طبت حيًّا وميتًا يا رسول الله
تاريخ النشر: 26th, September 2023 GMT
حمد الحضرمي **
وُلِدَ سيد الكونين مُحمد بن عبدالله بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف مكة بتاريخ الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل؛ بموجب ما ذكرته أوثق الروايات، وأمُّه آمنة بنت وهب من بني زهرة، ولم يرَ نبي الأمة أباه الذي مات في المدينة، إذ ولد نبي الرحمة يتيمًا "أَلَم يَجِدكَ يَتيمًا فَآوى" (الضحى: 6) وقد أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب، كما أرضعته حليمة السعدية، وقد ثبت أن عمَّه حمزة بن عبد المطلب أخو رسول الله من الرضاعة، وقد توفيت أمُّه آمنة وهو في السادسة من عمره، ثم كفله ورعاه جدُّه عبدالمطلب حتى بلغ رسول الله ثماني سنوات، ثم توفي جدّه، فعاش رسول الله يتيم الأب، ثم فقد في طفولته أمه ثم جده.
فتأثر رسول الله تأثرًا بالغًا بوفاة أمّه، كما تأثر بوفاة جدّه لأنه كان يحبه ويرعاه ويعطف عليه لدرجة كبيرة، فأوصى عبدالمطلب ولده أبي طالب برعاية رسول الله، فأخلص أبو طالب في رعاية رسول الله وحبَّهُ حبًا كبيرًا، فعمل رسول الله منذ صغره مع عمه ورعى الأغنام في شعاب مكة وفجاجها، وكسب رسول الله من هذه المهنة الشريفة صفات التحمل والصبر والقوة والشفقة والحلم ومُخالطة الناس، وقد عرف الناس رسول الله بأنه ذو صفات طيبة كريمة "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (القلم: 4)، وأكدت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على أن رسول الله كان خلقه القرآن، فهو سيد الثقلين وإنسان مُتواضع بمهابة، وذو حياء بشجاعة، وصاحب صدق وأمانة، وفصاحة وبلاغة، وثبات الجنان وقوة في العقل ورجاحة، وذو حكمة وبصيرة وحلم ورحمة ورقة في المشاعر، وحب العفو والصفح عن الناس.
إنَّنا نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، الذي شرفه الله بأفضل مرقى، وجعله أزكى نبي وأتقى، وجمع له جميع المحاسن خُلقًا وخَلقًا، وأمر البدر أن ينشق له إذا دعاه سقًا، كلمه الضب وخاطبه الثعبان حقًا، ونبع الماء الزلال من بين أصابعه وأروى العطشان صدقًا. يا خير خلق الله، يا سيد الأنام ومصباح الظلام، محمد عليه أفضل الصلاة والسلام "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" (الأحزاب: 56).
اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد الذي لما سرت أخلاقه في أرجاء مكة، وعرف القاصي والداني أمانته وصدقه وحسن خلقه، رغبت سيدتنا خديجة بنت خويلد في أن يُدير لها تجارتها، وكانت سيدتنا خديجة امرأة ذات شرف ومال ومن خيرة نساء قريش نسبًا وأعظمهن شرفًا وحسبًا، ونظرًا لأخلاق الرسول العالية وصدقه وأمانته، فقد رغبت سيدتنا خديجة بالزواج من رسول الله، فعرض رسول الله الأمر على أعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب، فخطب رسول الله سيدتنا خديجة وتزوجها، وأنجبت له كل أبنائه عدا إبراهيم الذي كانت أمه سيدتنا مارية القبطية.
وبدأ نزول الوحي على رسولنا صلى الله عليه وسلم وعمره أربعون سنة، ونزل الوحي على الرسول وهو يتعبَّد بغار حراء، فقد قال له جبريل عليه السلام "اقرأ": فقال النبي "ما أنا بقارئ"، فعاد له الثانية وفي الثالثة قال له: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" (العلق:1- 4). وقد كان بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم نقطة تحول في تاريخ البشرية، نقلتها من طريق الإعوجاج والظلام إلى طريق الهدى والنور، وتحوّل خط التاريخ كما لم يتحول من قبل ولن يتحول من بعد.
إن ميلاد ومبعث رسول الله من الأحداث الفريدة الكبرى في تاريخ البشرية، إذ إن النبي برسالته العظيمة أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وعلينا جميعًا أن لا ننسى تلك الذكرى العطرة؛ لأنه ميلاد جديد للإنسانية وللبشرية بأسرها. وقد استغرق نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين سنة، منها ثلاثة عشر عامًا بمكة المكرمة وعشر سنين في المدينة المنورة، وتبقى ظاهرة الوحي معجزةً خارقة للسنن الطبيعية، فقام رسول الله بنشر الإسلام للناس كافة بمختلف أجناسهم وقومياتهم وألوانهم وفي كافة بقاع الدنيا "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا" (سبأ: 28).
وقصدت الدعوة الإسلامية إلى تحرير النَّاس من الأوهام والأساطير والخرافات والشعوذة التي يقوم بها منتفعون يزعمون أنهم وسطاء بين الله والناس، والدعوة الإسلامية أعلنتها صريحة مدوية، أنه لا واسطة بين الله والإنسان، وقد اهتمت الدعوة الإسلامية ببناء مجتمع العدل والشورى، والعلم والعمران. ولقد كافح رسول الله وواجه أهل قريش الذين سخروا منه بالضحك والاستهزاء والغمز واللمز، واستمر رسول الله في نشر الإسلام وحرص على الاجتماع بالناس وتبليغهم دعوة الدين الحنيف، وكان يتحرى مواضع اجتماع القبائل وخاصة في مواسم الحج، حتى تمت بيعة العقبة الأولى وتلتها بيعة العقبة الثانية من مسلمي الأوس والخزرج، وهذه البيعة هي نقطة التحول الكبرى في تاريخ الدعوة؛ حيث أصبحت للإسلام دار يمكن أن تُتخذ قاعدة للانتشار وهو ما حصل بالفعل.
إذ أذِن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى يثرب، التي تغير اسمها فيما بعد إلى المدينة، فهاجرت مجموعة من الصحابة إلى المدينة، وبعد فترة هاجر النبي صلى الله عليه وسلم برفقة صاحبه أبي بكر الصديق، وعندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة استقبله النَّاس خير استقبال، وأول ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم فور وصله إلى المدينة بناء المسجد، ثم قام رسول الله بتنظيم شؤون حياة المسلمين ووضع الحلول والتنظيم لكافة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والصحية، وآخى بين المهاجرين والأنصار.
وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم دستورًا للمدينة، وهي وثيقة التحالف بين المهاجرين والأنصار، والتي نظمت العلاقات بين سكان المدينة. وانتشر الإسلام وأسس رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة إسلامية قوية، كان في إدارتها صحابته الكرام، وكبار مستشاريه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، فأصبحت الدولة الإسلامية مجتمعًا قويًا متماسكًا قائمًا على أسس الحب والتكافل الاجتماعي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واحترام الإنسان وتحقيق العدل والإنصاف.
وقد مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة وبعد شهرين ونصف من عودته إلى المدينة من حجة الوداع، إذ شعر بالمرض وهو في بيت أم المؤمنين ميمونة، فطلب من زوجاته أن يُمرض في بيت أم المؤمنين عائشة، واستمرت فترة مرضه صلى الله عليه وسلم عشرة أيام، وقد أثقله بعد ذلك المرض ومنعه من الخروج للصلاة بالنَّاس، فقال "مروا أبا بكر أن يصلي بالنَّاس" ودخلت السيدة فاطمة الزهراء على أبيها رسول الله عند الضحى فقالت: "وا كرب أباه" فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم".
وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام إحدى عشرة للهجرة، وقد نادت فاطمة الزهراء: "وَا أَبَتَاهُ، إلى جِبرائيلَ أَنْعَاهُ، وَا أَبَتَاهُ، مِن ربِّه ما أَدْناهُ! وَا أَبَتاهُ، جنَّةُ الفِردَوْسِ مَأْواهُ، وَا أَبَتَاهُ، أجابَ ربًّا دَعاهُ" ودخل أبوبكر على النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن وجهه وقبله وبكى، وقال: "طبت حيًّا وميتًا يا رسول الله" ثم صلى المسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم أرسالًا أرسالًا، لا يؤمهم أحد، وحفروا له قبرًا في حجرة عائشة رضي الله عنها ودفنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثواه الأخير.
اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك، إمام وقائد الخير، ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقامًا محمودًا يغبطه الأولون والآخرون، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
** محامٍ ومستشار قانوني
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: رسول الله صلى الله علیه وسلم النبی صلى الله علیه وسلم رسول الله من إلى المدینة الوحی على
إقرأ أيضاً:
ما هو سبب صيام شهر رمضان؟ اغتنم 6 نفحات ربانية تتنزل على الصائمين
لماذا نصوم شهر رمضان ؟ من أعظم الفروض والطاعات التي يتقرب بها المسلم إلى ربه: صوم رمضان، وذلك بما فضله الله تعالى به؛ حيث خصَّه من بين سائر العبادات بأنَّه له سبحانه، وذلك فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «قالَ اللهُ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»، فلم ينص على عظيم ثوابه، وجعله مُقَدَّرًا عند الله تعالى لعظمه، إلا أنه مع ذلك بَيَّن أنَّ من ذلك الثواب والجزاء العظيم مغفرة جميع ما مضى من الذنوب والآثام؛ فقال تعالى: «وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ» [البقرة: 184].
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: «إِنَّ رَمَضَانَ شَهْرٌ افْتَرَضَ اللهُ صِيَامَهُ، وَإِنِّي سَنَنْتُ لِلْمُسْلِمِينَ قِيَامَهُ، فَمَنْ صَامَهُ وَقَامَهُ خَرَجَ مِنَ الذَّنْبِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» أخرجه أحمد وأبو يعلى الموصلي في "المسند"، وابن خزيمة في "الصحيح".
وقد أجمع المسلمون على أنَّ صيام شهر رمضان فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل خالٍ عن موانع الصوم؛ كالحيض والنفاس، وكذا رخصه؛ كالمرض والسفر والكبر.. وقد تواردت النصوص في بيان جزيل ثواب من أطاع الله تعالى بصيام شهر رمضان؛ مما يدل على فضل صيام هذا الشهر الكريم.
قال إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالله البعيجان، إن الصوم عبادة من أعظم العبادات وقربة من أزكى القربات وطاعة من أجل الطاعات وحقيقة الإمساك عن المفطرات وترك الشهوات واتقاء المحرمات، وغاية الصوم تقوى الله عز وجل وتهذيب النفس وتزكيتها من النقص والخلل وحصول الأجر والثواب منه سبحانه وتعالى.
وأضاف «البعيجان» في خطبة سابقة له، أن الصوم عبادة من أفضل القربات وأجل الطاعات واعظم المثوبات وهو عبادة الصابرين وزاد المتقين وذخر الفائزين ويكفي أن الله قسم عمل ابن آدم إلى قسمين فجعل الصوم قسما مستقلا إضافة إلى لنفسه وجعل بقية أعماله قسما واحدا، فعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
ولفت إلى أن الصوم جنة ووقاية من النيران وعصمة من اقتراف المعاصي واتباع الشهوات والشيطان وللصائم فرحتان وله في الجنة باب يقال له الريان وأفضل الصيام أداء الركن الواجب بصيام شهر رمضان وأفضل صيام التطوع صيام شهر شعبان.
وفي ختام خطبته حث إمام وخطيب المسجد النبوي المسلمين بالصيام بشهر شعبان قائلا: فصوموا عباد الله من شعبان ما استطعتم واقرضوا الله قرضا حسنا «وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا».
قالت دار الإفتاء المصرية، أولًا: إن الصوم ؛ وسيلة للتحلي بتقوى الله عز وجل، لأن النفس إذا امتنعت عن بعض المباحات الضرورية كالطعام والشراب؛ طمعًا في مرضاة الله، وخوفًا من غضبه وعقابه؛ يسهل حينئذ عليها الامتناع عن الْمُحَرَّمات، والتحلي بتقوى الله تعالى.
وأضاف الدار، في فتوى له، ثانيًا: أن الصوم وسيلة للتحلي بالإخلاص؛ لأن الصائم يعلم أنه لا يطَّلع أحد غير الله تعالى على حقيقة صومه، وأنه إذا شاء أن يترك الصوم دون أن يشعر به أحد لفعل، فلا يمنعه عن الفِطْر إلا اطِّلاعُ الله تعالى عليه، ولا يحثه على الصوم إلا رضاء الله، والنَّفْسُ إذا تعايشت مع هذه الرؤية صارت متحلية بالإخلاص.
وتابعت: ثالثًا: الصوم وسيلة للشكر؛ لأَنَّه بالامتناع في وقت الصوم عمَّا أنعم الله به على الإنسان من الطعام والشراب وسائر الشهوات المباحة يتبيَّن للإنسان مقدار تلك النِّعَم وحاجة الإنسان إليها، ومدى المشقة التي تلحق المحروم من تلك النِّعَم، فتتوق نفسه إلى شكر ذلك الْمُنْعِم العظيم الغنيِّ الذي وهب ومنح دون مُقَابل أو حاجةٍ لِمُقَابل.
وواصلت: رابعًا إن في الصوم من تَخَلُّق النفس بالصبر على الجوع والعطش والشهوة، والحد من نَهْمَتِهَا وانطلاقها الغاشم في الملذَّات، فالنفس المنطلقة في الشهوات اللاهثة وراء الملذات ما أسهل أن تستجيب للشيطان حين يُزَيِّن لها المهالك والموبقات؛ لذا كانت النفس في حاجة إلى الضبط والتنظيم في تنعُّمها بنعم الله تعالى.
وأكملت: خامسًا: أن الله تعالى نسب الصيام إليه، وتولى جزاء الصائمين؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ : كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» [رواه البخاري ومسلم]. وفي رواية: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ؛ يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ».
سادسًا: ومن أسرار الصوم وحكمه أنه فيه صحة للبدن من الأمراض والأسقام؛ فبالصيام يطهر البدن من الفضلات والسموم التي نتجت عن أنواع الطعام الذي يُدخله المرءُ إلى جوفه طيلة العام، ومع الجوع يبدأ الجسم باستهلاك المخزون الجسدي، وطرد ما فيه من السموم والفضلات؛ فمع قلة الطعام الناتج عن صيام النهار ينتظم التنفس، ويقل العبء الملقى على القلب، ويتهيأ للجهاز الهضمي أن يجدد أنسجته التالفة، كما أن قلة الفضلات تسمح بإراحة الكلى وتجدد نشاطها، إلى غير ذلك من الفوائد الصحية العظيمة.
فضل صيام شهر رمضان
شهر رمضان فضّله الله على سائر السَّنَة بنزول القرآن الكريم فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ" [البقرة: 185]، وميز الله تعالى هذا الشهر الكريم بأن أمر بصيام نهاره؛ فقال: "فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ" [البقرة: 185].
والصيام من العبادات التي لها أثرٌ عظيمٌ في حياة الفرد والمجتمع؛ فهو يعود الإنسان على الصبر وتحمل المشاق ويرقق المشاعر والأحاسيس، ويربط العبد بربه وخالقه، وفي الصوم خضوعٌ وطاعةٌ وحرمانٌ من ملذات الحياة وشهواتها طيلة النهار إيمانًا واحتسابًا لله، وهو انتصارٌ على النفس والهوى والشيطان، ورمضان هو شهر المغفرة والعتق من النار، ويكفيه فضلًا أن الله سجّل فضله في القرآن الكريم، ليظل يُتلى على مَرِّ الأيام وكَرِّ الأعوام إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومَن عليها؛ فهو الشهر الوحيد الذي ذُكر باسمه في القرآن الكريم.
فضل صيام شهر رمضان
خصَّ الله عز وجل عبادة الصيام من بين العبادات بفضائل وخصائص عديدة، منها: أولًا: أن الصوم لله عز وجل وهو يجزي به، كما ثبت في البخاري (1894)، ومسلم ( 1151 ) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي».
ثانيًا: إن للصائم فرحتين يفرحهما، كما ثبت في البخاري ( 1904 ) ، ومسلم ( 1151 ) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ».
ثالثًا: إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، كما ثبت في البخاري (1894) ومسلم ( 1151 ) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله عز وجل يوم القيامة من ريح المسك».
رابعًا: إن الله أعد لأهل الصيام بابا في الجنة لا يدخل منه سواهم، كما ثبت في البخاري (1896)، ومسلم (1152) من حديث سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الجَنَّة بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يدْخُلُ مِنْهُ الصَّائمونَ يومَ القِيامةِ، لاَ يدخلُ مِنْه أَحدٌ غَيرهُم، يقالُ: أَينَ الصَّائمُونَ؟ فَيقومونَ لاَ يدخلُ مِنهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فإِذا دَخَلوا أُغلِقَ فَلَم يدخلْ مِنْهُ أَحَدٌ».
خامسًا: إن من صام يومًا واحدًا في سبيل الله أبعد الله وجهه عن النار سبعين عامًا، كما ثبت في البخاري (2840)؛ ومسلم (1153) من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ عبدٍ يصومُ يوْمًا في سبِيلِ اللَّهِ إلاَّ بَاعَدَ اللَّه بِذلكَ اليَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سبْعِين خريفًا»..
سادسًا: إن الصوم جُنة «أي وقاية» من النار، ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصيام جُنة»، وروى أحمد (4/22) ، والنسائي (2231) من حديث عثمان بن أبي العاص قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الصيام جُنة من النار، كجُنة أحدكم من القتال».
سابعًا: إن الصوم يكفر الخطايا، كما جاء في حديث حذيفة عند البخاري (525)، ومسلم ( 144 ) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
ثامنًا: إن الصوم يشفع لصاحبه يوم القيامة، كما روى الإمام أحمد (6589) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ : أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ».
الأول: الجماع:فمتى جامَع الصائم بطل صومُه، فرضًا كان أو نفلًا، ثم إن كان في نهار رمضان، والصوم واجب عليه لزمه مع القضاء الكفارةُ المغلظة، وهي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لا يفطر بينهما إلا لعذر شرعي كأيام العيدين والتشريق، أو لعذر حسي كالمرض والسفر لغير قصد الفطر، فإن أفطر لغير عذر ولو يومًا واحدًا لزمه استئنافُ الصيام من جديد ليحصل التتابع، فإن لم يستطع صيام شهرين متتابعين فإطعام ستين مسكينًا لكل مسكين نصف كيلو وعشرة جرامات من البُرِّ الجيد.
وفي الصحيحين أن رجلًا واقع امرأته في نهار رمضان فاستفتى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فعن أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ. قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، فَقَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟..".
مبطلات الصوم
الثاني من مبطلات الصيام: إنزال المني اختيارًا: سواء بتقبيلٍ أو لمسٍ أو استمناء أو غير ذلك في نهار رمضان؛ لأن هذا من الشهوة التي لا يكون الصوم إلا باجتنابها، كما جاء في الحديث القدسي: «يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي».
أما التقبيل واللمس بدون إنزال فلا يفطر لما في الصحيحين من حديث عائشة قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَلَكِنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لإِرْبِهِ».وكذا الإنزال بالاحتلام لا يفطر، لأنه بغير اختيار الصائم، والتفكير معفوٌّ عنه لما صح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ».
الثالث من مبطلات الصيام: الأكل أو الشرب عمدًا:
إذا أكل الصائم أو شرب عامدًا مختارًا فسد صومه؛ لقوله تعالى: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (البقرة: 187).
الرابع من مبطلات الصيام: ما كان بمعنى الأكل أو الشرب:مثل الإبر المغذية التي يُكتفى بها عن الأكل والشرب؛ لأنها إن لم تكن أكلًا وشربًا حقيقة؛ فإنها بمعناهما، فتثبت لها حكمهما، ورأى بعض الفقهاء أنها لا تفطر، وذكرت دار الإفتاء المصرية، فيحكم الحقن والمحلول الملحي والجلوكوز والمانيتول، أنها جميعًا لا تفسد الصوم؛ لعدم دخولها في منفذٍ مفتوح؛ لأنها تدخل عن طريق الجلد، فهي كأنها تَشَرَّبَها الجِلدُ، ولا فرق بين أن يتشربها الجلد وبين حقنها.
الخامس منمبطلات الصيام : التقيؤ عمدًا:لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ، وَمَنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ»
السادسمنمبطلات الصيام: خروج دم الحيض والنفاس:
لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة: «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ»