط-، والحمد للّه نحن مجتمعات لا تنقصنا السعادة ولن يُعلّمنا أحد كيف نكون سعداء وبين جنباتنا علماء اجتماع يحرسون طهارة أخلاقنا، ويحموننا من الزيغ، فظاهرنا سعيد وباطننا أسود من السعادة، ولا حاجة تحملنا أن نفهم لمَ يكسرون رؤوسهم في فهم معنى الفضيلة وفي تحديد مجالات الأخلاق حتّى يصل الإنسان -والعياذ بالله- إلى الكشف عن جوهره، وألاّ يبتسم في وجه من يكره، وألاّ يُلحّ في الترحاب في وجه من يُناصبه العداء، وأن يقول للمجيد أحسنت وللمسيء أسأت! فقد بلغنا شوطا من تجلّي حَميدِ الأخلاق أن نبتسم في وجه العدوّ وأن نكيد له في الخفاء، أمّا السطح فاستقامةٌ ووئام ومحبّة لا مثيل لها، فلننعم ما عشنا بذلك. أمّا حُرّاسُ الأخلاق فحسبهم أنّا لهم طائعون وأنّ الجمع لهم منصتون وأنّهم في محبّة سطح الأخلاق سائرون، وفي محبّة الغيّ والغمّ ساترون.

لقد صدق صاحبي إذ قال يوما: ولمّا رأيتُ الجهلَ في الناس فاشيا/ تجـاهلتُ حتى قيـل أني جـاهـلُ.

فوا عجباً! كم يدعي الفضل ناقـصٌ / ووا أسفًا ! كم يُظهـر النقـصَ فاضـلُ.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ة الأخلاق

إقرأ أيضاً:

«قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق» إصدار جديد بهيئة الكتاب

«قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق» .. أصدرت وزارة الثقافة، من خلال الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، كتاب «قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق لدى فلاسفة الإسلام»، للدكتور الصاوي الصاوي أحمد.


وتعد قضية الوجود والمعرفة والأخلاق من أهم القضايا التي شغلت الإنسانية بكل مستوياتها وطبقاتها منذ الخليقة حتى عصرنا، فلا يوجد إنسان في أي عصر من العصور لم تشغله قضية وجوده وعلاقته بوجود الآخر، وكيف يعرف وجوده ووجود الله على حقيقته، والسلوك الخلقي الذي يجب أن يتحلى به الإنسان في كل أمور حياته، ونعني هنا بالوجود وجود الله والعالم بما هو موجود في الظاهر والباطن، وكيفية معرفة كل ما يتعلق بهذا الوجود وأسراره. 


أما الأخلاق فتعنى بها السلوك الواجب الالتزام به في معرفة الوجود على الحقيقة وكيفية التعامل معه بما يجب، ولهذا كان شغل الفلاسفة على مر العصور هو البحث في حقيقة هذا الوجود «وجود الله والعالم»، وكيفية معرفة حقيقته، وما القيم الأخلاقية الواجب الالتزام بها لمعرفة سر هذا الوجود والتعامل معه. 
ويعد نصير الدين الطوسي وابن سينا وفخر الدين الرازي والشهرستاني من هؤلاء الفلاسفة الذين شغلهم البحث في الوجود، فقد حاولوا البحث في كثير من معالم الوجود وطرق الوصول إلى معرفة حقيقته، كما اهتموا بمعظم العلوم التي تتعلق بالوجود من فلك ورياضيات ورصد وفلسفة ونفس ومنطق وأخلاق وغيرها، وخلفوا لنا تراثًا في كل هذه العلوم لم يتم حصره حتى الآن، ولم يكشف عن جميعه على الرغم من جهود الباحثين في محاولة إبراز أهمية تراث هؤلاء في الفكر الإسلامي والكشف عن بعض كنوزهم الدفينة .


والطوسي كعالم وفيلسوف نشأ في عصر ركود الفلسفة وانحطاطها على يد الغزالي وغيره، وفي عصر حرم فيه التفكير الفلسفي مثل عصرنا العربي الحالي، وقد شغله هذا الهجوم على الفلسفة والفلاسفة فاطلع على تراث الفلاسفة وأعدائها وأخذ في الدفاع عنها، وهذا دفعه إلى تحليل فكر الشيخ الرئيس ابن سينا الفلسفي، وشرحه كأشهر فلاسفة الإسلام للدفاع عنه أمام أعدائه ومنهم الرازي والشهرستاني وغيرهما، لهذا انعكف الطوسي فترة من الزمن في قلاع الإسماعيلية للبحث عن قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق في مؤلفات ابن سينا وشرحها، واتهامات فخر الدين الرازي والشهرستاني له بالكفر وخرج من هذا بإنتاج أعظم مؤلفاته في الوجود والمعرفة والأخلاق، ومنها شرحه «للإشارات والتنبيهات» لابن سينا وتعليق الرازي عليها، وكذا شرح محصل أفكار المتقدمين للرازي، وألف كتابا آخر للرد على الشهرستاني «مصارع المصارع» وبهذا نمت ملكة النقد الفلسفي لدى الطوسي.
كما نجح في محاولته التوفيق بين الفلسفة وعلم الكلام، لهذا عده البعض مؤسس المنهج الفلسفي في البحث في علم الكلام، وقد اكتسب الطوسي هذا من خلال مناقشاته ومحاوراته بين المتكلمين والفلاسفة، وهو كمسلم لم يعارض علم الكلام ولا الفكر الإسلامي بل العكس يُعد من المدافعين عنه، ونظرًا لأن هذه القضية تشغل كل إنسان فقد قام بدور بارز في التوفيق بين رؤى الفلاسفة في قضية الوجود والمعرفة ممثلة في ابن سينا، وموقف علماء الكلام منها ممثلا في فخر الدين الرازي والشهرستاني.
لهذا كان الهدف من هذه الدراسة بيان موقف الطوسي من ابن سينا ممثلا عن الفلاسفة، وفخر الدين الرازي ممثلاً عن علماء الكلام في قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق التي نحن في حاجة ماسة إليها في عصرنا الحاضر المعرفة حقيقة وجودنا وعلاقتنا بالله وبخلقه، ونظرًا لأن هذه القضايا دار حولها الجدال منذ عصور طويلة، فضلا عن أنها تعد من أهم القضايا الفلسفية.

مقالات مشابهة

  • أحكام بسجن "نجوم تيك توك وأنستغرام" في تونس بسبب خرق قواعد "الأخلاق الحميدة"
  • الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية: العقيدة تضبط القيم والأخلاق داخل الأسر والمجتمعات
  • "الأخلاق بين الواقع والمأمول".. ندوة تثقيفية في رحاب جامعة المنصورة الجديدة
  • أمين البحوث الإسلامية: العقيدة تضبط القيم والأخلاق داخل الأسر والمجتمعات
  • أمين مجمع البحوث الإسلامية: العقيدة تضبط القيم والأخلاق داخل الأسر والمجتمعات
  • أمين عام «البحوث الإسلامية»: العقيدة تضبط القيم والأخلاق داخل الأسر والمجتمعات
  • «قضايا الوجود والمعرفة والأخلاق» إصدار جديد بهيئة الكتاب
  • التيك توك في تونس: بين حُماة الأخلاق بالقانون وحماة الحرية بالحرية
  • العلاقي: الفروقات الكبيرة في مرتبات الليبيين ترجع لانعدام الأخلاق والاستهتار
  • إيرانية تتجول بملابسها الداخلية في الجامعة.. احتجاج أم اضطراب عقلي؟