نحاول فهم ما استشكل من الحالة التونسية، فقد شذّت عن قواعد التفكير العلمي وخرجت عن كل قياس. كيف فضلت نخب تونسية مختلفة المشارب الفكرية ومتنوعة المنحدرات الاجتماعية العيش تحت الدكتاتورية على السعي إلى الحرية وصونها وجعلها قاعدة للحياة عامة وللسياسة خاصة؟ يلح علينا السؤال وتفريعاته تحت تأثير مشاهد دفاع النخب عن نظام الانقلاب في تونس بعد أن صفقت طويلا لانقلاب مصر، بل وانحازت بحماس إلى حفتر الليبي ودافعت بشراسة عن نظام الأسد في سوريا.
الكسل الفكري المريح
النخب تصنع الدول أو هذا ما نعتقده بخصوص التجربة الأوروبية (الدرس الذي يفرض نفسه)، وفي الحالة التونسية نرى أن الدولة هي من صنعت النخب عبر نظام تعليمي يمدح نفسه بالحداثة. قامت الدولة بإفناء النخب التقليدية السابقة عليها ثم فتحت المجال لصنائعها الجديدة ولقّنتهم صورة للعالم يكونون فيها في مكان مريح، مقابل التوقف عن طرح الأسئلة المزعجة مثل سؤال الحرية والديمقراطية. كان من وسائل الراحة المادية الممنوحة إسكان النخب بأماكن أفضل (الأحياء المرفهة) من سكن عموم الناس (الأحياء الشعبية)، وكان منها الرواتب المجزية وتسهيلات الحياة الأخرى كالولوج إلى الاقتراض البنكي. اختلط مفهوم النخبة بمفهوم الطبقة الوسطى (نخب فكرية وإدارية عليا) والطبقة العليا (برجوازية حديثة أو فلول ارستقراطية قديمة أفلحت في التجدد)، وهما المستفيدتان من الدولة أكثر من غيرهما.
كانت هذه النخب مرتاحة في حزب التجمع (بن علي) لذلك رممته في حزب النداء في معركة أخيرة للبقاء، وانتصرت باستعادة نظامها ووضعها المريح ماديا ونفسيا. لكن التهديد بالصندوق الانتخابي لم ينته فتبنت الانقلاب وحمته حتى الآن، مضحّية بحرياتها الفردية والجماعية وكانت تلك وسيلة دفاعها عن مكاسبها، بل حاربت كل احتمال ظهور لصندوق انتخابي في أي مكان آخر
خلقت هذه السياسات وضعا مريحا (مقارنة بمن هم أدنى في السلم الاجتماعي)، وصار الحفاظ على أسباب الرفاه جزءا من سلوك النخب، وسبب الرفاه الأول هو استقرار النظام السياسي بقطع النظر عن ترسيخه للحريات أو عن قمعه للناس من غير النخب، فالقمع السياسي ليس مستحبا عندها لكنها لا تخرج لمقاومته، فالضرر لا يقع عليها.
حادث الثورة هدد هذا الوضع المريح وأحدث شغبا لم ترحب به النخب الفكرية والاقتصادية. لقد رأت هذه النخب مطالب العامة تصعد إلى السطح مقدمة الحرية والديمقراطية التي يلعب فيها العدد دورا فعالا. لقد وزنت النخب نفسها في الصندوق فرجحت كفة الفقراء والمهمشين، فاختل النظام الذي عاشت منه ولم تحاول تغييره.
لقد كانت هذه النخب مرتاحة في حزب التجمع (بن علي) لذلك رممته في حزب النداء في معركة أخيرة للبقاء، وانتصرت باستعادة نظامها ووضعها المريح ماديا ونفسيا. لكن التهديد بالصندوق الانتخابي لم ينته فتبنت الانقلاب وحمته حتى الآن، مضحّية بحرياتها الفردية والجماعية وكانت تلك وسيلة دفاعها عن مكاسبها، بل حاربت كل احتمال ظهور لصندوق انتخابي في أي مكان آخر مثل مصر أو ليبيا، لقد أرعبها الصندوق فضحّت بالحرية.
نخبة محافظة وجبانة
كان القبول بحكم الصندوق الانتخابي يعني لدى هذه النخب خوض معركة فكرية مرهقة تبدأ بمراجعة المسلّمات التي عاشت بها منذ صنعتها الدولة، كأن تفكّر في أن وجودها ليس منّة من النظام بل حقا مكفولا بإنسانيتها، وهذا يعني التخلي عن الحماية السياسية المعروضة عليها لخلق حماية أخرى بنظام آخر ليس لها عليه سلطان كامل، وإنما يشاركها في صناعته فقراء كانوا دوما متروكين على الهامش أو هم تهديد أزلي لمكاسب مضمونة بقلة العدد.
الثورة هددت منطقة الرفاه الفكري (التهديد بالمراجعات) ومنطقة الرفاه المادي (إعادة تقسيم الثروة وإقامة نظام محاسبة ضد الفساد) وظهور الرعاع في موقع القيادة، فكشفت أن النخبة وإن زعمت حديث التقدمية والحداثة وما بعد الحداثة فإنها في عمقها نخب محافظة ورجعية وجبانة أمام احتمالات التغيير، ولم يُجْدِها أمامنا نعت خصومها بالرجعية فنحن نراها رجعية ومتخلفة. لقد كانت ترمي غيرها بدائها وتنسلّ إلى مواقعها المريحة وتربح الوقت بخلق المعاركة الجانبية ضمن معركة تشتيت جهد الخصوم القادمين من القاع الاجتماعي، ولم يزعجها الانقلاب في شيء رغم أن بعض الصعوبات المادية طالتها مثل بقية الشرائح الفقيرة لكنها لم تفقد الحلول، فقد وضعت ميزانها طوابير المعيشة أفضل من الخروج من الوضع المريح بصندوق انتخابي يقدم عليها الفقراء ويعيد النظر في امتيازاتها.
النخبة وإن زعمت حديث التقدمية والحداثة وما بعد الحداثة فإنها في عمقها نخب محافظة ورجعية وجبانة أمام احتمالات التغيير، ولم يُجْدِها أمامنا نعت خصومها بالرجعية فنحن نراها رجعية ومتخلفة. لقد كانت ترمي غيرها بدائها وتنسلّ إلى مواقعها المريحة وتربح الوقت بخلق المعاركة الجانبية ضمن معركة تشتيت جهد الخصوم القادمين من القاع الاجتماعي، ولم يزعجها الانقلاب في شيء رغم أن بعض الصعوبات المادية طالتها مثل بقية الشرائح الفقيرة
معركة مواقع استخدمت فيها الأيديولوجيات
العمق الشعبي الطامح إلى المشاركة في المكاسب والمواقع (أو إعادة توزيع الثورة) عبر عن نفسه بجلاء في انتخابات 2011 وفوض حزب النهضة للقيادة.. خيّب الحزب الانتظارات المعقودة عليه وخسر مواقعه لكن التهديد لم ينته.
النخب المتمكنة من أسلحة الأيديولوجية والديماغوجيا خلطت أوراقا كثيرة منها اعتبار المعركة الديمقراطية هي معركة ضد الإسلام عامة، وقد وقع الإسلاميون في الفخ وأكملوا مهمة ليست لهم وقالوا ندافع عن دين الله، وأخذ منهم ذلك جهدا كبيرا بلا نتيجة (بالعين المجردة لم يتغير عدد المصلين في المساجد عما كان عليه قبل الثورة)، فضلا عن أن رواد المساجد ليسوا إسلاميين بل مسلمين يأخذون دينهم من غير كراسات الإسلام السياسي.
جزء من النخبة الفكرية ممن يتقن معارك الأيديولوجيا كان يعيد إحياء المعركة ضد الدين كلما تبين أن الإسلاميين يغادرونها نحو المعركة الاجتماعية، وهم يفلحون دوما في جر الإسلاميين إلى تلك المعركة. وكانت هذه إحدى وسائل النخب في خلط الأوراق، فقد كانت النخب الاقتصادية تمول المعركة بحطب الأيديولوجيا كلما رأت نارها تبرد.
وقد بدا لنا أن الإسلاميين أنفسهم مرتاحون في هذا الموقع، فالتحول إلى معركة اجتماعية تستهدف إعادة توزيع الثورة (وفي ذلك صراع مع النخب المحافظة على مواقعها) يقتضي مراجعات مضنية تصل إلى التخلي عن الهوية الدينية نفسها والتحول إلى النضال الاجتماعي، وهو أولوية الثورة غير الدينية بالأساس، أي الخروج مما اصطلح عليه بالإسلام السياسي نحو حزب اجتماعي. وهذه معركة أخرى مخيفة، فمعاناة الاضطهاد الديني كما يشعر به الإسلاميون منطقة أخرى مريحة فيها جزاء أخروي مضمون، بما يجعلهم أيضا رغم التفويض الشعبي المذكور محافظون ورجعيون في حقل مواز لحقل النخب الكسولة.. حقول المحافظة تتوازى وتتكامل في صراع ضد الحريات المرعبة.
حديث الإسلاميين عن الحريات مبهر وهو يتفوقون في ذلك على الجميع، لكن هل استفادوا من الحرية لتغيير خطابهم وأفكارهم والانتباه إلى فخاخ النخب المعادية؟
إذا سقطت الانقلاب وهو حتما ساقط فسيجد الإسلاميون مرة أخرى أنفسهم أمام السؤال الاجتماعي الرهيب، إنهم يكافحون الآن من أجل حرياتهم وحقهم في التنظم (كما كانوا دوما) وقياداتهم في السجون (في تونس كما في مصر وسوريا)، لكن هل يودون فعلا سقوط الانقلاب(ات)؟
إن حديث الإسلاميين عن الحريات مبهر وهو يتفوقون في ذلك على الجميع، لكن هل استفادوا من الحرية لتغيير خطابهم وأفكارهم والانتباه إلى فخاخ النخب المعادية؟ لم أعاين ذلك منذ زمن طويل، بما يجعل مناخ الحريات تهديد حقيقي لوجودهم. فالحرية الحقيقة هي الدخول في المراجعة لما تم الاطمئنان إليه سابقا كأطروحة مؤسسة غير قابلة للنقض.
لقد أراح الانقلاب الجميع من حمل عبء الحرية واستحقاقاتها المضنية وبالخصوص الدخول الجدي في المراجعات الفكرية التي تطلقها الثورات في حياة الشعوب.
حتى الآن الدكتاتورية تريح الجميع من طرح الأسئلة المضنية، وهنا ترتاح النخب إذ تدع ما يريبها إلى ما لا يريبها، إنها الحالة التونسية: عبقرية المحافظة على الوضع المتردي.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه التونسية الدكتاتورية الديمقراطية الإسلاميين الإنقلاب تونس الديمقراطية الإسلاميين الدكتاتورية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی حزب
إقرأ أيضاً:
عندما يصير الجسد ساحة معركة: تراجيديا الإنسان السوداني بين القنص والاغتصاب
الجسد، ذاك الهامش الذي ظنّوه هشًّا، أصبح ساحةً يتبارى فيها الرماة الجدد؛ لا في معركة نظيفة النوايا، بل في مجزرة تُدار ببرودة الحذاء العسكري حين يخطو على ملامح الحياة. كل ما في الأمر أن سودانًا قديمًا قد مات، أو قُتِل عن عمدٍ مع سبق التواطؤ بين العساكر والخطاب الديني المستنقعي، بين الرصاصة والفتوى، بين المتحدث باسم الجيش ومنشد كتائب البراء. هناك، حيث كانت الساحات تُستعاد فيها المدن للناس، غدت الآن رؤوس الناس ساحة لتعلّم القنص. ليس مجازًا بل واقعًا، في زمنٍ بات فيه المدني السوداني محض هدف حيّ، يمارس عليه الجندي رماية الصيد، ويعلّق نجاحه في التصويب على جمجمة مواطن، لم يفعل سوى أن مشى تحت شمس حارقة، أو أطل من نافذة بيته.
إنهم يتدرّبون على الجسد، لا على العدو. والفرق بين الجندي المحترف والقاتل المرتبك لم يعد واضحًا في جحيم الخرطوم ولا في الظلال الطويلة لوَد مدني المنكوبة.
لا يُطلقون النار من خوف، بل من لذة، لذة السيطرة على الفزع. هكذا، تحوّل الجسد السوداني إلى هدف رمزي للحكم، كأن الدولة ذاتها لم يعد لها سوى هذا الجسد تهزمه مرارًا لتثبت أنها لا تزال تحكم ولو على الأطلال.
في الجزيرة، في طيبة بالاسم لا بالفعل، ذُبح الناس كالطقس، كأنها مسرحية قديمة أُعيد إخراجها بحرفية جزارين لا يعرفون اللغة. أُحرقت القرى بعد أن نُهبت، وبُعثرت الماشية التي كانت تمد الأرض بما تبقّى من استقرار. انتشلت الجثث من الأزقة وساحات المساجد، طُمست الشواهد، وبقي في الذاكرة فقط مشهد شيخ يُذبح أمام تلميذه، أو أم تئن بعد أن نُزع رضيعها منها لتُغتصب أمام صمت الحيطان.
وهناك، حيث الغرب يُجاهد في التمييز بين الجلاد والضحية، دارفور تُباد من جديد، بهدوء متعمد. المساليت، هذه المجموعة التي لم تطلب يومًا دولة، ولا رفعت سلاحًا خارج حدودها، يُخيّرها المسلحون بين الموت أو المنفى المفتوح على العراء، على الصمت، على حدود لا يسكنها أحد إلا الناجون من المجازر. ومع أن العالم قد شهد، فإن أحدًا لم يتوقف ليفهم كيف تُعيد قوات الدعم السريع إنتاج مشاهد الإبادة وكأنها تحفظها عن ظهر رصاصة.
الاغتصاب، لم يعد سلاحًا مسكوتًا عنه. بل صار أداة سياسية معلنة، تمارس في وضح النهار، في الخرطوم ودارفور وكردفان، بأيدٍ سمراء مسلحة وبنظرات لا ترتجف. فتاة تُحمل عنوةً إلى معسكر، تتناوب عليها البنادق، لا لشيء إلا لأن أمّها صوتت ذات يوم لصالح الحرية. شهادات النساء تُروى بمرارة تُقطّع أوصال اللغة. هناك من استُعبدت في بيوت ضباط، ومن فُتحت أجسادهن كخرائط للانتقام. بعضهن صُبّ عليهن الماء المغلي بعد الاغتصاب، وبعضهن قُطعن، وهن على قيد الحياة، فقط لتكون الرسالة أوضح.
من لم يُغتصب، هُجّر. ومن لم يُهجر، جُوِّع. ومن لم يُجَوَّع، قُصف وهو يفر. في الجنينة، يُجبر المدني على الاختيار بين القبر والترحال. وفي جنوب كردفان، تُحرق القرى فقط لأن ملامح ساكنيها تُشبه التاريخ. لا بوصلة ولا رحمة. فقط جيشٌ فقد معناه، ودعمٌ سريع أبطأ من أن يستوعب ما تبقّى من إنسانية في الميدان.
إن كل ما يجري لا يشي بحربٍ على السلطة فحسب، بل بكراهية للإنسان، بنقمة على الجسد، على أنفاسه، على صبره، على ذاكرته. لقد تحوّل الإنسان السوداني إلى محض مادة حربية، يُقتل لأنه لم يمت سابقًا، يُغتصب لأنه ما زال يأمل، يُهجّر لأنه يشبه الغد، والغد لدى هؤلاء جريمة.
وهنا، يحضر صوت هربرت ماركوز، وهو يقول: “حين يُختزل الإنسان إلى مجرد وسيلة، فإن كل ما فيه يُحوّل إلى ساحةٍ للسيطرة: جسده، لغته، ذائقته، وحتى موته.”، وكأن الفيلسوف قد قرأ تقارير الحرب السودانية قبل نصف قرن.
من كان يتساءل عن فداحة السلطة حين تتحالف مع الوهم، فلينظر إلى السودان، حيث الدولة لم تعد تُحكم بالقانون، بل بالقتل. لا سلطة مدنية ولا حتى دكتاتورية واضحة، فقط خليط مسلح من رجالٍ يشبهون الكوابيس، يحكمون بالسيف والمزاج، يوزّعون الموت كما توزع الخطب في المساجد، ويغسلون أياديهم بالدين.
الخرطوم، دارفور، الجزيرة، كردفان… ليست مناطق متفرقة، بل جراح في جسدٍ واحد أُعلن موته سريريًا. والمفارقة أن الجناة لا يطلبون الغفران، بل يريدون من الضحية أن تعتذر لأنها لم تمت في الوقت المناسب.
هل سيُحاسَب أحد؟ ربما. لكن الجسد، ذلك الجسد الذي حمل الوطن، لم يعد كما كان. صار خريطةً للذل، وشاهدًا على عصرٍ يعاد فيه تعريف الجريمة لا بحسب فظاعتها، بل بحسب الجهة التي ترتكبها.
هذا ليس توصيفًا لواقع. هذا إعلان فجيعة، ونعي لضمير كان ينبغي أن يستقيل منذ الطلقة الأولى.
zoolsaay@yahoo.com