عبر حسابٍ أنشأته حديثا على تطبيق "إنستغرام" لم تترك زوجة رئيس النظام السوري أسماء الأسد لحظة من زيارتهما إلى الصين إلا ووثقتها بالصور والفيديو، وحتى باتت المشاهد التي نشرتها بكثرة، يوما بعد يوم، مع مديرة مكتبها دانا بشكور تطغى على الهدف الأساسي للرحلة، الذي وصفته وسائل الإعلام الرسمية بـ"القفزة التاريخية والهامة".

ومنذ لحظة وصولهما إلى مدينة هانغتشو، ومن ثم إلى بكّين، استعرضت أسماء الأسد تفاصيل دقيقة تحولت من خلالها الزيارة الرسمية وكأنها "رحلة عائلية".

وفي إحدى التسجيلات عبر "إنستغرام" وثقت لحظة ترتيبها الملابس التي يرتديها الأسد قبل توجههما إلى مأدبة الغداء.

وأظهرت تسجيلاتٍ أخرى نشرتها على الحساب الحديث في "إنستغرام" جولاتها مع زوجها وأبنائها الثلاثة إلى معابد دينية وقرى وبلدات صينية، ولحظات حضورهما حفل إطلاق دورة الألعاب الآسيوية، التي تشارك فيها سوريا بعدة رياضيين.

وقبل 3 أعوام نادرا ما كانت أسماء الأسد تخرج بإطلالات إعلامية أو تجري مع زوجها زيارات رسمية جنبا إلى جنب، لكن ومع مرور الوقت وتوالي التطورات الداخلية في سوريا وبدء النظام السوري الظهور بـ"حالة المنتصر" بعد انحسار رقعة المعارك بشكل تدريجي تغيّر ذاك المشهد على نحو كبير ولافت.

وما بين إطلالة هنا واجتماع وكلمةٍ هناك وزيارة إلى قرى ومحافظات سورية، حجزت زوجة رئيس النظام السوري صورة إعلامية مختلفة لها، وبينما التزمت بهذا المسار لفترة من الزمن، تصاعد حضورها مؤخرا بالزيارة الخارجية التي أجرتها مع الأسد إلى دولة الإمارات، ومن ثم إلى روسيا، يونيو الماضي، في أثناء حضورها "حفل تخرج ابنها حافظ من جامعة موسكو الحكومية"، وصولا إلى زيارتهما معا إلى الصين.

وجاء هذا الصعود في وقت تحدثت الكثير من التقارير الإعلامية المحلية والأجنبية عن دور اقتصاديٍ باتت تلعبه داخل "القصر الجمهوري"، استهدفت من خلاله طبقة خاصة ببعض أمراء الحرب، والفقراء الذين يقيمون في مناطق سيطرة النظام السوري.

وسبق أن كشف موقع "الحرة" عن خفايا هذا الصعود ضمن تقريرين نشرا في ديسمبر 2020 ويونيو 2021، فيما سلطت تقرير لصحيفة "فاينانشال" تايمز البريطانية، في أبريل 2023، الضوء على "الدور القيادي والنفوذ الواسع لزوجة الأسد"، على مختلف قطاعات الاقتصاد السوري.

"بصماتها واضحة"

ومن خلال التسجيلات التي توثق إطلالات أسماء الأسد، دائما ما تبدو الأخيرة كأنها "تلعب دورا قياديا ما"، ورغم أنها لم تتطرق إلى الأوضاع التي تعيشها سوريا في الوقت الحالي سواء سياسيا أو اقتصاديا، وركّزت في معظم عباراتها على "خطابات اجتماعية وإنسانية في آن واحد".

وفي الأماكن العامة، تقدم أسماء (48 عاما) الرعاية للأمهات وأسر العسكريين والأطفال المصابين بالسرطان والناجين من الزلزال، لكن في السر حوّلت نفسها إلى موقع قوة، وفقا لمقابلات أجرتها "فاينانشال تايمز"، قبل خمسة أشهر، مع 18 شخصا على دراية بأنشطة النظام.

وتتحكم أسماء، وفق الصحيفة البريطانية في "العديد من مستويات الاقتصاد"، إذ تصنع السياسات وتجني الأرباح، وتساعد في تمكين النظام، وتظهر بصماتها بشكل واضح في قطاعات عدة، مثل العقارات والبنوك والاتصالات، وإن كان ذلك من خلال الشركات الوهمية والحسابات الخارجية المملوكة لشركاء مقربين.

وحسب ما قالت 3 مصادر متقاطعة في تصريحات سابقة لـ "موقع الحرة" فإن صعود أسماء الأسد إلى الواجهة مؤخرا "ليس عبثا"، بل يصب في إطار حملة واسعة تديرها على المستوى الاقتصادي لسوريا، وكانت قد بدأت العمل بها في وقت سابق.

وتحدثت المصادر، في ديسمبر 2020، أن "أسماء الأسد شكّلت لجنة تحمل اسم (استرداد أموال الفاسدين وتجار الأزمة)، لهدف واحد هو تحصيل الأموال التي جمعها عدد من المسؤولين ورجال الأعمال المصنفين على تجار الحرب، وذلك ضمن خريطة مرسومة"، وكان أبرز ضحاياها ابن خالة رئيس النظام، رامي مخلوف.

ويوضح الصحفي السوري، كنان وقاف، الذي اضطر قبل أشهر للخروج من سوريا بسبب ملاحقة الأجهزة الأمنية للنظام، أن "أسماء الأسد أطبقت على سوريا اقتصاديا منذ سنوات، من خلال المكتب الاقتصادي (المكتب السري) وفرع الخطيب الأمني".

ويقول وقاف لموقع "الحرة": "لا يوجد أي منافس لها حاليا بغض النظر عن بعض الفتات الذي ترميه لماهر الأسد، من خلال الحواجز وتجارة المخدرات والكبتاغون".

"كاقتصاد عادي هي المسيطر الوحيد، وفي الجانب الاجتماعي سيطرت في الفترة الأخيرة على كل الجمعيات الخيرية وحتى شركات الإنتاج الدرامية"، حسب حديث الصحفي وقاف.

وفي مقابل صعودها الإعلامي، حتى باتت تزاحم صور ومقابلات الأسد، كان اسم أسماء قد تردد خلال الأشهر الماضية على لسان نشطاء في الساحل، انتقدوا سياسة النظام السوري علنا عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

وكسرت صرخات هؤلاء، من بينهم أيمن فارس ابن مدينة بانياس، الذي انتهى حاله بالاعتقال الصمت الذي لطالما خيّمت على مناطق الساحل السوري، التي توصف بأنها "الخزان المؤيد للأسد" وداعمه الرئيسي.

ووجه فارس، في أغسطس الماضي، ضمن فيديو نشره على "فيسبوك" انتقادات وكلمات لاذعة استهدفت رأس النظام السوري، بقوله: "ماذا فعلت؟ أنت وزوجتك يا بشار الأسد أفقرتم الشعب وتهرّبون الأموال للخارج"، مضيفا: "سوريا كلها عبارة عن أفرع أمنية ورؤسائها يتحدثون بالقصور والمليارات.. وروح بلط البحر".

ويعتبر الصحفي السوري، نضال معلوف، أن "الدور الذي باتت تلعبه أسماء الأسد سلبي للغاية فيما يخص زوجها بشار الأسد بالتحديد"، موضحا أنها "تبعده أكثر فأكثر عن الواقع، وتجعله يخسر حاضنته ومؤيديه إن صح التعبير".

ويقول معلوف لموقع "الحرة": "من خلال معرفتي التامة لتركيبة النظام السوري لا يمكن بقاء الأخير في حال غاب بشار الأسد عن السلطة ولا بأسماء ولا بغيرها".

ويضيف أن "النظام باق فقط ببقاء بشار الأسد ولو بشكل صوري على رأس السلطة، بينما تعجّل أسماء الأسد وتسهّل المهمة في الاستغناء عنه".

خفايا صعود أسماء الأسد.. وتفاصيل دورها في "استرداد الأموال"  في مدينة حمص وفي أكتوبر الماضي، كان هناك مشهد غير مألوف في سوريا التي تحكمها عائلة الأسد منذ عقود، حيث اعتاد المواطنون على رؤية صور الأسد الأب والابن في الشوارع وعلى أبواب المدارس والدوائر الحكومية، لكن يبدو أن هذه القاعدة قد كسرت بأياد ليست من الخارج بل من الداخل.

وقبل عامين أو ثلاثة، عندما بدأت أسماء الأسد "تكريس الدور"، كان لزوجها حاضنة ومؤيدين وأناس "لديهم أمل فيه".

لكن بعد ذلك، وبالتزامن مع الصعود "انتهت هذه الصورة"، وزاد من كسرها الواقع المعيشي والاقتصادي المتدهور الذي وصلت إليه الناس في المحافظات الخاضعة لسيطرة النظام السوري.

ويتابع معلوف: "في الداخل اليوم لا يتمتع بشار بأي حاضنة أو تأييد، ولعبت زوجته أسماء دورا كبيرا في ذلك".

ما الذي تريده زوجة الأسد؟

ترأس أسماء الأسد المجلس الاقتصادي "السري" التابع للرئاسة، بحسب صحيفة "فاينانشال تايمز" ووفق ما أكدته مصادر متقاطعة لموقع "الحرة" قبل عامين.

وهذا المجلس، لا يلعب دورا بارزا رسميا في سوريا، وفق الصحيفة، بينما تعمل المنظمات غير الحكومية التابعة لزوجة الأسد في بناء شبكة محسوبية واسعة للعائلة، وتتحكم في أماكن وصول أموال المساعدات الدولية في البلاد.

وخلال السنوات الأولى من الحرب، تراجعت أسماء الأسد عن المشهد العام، لكن بحلول عام 2016، ومع سيطرة الأسد على جزء كبير من سوريا "خرجت بكامل قوتها"، وأصبحت محل تقدير كبير من العلويين، من خلال عملها الخيري.

وساعدت معركة علنية مع سرطان الثدي عام 2018 في التقريب بين آل الأسد، وبعد فترة وجيزة، عهد بشار إلى زوجته بتولي أجزاء من محفظة الدولة الاقتصادية، وفق التقرير السابق للصحيفة البريطانية.

وتقدّر وزارة الخارجية الأميركية أن صافي ثروة عائلة الأسد يتراوح بين مليار وملياري دولار، فيما تبلغ ثروات المقربين منه مليارات الدولارات.

وكشفت الوزارة في مايو 2022 أن أسماء الأسد، التي أدرجتها على قوائم العقوبات، أسست شبكة تمارس نفوذا على الاقتصاد السوري، ناهيك عن نفوذها على اللجنة الاقتصادية التي تدير الأمور الاقتصادية في البلاد.

كما وسّعت نفوذها في القطاعات غير الربحية والاتصالات في السنوات الأخيرة، وأنها تسيطر على "الأمانة السورية للتنمية" التي أسستها في 2001 لتوجيه تمويل المبادرات في المناطق الخاضعة للنظام.

واستولت أسماء على "جمعية البستان الخيرية" من رامي مخلوف، وعينت مسؤولين مقربين منها في مجلس إدارة شركة سيرياتيل للاتصالات، كما أسست شركة اتصالات "إيماتيل" مع رجل أعمال سوري.

وتولى مهند الدباغ ابن خالة أسماء وشقيقها فراس الأخرس إدارة شركة "تكامل" التي تدير برنامج البطاقة الذكية، التي تستخدم لتوزيع الغذاء المدعوم في سوريا.

"المكتب السري" يرفد خزينة الأسد بعائدات "الإتاوة" نظام الأسد يرفد خزينته بـ"إتاوات المكتب السري"

وتشير بيانات سابقة للخارجية الأميركية إلى أن عائلتي الأسد والأخرس "جمعتا ثروتيهما على حساب الشعب السوري من خلال سيطرتهما على شبكة ممتدة وغير مشروعة لها روابط في أوروبا والخليج وأماكن أخرى".

ويرى الصحفي وقاف أن "أسماء الأسد تواجه رفضا شديدا من المجتمع"، وهو ما يشير إليه الصحفي نضال معلوف أيضا.

وفي الوضع السياسي يقول وقاف: "يبدو أنها بدأت منذ عامين بمحاولة الدخول إلى المعترك من خلال تعيين أشخاص تابعين لها في مناصب بعينها، وأحيانا تكون هذه المناصب عسكرية".

كما بدأت أجهزة الأمن بنشر إشاعات عن نيتها الترشح للرئاسة بعد انتهاء ولاية بشار الأسد الحالية، كونه لا يحق له الترشح كما ينص الدستور الحالي.

ويضيف وقاف: "من مصادري الموثوقة وهم ضباط كبار فإن زيارتها الأخيرة إلى موسكو التي كانت ظاهريا التواجد في حفل تخرج نجلها هي في الحقيقة محاولة لإقناع الروس بدعم ترشحها، وقوبل الأمر بالرفض".

"مشهد غير متزن"

من جانبه، يوضح الصحفي نضال معلوف أن "هناك شيئا غير متزن وغير منطقي أو يفتقد لأي درجة من درجات الذكاء فيما يتعلق بالأسد وزوجته أسماء".

ويقول: "عندما ننظر إلى تصرفاتها، بات من الواضح أنها تتحكم بالواقع الاقتصادي وكأنها تحاول جمع أكبر من الثروة قبل انتهاء عمر النظام".

لكن من حيث النتيجة يرى معلوف أن "أدوارها سلبية، سواء من خلال سلب أموال السوريين الفقراء أو حتى الأغنياء، وملاحقتها بأساليب مختلفة لأمراء الحرب، من خلال القصر الرئاسي أو فرع الخطيب".

"لا يوجد أي دور إيجابي بناء على أكاديميتها لإعادة الروح للاقتصاد السوري".

وعلى العكس "تلعب دورا يقوم على تجفيف كل الطرق والمداخل التي يمكن أن يتعافى منها الاقتصاد السوري".

وسبق أن حمّل الباحث الاقتصادي السوري، الدكتور كرم شعار، مسؤولية التدهور المعيشي والاقتصادي في سوريا للسياسات الفاشلة المتعلقة برأس النظام السوري، وزوجته أسماء الأسد.

والأسد وزوجته قررا بعد منتصف العام 2019 وبداية 2020 "التعامل مع الأزمة الخانقة من خلال السيطرة على ثروات رجال الأعمال، وهو ما شكّل حالة رهاب عند هؤلاء".

وبذات الفترة ضربت سوريا صدمات عدة، كان من بينها دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، والآثار التي عكستها الأزمة المصرفية في لبنان، بالإضافة إلى آثار جائحة كورونا وانسحاب واشنطن من الاتفاقية النووية مع إيران.

ويضيف شعار: "سوريا تدفع ثمن ما سبق وبشكل عملي"، وأن الليرة السورية فقدت 95 بالمئة من قيمتها، منذ عام 2019.

وفي مقابل دورها على الأرض، لا يستبعد الصحفي معلوف أن تكون صعود وإطلالات أسماء الأسد متعلقة بـ"شيء تجميلي للخارج"، وهو ما بزر خلال رحلة الصين، إذ التقت طلابا ومواطنين صينيين "لا يمتلكون أي فكرة عنها".

ويوضح معلوف: "أسماء الأسد يقف ورائها مكتب علاقات عامة كبير يعمل على إظهارها بصورة الملكة، كما كنا نعرف في سوريا".

وكان لديها "كادر جاء من بريطانيا يعنى بصورتها ومظهرها بالتحديد".

ومع ذلك، يرى الصحفي السوري أن هذا المشهد لا يتناسب مع واقع السوريين التي، من خلالها ممارساتها، تبتعد عنهم شيئا فشيئا"، مضيفا بالقول: "هي وزوجها خسروا الحاضنة. مؤيدة النظام يكرهونا أكثر من بشار".

ويستبعد أن "يؤدي الدور الذي تلعبه لأي نفوذ مستقبلي أو يصب في زيادة شعبيتها"، مؤكدا أن "هناك شيء غير متزن بها وبزوجها". 

ولا يظن الصحفي كنان وقاف أنها "ستنجح في الوصول للدور الذي تخطط له لوجود رفض شعبي قوي"، ويقصد هنا الدور السياسي، ويضيف أن "نفوذ زوجها يتيح لها الهيمنه لانعدام أي منافسة، والقبضة الأمنية الشديدة".

المصدر: الحرة

كلمات دلالية: النظام السوری أسماء الأسد بشار الأسد فی سوریا من خلال

إقرأ أيضاً:

العسكر وبناء الدولة التسلطية في العالم العربي.. قراءة في كتاب

الكتاب: زيارة جديدة لتاريخ عربي
الكاتب: كمال خلف الطويل
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى ،شباط/فبراير 2024.


لقد تصدى الجيش لمهمة قيادة الدولة في مصر باعتباره المؤسسة الأكثر عصرية والأكثر تماسكا في المجتمع المصري، وتعرضت إلى نمط من التحديث على النسق الأوروبي. وانتهج العسكر في المرحلة الأولى من الثورة (1952 ـ 1954 ) منهجًا سياسيًا تجريبيًا، الأمر الذي قاد إلى تراكم المصاعب أمام الحكم الجديد، بعد أن تفجرت الصراعات السياسية، وضربت الحركة الحزبية في المجتمع، وفشل في معالجة أزمة الديمقراطية، من خلال حصر سيادة الشعب بوصفه المفهوم الأرقى والواقعي للديمقراطية في إطار الشكل التمثيلي الضيق والمحدود للنخب العسكرية والبيروقراطية، وانتهاج نهج قمعي للحركة  الشعبية، الأمر الذي قاد إلى "تحرك شعبي واسع عام 1954 يطالب بعودة الضباط إلى ثكناتهم وإطلاق الحريات الديمقراطية ".

إنَّ علاقة العسكر بالديمقراطية ليست علاقة ودية، بل هي علاقة تعاكسية، ذلك أنَّ العسكر والديمقراطية يقفان على طرفي نقيض، والسبب يرجع في ذلك إلى التناسب العكسي بين الديمقراطية والعسكر. فكلما ازدادت الديمقراطية قل تدخل العسكر في السياسة والعكس صحيح. فالديمقراطية مرتبطة بالحرِّية السياسية بتنوعها التي تفترض قدرة المواطنين على تأليف الأحزاب السياسية، والانتماء إليها، والمشاركة في الحياة السياسية العامة بكل معاني المشاركة وشروطها، وإنتخاب حكامهم، وممارسة حقوقهم بحرية تامة. ومن هذا المنطلق، فإنَّ إلغاء الأحزاب السياسية من جانب قيادة يوليوإنما يخفي في جوهره عداء للديمقراطية ذاتها.

إذا كانت بنية المجتمع العربي على وجه العموم بنية تتسم بطابع التنوع الهائل على صعيد التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، وتسود فيها الانقسامات الطبقية، والطائفية، والدينية، والقومية، وهي بنية لا إقطاعية مثلما هي لا رأسمالية بالمعنى الكلاسيكي الأوروبي، وتسيطر يها البنى التقليدية ما قبل الثورة الديمقراطية البرجوازية والتطور الرأسمالي، والتي مازالت تهجر الاستقطاب الطبقي وتشوهه، ويسود فيها أيضا النظام البطركي الأبوي على حد قول الدكتور هشام الشرابي، أي نظام القرابة النابذ للإندماج القومي والذي يكرس الولاء الشخصي والعلاقات الشخصانية، ويولد باستمرار الشقاق أو التنازع ذا الطابع القبلي و لمذهبي داخل الجسم الاجتماعي، فإنَّ هذا الوضع الآنف الذكر لا يبرِّرُ لمجلس قيادة الثورة في مصر إستغلال ضعف إنغراس الأيديولوجية السياسية الحديثة في المجتمع، وتخلف السياسة ولا عقلانيتها و تخلف الأحزاب في وعيها و تنظيمها، لإنتهاج فلسفة في ممارسة الحكم لا تطرح سيادة الشعب بمفهوم المشاركة في مجتمع مدني، بل مفهوم النيابة عنه و إنتداب نفسها لتمثله، ولا تؤمن بقدرة الشعب على تخطي ضعفه و تخلفه السياسي والإيديولوجي الديمقراطي أو قهر عدوه الخارجي ، بل تؤمن فقط بضرورة إصطفاف الشعب ـ مثل الجيش المقاتل ـ خلف قائد واحد.

إنَّ علاقة العسكر بالديمقراطية ليست علاقة ودية، بل هي علاقة تعاكسية، ذلك أنَّ العسكر والديمقراطية يقفان على طرفي نقيض، والسبب يرجع في ذلك إلى التناسب العكسي بين الديمقراطية والعسكر. فكلما ازدادت الديمقراطية قل تدخل العسكر في السياسة والعكس صحيح. فالديمقراطية مرتبطة بالحرِّية السياسية بتنوعها التي تفترض قدرة المواطنين على تأليف الأحزاب السياسية، والانتماء إليها، والمشاركة في الحياة السياسية العامة بكل معاني المشاركة وشروطها، وإنتخاب حكامهم، وممارسة حقوقهم بحرية تامة. ومن هذا المنطلق، فإنَّ إلغاء الأحزاب السياسية من جانب قيادة يوليوإنما يخفي في جوهره عداء للديمقراطية ذاتها.إذا كان الجيش المبني على التنظيم الهرمي والكلي للسلطة قد نجح من خلال حركة الضباط الأحرار في الاستيلاء على الحكم، وبناء الدولة الوطنية المستقلة في مصر. غير أنه مع بروز الزعامة الفردية، لعبد الناصر الذي خرج منتصرا من الصراعات الدرامية 1952 ـ 1954، والذي كان يحظى بدعامة العسكر، لم يمنع من سقوط النظام المصري الجديد في المنحدر الشمولي بعد أن قضي على الحركة الحزبية، وعطل الحركة النقابية، وأقصي الضباط الديمقراطيين في الجيش الذين كانوا يتعاونون مع القيادات السياسية في الشارع السياسي .

وفي ظل غياب بناء النظام الديمقراطي بحجة رفض المفهوم الليبرالي للديمقراطية بمعناها الكلاسيكي الغربي، وعدم حل التناقض الجوهري الذي أفرزته المرحلة الجديدة من قيادة الشعب إلى الديمقراطية من فوقه، وبين سيطرة الأوضاع الشمولية بالنفوذ والهيمنة من جانب أجهزة القمع: المباحث والمخابرات ومترادفاتها وملحقاتها على الدولة، لم يكن هناك من خيار أمام النظام الجديد من ظهور الديكتاتورية لمجلس قيادة الثورة و الزعامة الفردية للدولة و للنظام و للثورة سوى الفوضى.

وهكذا مع انعدام الانتقال التدريجي نحو النظام الديمقراطي تأسست الدولة التسلطية في مصر التي أطلقت يد الأجهزة من دون رقابة الشعب وفي تناقض كلي مع المجتمع المدني، ولم يكن هناك مجال للصراع السياسي في عملية اتخاذ القرار إلا في أعلى قمة هرم السلطة. أما في غير هذا المستوى فقد سادت نظرة ترى أن السياسة ما هي في جوهرها إلا مجموعة من المشكلات الإدارية وأن الخلاف يمكن أن يدور حول هذه المشكلات وحول رفع مستوى الأداء ولكن دون أن يتطرق إلى الاختيارات والأولويات نفسها. وهكذا تبنى النظام مفهوما "اندماجيا " وليس مفهوما "تنافسيا" للمجتمع السياسي. وفي هذا الإطار كان الزعيم السياسي الكاريزمي الذي توفرت له أيضا معظم السلطة التنفيذية هو قمة هرم السلطة في المجتمع جوهر تضخم وتشعب بصورة أبرزت بوضوح الطابع "النهضوي" البيروقراطي للنظام .

إنَّ الذي انتصر في مصر ليس البديل الثالث أي الإنتقال التدريجي نحو إقامة نظام ديمقراطي تعددي، بل خيار ديكتاتورية مجلس قيادة الثورة وما نجم عن هذا الخيار من استبعاد اليسار القديم مثل خالد محي الدين ويوسف منصور صديق، وعبد المنعم عبد الرؤوف، وجمال سالم، واحتضان مجموعة الضباط التي كانت في خدمة النازيين في الفترة الممتدة 1941 ـ 1942 والتي كانت على علاقة بالإخوان المسلمين في أواخر الأربعينات.

ويجمع العديد من الدارسين للثورة المصرية من عرب وأجانب، بأن الأكثرية من  الضباط الأحرار ينتمون إلى التيار اليميني الوطني، وهذا لا يمنع وجود رجال من ذوي الأفكار الليبرالية والاشتراكية والشيوعية بين زمرة الضباط، بل وبين الضباط الأحرار أنفسهم. لكن هؤلاء برغم ضآلة تأثيرهم قبل الانقلاب فإن تأثيرهم هذا انتهى تماما بعد الاستيلاء على السلطة، واستقرار النظام، ولم تكن "اشتراكية" عبد الناصر العربية إمتدادا لأيديولوجية ليبرالية، أو إشتراكية، أو ماركسية، وإنما هي نتاج فكر يميني وطني .

إِنَّ تقهقر الإقطاع وشبه الإقطاع، وسيطرة الملاكين العقاريين الكبار والرأسمالية الكبيرة على السلطة السياسية الداخلية في مصر، وتقهقر البرجوازية بأشكالها المختلفة وشكلها الأساس الكمبرادوري، وصعود شرائح وفئات من الطبقة الوسطى إلى السلطة، قد جعل كل البنيان الطبقي في المجتمع المصري مفتوحاً وفي حالة عدم استقرار نظراً للضعف العددي والبنيوي للطبقات الاجتماعية الكلاسيكية بالمفهوم الغربي (البرجوازية والطبقة العاملة) وللسيولة الطبقية الجارية على صعيد شرائح وفئات الطبقة الوسطى أو البرجوازية الصغيرة التي أصبحت تحتل المركز الأول في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية منذ العام 1952 وحتى نهاية الستينات، والتي اضطلعت بعملية التحديث والنهضة الوطنية في مصر "الثورة" على حد مقولة موروبرجر Morroe Berger” عن "الأهمية التاريخية لنشوء الطبقة الوسطى" في مؤلفه البيروقراطية والمجتمع في مصر المعاصرة"، حيث ختم مؤلفه بالصياغة التالية لمقولته" وكثيراً ما يقال أن النظام العسكري القائم يحاول تمثيل الطبقة المتوسطة التقليدية من موظفي الحكومة وأرباب الأعمال الحرة وصغار التجار، وإنما الحقيقة تكمن في أن النظام العسكري يحاول أن يكون ممثلاً للطبقة المتوسطة (الحديثة) التي ما زالت في طور التكوين والتي تقع على عاتقها مهام تكنولوجية وإدارية وريادية في مجال تحفيز الاستثمارات، وعلى وجه التحديد، فإن النظام العسكري يحاول خلق طبقة جديدة ليمثلها".

فشل العدوان الثلاثي عام 1956

عن حرب السويس عام 1956، تشكلت مقدمات تلك الحرب، منذ قيام الثورة المصرية، التي طالبت البريطانيين بإخلاء قواعدهم في مصر. كما رفض الغرب بيع السلاح إلى مصر، التي أعادت بناء جيشها الوطني، فذهبت إلى طلب السلاح من تشيكوسلوفاكيا واعترفت بجمهورية الصين الشعبية. كما قرّرت القيادة بناء السد العالي في أسوان لكنّ بريطانيا والولايات المتحدة قررتا إفشال المخطط، بمنع البنك الدولي من تزويد مصر بقرض مالي لذلك الغرض. ردّ عبد الناصر على خطط منع تقدّم بلاده، فأعلن تأميم قناة السويس كشركة وطنية مصرية لا يمتلكها أحد سوى الشعب المصري. كان القصد تأمين الأموال للمضي في تنفيذ بناء السد. قررت بريطانيا التخلص منه وكلفت وكالة مخابراتها M16 بتلك المهمة. أعدّت مؤامرة لاغتيال عبد الناصر على يد مجموعة من المصريين المنفيين وبعض ضباط الوكالة، ترأس تنفيذ الخطة مساعد مدير مخابرات سلاح الطيران المصري، الذي اتضح فيما بعد أن هذا الضابط نفسه كان عميلاً مزدوجاً كشف الخطة، فألقي القبض على 11 مصرياً و4 بريطانيين.

إِنَّ تقهقر الإقطاع وشبه الإقطاع، وسيطرة الملاكين العقاريين الكبار والرأسمالية الكبيرة على السلطة السياسية الداخلية في مصر، وتقهقر البرجوازية بأشكالها المختلفة وشكلها الأساس الكمبرادوري، وصعود شرائح وفئات من الطبقة الوسطى إلى السلطة، قد جعل كل البنيان الطبقي في المجتمع المصري مفتوحاً وفي حالة عدم استقرار نظراً للضعف العددي والبنيوي للطبقات الاجتماعية الكلاسيكية بالمفهوم الغربيلقد وجد رئيس وزراء بريطانيا إيدن ورفيقه وزير المالية هارولد مَكمِلَن، عبد الناصر وطنياً حازماً مقلقاً للغاية. وبّخ أيدن وزير خارجيته أنتوني نَتِنكَ مرة قائلاً: "ما كل هذا الهراء حول عزل ناصر أو تحييده. أريد تدميره، ألا تفهم؟ أريد قتله". بعد فشل خيار الاغتيال المذكور، عمد أيدن إلى استعمال القوة والإعداد لغزو منطقة القناة. اجتمعت القيادات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية سرّاً في قرية سيفرSevres بإحدى ضواحي باريس في الفترة من 22 إلى 24 تشرين الأول عام 1956 لتنظيم ردّ عسكري ضد مصر. مثّل الجانب الفرنسي جي موليه وكريستيان بينو وبوركس مونوريه، ومثل الجانب الإسرائيلي ديفد بن كريون وشيمون بريز وموشيه دايان. أما الجانب البريطاني فمثله سلوين لويد وممثلين عن وزارة الخارجية انضما للمحادثات في مرحلة أخرى وهما باترك دين ودونلد لوكن، وأقرت خطة الحملة العسكرية على مصر أو ما سمي "بروتوكول سيفرز". "لقد اختلق الأسد البريطاني، الذي كان يوماً ما عظيماً أزمة السويس، لكنّه بدا وكأنه حيوان سيرك مروّض مستعد منذ تلك اللحظة فصاعداً للقفز داخل الأطواق النارية كلما سمع صوت ضرب سياط واشنطن".

فشل العدوان الثلاثي الذي قامت به تلك الدول حين "نفّذ عبد الناصر استراتيجية رائعة رغم بساطتها. مُلئت عشرات السفن القديمة بالحجارة وبعض المتفجّرات لإغراقها في شمال القناة عند مدخلها بالبحر الأبيض المتوسط، وسرعان ما أغلق شريان الحياة النفطي لأوروبا القادم من الخليج الفارسي. في الوقت الذي بدأ فيه 22000 جندياً بريطانياً وفرنسياً اقتحام الشاطئ عند طرف القناة الشمالي بتاريخ 6 تشرين الثاني، كان هدفهم تأمين حرية حركة السفن، لكنّ النصر كان قد اختطِف من أيديهم". أتى انقلاب الرحمة في شهر كانون الثاني من عام 1968، حين أعلن رئيس حزب العمال ورئيس الحكومة، هاهرولد وِلسن، أن بريطانيا ستسحب جميع قوّاتها شرق السويس في غضون 3 سنوات، منهياً دورها كقوة آسيوية وأي دور آخر في ادّعاء القيادة العالمية. ثم يمضي المؤلف للقول، "أخيراً وفي عام 1973، أكملت بريطانيا انحدارها من قوة عالمية إلى لاعب إقليمي وأصبحت واحدة من 9 دول تشكّل الاتحاد الأوروبي".

إقرأ أيضا: نقد التجربة السياسية والإيديولوجية للحركات القومية الناصرية والبعثية.. كتاب جديد

مقالات مشابهة

  • وسائل إعلام فلسطينية: شهداء وجرحى جراء قصف الاحتلال الإسرائيلي سوقاً في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة
  • مقتل 11 مدنيا جراء قصف مجموعات مدعومة من إيران شمال شرق سوريا
  • مقتل 11 مدنيا جراء قصف مجموعة مدعومة من إيران شمال شرق سوريا
  • قتلى وجرحى معظمهم أطفال في قصف شرقي سوريا
  • المعارضة السورية تدين تفجير شاحنة في أعزاز شمالي سوريا.. أسفر عن 9 قتلى
  • العسكر وبناء الدولة التسلطية في العالم العربي.. قراءة في كتاب
  • قاعدة روسية في عين العرب.. رسائل إيجابية متبادلة بين تركيا والنظام السوري
  • 11 قتيلا بينهم أطفال.. قسد تتهم النظام السوري بارتكاب مجزرة بدير الزور
  • مقتل 11 مدنياً في اشتباكات بين قوات سوريا الديموقراطية ومسلحين موالين لإيران بشرق سوريا
  • العراق يعلن توقيف 5 متورطين باستهداف «عين الأسد»