لجريدة عمان:
2024-11-19@23:09:03 GMT

المواطنَة العربية

تاريخ النشر: 26th, September 2023 GMT

المواطنَة العربية

بين سؤال الهَوية والهُوية، وتساؤل «ما الإنسان؟» بالمعنى الكنطي، و«ما هو الإنسان؟ بالبعد الهيجلي تقع «النحن» الهَووية بأبعادها الانتربولوجية الثقافية لا كظاهرة تاريخية نفسية سيميولوجية، بل بكونها قضية فلسفية بامتياز. بين كينونته الأصلية في العالم، وكينونته مع العالم الهيدغري Heidegger تجد الإنسان القابع بين الاستلاب والغربة، حيث الأنا الريكورية Ricoeur عينها كآخر، مؤجل، مستودع زمنياً، شكلي المعيش وفق إمكانات وجودي كفرد، والآخر كصورة أنطولوجية أخرى لي ارتسمت في أفق عالم الخلق كي أتبصر إمكاناتي الأخرى التي لا يسعني إلا أن أكونها وفق هذا الشكل الانشطاري: انشطار وجودي بين أناي وبين آخريتي يقبع الإنسان المعاصر بين استلاب واغتراب في معاناة تحمل قيد إمكان وجوده من عدمه كمواطن على خارطة هذا العالم.

بداية، لا بد من التمييز ما بين مصطلحي مواطنَة ومواطنية، بهدف تقصّي معانيها وأبعادها، حيث إن لفظة مواطنَة تنبني على الوطن متمركزة بالأبعاد الاجتماعية الجغرافية، في حين أن لفظة مواطنية تحمل في طياتها المعنى التصوري المشتق من تصورها العيني للمواطن الذي استوطن الأرض وأعلن انتماءه إليها، وبذلك فهي تشتمل على الأبعاد الجغرافية الاجتماعية وتتخذ شكل الاجتماع السياسي.

لعل الاهتمام بالمواطنة اليوم يتمثل في كونها تشكل عاملاً جوهرياً فاعلاً للحفاظ على هويات الدول وخصوصياتها، في ظل أخطار وصراعات تتهدد كياناتها، وهي على أنواع:

أ_اجتماعية: تتمظهر بالتفاعل الاجتماعي بين الأفراد في المجتمع.

ب_ سياسية: وتتمثل بالتفاعل بين الأفراد والمؤسسات المختلفة للدولة، وهي تشتمل على مؤسسات متنوعة ومتعددة ومنها:

1_ المواطنة المسؤولة: ومن خلالها يدرك المواطن كيفية ممارستها والالتزام بقوانين مجتمعه وتقاليده مع ما يستدعي ذلك ويتطلب من مسؤوليات وتصرفات.

2_ المواطنة التشاركية: عبرها يصبح المواطن قادرا على القيام بالأدوار القيادية من خلال مشاركته في المشاريع الخدماتية للمجتمع.

3_ المواطنة الموجهة: يتمكن من خلالها المواطن من اتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة إشكاليات مجتمعه وتقديم الحلول الجذرية للمشاكل المجتمعية.

4_ المواطنة الفاعلة: وتشتمل على العلاقات التفاعلية في ما بين المواطن والدولة، متخطية دور الفرد باتجاه الجماعة، والمشاركة السياسية سواء في الحياة العامة أو الأعمال التطوعية، وكأن معظم الطروحات التي تبلورت في الوعي الحديث تتمحور حول التأكيد على أن الشعور بالمواطنة يستلزم ضرورة الوعي بالانتماء إلى الكيان والمجتمع السياسي، ولعل هذه الطروحات جميعها هي ما دفعت بالفيلسوف الألماني يورغن هابرماس Habermas إلى المناداة بالمواطنة الدستورية المجاوزة للقومية وصولاً للمواطنة العالمية، ويبقى السؤال: هل الإنسان المسكون بالضدية في المجتمعات العربية هو من الرعايا أم من المواطنين؟ كيف تمارس الشعوب العربية مواطنيتها في ظل عولمة وحروب تفكيكية تدميرية؟ وهل من معنى واقعي عملاني ممارس للمواطنية اليوم؟

يذهب البعض من المفكرين إلى أن بعض روّاد النهضة العربية اقتبسوا مفهوم المواطنة دون استخدام المصطلح نفسه، من أمثال: الطهطاوي، والتونسي، وأديب اسحق، وقاسم أمين، وسليم البستاني والكواكبي، وغيرهم من المفكرين، محاولين الاستفادة من ظروف القرن التاسع عشر المتجسدة بسياسة التنظيمات الإصلاحية المتبناة من قبل الحكومة العثمانية والمعتمدة من قبل حكام مصر وتونس، هذا مع العلم بأن أحمد لطفي السيد وطه حسين لم يأتيا على ذكر مصطلح المواطنة في كتاباتهما، على الرغم من استخدامهما لمصطلحات الأمة المصرية، والتضامن، والفرد والمجموع، والشخصية المصرية، والفصل بين السلطات: القضائية والتنفيذية والتشريعية.

غير أن روّاد النهضة العربية لم يغب عن أذهانهم استيعاب مضامين المواطنة الحديثة أثناء احتكاكهم بالغرب وقنواته المتنوعة، محاولين اقتباس دولة القانون بمؤسساتها وقواعدها، وبخاصة المواطنة بعد تبيئتها في الواقع العربي الإسلامي بنقل أسماء المؤسسات الغربية إلى العربية، وزعمهم بأن لهذه المؤسسات مماثلات ومشابهات في التجارب التاريخية العربية الإسلامية، كما سعى البعض منهم لتأمين شروط المساواة بين أبناء الوطن أمام القانون، والعمل على ضمان المساواة في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، وفي يقينهم أن الرشدية اللاتينية هي التي مهدت الطريق للحداثة الأوروبية، وبالتالي تبني العرب المسلمين لما أنتجته لن يفضي بهم إلى التخلي عن هويتهم أو يدفع بهم إلى التغرب.

من الملاحظ قصور مفهوم المواطنَة في العالم العربي بما يمثل من محور ارتكاز للمجتمع السياسي المنظّم في انسجامه وتماسكه، ولعل المواطنة الدستورية التي طرحها هابرماس مشددا على المواطنة القومية بمعنى الانفكاك في هذا التعالق العضوي في ما بين المواطنة والقومية، مسلطاً الضوء على أن الارتباط بين المواطنة والهوية ليس ضرورياً ولا عضوياً، بل هو نتاج هذا المسار التاريخي العرضي الذي عاشته أوروبا الحديثة، وبالتالي من الممكن الفصل في ما بين المفهومين، والسعي لنمط من المواطنة خارج إطار الدولة القومية بمفهومها التاريخي السائد.

من الواضح بأن النزعة الوطنية الأوروبية عملت على تعزيز الهوية المشتركة من خلال التركيز على المشاركة الشعبية التي تشكل الأساس للمواطنة الديمقراطية، على اعتبار أن المشاركة التبادلية تعزز المشاركة الديمقراطية والتضامن الوطني، والحقيقة السياسية القانونية للمواطنة قد تتعارض وتتناقض نظريا مع الخصوصية الوطنية، ففي حين أن الأولى عمادها المبادئ الكونية القائمة على التعددية والاختلاف والقانون لا على الانسجام والتماثل، فإن الثانية من طبيعتها الإقصاء والتقوقع والانغلاق، وبذلك يميز هابرماس بين نوعين من الهويات: السياسية: وجوهرها المدنية الحقوقية الكونية، وهي هدف الديمقراطية الليبرالية، والثقافية: المبنية على القيم، واللغة، والدين، وهي هدف النظم الجمهورية بتصوراتها التشاركية الشعبية انطلاقاً من مفهوم الأمة الواحدة، من هنا ينبغي على الدولة الديمقراطية احترام الحقوق الثقافية للفئات والمذاهب والطوائف المنتمية للدولة بغية تسهيل الخطوات وصولاً لمواطنة دستورية كونية.

إنها اللحظة الراهنة في المرحلة المعاصرة المساوقة للطفرات والتحولات التاريخية والسياسية والثقافية التي تطال الواقع المعاصر، وتسعى جاهدة لتغيير فعل المواطنة: كنهاية الحرب الباردة، وحقوق الإنسان وغيرها من المسائل التي ألمحت إليها حنة أرندت Arendt مسلطة الضوء على استعادة الفعل أو النشاط السياسي حيّزه أو مكانته في الفضاء العام، القادر على التكفل بحرية الرأي والعدالة الاجتماعية التي يكفلها النظام الدستوري، كذلك هو الحال عند جون رولزRawls المنادي بالعدالة كإنصاف في تصوراتها السياسية للمواطنة والديمقراطية، ولم يغب عن بال نيغل دوير Dower أن الأمن والعدالة والديمقراطية هي قيم إنسانية لإيجاد المواطن العالمي، على أن صعوبات عدة قد تقف حائلاً أمام المواطنة منها: الفقر، والإرهاب، والعجز، وتدمير البيئة الطبيعية، وانتهاك حقوق الإنسان، وغيرها من الأمور الأخرى، وفي يقينه أن النخبة العالمية هي التي تصنع المواطنين العالميين لا المهمشين اجتماعيا، وإبريل كارتر Carter تنحو منحى المواطنة العالمية على اعتبار أن الاتحاد الأوروبي والمواطنة الأوروبية يشكلان الخطوة الرائدة في حال حاول الاتحاد تطبيق قواعده واتفاقياته بما يدعم الأساس العالمي، وهي إذ تسعى جاهدة للحد من الفقر، والاهتمام بالبيئة الطبيعية، هذا هو حال المواطنة العالمية التي تتطلب التفكير والعمل على نحو كوكبي، والمساهمة الفاعلة والمشاركة البناءة في المجتمع العالمي المقاد بالضرورة من الإنسان العالمي الحامل لثقافة وهوية لا لهويات معولمة استهلاكية في عالم افتراضي، حيث الشاشة لا الكلمة، والإعلام السطحي لا المثقف، ولغة الآخر لا اللغة العربية الأم ونتساءل: أين هو المواطن العربي من المواطنة العالمية؟.

المواطن العالمي بحسب ما يرد ببعض المعاجم اللغوية هو الإنسان القادر على الانتقال من المجال الوطني البحت إلى الميدان العالمي، وبالتالي هو القادر على المشاركة بفعالية في الحياة السياسية، بمهاراته المدنية، وتعاطفه الثقافي، وهو العامل على التوفيق بين الصراعات، محترماً التنوع باللجوء إلى الوسائل السلمية التي يوظفها ويستخدمها في مناقشاته ومفاوضاته ومداولاته. لعل إحدى المحاولات الجادّة لتسليط الضوء على المواطنة في العالم العربي ما كتبه المفكر اللبناني ناصيف نصار في كتابه المعنون «في التربية والسياسة... متى يصير الفرد في الدول العربية، مواطناً» مؤكداً فيه على أهمية التربية على المواطنية، على أن تكون الجامعة البوابة الحقيقية لترسيخ قيم المواطنة، متفقاً في ذلك مع العالم الأمريكي مورس Morse الذي يرى في الجامعة الأمريكية القدرة على تنمية المهارات المدنية، ووضع الآليات، واتخاذ القرارات، وبالتالي المناخ الذي تتمتع به الجامعة يخوّلها القيام بأدوار فاعلة في تحقيق السلم، وإبعاد شبح الحروب والعنف والإرهاب، لما تتمتع به من جودة التعليم بأنشطتها الطلابية الفاعلة سياسياً، وثقافياً، وعلمياً، واجتماعياً وفنياً، والتكوين على المواطنية في الجامعات مسؤولية محورية وجوهرية للنهوض برسالتها التي ينبغي أن تتخطى وتتجاوز مبادئ الديمقراطية، والالتزام بالمواطنية الممارسة قولاً لا فعلاً، وبالعبور إلى الآليات التي تعبّر عن الهوية والولاء للمجتمع وللإيفاء بمستويات الفرد تجاه المجتمع الذي ينتمي إليه.

وبما أن التربية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعلوم السياسية والاجتماعية والأخلاقية، فإنه من غير الممكن الوصول إلى فلسفة شاملة للتربية في العالم العربي إن لم تركن إلى التربية والتكوين على المواطنية، بالاستناد إلى المرتكزات الدستورية الإيديولوجية، وبما يحقق التوازن بالحقوق والواجبات للمواطنين.

تكمن أهمية التجربة النصّارية في التربية المواطنية كونها تسلط الضوء على الجامعة والتعليم العام كمؤسسة للعقل، ومؤسسة للسياسة، والإصلاح لا يأتي من السياسة بل من فلسفة الجامعة التي تمنحه الصيغة القانونية القابلة للتطبيق والتطوير، صحيحٌ أن التربية الوطنية تنمّي الشعور الوطني بحب الوطن والاعتزاز به، والولاء له، لكنّ التربية المواطنية هي الأجدى والأنفع، بموضوعها الجوهري في تشكيل المواطن، والسعي لتنميته بالاستناد إلى فلسفة تنظر في ماهية المواطن وواقع تجربة الحياة الجماعية الوطنية واجتماعها السياسي، فالتربية المواطنية ينبغي أن تقع في قلب نظام التربية الوطنية العام، تعمل على تنشئة الفرد كعضو في دولة له حقوق وعليه واجبات، ولكن ما هي التحديات التي تواجه الجامعات العربية في التربية المواطنية والتكوين على المواطنة؟.

يبدو لي بأن الانحراف الفكري يقع في هذه التحديات، بخاصة وأن الخروج عن جادّة الصواب، ومخالفة المنطق والتفكير السليمين يشكلان تهديداً حقيقياً للمواطنة، واستهدافاً لقيم وروح المجتمع في الصميم، كما أن الانحراف الفكري قد يلعب دوراً تقويضياً تهديمياً للأمن الوطني، وللنظام العام، فيعمل على خلخلة الثوابت العقدية، وزعزعة القناعات الفكرية، وتحلل المقومات الأخلاقية سيّما وأنها السبيل أو الطريق الأوسع لنشر البدع والتشكيك بثوابت الأمة، لهذا عندما يطرح المفكر التونسي فتحي المسكيني إشكالية «النحن، مجيباً:» إن سؤال من نحن؟ ما يزال عندنا عرقياً جداً ودينياً جداً،( المسكيني، 1997، ص126)، وبهذا المعنى طالما العروبة لم تغادر المعنى العرقي، والإسلام لم يغادر المعنى الديني، فالنحن العربية مضطرة مسبقاً لأن تبقى خارج الفلسفة، سيّما وأنها تشتق ذاتها من اللافلسفة، وهنا مكمن الفرق بين المثقف المنغمس في المحلية، والفيلسوف المنفتح على الكونية والعالمية.

وللإرهاب المرتبط أصلاً بالانحراف الفكري، حيث إن هذا الأخير عندما يتحول إلى موقف سلوكي يُترجم بأعمال عنفية مشكّلاً بذلك الإرهاب الذي يهدف إلى ترويع المواطنين الآمنين، بالاعتداء على حياتهم وحرياتهم وأعراضهم وكراماتهم الإنسانية، وتدمير مصالحهم، وقد عرفت الساحة العربية الإرهاب والعنف والتطرف بشتى أنواعه وأشكاله، مما ولّد لدى بعض المجتمعات العربية ضعف الشعور بالانتماء، والإحساس بالاغتراب، والسعي إلى الهجرة، وعدم المشاركة في الحياة السياسية، وضعف الوعي بالقضايا السياسية المعاصرة وبخاصة تلك المرتبطة بالقطيعة مع تاريخ الأمة وراهنيتها ومستقبلها، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى غياب الوعي بالمواطنة وقيمها، لذا لا بد من التكوين على المواطنية الفاعلة والمنتجة كآلية من الآليات لمواجهة تحديات العصر، وبالتالي الركون إليها لصناعة عقول وتشكيل سواعد لمواطنين قادرين على بناء أوطان متماسكة قد تؤسس لأمة قادرة وحاضرة على المسرح العالمي بالاستناد إلى القيم المرتبطة بفلسفة المواطنة من جهة، وبالقيم المبنية باتجاهاتها الإيجابية على الممارسات والسلوكيات المعاشة اليومية إن في المؤسسات أو المدارس والجامعات، ولعل المواطنية الجامعية تستدعي التنمية لتحقيق تعلّم يتعلق بالقيم والاتجاهات، سيّما وأن البيئة الوطنية والعالمية الحبلى بالتطور المتسارع بأزماته الاقتصادية، والمشاكل الاجتماعية في الإدارة السياسية والثورات التكنولوجية تتطلب من الجامعة تكوينا على المواطنية بكونها ليست المكان الوحيد لإنتاج السلوك المعرفي والمعارف النظرية فحسب، بل بكونها المحرك الجوهري للخلق والإبداع.

وفلسفة المواطنة هي صمام أمان الإرادة الفردية للحرية، وبمضمونها البرغماتي هي إتقان صنع القرار الذي يتطلب أن تتربى عليه الأجيال العربية الراهنة والمستقبلية، إن في البيوت أو المدارس والجامعات، حيث إن من أهداف التربية في المجتمعات الديمقراطية الحرّة العمل على خلق مواطنين مستقلين، يتصفون بالتحليل، والحوار، والنقد، والانتقاد والمساءلة، وبالإدراك العميق لمبادئ وسلوكيات الديمقراطية، بخاصة وأنه في ظل غياب الوجود القانوني للفرد، يحضر الزعيم أو القائد بقوة، فتجد الإنسان العربي مدفوعا لأن يبحث عن وجود له، فلا يجده إلا باستسلامه لزعيم من طائفته، أو قائد من جماعته، وبذلك تتخذ شكل العلاقة بالزعيم أو القائد شكل الاستزلام والتبعية، وأحيانا العبودية، التي قد تتسم بسمة دينية أو زمنية، رأسية هرمية تراتبية، هو يسال ولا يُسأل، يحاسب ولا يُحاسب، ومنطق الاستزلام والتبعية في مجتمعاتنا العربية شبيه إلى حد ما بالعبودية السارترية Sartre إذ إن العبودية تكمن في كون الأنا خاضعة لأحكام الآخرين، لدرجة أنه حتى في الحب هناك صراع وخطر من حرية المحب الذي يجعل من المحبوب عبداً يمارس عليه تعاليه، كذلك هو الحال مع نيتشه Nietzche وهيغل Hegel في جدلية السيد والعبد، من هنا، المواطنة مفهوم مركزي في الخطاب السياسي، بدأت مع اليونان بالمدينة_الدولة، وتمركزت حول طبيعة العلاقات أهي قانونية صالحة لنسيج العيش المشترك؟ أم على القانون أن يقترن بالأخلاق بهدف إنجاز المهمة؟ والأهم من ذلك، هل المواطنة في اليونانية حققت مبتغاها؟ أم أنها كانت إقصائية استبعدت المقيمين الأجانب والعبيد والنساء من الحقوق السياسية والاجتماعية؟، كما أنه لا يمكن إنكار تأثير لوك Locke وروسوRousseau والثورات الفرنسية والأمريكية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لذا، لا بد في عالمنا العربي من استدعاء المواطنة والديمقراطية بمعناهما الحقيقي بعيداً عن استهلاكية الخطاب المعلن، وصولاً لبناء مجتمعات ينعم فيها المواطن العربي بالديمقراطية العادلة والمواطنية الشاملة، وهنا نجد بأنه لا مواطنة ومواطنية دون ديمقراطية، فهل فعلياً تشهد مجتمعاتنا العربية هذه العلاقة المتلازمة في ما بين الديمقراطية والمواطنية مع مبدأ تكافؤ الفرص وبشكل مباشر مع قانون المحاسبة للمسؤولين، ومع التمثيل الشعبي الحقيقي؟ سيّما الحقوق الاجتماعية حيث إن مجمل الحركات العاملة للمواطنة العالمية تعمل على الحد من الفجوات بين الدول النامية، وبخاصة المناطق الفقيرة بهدف تحويل الجميع إلى مواطنين عالميين.

ماغي عبيد كاتبة وباحثة لبنانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ة فی العالم فی المجتمع الضوء على ة العربیة فی ما بین حیث إن على أن

إقرأ أيضاً:

المجتمع الفلسطيني من التعبئة السياسية إلى الاستقطاب.. كتاب جديد

الكتاب: الاستقطاب وتصفية التعبئة، إرث السلطوية في فلسطين
المؤلف: دانا الكرد
المترجم: محمود محمد الحرثاني
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات


تبحث دانا الكرد، أستاذة السياسة المقارنة والعلاقات الدولية، في هذا الكتاب تأثير القمع والاستبداد على إبطال عمليات التحشيد في المجتمعات التي تخضع لمستويات عالية من التدخل الدولي. وتدرس في هذا السياق، بشكل مستفيض، حالة السلطة الوطنية الفلسطينية التي لعب البعد الدولي، أو التدخل والنفوذ الخارجي، الذي كان في معظمه أميركيا، دورا كبيرا في نشأتها ونموها. وترى الكرد في المناطق الفلسطينية حالة مثيرة للانتباه والاهتمام، إذ كانت تضم فيما مضى مجتمعا شديد التحشيد، لكنه لم يعد كذلك، ودراسته بالتالي يمكن أن تكشف عن الديناميات التي جعلت هذا التغيير ممكنا، وبناء استنتاجات بشأن حالات مماثلة.

وإلى جانب بحثها في تداخل العلاقة بين الدولي والمحلي وترسيخ التسلط، تحاول الكرد استنباط الآثار السلوكية طويلة الأمد على المجتمعات، وتفسير آليات عمل هذه العلاقة في البيئات المخترقة، وتأثيرها على التماسك الاجتماعي والتحشيد على المدى الطويل. وتطرح في فصول الكتاب مجموعة من الأسئلة التي تستكشف من خلال الإجابة عليها واقع الحال، منها على سبيل المثال؛ ما تأثير التدخل الدولي على تفضيلات القيادة الفلسطينية مقابل تفضيلات جمهور الفلسطينيين؟، وما تأثير الاستراتيجيات التسلطية للسلطة الفلسطينية على الاستقطاب داخل المجتمع، وكيف يؤثر هذا الاستقطاب على العمل الجماعي؟. كما تطبق في أحد الفصول نتائج تقييمها على حالتين إضافيتين هما حالة كردستان العراق والبحرين، وتبحث في أثر التدخل الدولي، ولا سيما الأميركي، في تطور هاتين الحالتين ومساراتهما.

قبل أوسلو وبعده

بعد حرب 1967أخضع الفلسطينيون في المناطق المحتلة لقيود قاسية شلّت قدرتهم على التنظيم السياسي، وواجهوا القمع في كل مرة حاولوا فيها التنسيق فيما بينهم لتحقيق أهداف سياسية، مثل الاعتقال العسكري، وهدم المنازل، والإبعاد، والقتل. ونتيجة لذلك تركز نشاط منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج، لا سيما في مجتمعات اللاجئين في الأردن ولبنان وغيرها من الدول العربية. ورغم محاولة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة التنسيق مع منظمة التحرير، فقد ظلوا معزولين إلى حد ما، بسبب ما يتعرضون له من قمع، ما اضطرهم إلى الاعتماد على "المنظمات القاعدية ذات الصلات المحتملة بالمنظمة". لكنها، كما تقول الكرد، كانت منظمات تعمل على المستوى المحلي، ما منحها قدرا من الاستقلالية، والمرونة، والحيوية.

يجب على الفلسطينيين العمل بشكل جاد لإعادة تنشيط المجلس الوطني من خلال انتخابات جديدة، بحيث يضم أيضا جميع التيارات بما فيها الإسلامية، ويكون ممثلا لكل قطاعات الشعب. عدا ذلك فإنه قد يكون من المستحيل إنشاء مؤسسات جديدة من الصفر في بيئة مجزأة ومستقطبة استقطابا حادا.وهذه الاستقلالية هي التي أتاحت للفلسطينيين تنظيم الانتفاضة الشعبية الأولى، حيث بادرت هذه المنظمات إلى تنظيم استراتيجيا سلمية مشتركة، بالمقاطعة، والإضرابات، والاحتجاجات للضغط على الاحتلال ومحاسبته على الساحة الدولية، وكل ذلك في إطار تنسيق عال بين الجماعات المختلفة، التي تقاسمت التوجهات ذاتها والأهداف. وتلفت الكرد إلى أن الاستقطاب كان في حده الأدنى، وأن القيادة الموحدة للانتفاضة كانت في غاية التجاوب والتفاعل مع الضغط الشعبي من أجل تحقيق أعلى درجات المشاركة في أنشطة الجماعات السياسية.

أما بعد أوسلو، ورغم حضور القوى الدولية في الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي ـ قبل العام 1994، فإن مستوى هذا الانخراط في الديناميات والسياسات الفلسطينية الداخلية ازداد بشكل كبير بعد إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية. وقد سيطرت السلطة على المجال العام ما جعل المنظمات القاعدية تتلاشى بالتدريج، سيما بعد عودة الكثير من أعضاء المنظمة إلى الأراضي المحتلة، الذين شاركوا في مشروع "بناء الدولة" بالعمل كبيروقراطيين وإداريين، وُزّعت عليهم العديد من المناصب العليا، والرواتب المجزية، ما خلق توترات بين العائدين والقيادة المحلية. في تلك المرحلة قدم الرعاة الدوليون العديد من حزم المساعدات للسلطة الفلسطينية، وكان ينظر إليها باعتبارها ضرورية لتأمين المؤازرة الشعبية للسلطة وعملية السلام، لكن الاحتلال استمر في سياساته الضاغطة على الفلسطينيين ولم تثمر كل هذه المساعدات في التخفيف من الظروف المعيشية الصعبة التي يرزح تحتها الفلسطينيون.

بل إن المساعدات الأمريكية والأوروبية المشروطة أعاقت التطور السياسي الفلسطيني وساهمت في إدامة الصراعات الداخلية، بحسب ما تقول الكرد، إذ عملت على تمكين جماعات معينة في المجتمع على حساب أخرى يمكن تصنيفها بأنها تمثل أصوات معارضة أو منتقدة لاتفاقيات أوسلو، وبالتالي كانت "غير مؤهلة" لتلقي المساعدات الخارجية أو دعم السلطة الفلسطينية.

وهكذا تم تحييد دور المجتمع المدني، وأي معارضة محتملة، بطريقة قاسية وقمعية في أحيان كثيرة. من جهة أخرى فقد كان الضغط الأميركي في عهد ياسر عرفات متواصلا وعدائيا في كثير من الأحيان. فقد اشتكت الولايات المتحدة من افتقار مؤسسات السلطة إلى الاحتراف والمهنية، واتهمت عرفات بأنه يدعم المقاومة ضد التوغلات والهجمات الإسرائيلية، ويتسامح مع التنظيمات الإسلامية، وكثيرا ما هددت وحلفائها بقطع المساعدات كلما سار عرفات في اتجاه يخالفهم. وتضيف الكرد أن المانحين لطالما شددوا على ضرورة بناء نظام "حكم رشيد"، لكن طبيعة اتفاقات أوسلو قصد منها في الواقع أن تكون السلطة مقيدة بالكامل في قدرتها على بناء دولة حقيقية سياسيا واقتصاديا. وبالنتيجة ضمنت إسرائيل أمنها بالتأكد من إبقاء فلسطين تحت السيطرة.

أولويات النخبة

في عهد محمود عباس عززت السلطة سيطرتها على السياسة والمجتمع الفلسطيني بأساليب قمعية متزايدة. وأصبح الفلسطينيون أكثر اعتمادا على رواتب وخدمات السلطة، وحتى تلك القطاعات التي كانت تعارض مشروع بناء الدولة في إطار أوسلو تم إسكاتها إما بضمها إلى شبكات المحسوبية التابعة للسلطة، أو بالقمع المباشر، في ظل سيطرة مركزية على الأجهزة الأمنية ودرجة عالية من التنسيق مع الحكومة الإسرائيلية. وفي تلك الأثناء اكتسبت حركة حماس زخما في الأراضي المحتلة بإصرارها على الحق في المقاومة ورفضها القبول بحل الدولتين، لذلك أيدت الولايات المتحدة وحلفائها قمع الحركة رغم فوزها بالانتخابات وتعهدها بالاعتدال.

تقول الكرد أنه بمرور الوقت أدى التدخل الأميركي المتزايد إلى تكوين معسكرين في السياسة الفلسطينية؛ معسكر مؤيد لاتفاقات أوسلو والتنسيق الأمني ومتحالف مع الولايات المتحدة، ومعسكر معارض لكل ذلك. وبدا واضحا أن هذا التدخل الأميركي منح النخب السياسية شعورا متزايدا أنها غير مسؤولة أمام الرأي العام. وفي الوقت نفسه ساعدت "المساعدة الفنية" الأميركية لإصلاح قطاع الأمن على زيادة التنسيق بين السلطة وإسرائيل، وزيادة القمع والتسلط في المشهد الساسي الفلسطيني. وجدير بالملاحظة أن السلطة تنفق ثلث ميزانيتها على أجهزتها الأمنية، وتوظف أكثر من 80 ألف شخص، وهو ما يعني أن لكل 48 فلسطينيا شرطيا أو ضابط أمن.

في عهد محمود عباس عززت السلطة سيطرتها على السياسة والمجتمع الفلسطيني بأساليب قمعية متزايدة. وأصبح الفلسطينيون أكثر اعتمادا على رواتب وخدمات السلطة، وحتى تلك القطاعات التي كانت تعارض مشروع بناء الدولة في إطار أوسلو تم إسكاتها إما بضمها إلى شبكات المحسوبية التابعة للسلطة، أو بالقمع المباشر، في ظل سيطرة مركزية على الأجهزة الأمنية ودرجة عالية من التنسيق مع الحكومة الإسرائيلية.ترى الكرد أنه وكنتيجة مباشرة للتدخل الدولي تنشغل النخب في فلسطين بضغوط مختلفة تماما عن الجمهور الذي تمثله. فالولايات المتحدة لا تعطي أولوية للممارسات الديمقراطية، بل تخلق جيوبا من الفساد وتسهّل تضخيم دور مجموعات داخل السلطة غير خاضعة للمساءلة أمام جماهيرها، حتى لو كان خطابها (الولايات المتحدة) مؤيدا للديمقراطية. وتبعا لذلك تعطي هذه النخب الأولوية للاستقرار، وتعبر عن زهدها في دعم الديمقراطية. وينسحب ذلك على الرأي العام الذي يبدو أنه مشروط بعلاقة الفرد بالنظام السياسي. فالذين ينتمون إلى السلطة يكررون رأي هذه النخب. تقول الكرد أن هذه الظروف الاستبدادية القمعية ولدت استقطابا حادا في المجتمع، وسنجد أن مجموعات المعارضة المستهدفة، مثل اليساريين والإسلاميين، كانت أكثر عرضة للاستقطاب ورفض التنسيق مع الحركات الأخرى، وهو أمر أثر بدون شك على التماسك الاجتماعي، والقدرة على تنسيق استجابة فعالة للتحديات.

إحياء المجلس الوطني

تلفت الكرد الانتباه إلى أن الضغوط المحلية والدولية، في السنوات الأخيرة، على السلطة غير مسبوقة، إلى الحد الذي يجعل توقع انهيارها أو نهايتها ممكنا. ضغوط تشمل إجراءات قمعية وتعسفية متزايدة من قبل الحكومات اليمينية في إسرائيل ضد الفلسطينيين، وضد السلطة نفسها إذ يتكرر منع إسرائيل لتحويل إيرادات الضرائب الفلسطينية مما قد يتسبب بانهيارها ماليا، عدا عن حديث السياسيين الإسرائيليين علانية عن ضم الضفة الغربية، ومواقف وقرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في فترة ولايته الأولى. وتشير إلى أن سياسة ترامب شجعت أنظمة عربية على تجريب التطبيع مع إسرائيل، والتحول تدريجيا نحو مزيد من الانفتاح على التنسيق مع الحكومة الإسرائيلية بشأن ما يعدونه مصالح مشتركة. وقد جاء هذا على حساب القضية الفلسطينية، حيث اعتبرت هذه الأنظمة أن التهديد الأكبر لها ليس إسرائيل إنما المعارضة المحلية، وإيران إقليميا.

وتقول الكرد إن الفلسطينيين باتوا على نحو متزايد وحدهم في مواجهة كل هذه الضغوط، والسلطة الفلسطينية بدون الدعم التقليدي من الحلفاء العرب أصبحت أكثر ضعفا، لكن ربما لن يكون من السهل على الفلسطينيين إيجاد بديل لها. فالتدخل الدولي والقمع خلق ظروفا صعبة من الاستقطاب، إلى التحشيد المنزوع الفاعلية، إلى الافتقار للتماسك الاجتماعي، ما يجعل الفلسطينيين أمام خيارين فقط إما الاحتفاظ بالسلطة أو الدخول في فراغ سياسي نتائجه قد تكون عنيفة.

مع ذلك فثمة مخارج من هذا الوضع، على أكثر من مستوى، يمكن التعامل معها بجدية وبشيء من التفاؤل، فالعديد من الشباب ينخرطون اليوم في العمل الجماعي والعصيان المدني، غير مرتبطين بالمؤسسات وهياكل السلطة القائمة، وهم على استعداد للنظر في وسائل بديلة للمقاومة، وينظرون إلى السلطة باعتبارها جزء من المشكلة.

لكن من دون هيكل تنظيمي لا يمكن لحركاتهم الاجتماعية الاستمرار طويلا، ورغم ذلك فإن عدم ارتباطهم يعني أن هناك مجالا لتطوير منظمات جديدة قادرة على الاختلاف وتطوير استراتيجيات إبداعية لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي. إضافة إلى ذلك هناك نشاط ملحوظ للفلسطينيين في الشتات، يحصد نجاحا متزايدا، مثل "حركة المقاطعة" ومنظمة "الشبكة" التي تم تشكيلها لإجراء البحوث وربط الأكاديميين الفلسطينيين وصناع القرار في جميع أنحاء العالم لخلق وعي جديد بالسردية الفلسطينية، والكثير من المبادرات الأخرى.

لكن الكرد تعود للتأكيد على أن منظمة التحرير الفلسطينية نموذج استثنائي استطاع تحقيق إنجاز كبير رغم كل التحديات التي واجهتها وتمكنت من تجاوزها، ويبدو من الصعب جدا أن تحل أي مؤسسة أو منظمة محلها، فضلا عن أن مثل هذه المحاولة قد تؤدي إلى نتائج عكسية وتبدد موارد قيمة. وتضيف أن المنظمة لديها بالفعل المؤسسات التي تمكّن الفلسطينيين من مساءلة قيادتهم (المجلس الوطني)، والتي يمكن من خلالها التغلب على محاولة تركيز السلطة في يد عباس والسلطة التنفيذية للسلطة الفلسطينية. لذلك يجب على الفلسطينيين العمل بشكل جاد لإعادة تنشيط المجلس الوطني من خلال انتخابات جديدة، بحيث يضم أيضا جميع التيارات بما فيها الإسلامية، ويكون ممثلا لكل قطاعات الشعب. عدا ذلك فإنه قد يكون من المستحيل إنشاء مؤسسات جديدة من الصفر في بيئة مجزأة ومستقطبة استقطابا حادا. 

مقالات مشابهة

  • عالقون يمنيون في غزة يناشدون القيادة السياسية اليمنية للإجلاء الفوري
  • الأوضاع السياسية وعلاقات بغداد وأربيل على طاولة مسعود بارزاني والقنصل المصري
  • الوحدة.. آفة العصر التي تسبب أمراض القلب والسكري
  • فرنجيه بحث وسفيرة النروج في المستجدات السياسية
  • المجتمع الفلسطيني من التعبئة السياسية إلى الاستقطاب.. كتاب جديد
  • مطر بعد لقائه بخاري: اللقاء عرض آخر المستجدات السياسية
  • هل تبدأ دولة المواطنة من خطابٍ تتبناه أقليّة سياسية منفيّة؟
  • محافظ المنوفية يلتقى حالة انسانية من ذوى الهمم
  • محافظ المنوفية يوجه بصرف كرسي متحرك ومساعدة مالية لحالة من ذوي الهمم
  • محافظ المنوفية يلتقى حالة إنسانية من ذوى الهمم ويأمر بصرف كرسي متحرك لها