طبت حيًّا وميتًا يا رسول الله
تاريخ النشر: 26th, September 2023 GMT
حمد الحضرمي **
وُلِدَ سيد الكونين مُحمد بن عبدالله بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف مكة بتاريخ الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من عام الفيل؛ بموجب ما ذكرته أوثق الروايات، وأمُّه آمنة بنت وهب من بني زهرة، ولم يرَ نبي الأمة أباه الذي مات في المدينة، إذ ولد نبي الرحمة يتيمًا "أَلَم يَجِدكَ يَتيمًا فَآوى" (الضحى: 6) وقد أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب، كما أرضعته حليمة السعدية، وقد ثبت أن عمَّه حمزة بن عبد المطلب أخو رسول الله من الرضاعة، وقد توفيت أمُّه آمنة وهو في السادسة من عمره، ثم كفله ورعاه جدُّه عبدالمطلب حتى بلغ رسول الله ثماني سنوات، ثم توفي جدّه، فعاش رسول الله يتيم الأب، ثم فقد في طفولته أمه ثم جده.
فتأثر رسول الله تأثرًا بالغًا بوفاة أمّه، كما تأثر بوفاة جدّه لأنه كان يحبه ويرعاه ويعطف عليه لدرجة كبيرة، فأوصى عبدالمطلب ولده أبي طالب برعاية رسول الله، فأخلص أبو طالب في رعاية رسول الله وحبَّهُ حبًا كبيرًا، فعمل رسول الله منذ صغره مع عمه ورعى الأغنام في شعاب مكة وفجاجها، وكسب رسول الله من هذه المهنة الشريفة صفات التحمل والصبر والقوة والشفقة والحلم ومُخالطة الناس، وقد عرف الناس رسول الله بأنه ذو صفات طيبة كريمة "وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ" (القلم: 4)، وأكدت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على أن رسول الله كان خلقه القرآن، فهو سيد الثقلين وإنسان مُتواضع بمهابة، وذو حياء بشجاعة، وصاحب صدق وأمانة، وفصاحة وبلاغة، وثبات الجنان وقوة في العقل ورجاحة، وذو حكمة وبصيرة وحلم ورحمة ورقة في المشاعر، وحب العفو والصفح عن الناس.
إنَّنا نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، الذي شرفه الله بأفضل مرقى، وجعله أزكى نبي وأتقى، وجمع له جميع المحاسن خُلقًا وخَلقًا، وأمر البدر أن ينشق له إذا دعاه سقًا، كلمه الضب وخاطبه الثعبان حقًا، ونبع الماء الزلال من بين أصابعه وأروى العطشان صدقًا. يا خير خلق الله، يا سيد الأنام ومصباح الظلام، محمد عليه أفضل الصلاة والسلام "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" (الأحزاب: 56).
اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد الذي لما سرت أخلاقه في أرجاء مكة، وعرف القاصي والداني أمانته وصدقه وحسن خلقه، رغبت سيدتنا خديجة بنت خويلد في أن يُدير لها تجارتها، وكانت سيدتنا خديجة امرأة ذات شرف ومال ومن خيرة نساء قريش نسبًا وأعظمهن شرفًا وحسبًا، ونظرًا لأخلاق الرسول العالية وصدقه وأمانته، فقد رغبت سيدتنا خديجة بالزواج من رسول الله، فعرض رسول الله الأمر على أعمامه، فخرج معه عمه حمزة بن عبد المطلب، فخطب رسول الله سيدتنا خديجة وتزوجها، وأنجبت له كل أبنائه عدا إبراهيم الذي كانت أمه سيدتنا مارية القبطية.
وبدأ نزول الوحي على رسولنا صلى الله عليه وسلم وعمره أربعون سنة، ونزل الوحي على الرسول وهو يتعبَّد بغار حراء، فقد قال له جبريل عليه السلام "اقرأ": فقال النبي "ما أنا بقارئ"، فعاد له الثانية وفي الثالثة قال له: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" (العلق:1- 4). وقد كان بدء نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم نقطة تحول في تاريخ البشرية، نقلتها من طريق الإعوجاج والظلام إلى طريق الهدى والنور، وتحوّل خط التاريخ كما لم يتحول من قبل ولن يتحول من بعد.
إن ميلاد ومبعث رسول الله من الأحداث الفريدة الكبرى في تاريخ البشرية، إذ إن النبي برسالته العظيمة أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وعلينا جميعًا أن لا ننسى تلك الذكرى العطرة؛ لأنه ميلاد جديد للإنسانية وللبشرية بأسرها. وقد استغرق نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين سنة، منها ثلاثة عشر عامًا بمكة المكرمة وعشر سنين في المدينة المنورة، وتبقى ظاهرة الوحي معجزةً خارقة للسنن الطبيعية، فقام رسول الله بنشر الإسلام للناس كافة بمختلف أجناسهم وقومياتهم وألوانهم وفي كافة بقاع الدنيا "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا" (سبأ: 28).
وقصدت الدعوة الإسلامية إلى تحرير النَّاس من الأوهام والأساطير والخرافات والشعوذة التي يقوم بها منتفعون يزعمون أنهم وسطاء بين الله والناس، والدعوة الإسلامية أعلنتها صريحة مدوية، أنه لا واسطة بين الله والإنسان، وقد اهتمت الدعوة الإسلامية ببناء مجتمع العدل والشورى، والعلم والعمران. ولقد كافح رسول الله وواجه أهل قريش الذين سخروا منه بالضحك والاستهزاء والغمز واللمز، واستمر رسول الله في نشر الإسلام وحرص على الاجتماع بالناس وتبليغهم دعوة الدين الحنيف، وكان يتحرى مواضع اجتماع القبائل وخاصة في مواسم الحج، حتى تمت بيعة العقبة الأولى وتلتها بيعة العقبة الثانية من مسلمي الأوس والخزرج، وهذه البيعة هي نقطة التحول الكبرى في تاريخ الدعوة؛ حيث أصبحت للإسلام دار يمكن أن تُتخذ قاعدة للانتشار وهو ما حصل بالفعل.
إذ أذِن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالهجرة إلى يثرب، التي تغير اسمها فيما بعد إلى المدينة، فهاجرت مجموعة من الصحابة إلى المدينة، وبعد فترة هاجر النبي صلى الله عليه وسلم برفقة صاحبه أبي بكر الصديق، وعندما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة استقبله النَّاس خير استقبال، وأول ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم فور وصله إلى المدينة بناء المسجد، ثم قام رسول الله بتنظيم شؤون حياة المسلمين ووضع الحلول والتنظيم لكافة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والصحية، وآخى بين المهاجرين والأنصار.
وأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم دستورًا للمدينة، وهي وثيقة التحالف بين المهاجرين والأنصار، والتي نظمت العلاقات بين سكان المدينة. وانتشر الإسلام وأسس رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة إسلامية قوية، كان في إدارتها صحابته الكرام، وكبار مستشاريه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، فأصبحت الدولة الإسلامية مجتمعًا قويًا متماسكًا قائمًا على أسس الحب والتكافل الاجتماعي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واحترام الإنسان وتحقيق العدل والإنصاف.
وقد مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة وبعد شهرين ونصف من عودته إلى المدينة من حجة الوداع، إذ شعر بالمرض وهو في بيت أم المؤمنين ميمونة، فطلب من زوجاته أن يُمرض في بيت أم المؤمنين عائشة، واستمرت فترة مرضه صلى الله عليه وسلم عشرة أيام، وقد أثقله بعد ذلك المرض ومنعه من الخروج للصلاة بالنَّاس، فقال "مروا أبا بكر أن يصلي بالنَّاس" ودخلت السيدة فاطمة الزهراء على أبيها رسول الله عند الضحى فقالت: "وا كرب أباه" فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على أبيك كرب بعد اليوم".
وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام إحدى عشرة للهجرة، وقد نادت فاطمة الزهراء: "وَا أَبَتَاهُ، إلى جِبرائيلَ أَنْعَاهُ، وَا أَبَتَاهُ، مِن ربِّه ما أَدْناهُ! وَا أَبَتاهُ، جنَّةُ الفِردَوْسِ مَأْواهُ، وَا أَبَتَاهُ، أجابَ ربًّا دَعاهُ" ودخل أبوبكر على النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن وجهه وقبله وبكى، وقال: "طبت حيًّا وميتًا يا رسول الله" ثم صلى المسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم أرسالًا أرسالًا، لا يؤمهم أحد، وحفروا له قبرًا في حجرة عائشة رضي الله عنها ودفنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثواه الأخير.
اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك، إمام وقائد الخير، ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقامًا محمودًا يغبطه الأولون والآخرون، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
** محامٍ ومستشار قانوني
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: رسول الله صلى الله علیه وسلم النبی صلى الله علیه وسلم رسول الله من إلى المدینة الوحی على
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: ما ترك لنا رسول الله طريقا يؤدي الى النار إلا وحذرنا منه
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن الله عز وجل ما ترك لنا طريقًا يبلغنا رضاه وجنته إلا وقد أرشدنا إليه، وحثنا عليه رسوله الكريم ﷺ ، وما ترك لنا طريقا يؤدي بنا إلى النار إلا وحذرنا منه وأحدث لنا منه ذكرا، وتركنا رسول الله ﷺ على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
وأضاف جمعة، فى منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الإجتماعي فيسبوك، أنه لما زاغ الناس عن المحجة البيضاء شاع الفساد، وفشت الفتن من حولنا، تلك الفتن التي وصفها سيدنا رسول الله ﷺ فقال : (يخرج في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين، يلبسون للناس جلود الضأن من اللين، ألسنتهم أحلى من السكر، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله عز وجل : أبي يغترون ؟ أم علي يجترئون ؟ فبي حلفت، لأبعثن على أولئك منهم فتنة تدع الحليم منهم حيرانًا) [رواه الترمذي]. وفي ذلك تصديق لقوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ) .
ذلك الحليم الذي يفكر فلا يعرف قابيل الفتن من دبيرها، يحاول أن يعلم أين هو منها، فإذ به وكأنه في ظلمات بعضها فوق بعض، كموج البحر، قال تعالى : (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّور)ٍ ، فهي فتن يصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ونحن إذ في هذه الحالة نريد أن نعتصم بحبل الله، ونتعلق بسفينة النجاة التي توصلنا إلى الله بإذنه تعالى.
لابد أن نحاول معرفة أسباب ما يجري من حولنا، فإن العصر اتسم بالإنجاز الذي قد سبق الأخلاق والقيم، وسبق النشاط الفكر والتفكر والتدبر، وقدمت المصلحة على الشريعة، وتقدمت اللذات على عبادة الله، فكان الناس في العصر على ثلاثة أنحاء : فاجر قوي، وعاجز تقي، ومؤمن كامل وفي.
أما الفاجر القوي فقد تمكن اليوم من العالم، وأراد أن يثبته فكره الذي يقدم الإنجاز على القيم والأخلاق، فهذا الرجل الذي كان يحكم أكبر دولة في العالم علم بفضائحه وسوء أخلاقه الكبير والصغير، ولكن عقلية شعبه لا ترى مع ذلك ضررًا خاصة طالما أنه ما زال ينجز وينجح في عمله، فماذا يتعلم أولادنا من هذه القصة من غير كلام، يتعلمون أن النجاح هو القوة والإنجاز حتى وإن كان فاجرًا.
وفي المقابل نرى تربية الله ورسوله لنا على غير هذا الشأن، فسيدنا رسول الله ﷺ يربينا أن نكون أقوياء، وأن نأخذ بيد العاجز منا ونصل به إلى القوة، فالعجز مذموم خاصة إن كان في عبادة الله وعمارة الأرض وتزكية النفس، غير أن المؤمن العاجز خير من الفاجر القوي عند الله، وينبغي أن يكون كذلك عند الناس، فالمؤمن يمتلك القيم والأخلاق، والإصلاح الطهر الذي يكون به الحضارة الإنسانية الحقيقية.