ستطالع أعيننا وتسمع آذاننا كلمات تفيض جمالًا ورقة، سطرها شعراء عرب مسيحيون فى حق رسول الإسلام محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، ويرجع بعض النقاد الأسباب التى أدت بالشعراء المسيحيين العرب إلى نظم قصائد يمتدحون فيها رسول الإسلام إلى أنهم يهدفون إلى إبراز القيمة الإيجابية للموروث الثقافى والوطنى والتاريخى المشترك منذ مئات السنين، الذى يربط المسلمين بالمسيحيين، وحتى يتم إغلاق أبواب الاستقطاب الطائفى الذى يعمل البعض جاهدًا لإيقاع قطبى الأمة فيه، كان دافعًا قويًا لنظم هذه القصائد، والجانب الثالث وهو الأهم، أنهم سعوا للتعبير عن مشاعر جياشة وقعت فى صدورهم تجاه رسول الإسلام (ص)، وأرادوا الإفصاح عنها كمواطنين عرب بعيدًا عن أى انتماءات دينية.


قصائد ومديح
الكاتب ماجد الحكواتى جمع فى كتابين، مجموعة كبيرة من القصائد والنصوص الشعرية التى ألقاها شعراء مسيحيون فى ساحة المدح النبوى، يحمل الكتاب الأول عنوان «شعراء النصارى العرب.. والإسلام»، أما الكتاب الثانى فقد جمعت فيه قصائد أخرى لشعراء مسيحيين مصحوبة بدراسات نقدية أعدها وقدمها محمد عبدالشافى القوصى، تحت عنوان "محمد فى شعر النصارى العرب".
وترسم لنا القصائد الشعرية التى ورد ذكرها فى الكتابين، صورة واضحة للتسامح والسلام الذى عاشه المسلمون والمسيحيون فى هذه الفترة، وإن كان معظم الشعراء المسيحيين الذين وضعت قصائدهم فى الكتابين، ينتمون إلى سوريا ولبنان، وأنهم من شعراء العصر الحديث، إلا أن هذا لم يمنع البعض من تعميم الصورة على شتى أنحاء الوطن العرب.
كما ألقى الكاتب محمد عبدالشافى القوصى، فى الفصل الأخير من كتابه «محمد مشتهى الأمم»، الذى جاء بعنوان «فى عالم الجمال»، الضوء على ٢٠ شاعرًا مسيحيًا، مدحوا النبى محمد، بقصائد ومطولات شعرية مثل: حليم دموس، والشاعر القروى، وخليل مطران، وإلياس قنصل، وشبلى شميل، وعبدالله يوركى حلاق، وجاك صبرى شماس، وإلياس فرحات، وجورج صيدح، ورياض المعلوف، وشبلى ملاط، وجورج سلسلمى، وميخائيل ويردى، الذى مدح الرسول بعدة قصائد أشهرها القصيدة التى عارض فيها نهج البردة لأمير الشعراء شوقى.
نبع المحبة الروحية 
وبحسب دراسة أعدها الدكتور خالد فهمى، أستاذ النقد والأدب بجامعة المنوفية، ونشرت فى مجلة الأزهر فى عام ٢٠١٢، فإن مدح الشعراء المسيحيين للنبى محمد، لم يكن فيه أى تملق أو مداهنة، فقد خرجت كلماتهم من نبع مملوء بالحب الخالص والمجرد من أى أهداف سوى نشر المحبة والسلام، وتزكية روح التسامح بين جميع البشر بعيدًا عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية، واللافت للنظر - والكلام لـ«فهمى» - أن مدح المسيحيين بشكل خاص للنبى الكريم (ص)، خرج من مديح إيمانى مغلق يختص بالمسلمين إلى آفاق رمزية عالمية برعوا فيها؛ حيث أكدوا أن نبى الإسلام مصلح وقائد ورمز عالمى.
وأشار خالد جودة، الباحث فى تاريخ المدائح النبوية، إلى أن «المسيحيين هم أبناء الحضارة العربية الإسلامية، وقالوا أشعارهم فى مدح رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، من هذا المنظور الحضارى».
من القلب للقلب 
وبالغوص فى أعماق الشعراء المسيحيين الذين مدحوا المصطفى، نجدهم يؤكدون أن قصائدهم خرجت من القلب وتهدف لخدمة «العروبة»، الوطن الواحد الذى يستظل بسمائه الجميع، فهذا الشاعر السورى جاك شماس، المولود فى عام ١٩٤٧ ميلادية، يجيب عن سؤال طرحه على نفسه قبل أن يطلع عليه العامة: لماذا أتحدث عن رسول الإسلام محمد؟، وبيقين راسخ يجيب «شماس»، قائلًا: "إنه حديث من شغاف القلب.. لا يأخذ منحنى آخر سوى خدمة وطنى وعروبتى".
وفى معرض حديثه عن قصيدته «خاتم الرسل» التى تقدم بها فى عام ٢٠١٠، لمسابقة «البردة النبوية» التى تنظمها وزارة الثقافة الإماراتية، يقول «شماس»: «أنا ثقافتى عربية إسلامية، وإذا مدحت رسول الإسلام محمدًا، فذلك لأنى أحبه»، متسائلًا: «كيف لا أحب إنسانًا بهذا المستوى النبيل من الإنسانية والخلق؟، وأضاف: "لقد نشر محمد، عقيدة جميلة ونبيلة تدعو إلى الإنسانية، وثقافتنا العربية الإسلامية تدفعنا إلى حب هذا النموذج الرائع، ولقد كتبت هذه القصيدة لأعبر بها عن حبى لهذا الرجل ولم يكن هدفى أبدًا نيل جائزة المسابقة، والدليل على ذلك أنى كتبت أبياتها قبل الإعلان عن موعد أو شروط هذه المسابقة بزمن بعيد".
ونلمس صدق مشاعر «شماس»، حين نقرأ بعضًا من أبيات قصيدته التى تنم عن ثناء فائق الإبداع ألقى به فى ساحة المدح النبوى قائلا:
يممت طه المرسل الروحانى
ويجل طه الشاعـر النصرانـى
ماذا أسطر فـى نبـوغ محمـد
أنا يا محمد من سلالـة يعـرب
أهـواك ديـن محـبـة وتـفـان
وأذود عنـك مولـهـًا ومتيـمـًا
حتى ولو أجـزى بقطـع لسانـى
أغدقت للعـرب النصـارى عـزة
ومكانـة ترقـى لـشـم مـعـان
وزرعت فى قلب الرعيـة حكمـة
شماء تنطق فـى نـدى الوجـدان
ونذرت روحـى للعروبـة هائمـًا
بالضـاد والإنجـيـل والـقـرآن
ونقشت خلق محمد بمشاعـرى
وإذا قرأتـم للـرسـول تحـيـة
فلتقـرءوه تحـيـة النصـرانـى
مهما مدحتـك يا رسـول فإنكـم
فوق المديح وفـوق كـل بيانـى


واللافت للنظر أنه فى نفس عام ٢٠١٠، الذى نظمت فيه مسابقة «البردة النبوية» بدولة الإمارات، فإن الشاعر المسيحى المصرى سعد جرجس، فاز بجائزة خاصة من لجنة التحكيم، بعد أن حازت القصيدة التى نظمها كواحدة من أفضل القصائد التى قيلت فى مدح الرسول محمد. ويسهب الشاعر السورى إلياس قنصل، الذى عاش بين عامى ١٩١٤ و١٩٨١، فى أبياته متحدثًا عن صفات نبى الإسلام، قائلا:
يقابل بالصبر الجميل ضغائنا
تمادى بها وعد بسب ويثلب
ويعفو عن الأسرى وكان
وعيدهم بما فى نواياهم من الثأر يلهب
إذا جاءه الملهوف فهو له
أخ وإن جاءه المحروم فهو له أب
مشاعر جياشة
وعلى الدرب ذاته، يسير الشاعر السورى جورج سلستى، الذى عاش بين عامى ١٩٠٩ و١٩٦٨، لينظم قصيدة سماها «نجوى الرسول الأعظم»، أفاض فيها بمشاعره الجياشة التى تملكت قلبه تجاه رسول الإسلام:
أقبلت كالفجر وضاح الأسارير
يفيض وجهك بالنعماء والنور
على جبينك فجر الحق منبلج
وفى يديك مقاليد المقادير
أما الشاعر السورى وصفى قرنفلى، الذى عاش بين عامى ١٩١١ و١٩٧٨، فقد وصف محمد بن عبدالله، بـ«منقذ الشرق»، فى أبياته التى عبرت حروفها عن شهادة حق قالها مواطن عربى فى حق رسول الإسلام.
أو ليس الرسول منقذ هذا الشرق
من ظلمة الهوى والهوان
أفكنا لولا الرسول سوى
العبدان بئست معيشة العبدان.
وما زلنا فى دمشق نتريض فى بساتين المحبة الإنسانية، التى أهداها لنا الشاعر جورج صيدح، الذى عاش بين عامى ١٨٩٣ و١٩٧٨، مطالبين معه باقى أفراد أمتنا العربية بأن يكون لهم فى رسول الله، أسوة حسنة حتى نخرج من غياهب التردى الذى أدخلنا فيه أنفسنا:
يا صاحبى بأى آلاء النبى تكذبان؟
يا من سريت على البراق وجزت أشواط العنان
آن الأوان لأن تجدد ليلة المعراج آن
وإذا ما ذهبنا إلى لبنان، فسيشنف آذاننا الشاعر إلياس فرحات، الذى عاش بين عامى ١٨٩٣ و١٩٧٦، بأبيات يخاطب فيها رسول الإسلام، وكأنه يشكو له فيها ما ألم بالأمة العربية من تخبط وتخلف عن باقى الأمم، ويطلب منه مددًا يخرجنا مما نحن فيه، قائلًا:
يا رسول الله إنا أمة زجها التضليل فى أعمق هوة
ذلك الجهل الذى حاربته لم يزل يظهر للشرق عتوه
وما زالت نسائم عشق الشعراء المسيحيين اللبنانين لرسول الإسلام، تنعشنا؛ حيث نرقى مع الشاعر اللبنانى حليم دموس، المتوفى فى عام ١٩٥٧، إلى أعلى درجات المحبة الإنسانية المجردة من أى ميول، حين يمتدح النبى الكريم قائلًا:
أمحمد والمجد بعض صفاته
مجدت فى تعليمك الأديانا
إنى مسيحى أحب محمدا
وأراه فى فلك العلا عنوانها
نسائم العطر
وتأبى خطانا أن تغادر لبنان، دون أن نذوب فى نسائم العطر الشذى الذى تهديه لنا أبيات شاعر القطرين اللبنانى خليل مطران، الذى عاش بين عامى ١٨٧٢ و١٩٤٩، التى نستشف منها أثر محمد بن عبدالله، فى محاربة الجهل والشرك وإقامة العدل والإحسان إلى أهل الكتاب؛ حيث يقول:
بأى حلم مبيد الجهل عن ثقة
وأى عزم مذل القادة الصيد
أعاد ذاك الفتى الأمى أمنه
شملا جميعا من الغر الأماجيد
وزاد فى الأرض تمهيدا لدعوته
بعهده للمسيحيين واليهود
أما الشاعر اللبنانى محبوب الخورى الشرتونى، الذى عاش بين عامى ١٨٨٥ و١٩٣١، فيرقى بنا فى قصيدته «عرب الحجاز.. تحية وسلام»، داحرًا الفتن التى يحاول البعض دسها بين المسلمين والمسيحيين، معلنًا للجميع أن العرب جميعًا أهل وأشقاء دون النظر إلى الديانة، ومطفئًا جزوة الصراع الطائفى الذى يسعى البعض لإبقائه مشتعلًا:
قالوا تحب العرب.. قلت أحبهم
يقضى الجوار علىَّ والأرحام
قالوا لقد بخلوا عليك.. أجبتهم
أهلى وإن بخلوا علىَّ كرام
قالوا الديانة.. قلت جيل زائل
ويزول معه حزازة وخصام
ومحمد بطل البرية كلها
هو للعرب أجمعين إمام
عيد البرية
ويصف الشاعر اللبنانى رشيد خورى، المعروف بـ«الشاعر القروى» الذى عاش بين عامى ١٨٨٧ و١٩٨٤، مولد رسول الإسلام، بـ«عيد البرية»، ناظمًا فى هذا الجانب قصيدة حملت نفس العنوان، قال فيها:
عيد البرية عيد المولد النبوى
فى المشرقين له والمغربين دوى
عيد النبى ابن عبدالله من طلعت
شمس الهداية من قرآنه العلوى
يا قوم هذا مسيحى يذكركم
لا ينهض الشرق إلا حبنا الأخوى
فإن ذكرتم رسول الله تكرمة
فبلغوه سلام الشاعر القروى.
وما هذه سوى نماذج لكثير من الشعراء العرب المسيحيين والتى لا تتسع المساحة للحديث عنهم جميعًا فى هذا العدد.
 

 

 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: المسلمين المسيحيين فى عام

إقرأ أيضاً:

ما يبقى من الشعر وما يبقى للشعراء

حاتم الصكر

رغم أن تفوهات الشعراء في الاستجوابات الصحافية والنقدية تُعد متوناً خارج نصوصهم، أجدني مهتماً بها ومتابعاً لتفاصيلها بفضول معرفي للمقارنة بينها وما يتحقق في النصوص. بهذا الإحساس قرأت التحقيق الذي أجراه وقدم له الصديق الناقد عبد اللطيف الوراري (القدس العربي-14 شباط/ فبراير2025) وهو ممن يحرصون على متابعة شؤون الشعر وشجونه، وتقلبات كتابته وتلقيه. لذا وضع عنواناً دالّاً بأقل العبارات. إنه يستفتي أربعة من (شعراء اللحظة الراهنة) كما يصفهم العنوان عبر سؤال جوهري (هل ما زال في جعبة الشعر ما يقوله ويصطنع الدفاع عنه؟).

في التقديم خلص الوراري إلى رسم مشهد شديد التفاؤل براهن الكتابة الشعرية. وجدتني أشاطره إياه، مستذكراً تجربتي حين كنت أجمع نصوص كتابي عن الميتاشعري في قصيدة النثر العراقية، ونصوصاً عربية لجزء تالٍ عن قصيدة النثر العربية. فقد أحسست أن النصوص تشي بكثير من المزايا الفنية والجمالية اللافتة، ذكّرني بها ما تحدث عنه الوراري في التقديم. فقد ارتقت الهوامش الشعرية إلى مقام المراكز التقليدية وبرزت حساسيات شعرية جديدة، ووعي منشقّ متسم بالرفض والغضب والجرأة المضمونية والشكلية.

لكن الوراري يضع يده من بعد على أزمة التلقي، فوجد أن (الجمهور) لا يرى في الشعر الجديد ما يرجوه بالمقايسة مع ما عهده في ذخيرته. إن الأزمة في جانب مهم منها في (التلقي)، كما أود تسميته توسيعاً لمصطلح (الجمهور)، وتخلصاً من إحالاته العامة التي يشير لها وضع الجمهور بإزاء الإلقاء والحالة الشفاهية لتوصيل الشعر. وهو عنصر مهم في صراع النصوص الجديدة مع تداوليتها الناقصة. فالجمهور يقيس بما يعيد لذاكرته (دور الشعر) في التحفيز ومعالجة الأدواء الاجتماعية والسياسية الراهنة، فيما يبدو واضحاً أن الكتابة الشعرية لم تعد قادرة على أن تكون صوتاً مناسباً لتسارع ما يجري، وما يتغير كل ساعة من حولنا. ويقابل ذلك إهمال التلقي المطلوب بكيفيات تحفظ شعرية الشعر وحداثته، وأدبية الكتابة أيضاً. وهو ما سنعالجه في فقرة تالية.

استطاع الوراري إذاً أن يضع طرفيْ المشكلة في صلب استفتاءٍ قصد به استجلاء ما يراه الشعراء في تلك التساؤلات، ما داموا ممن يكتبون الجديد، ويمثلون حساسيات عربية من خمسة بلدان.

وبالعودة إلى الإجابات سنرى أن الشاعرة نجاة علي (مصر) تؤكد ما تشهده القصيدة الجديدة، وهي قصيدة النثر عندها، فهي تتطور وتحرر الكتابة من كون الشعر مجرد شكلٍ لحمل مضامين تسلب روحه الحقيقية. وترى أن الشعر ينجو بالعودة إلى ذات الشاعر وأسئلته. ونفهم أن هذا هو دوره في رأيها.

أما سعيف علي – تونس، فيرى أن التلقي بخير، ويحتكم إلى ما تمثله القراءة عبر المنافذ المستحدثة خلافاً لطريقة التلقي التقليدية أي النشر الورقي حيث الأعداد متواضعة. وهو يذهب إلى الكتابة الشعرية ذاتها وينزع عنها أي دور، فهي تقوم بوظيفتها عبر ما تحققه من إنجاز وتلغي المنبرية وتتجه نحو علاقات تلقٍ يراها مناسِبة. ويأخذنا العراقي أحمد ضياء إلى ما هو قريب من قناعات زملائه في فك ارتباط الشعر بالسياسة كعمل مباشر، وهجْر المنبرية والخطابية، ويلفت النظر إلى ما تفعله الثورة الرقمية من تشتيت التلقي. ويكمل عبد الجواد العوفير من المغرب ما يراه زملاؤه، فالشعر ليس له دور حقيقي في التغيير المطلوب اليوم، لكنه يغير عبر مهمة شعرية أكبر يقوم بها الشاعر للتحرر من المسلمات. ويختم اليمني محيي الدين جرمة بالقول إن التغيير بالمعنى السياسي المباشر والنمطي لا يقوم به الشعر، ويوكل له مهمة جمالية تقترب مما يعوّل عليه زملاؤه عبر عزلات مشروعة ورؤى جديدة لكونه اختياراً جمالياً فرديا.

لاحظت من الإجابات أن ثمة قناعة لدى المستفتين بأن الشعر غادر دوره المرتبط بالمنبرية، وتبعية الجماعة. وأنه ينجز دوره مع تعديل الوظيفة والمصطلح عبر الاقتراب من ذات الشاعر والابتعاد عن الدور السياسي المباشر، لا لتعالٍ أو تجنب لما هو مشروع في الحياة، وحق يتعلق بالحرية والعدالة، ولكن دون خضوع لصوت أعلى من صوت الشعر الذي يصر الشعراء على أنه غادر المنبر والخطابية، واكتفى بجمالياته القادرة على استيعاب ما يجري عبر وعي (مضاد) وعميق ينطلق من ذات الشاعر لا من قناعات جمعية جاهزة، لا تدع له مكاناً خاصاً لتوصيل رؤيته.

حسناَ. للشعراء أن يقولوا ما يرون. فهم أمراء الكلام يصرفونه أنّى شاءوا، كما ينقل حازم القرطاجني في «منهاج البلغاء» عن الخليل بن أحمد. ويستطرد حازم على كلام الخليل بصدد حرية أمراء الكلام، فيقول إنهم لا يقولون شيئاً لا وجهَ له. وذلك يتطلب تأوُّل ما يقولون بوجه من الصحة وتخريج كلامهم عليه.

وهم بحسب هولدرلين في مقولته «ما يبقى يؤسسه الشعراء» موكلين بإنجاز حضاري كبير، لكونهم كما في إحدى قصائده:

الشعراء أوعيةً مقدسة

تُحفَظ فيها خمر الحياة

وروح الأبطال

لكن الفرضية التي يحتج بها العرب لتعظيم دور الشاعر، وحقه في التصريف الحر مشروطة أيضاً. لأن الشعراء موكلون (باستخراج ما كلَّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه. فيقربون، البعيد ويبعدون القريب، ويُحتج بهم ولا يُحتج عليهم). وهذا يحيلنا إلى ما ورد من تصريح في نماذج الإجابات لشعراء الجيل الراهن. فإعلاء شأن الشاعر يجب أن يكتمل بتقديم ما لا تستطيعه الألسن الأخرى غير الشعرية. ويعني التنبه إلى كثرة التكرار والتماثل في الأصوات والأساليب حتى في نماذج من شعر الحداثة.

وإذا كنا بصدد الكتابة الجديدة وقصيدة النثر تحديداً، فليكن لنا الحق في افتراض أن لكل شاعر قصيدة نثره. بمعنى تلك التي تعبر عن ذاته ورؤيته. وإلا فقد نجد أنفسنا أمام تقليدية جديدة وهو ما حذّر منه بعض من ساهم في الإجابة على تساؤلات الوراري.

ليكن للشعراء الحق في الابتعاد عن منهجيات الخطاب المباشر ونثره الذي لا يناسب مقاصد القصيدة الجديدة. ولكن علينا أن نتعرف ما تعنيه دعوة الشعراء للعودة إلى الذات. وهو ما يتطلب إزالة غموض والتباس كبيرين يحايثان ذلك. فالذات ليست تلك المقصودة في الشعر الرومانسي مثلاً، أو التي تقف مناوئة للأنا الجمعية التي يندرج الشاعر تلقائياً واختيارياً فيها، حين يكون عليه الاصطفاف مع الآخر في حقوقه وفي عصر يتسم بالقسوة وافتقاد العدالة والانحدار السريع نحو الدكتاتوريات وتجلياتها الاجتماعية.

أما ما يشير له الشعراء في إجاباتهم، وكذلك تقديم الناقد الوراري، حول أزمة التلقي فهو إعلان صادق عن إحساس عام لدى الشعراء بأن القراءة أصبحت بعيدة عن مطمحهم. فهم لا يجدون الصدى والرجع المطلوب لما يكتبون، لا بكونهم أفراداً بانتظار تقويم تجاربهم بقدر الحاجة لمعرفة أصداء كتاباتهم الجديدة وموقعها في الخط الشعري المتنامي، والمعبر عن راهن شعري متميز بمعايشة التحولات الكبرى في الحياة وذلك ما لا تحققه لهم ردّات فعل القراءة الراهنة. فالشعر يأخذ شيئاً فشيئا مكانة قصية من اهتمامات الأجيال والدارسين. ويمكننا أن نعزو ذك لعدة أسباب منها عودة الشفاهية الجديدة بسبب الثورة الرقمية والاستغناء عن القراءة والمتابعة. إنها وباء حضارة الفرجة: نقلة أو ردّة شفاهية لا أريد حصرها شعرياً في تراجع الحداثة وتصدر المنبر والوزن، لكنها سياق عام أهم من ذلك، وأخطر بالضرورة تتمثل في الفرجة والشفاهية.

وفي حوار مع ماريو فارغاس يوسا ترجمة الشاعر اسكندر حبش (ضفة ثالثة. 18/12/24) يجيب على سؤال عما يخص الاتجاه الذي يسلكه العالم اليوم؟ وهل نحن على الدرب السليم؟ فيقول يوسا: إننا في حضارة الفرجة صرنا نعيش تراجعاً أو انحطاطاً (فالحرية الاقتصادية وحرية السوق لم ترافقهما حياة ثقافية مكثفة ولا حياة روحانية، لقد أصبحت الثقافة لعبة، ترفيهًا، وتسلية. لقد هُمّشت بطريقة كبيرة إزاء الزينة والسهولة والسوق). وأحسب أن البصر يتفرج الآن، ويرى لاهياً من دون أن يبصر ما يجري، حتى في حالتنا العربية التي يعوزها التبصر بمآلات حاضرنا ووجودنا.

وها نحن نعيش سطحيات العصر الإلكتروني كما يرى أولتر أونج. عصر «يعادل مرحلة ثانوية من الشفاهية، لا يعتمد فيها الفهم والتصور على مجردات الكتابة، بقدر اعتماده على الحكايات المروية والصور التوضيحية ومغامرات الأبطال، حيث تأخذ المؤثرات السمعية والبصرية بلبّ المتلقي وتسلبه قوة التركيز الذهني».

ولدينا عربياً ما يدعو للإحباط وإضعاف التلقي، متمثلاً بدعوات النقد الثقافي الممنهجة بنسخته العربية إلى نبذ جماليات الشعر، والتهشيم المتعمد لرموزه ومشروعه الحضاري، وتراثه وحداثته، بدعوى نسقيته، والحكم عليه بنفاد صلاحيته.

وأحسب أن مناقشة تلك التفاصيل ستفضي إلى التعرف على ما يمكن للشعر أن يفعله في عالم لا شعري بجدارة.

ولكن يبقى الشعر علامة على إنسانية الإنسان  وتجدد خطاب مواجهة الفناء والانحسار الروحي الخطير.

المصدر: القدس العربي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات مشابهة

  • محمد صلاح يكتب التاريخ في الدوري الإنجليزي ويقترب من أساطير مانشستر يونايتد
  • مكتبة القاهرة تنظم أمسية رمضانية حول "شعراء المدائح النبوية"
  • أحمد عمر هاشم: هذا هو ما رآه رسول الله في رحلة الإسراء والمعراج
  • أوروبا في مواجهة ترامب جحيم نووي.. رؤية الرئيس الأمريكي الاستعمارية تجعل مشاهد أفلام الحرب حقيقة واقعة
  • أحمد علي سليمان: المرأة المسلمة كانت دائمًا ركيزة أساسية في نهضة الأمة
  • نجم الفرقد
  • ما يبقى من الشعر وما يبقى للشعراء
  • د. محمد بشاري يكتب: الاجتهاد المتجدد: ضرورة فقهية لتجسيد المؤتلف الإسلامي الفاعل
  • إفطارهم فى الجنة.. محمد جبر شهيد الواجب الذى لم يرحل
  • رمضان يعني.. ابتهالات النقشبندي والأذان بصوت محمد رفعت وخواطر الشعراوي