لم يفوِّت نجيب محفوظ فرصة، إلا وأظهرَ حبَّه لحيِّ العبّاسية، لكن الشهرة ذهبت إلى الجمالية. ارتبط محفوظ في أذهان القراء بالحيِّ العتيق، مع أن قراءة منصفة لأعماله يمكنُها أن تقترح مناصفة الشهرة بين الجمالية والعباسية.
في بعضِ حواراتِه روى محفوظ قصة انتقاله إلى العباسية صغيرا مع أسرته، وسرد قصة تكوين شلة من الرفقاء حوله صاروا بمرور الوقت أصدقاء العمر.
كانت العباسية صحراء ممتدة تُعرف بـ«الريدانية»، تقول المعلومات: إن سبب التسمية يرتبط بريدان الصقلي، الرجل القوي في حاشية الخليفة الفاطمي العزيز بالله، وقد دارت فيها معركة الريدانية عام 1517، بين طومان باي والسلطان سليم الأول، وانتهت بهزيمة طومان باي وإعدامه على باب زويلة، وإنهاء حكم المماليك وبداية السيطرة العثمانية على مصر.
أُهملتْ منطقة الريدانية، ثم تغيّر اسمها إلى «الحصوة»، حتى أحياها الخديوي عباس حلمي الأول، وأزال عنها الغبار والنسيان. أنشأ فيها عددا من المستشفيات، مثل مستشفى العباسية، وكذلك سهَّل حصول الناس على التراخيص اللازمة للبناء، وسرعان ما جاء الأثرياء وعمَّروا الصحراء، وحوَّلوا الرمال والحصى والنباتات الشيطانية إلى حي راقٍ جميل، لكن الطبقة المتوسطة برعبها التاريخي من السقوط إلى القاع هرولت في إثرهم، وإذا كان الأغنياء قد أخذوا المنطقة الشرقية من العباسية، وجعلوها جنة من القصور ذات البوابات الهائلة والجنائن المترامية والأعمدة الشاهقة والمعمار الفخم والطراز الفريد والأثاث الأنيق، فإنَّ موظفي الطبقة الوسطى قد أخذوا لأنفسهم الناحية الغربية من العباسية وبنوا بيوتا، لا تخلو من لمسة جمال، كما سوَّروها بالأشجار الجميلة.لمدة سنوات تحوَّلت العباسية إلى جنة الباحثين عن الهدوء والاختلاف، فلم تكن شبيهة بباقي الأحياء الغنية في القاهرة، إذ ليس لها ظهير فقير، أو شعبي، لكنَّ الزمنَ وحده تكفَّل بأن يساويها بباقي الأحياء. استمر هجوم الطبقة المتوسطة ومعها استمر البناء الأفقي، حتى آخت العباسية أماكن أخرى، وصارت امتدادا للحسينية، والضاهر، وباب الشعرية، فما حكاية العباسية مع نجيب محفوظ؟ وهل استقى تصوره عنها من حكايات الأصدقاء والجيران والسكان، أم أنه عاش تلك الوقائع بعد أن انتقل إليها وأصبح جزءا منها وأصبحت جزءا منه؟
حوار نادر
يقول نجيب محفوظ في حوار نادر أجراه الإذاعي عمر بطيشة وأذيع بعد حصوله على جائزة نوبل عام 1988 على أثير الإذاعة المصرية (الدقيقة 8:23): «هناك محافظة على التقاليد في العباسية، لكنَّ الأمر في الجمالية أقوى وأشد، هناك ترابط في الأسر وبين الأقارب نشعر به في العباسية كأقوى ما يكون، إنما في الحي العتيق فإن الترابط شيء شبه مقدس»، ويضيف في (الدقيقة 15:35): «العباسية كانت مختلفة عن الجمالية اختلافا كليا.
كانت العباسية الشرقية عبارة عن سرايات ضخمة، يملكها الأعيان الكبار. كان كثير منهم جيراننا في قرمز ثم بنوا سرايات وهاجروا إليها، أما العباسية الغربية التي سكنَّا فيها فكانت تضم بيوتا ذات حدائق صغيرة. لم تكن هناك عمائر وإنما بيوت، كل بيت يخص أسرة بمفردها، وكانت كل الفراغات حقولا، فمثلا شارع أحمد سعيد لم يكن بمثل شكله الحالي، وإنما كان عبارة عن حدائق وغيطان.
الواحد كأنه كان يسكن في الريف تماما، حينما أفتح شباكي صباحا أنظر وأرى الحقول على امتداد البصر، لكن البيت كان فيه ماء وكهرباء، كانت العباسية جميلة وهادئة جدا».
ويقول له عمر بطيشة: «كان هناك رابط أيضا بين الجمالية والعباسية هو المقهى» فيعلق محفوظ (الدقيقة 15:17): «الرابط ليس المقاهي فقط وإنما الأهالي، لأن أغلب الناس في العباسية جاؤوا مهاجرين من الجمالية، ومَن امتلكوا السرايات في المنطقة الشرقية كانوا يمتلكون أيضا سرايات وإن كانت ذات طابع آخر في درب قرمز»، ويضيف: «العباسية كانت صحراء وبدأ السماسرة يُغرون الأعيان، يقولون لكل واحد منهم: أنت تسكن في درب ومن الأفضل أن تأتي إلى هنا، إلى العباسية، وكانت الأرض رخيصة جدا، ولذلك أقبل الجميع على الشراء.
كنت تجد السرايا كأنها قلعة كبيرة جدا، لها حديقة مترامية، لكنها راحت طبعا كلها الآن، إذ تحولت إلى عمارات»، ويسأله عمر بطيشة: «هل كان يغلب على أهل العباسية الثراء؟»، فيقول: «كانوا أغنياء حتى وهم في درب قرمز، الحارة كانت تجمع الطبقات كلها، في درب قرمز ستجد بيتا فيه أعيان، فيه حرملك وسلاملك، وتجد بجواره بيتا صغيرا يُمثِّل الطبقة الوسطى، صاحبه موظف صغير، وتجد بجوارهما ربْعا يسكن فيه عسكري وعمالٌ في كوبانية النور وشحاذون، وكلهم يعرفون بعضهم»، ويسأله عمر بطيشة: «ما المختلف بين قهوة الفيشاوي (الحسين) عن قهوة قشتمر (العباسية)؟»، فيجيب (الدقيقة 19:35): «الفيشاوي أساسا قهوة فولكلورية، حي الحسين والرائح والغادي يجعلونك تعيش جوا خاصا، أما قشتمر فقهوة أنيقة تخصُّ الطبقة الوسطى»، ثم ينتقل محفوظ إلى مقهى عرابي: «سبب تأخرنا في ارتيادها أنها تخص الأعيان. كانوا يجلسون مع صاحب المقهى عرابي وهو فتوة الحسينية لحاجتهم إليه أيام الانتخابات، أذكر منهم علي ماهر باشا، ومحمد حبيب باشا، وغيرهما. كان ملك الحسينية. لذلك كانوا جميعا يخطبون ودَّه».
يتوسع محفوظ في الكلام عن عرابي فتوة الحسينية وهي منطقة مهمة جدا في العباسية (الدقيقة 26:35) قائلا: «وأنا في الحي العتيق كنت أعرفهم معرفة سطحية للغاية، ومن بعيد، إنما حين انتقلنا إلى العباسية وجدنا أنفسنا بجوار أشهر فتوة في مصر، عرابي، كان حقيقة له شهرة كبيرة جدا. لو رأيته بشكله ومهابته ولو ألبسته بدلة سيصبح زعيما على الفور، كان نفوذه ضخما جدا، يركب الفرسة ويجري بها في العباسية كأنه ملك المنطقة، وقد ظل على هذا النفوذ، ويمكن أن أقول لك إن عرابي حمى يقينا وعلى أيدينا مأمور بوليس، آه والله، هذا الكلام قبل معاهدة 1936، أيام الامتيازات الأجنبية، كان المأمور يتم تهديده بالقتل إذا اصطدم بمهرب مخدرات أجنبي، والمأمور يعرف طبعا أن هذا الشخص يُحاكَم أمام محكمة خاصة، أو يأخذونه إلى بلده ويحاكمونه هناك، أي أن حياته ستذهب سدىً في مواجهة المهرب الحقير، فماذا يفعل المأمور؟ يذهب إلى الفتوة عرابي - وهو خارج عن القانون مثل المهرب - فيعمل على تطفيشه. المأمور يخاف من القانون لأنه يحمي الأجنبي، ويعرف أنه إذا اعتدى عليه قد يتسبب في أزمة للبلد، لكن عرابي لا يعرف هذا الكلام. ينقض عليه كالصقر، وفجأة لا تجد هذا الشخص في البلد كلها، فقد فهم أنه يتعامل مع فتوة لا يهمه قانون ولا سياسات، إذا خبطه خبطة فلن ينفعه أحد، وكان البوليس يستفيد من أمثال عرابي إذا حدثت جريمة أو سرقة، حيث يدلهم على من قام بها. سارت الأمور على ما يرام حتى أخطأ عرابي خطأ لا يُغتفر عام 1930 كان السبب في القضاء عليه وعلى نظام الفتونة كله».
يواصل محفوظ الحكي: «أحد أصدقائنا في العباسية عاكس فتاة، فضربه فتوة تابع للبوليس وهو يعلم أنه -أي الشخص المضروب- تابع لعرابي. جاء الرجل واشتكى لعرابي، فأقدم على تصرف صعبٍ للغاية. اصطحب العصابة كلها وسار خلفهم لوريٌ محمَّلٌ بقطع الزجاج والطوب، وبدا المشهد كأنه حملة. هجم على القسم كأنه يهجم على بلد أجنبي، وأُغلِقت الدكاكين. أحدهم خرج له وقال له: عيب يا عرابي، فقال عرابي: امشِ من أمامي وإلا فقأت عينيك، فرد الرجل: ها هما عيناي أمامك، فدبَّ عرابي إصبعيه فيهما، واشتدت الحالة. جاء إلى الداخلية أحد كونستابلات الإنجليز ليردعه فهجم عليه التابعون لعرابي وجرَّدوه من بدلته. صدرت الأوامر باستئصال الفتوة، ودخلت لأول مرة نقطة بوليس إلى الحسينية واضطر كل فتواتها إلى الهجرة للمذبح وعملوا جزارين. (يضحك) أصبحوا يتعاملون مع الخرفان».
شلة العباسية
يتشابه كلام محفوظ مع كل ما كتبه عن العباسية أو ما صرح به لصحفيين كبار عنها.
في كتاب «نجيب محفوظ.. البدايات والنهايات» نشر الكاتب المصري محمد شعير كراسات محفوظ التي دوَّنها في طفولته، ومنها ما كتبه عن انتقاله إلى العباسية: «كان الصبي في العاشرة أو ما يزيد على ذلك قليلا، عندما رغب أبوه في شراء منزل جديد في العباسية، ولقد فرح كل من كان في المنزل لذلك السبب وعدُّوا ذلك من حسن الحظ وطلائع السعد، لأن العباسية كانت جزءًا من الأحياء الراقية، ولأن العيشة في هذا المنزل أصبحت مملة مكدرة لطول السنين التي مضت عليهم وهم في منزل واحد قاعدون، وقد استسلموا للذة الخيال وتحدثوا طويلا عما عسى أن يسموا إليه في المنزل الجديد من عيشة راضية وراحة واسعة، وكان حسبهم أن يفهموا أنهم ذاهبون إلى العباسية ليشمخوا زهوًا بأنوفهم ويرقصوا طربًا لحظهم، ولم يكن الدافع لهذه النية - نية الانتقال - ازدياد الثروة أو بغضهم للإقامة في منزلهم أكثر من ذلك، إنما كان الأمر أن أخا الطفل الأكبر عقد النية على الزواج من قريبة على شيء من الغنى والجاه، ولم يكن معقولا أن يتزوجها ويعيش معها في هذا المنزل الصغير الحقير، وأن يهبط بها من علوٍ شامخ لحضيض عميق، لهذا ولما كان أبوه يهوى فكرة الإقامة مع ابنه في بيت واحد، فكَّر الأب في شراء منزل ذي دور واحد، وقد أعانه على ذلك أموال كثيرة كان الابن الأكبر يوفرها عند أبيه، وكان في النية بناء دور ثانٍ بمال أبي العروسة، وقد تم كل ذلك، فاختير المنزل ولم يكن جميلا جدًّا، ولكنه كان في نظرهم بالغًا نهاية الجمال والفخامة، إذ إن بيتهم الذي تركوه لم يكن شيئًا بجانبه. ولقد زار الصبي المنزل الجديد متفرجًا وبلغ إعجابه به منتهاه، ولعل حديقته الصغيرة استهوته أكثر من أي شيء آخر، كما أن الحقل الممتد أمام المنزل من الجهة الخلفية استحوذ على لبِّه وعقله. وفي يوم الانتقال ودع الصبي أصدقاءه فردًا فردًا وهو يقول «سنرحل إلى العباسية»، ويعلو صوته عند النطق بكلمة العباسية زهوًا وافتخارًا على إخوانه الذين لن يتركوا البيوت القديمة المهدمة ولن يتركوا الحي القذر. وركب مع الأثاث في عربة نقل كبيرة».
استقر محفوظ في العباسية وبدأ يتجول فيها ويحفظها ثم كوَّن أغلب صداقاته. يعطي لجمال الغيطاني في كتابه «نجيب محفوظ يتذكر» لمحةً عن شلة العباسية قائلا: «كانوا مجموعة متناقضة فيها كل نوعيات البشر، مِن أسماها إلى أدناها، فيهم ناس تقلَّدوا أكبر المناصب المهنية، أطباء ومهندسون ومحاسبون، ومنهم بلطجية وبرمجية (البرمجي: عشيق فتاة الليل) ومنهم فتوات، والعلاقات بيننا كانت حميدة، حتى الشرير منهم كان يمارس شره بعيدا عنا».
لكنه يُفصِح لرجاء النقاش عن شريرٍ في كتابه «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»: «ضمَّت الشلة نجيب الشويخي الذي كنا نعتبره شرير الشلة، وقد اعتدى بالضرب على معظم أعضائها، حاملا تهديده الدائم لأي عضو يختلف معه، بألا يخرج من بيته حتى لا يتعرض للضرب، وكان نجيب الشويخي من عائلة الشويخ المعروفة في العباسية، وكان من بين أفراد هذه العائلة شخص ثري ولكنه مات فقيرا أما نجيب فهو أساسا من الفرع الفقير في العائلة ولم يُكمل تعليمه ومع ذلك كان بإمكانه الحصول على أي عمل في أفضل الأماكن لأن لديه الاستعداد التام لفعل أي شيء دون وازعٍ من ضمير، فمثلا إذا طلب منه رئيسه في العمل أن يجلب له نساء عاهرات فلن يتورَّع عن القيام بهذه المهمة غير النظيفة، وأعتقد أنني قدمتُ مثل هذا الشخصية في روايتي «المرايا» ورغم طابع الشر الغالب على شخصية نجيب الشويخي فإنه كان لا يخلو من طرافة وربما كان هذا هو السبب الرئيسي الذي جعلنا نُبقي عليه ضمن الشلة بعد أن فشلنا مرارا في طرده منها».
أصل عائلة الأرملاوي
رواية «قشتمر» رصدت تحوُّلات العباسية، من خلال خمسة أصدقاء يجمعهم مقهى الأفندية «قشتمر». الرواي على ما يبدو هو نجيب محفوظ نفسه، أما الباقون فاثنان من الناحية الغربية الفقيرة، الأول صادق صفوان وهو شاب خلوق كان أبوه يذكِّره دائما بأنه لم يترك له شيئا من الدنيا، وينصحه بأن تكون الشهادة وسيلته إلى الوظيفة، والثاني إسماعيل قدري وهو شاب تتغير حياته بالكامل بعد موت أبيه، أما الاثنان الثريان فحمادة الحلواني، شاب متقلب المزاج ويهوى القراءة، وطاهر عبيد الأرملاوي الشاعر الناجح.
محفوظ اعترف لرجاء النقاش أن طاهر عبيد الأرملاوي هو صلاح جاهين. ينقل النقاش في «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ» على لسان كاتب نوبل: «الطريف أن ابنه الشاعر بهاء جاهين تعرف إلى شخصية والده بسهولة، حين قرأ الرواية رغم ما حاولته من إدخال تغييرات في ملامحها».
سألت الكاتب المصري أحمد القرملاوي إن كان هناك وجه للشبه بين اسم عائلته «القرملاوي» وعائلة «الأرملاوي» في الرواية، وكانت المفاجأة أن نجيب محفوظ استعار الاسم من العائلة، واقترح عليَّ أحمد أن أتحدث مع والده عامر القرملاوي، فهو مولود عام 1944، أي أنه يبلغ من العمر الآن 79 عاما، وعاصر العباسية كما ظهرت في «قشتمر» تقريبا، ورتبنا للقاء معه في اليوم التالي.
عامر القرملاوي الموظف القديم تحدث عن عمه محمد القرملاوي، الذي استعار محفوظ اسمه وأطلقه على الشاعر في الرواية (صلاح جاهين في الواقع)، يقول: «اسمه محمد القرملاوي كان رجلا ودودا، يزور العائلة فردا فردا كل يوم جمعة، لقد كان يزورني في بيتي القديم بالعباسية رغم أنني لست من جيله. خصَّص يوم الجمعة بالكامل للزيارات، وكان مُقرَّبا من محفوظ وشلة قشتمر، يجلس معهم بانتظام في المقهى لسنوات طويلة، ومن خلاله اطلع محفوظ على شجرة العائلة». كان عامر القرملاوي يجلس على مقهى قشتمر في الحسينية بعد مدرسة «خليل أغا» على اليمين، ويصفها بأنها «عادية»، لكن «فيها روح ود كبيرة، القهوجية بها يعرفون الناس جيدا، وتربطهم بهم صلة أقرب إلى الصداقة».
قابل عامر القرملاوي نجيب محفوظ ثلاث مرات، الأولى في العجوزة حيث كان يتنزَّه على الكورنيش كعادته، سلَّم عليه وعرَّفه بنفسه، فأثنى محفوظ على عائلته وقال له: «أنت من بيت كويس، عائلة القرملاوي ناس محترمين»، والمرة الثانية كانت على كورنيش الإسكندرية ودار بينهما نفس الحوار تقريبا، أما الثالثة فكانت في بداية الثمانينيات في عزاء أحد أقارب الكاتب عبد الحميد جودة السحار في مسجد بشارع صلاح سالم. يقول عامر القرملاوي: «كانت الشيخوخة قد بدأت تظهر على ملامحه، ومع هذا إذا تحدثت معه يبادرك بالترحيب ويرفع صوته قائلا كعادته: أهلا وسهلا. كان بشوشا إلى أقصى حد، ورجلا اجتماعيا، لم ينس أصدقاءه والناس في العباسية حيث قضى أجمل أيام عمره».
لم يقابل القرملاوي الفتوات وجها لوجه. حين وُلد كان عصرهم قد ولَّى بلا رجعة، لكن الألسنة كانت تتناقل سيرهم، وهناك من يؤكد أن بينهم أشخاصا عادلين للغاية، يلجأ إليهم الناس لحل مشاكلهم بدلا من الذهاب إلى البوليس. ويؤكد القرملاوي ما ذكره محفوظ عن أن العباسية كان فيها نظام اجتماعي محافظ، فأي فتاة كانت تسير آمنة على نفسها من المضايقات، وإذا حدث وأن تعرض لها شخص فإنها تستجير بأبناء المنطقة فيلبون نداءها على الفور ويلقنون المعتدي درسا لا ينساه. كان القرملاوي صغيرا وحين تفتَّح وعيه قامت ثورة يوليو 1952 فراح يبكي على الملك. كان الناس إذا دخلوا السينما وعُزف السلام الوطني وظهرت صورة الملك على الشاشة ينهضون ويضربون له تعظيم سلام، لكن بعد الثورة أحبوا جمال عبد الناصر رويدا رويدا، وكانت صورته حين يظهر على الشاشة الكبيرة تُقابَل أيضا بالتصفيق الحماسي. يرى القرملاوي أن محفوظ استطاع أن يعبِّر عن المكان بشكل صادق: «لقد وصل إلى الجمهور لأنه استطاع أن يلمس روح الإنسان والمكان، سواء في الجمالية أو العباسية».
قشلاقات الإنجليز
بعد احتلال الإنجليز لمصر، دخلوا العباسية بأعداد غفيرة كالنمل. حولوها إلى ثكنة عسكرية. انتشرت قشلاقات الإنجليز، وكانوا يظهرون بكثافة حول معسكراتهم، كما استخدموا بعض المناطق في تخزين مخلَّفاتهم، وفي وقت لاحق يبيعونها لتجار الخردة، وكانت ألمانيا تهجم على تلك الثكنات وفيها جنود بعض الحلفاء، وعاشت العباسية وما حولها: السكاكيني والضاهر والحسينية، وباب الشعرية، كابوسا ممتدا، إذ كانت القنابل الفسفورية تدوِّي، وتضيء شوارع القاهرة وتُحوِّلها إلى جحيم. عرف المصريون الملاجئ في كثير من المناطق، فبمجرد إطلاق صافرة الإنذار يخرج الناس من شققهم مهرولين إليها ليختبئوا فيها، ينصتون إلى أزيز الطائرات، ثم أصوات الانفجارات، وقد برع محفوظ في تصوير ليالي الرعب التي عاشتها أسرة البطل أحمد عاكف في رواية «خان الخليلي».
كانت منطقة خان الخليلي مرفأ أمان هاجرت إليه أسرة أحمد عاكف هربا من طائرات الألمان التي لا تكف عن زيارة السكاكيني وسائر العباسية، وكانت القنابل تخطئ الحلفاء وتصيب المصريين. حين وصل أحمد عاكف إلى هناك لم يرتبط بالمكان الجديد إلا حين رأى الفتاة الجميلة «نوال» تطل من بلكونة بيتها. تلاقت نظراتهما. ثم صارت هذه النظرات هي أكبر أمنياته في أي يوم تطلع شمسه عليه، كما أصبح - يا للغرابة - يتمنى أن تسقط قنابل ألمانيا فوق خان الخليلي شخصيا ليقابل نوال في الملجأ أسفل العمارة، فيرى عينيها عن قرب، ويتملَّى جمالها حتى وإن كان يتملَّاه في جوٍ من الخوف الخانق.
لكنَّ القصة الرومانسية في خان الخليلي سرعان ما انقلبت إلى مأساة بوصول رشدي عاكف شقيقه، إذ نُقل إلى القاهرة بعد أن كان يعمل في محافظة بعيدة. يقع رشدي في هوى حبيبة أخيه، وتجد هي فيه كلَّ ما تتمناه، فقد عابت على حبيبها الأول «أحمد» تقدمه في السن وكذلك خجله وعدم إقدامه على مبادلتها الحب العنيف والهوى الجامح، ثم تشهد القاهرة لقاءات العاشقيْن الجديديْن كلَّ صباح. يصطحب رشدي نوال الموظفة بوزارة المعارف إلى عملها في العباسية، في مشوارٍ طويل للغاية يقابلان فيه مدينة القبور الكئيبة، لكنَّ العاشق لا ينتبه إلى الموت الرابض على مقربة منهما، وهو أيضا لا يشعر بالقيظ ولا البرد الشديد، حتى أصيب فجأة بالسل وتدهورت صحته. تستمر الرواية في وصف معاناته، والصراع في نفس أخيه الذي قرر الصفح عنه، فهو غافل عن قصة حبه لنوال، لا يعرف بها أصلا، فما ذنبه؟ كما أنه ربَّاه صغيرا، وصرف عليه حتى أتمَّ تعليمه، وتنتهي الرواية على مصيبة. يعود رشدي من مصحة حلوان بعد أن يمضي فيها أياما من عذاب الوحدة وألم المرض وقهر البُعد الإجباري عن حبيبته بفرمان أسرتها، ثم يموت. هربت الأسرة من قنابل الألمان في العباسية إلى الموت بالسلِّ في خان الخليلي.
واقعة مثيرة
يربط الكاتب المصري شعبان يوسف بين شخصيتي أحمد عاكف ونجيب محفوظ، فقد هرب مثل بطله من القنابل. ويلفت نظرنا إلى قصة مثيرة رواها الدكتور أدهم رجب (صديق طفولة محفوظ وأستاذ ورئيس قسم الطفيليات بكلية طب قصر العيني) في عدد مجلة الهلال فبراير 1970: «نجيب محفوظ خواف كبير، على الأقل في الغارات، أذكر أنه هرب من العباسية إلى الأزهر في أوائل الحرب العالمية الماضية خوفا من الغارات، حيث كانت أسنانه تصطك من الفزع حقيقة لا مجازا، وكان أحيانا يقضي الليل منذ الغروب في المخبأ، وهو الذي قال القول المأثور: (صرخ وقال يا نينة.. المدافع في الجنينة)، وقصتها أنه أوى إلى ملجأ في أحد الحدائق، فإذا بالقنابل تدوِّي حول المنطقة إلى حد أنه خاف أن ينهار المخبأ، فهرب منه في عنفوان اشتداد الغارة، وصاحت به والدته تحاول إقناعه بالعودة، فإذا به يقول لها صارخا: (يا نينة.. المدافع في الجنينة)، وصارت مثلا. منذ تلك الواقعة غادر نجيب محفوظ حي العباسية، وذهب إلى حي الأزهر، باعتبار أن طائرات هتلر لن تجسر على الاقتراب منه».
ويضيف الدكتور أدهم رجب: «لا يترك نجيب محفوظ تلك الحكاية دون تعقيب أو تعليق، ويعمل على تدقيقها قائلا بأنه فعلا هو الذي قال لوالدته في خوف تلك الجملة الشهيرة «المدافع في الجنينة» فقط، ولكن جاء صديق له وهو المرحوم فؤاد نويرة ينسج منها بيتا من الشعر، فأصبحت الجملة «صرخ وقال يا نينة.. المدافع في الجنينة»، بل تعمَّق أكثر وراح يعمل على تلحينها، حتى أن محفوظ قال: صار أصدقائي يغيظونني ويعايرونني بها مدة طويلة، وقد تساءل محفوظ: هل حدثَ وخفتُ حقيقة من الغارات؟ الجواب الصادق: نعم حدث».
الجلباب والبيجاما
في «صباح الورد» ويمكنك أن تعتبرها مجموعة قصص أو رواية، يسرد الراوي -وهو محفوظ غالبا- قصصا عن نفسه وأسرته وأبطال جاءوا مثله إلى العباسية وآخرين استمروا في الحي العتيق.
إن كنت ستتعامل مع الراوي على أنه نجيب محفوظ فيمكنك أن ترى النقلة النوعية التي حدثت له. يقول: «سرعان ما استبدلتُ بالجلباب البيجاما، والكرة بالسيجة والجري وراء عربة الرش، كما كُتب عليَّ أن أرى السيقان والأعناق لتتفتَّح على إيقاعاتها مراهقتي. كنا أول مَن هاجر مِن الطبقة الوسطى الصغيرة، في إثر أعيان الحارة الذين سبقوا إلى العباسية الشرقية فشيَّدوا القلاع وغَرسوا الحدائق».
أبوه وأمه لم يستطيعا نسيان الحي العتيق، الأب كان يغيب، وحين يعود يُخبِرُهم بأنه كان في زيارة إلى هناك، قابل أصدقاءه وجلس في مقهاه المفضل، أما أمه فلم تنقطع عن زيارة الحسين وجيرانها القدامى، والسؤال كيف كان شعور محفوظ نفسه تجاه الحي العتيق؟ يقول: «انقسمتُ إلى اثنَين، تكيَّفتُ مع الجديد وأصدقائه ومجالسه وعصريته، وكلما سَنحَت فرصة للرحلة للحي العتيق انتهزتُها حتى جرفتُ معي الأصدقاء الجدد فاكتشفوا على يدي عالما غريبا، عشقوه، وأقبلوا عليه كالسائحين».
في فصل بعنوان «أم أحمد». يحكي محفوظ عن امرأة ربطت بين أسرته وعالمها القديم. اضطرت تلك المرأة مع تمدد الدنيا بين الجمالية والعباسية إلى توسيع قاعدة عملها. واصلت ممارسة كل وظائفها القديمة في الحي الجديد: ساحرة، وخاطبة وماشطة وأخصائية تجميل وسعادة زوجية، كما شقَّت طريقها إلى سرايات الحي وبيوت الطبقة الوسطى، وقامت بمهام الصحافة والإذاعة والمخابرات، وتحسَّنتْ أحوالها، ثم تَوَّجَت كفاحها بتشييد بيت لها من طابقَين بالقرب من قسم الجمالية.
كانت لديها أخبار جديدة دائما، ونقلت لأسرة محفوظ ذات يوم أن آل العمري قرروا الانتقال إلى العباسية. أزعج الخبر الأم، فهجرة هؤلاء الأغنياء معناها هجرة الخير عن الحارة، ولا عجب في شعور الأم بالحزن رغم أنها تركت الحارة، فهي مشدودة بجذرٍ قوي إليها. وُلدت وأحبَّت وتزوجت وأنجبت وعاشت وحلمت هناك، ثم جاءت نبوءة أم أحمد وهي تواسيها. قالت لها إنه لن يمر عام أو اثنان إلا ويكون جميع الأعيان قد هجروا الحارة إلى العباسية.
يقول محفوظ: «تحقَّق مع الزمن ما خطر لأم أحمد، فانتقل الأعيان إلى العباسية الشرقية وشيَّدوا قلاعهم العملاقة، كما انتقلَت الطبقة الوسطى «المستورون» إلى العباسية الغربية، فسكن البعض بيوتا صغيرة واشترى البعض ما يناسبه. ولم تتواصل الرابطة القديمة بين الطرفَين فسرعانَ ما تعرَّضتْ للوهَن والتمزُّق. لأمر ما شُغل كل فريق ببيئته الجديدة، وكأن شارع العباسية الذي يفصل بين الجانبَين أصبح سدّا لا يُعبَر إلا في الملمَّات وقد لا يُعبَر أبدا. عدنا غُرباءَ أو كالغُرباء، بل صرنا مع الزمن أعداء أو شبه أعداء، وحمل إلينا الزمن أفكارا جديدة تُكرِّس العداوة والانفصام، وحتى الانتماء للحزب الواحد لم ينجح في محو تلك الغربة الزاحفة».
كمال عبد الجواد في العباسية
في الثلاثية تبدو العباسية كالجنة الموعودة بالنسبة لكمال، وسرعان ما تنقلب إلى جحيم. كان يذهب إلى قصر آل شداد ليحظى برؤية محبوبته عايدة. يرى شارع العباسية منبسطا أمامه كأنه يفتح له ذراعيه مرحبا «كان يُضمر للعباسية إعجابا كبيرا، ويكنُّ لها حبّا وإجلالا يبلغان حد التقديس، أما الإعجاب فمرده إلى نظافتها وهندستها والهدوء المريح المخيِّم على ربوعها، وكل أولئك سمات لا يعرفها حيه العتيق الزياط. وأما الحب والإجلال فمرجعهما إلى أنها وطن قلبه، ومنزل وحي حبه، ومثوى قصر معبودته».
لكن عايدة تكسر قلبه. صار عليه أن يصدق أنها منحت روحها لرجل آخر. وفي أكثر مشاهد «قصر الشوق» قسوة، يذهب إلى قصر آل شداد، مجتازا صحراء العباسية، مسترقا النظر إلى نافذة غرفة نوم العروسين، التي كانت في يوم من الأيام غرفة نوم عايدة وشقيقتها بدور. قلبه يتمزق ومع هذا أراد أن يظفر برؤيتها حتى وهي تتبادل قبلة مع عريسها، أو نظرة هيام، أو لمسة، أو إيماءة، أو جملة، كان يرمي نفسه في الأتون، ويصب الزيت المغلي على نفسه. مرارته تكفي سكان المدينة وتفيض.
وبعد سنوات من انقطاعه التاريخي عن زيارة العباسية استقل كمال الترام. شاهد العباسية وما اعتراها من تغير، إذ اختفت قصورها وحدائقها، وشُيَّدت مكانها العمارات الضخمة المكتظة بالسكان والحوانيت والمقاهي ودور السينما، وقابل بصدفة عجيبة أختها بدور، وقد تجاوزت العشرين من عمرها. تعلَّقَ بوجهها إذ كانت شبيهة بأختها، وبدا كأن الحياة تجود عليه بنسخة من حبيبته، لكنَّ المأساة تتكرر من جديد، وكأن الدنيا ضنَّت عليه بالسعادة. شاهد بدور تسير بصحبة شاب في الشارع، وتَذكَّرَ نفسه وهو يطالع نافذة عايدة وحبيبها من مكمنه في قصر العباسية منذ سنوات بعيدة.
محفوظ وإحسان عبد القدوس
لكن لماذا لم يكتب نجيب محفوظ عملا بعنوان «العباسية؟». يقول شعبان يوسف: «رغم أن منطقة العباسية شهدت طفولة نجيب محفوظ الأولى، وفيها تعرّف على أصدقاء صاروا مشاركين له في مسيرة الحياة طوال العمر، إلا أنه لم يفرد لها نصا روائيا مستقلا يحمل اسمها، على غرار أشهر رواياته «بين القصرين»، و«قصر الشوق»، و«السكرية» و«خان الخليلي» التي تحمل أسماء أماكن عاش فيها فترات طويلة من حياته، وآثر أن تكون ظلا للجمالية»، وأضاف: «إذا كان محفوظ قد ارتبط بالعباسية من زاوية الحرب والدمار، إلا أنه قضى فيها طفولته وأجمل أيام عمره، مع أنها كادت أن تكون صحراء آنذاك. فتعلّم فيها لعب كرة القدم، رفاق عمره في العباسية يقولون إنه كان أمهر اللاعبين، ولم يشاهدوا على مدى أعمارهم الطويلة من هو أسرع منه، ولو استمر، لتفوَّق على لاعبين كبار مثل حسين حجازي وغيره».
يروي شعبان قصة طريفة تتعلق بمحفوظ وصديقه إحسان عبد القدوس والعباسية.
ذهبتْ محررة في «روز اليوسف» لإحسان عبد القدوس وقالت له: «نجيب محفوظ تحدَّث في ندوته الأسبوعية عنك، وذكر بالحرف أنه يعرف معظم أبطال رواياتك، وأنه قابلهم معك في الضاهر والعباسية، وتحدَّى أنه يستطيع أن يذكرهم واحدا واحدا». غضب إحسان فقد تخيَّل أن محفوظ يريد توريطه بشكل ما، وأراد أن يرد له الصاع صاعين فكتب في «روز اليوسف»: «أنا أعرف بطل رواية السراب، وقابلته في العباسية»، لكن نجيب محفوظ كتب رسالة إلى إحسان بعنوان «رسالة توضيح واعتذار ورجاء»، مؤكدا أن الكلام الذي وصله محرَّف، فلم يقله على سبيل المعايرة، وإنما جاء في سياق محدد، وهو أن كل كاتبٍ يجب أن يستقي أبطاله من حياته وواقعه، وأنه لم يقصد إطلاقا الكشف عن شخصيات إحسان، ثم كانت المفاجأة فيما ختم به محفوظ الرسالة: «أنا لا أعرف بطل روايتي «السراب»، فهو ليس شخصا معينا، ولكنه مركَّب من عدة شخصيات. أرجوك يا إحسان إن كنت تعرف ذلك الشخص دلني عليه».
ماذا بقي من عباسية نجيب محفوظ؟ يجيب شعبان يوسف: «العباسية القديمة التي عرفتْ عربات السوارس والحناطير والمساحات الواسعة الصالحة للعب تغيَّرتْ. ازدحمتْ بالمصالح الحكومية، ومواقف سيارات النقل العام والميكروباص، لدرجة لا يعرف معها المترجلون كيف ومتي يسيرون فيها، إنها مزدحمة ليلا ونهارا، وبالتأكيد تصيب مَن عرفوا العباسية القديمة، عباسية نجيب محفوظ، بالكثير من التعاسة والبؤس».
كلمات الروائي يوسف القعيد تصلح خاتمة لهذا التحقيق: «العباسية في أعمال نجيب محفوظ ظُلمت، أظن لأننا عرفناه وهو في الجمالية لا في العباسية، والمكان في ثلاثيته الخالدة «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكريَّة» كان الحي العتيق. اصطحبَنَا محفوظ مرات معدودة أنا وجمال الغيطاني إلى مقهى بشارع أحمد سعيد وبدا كأنه يبحث عن عباسيته القديمة، لكن للأسف تغيرت العباسية إلى الأبد، وراح محفوظ نفسه، ولم يستطع في حياته أن يعدل الكفة أبدا بين مكانيه الأثيرين، فقد فازت الجمالية بالاهتمام الأكبر وانزوت العباسية إلى ركن النسيان».
حسن عبد الموجود قاص وصحفي مصري
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الطبقة الوسطى إلى العباسیة العباسیة إلى فی العباسیة ن العباسیة نجیب محفوظ محفوظ فی فی الحی لا یعرف کان فی فی درب لم یکن بعد أن کانت ا
إقرأ أيضاً:
الجغرافيا السياسية كانت قاسية على سوريا وهي أشد قسوة على الثورة!
جاء في "معجم البلدان" لياقوت الحموي أن مكان دمشق كان دارا لنوح -عليه السلام-، في حين كان منشأ خشب السفينة في جبل لبنان، وأنّ ركوبه في السفينة يوم الطوفان كان في ناحية البقاع، وقد رُوي عن كعب الأحبار أن أوّل حائط وُضع في الأرض بعد الطوفان حائط دمشق وحرّان.
وكما اتصلت جغرافيا الشام قديما، اتصلت حديثا رغم تقسيمها إلى دول وحدود سياسية، لكنها لم تمنع أن تتردد أصوات التغيير شمالا وجنوبا في خط متصل لا تعوقه الحدود الحديثة، فكان أول حائط ينقض بعد طوفان الأقصى هو حائط دمشق المنيع الذي احتمى به حكم عائلة الأسد طيلة 54 عاما، ليلحق بحائط غلاف غزة الذي انقض صبيحة السابع من أكتوبر ليُفجِّر زلزالا يبدو أنه سيُعيد صياغة هلال المشرق من غزة إلى طهران، وربما أبعد من ذلك مما قد تُسفر عنه الأيام.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الرابحون والخاسرون في لبنان بعد سقوط الأسدlist 2 of 2كيف سيغير سقوط الأسد شكل المنطقة؟end of listوفي تجلٍّ لظلال الجغرافيا الواسعة التي تغرق فيها الشام، وفي مقابلة مع قناة محلية تركية، قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إنه أجرى مجموعة من الاتصالات مع نظرائه الروس والإيرانيين لإقناعهم بعدم اعتراض التحرك العسكري الذي بدأته المعارضة السورية.
على ما يبدو فقد كان هذا مفتاحا ضروريا لنجاح الحملة العسكرية التي شنَّتها قوى المعارضة السورية صبيحة السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني، فيمكنك فقط أن تُلقي نظرة على الخريطة السياسية لسوريا قبل ذلك التاريخ لتُدرك مدى أهمية النفوذ الخارجي في حسم مصير سوريا، إذ كانت الحدود الداخلية المرسومة على خريطتها ليست للحدود الإدارية للمحافظات أو المدن، بل كانت لمناطق النفوذ المقسمة بين مجموعات محلية ترعاها أطراف خارجية، على رأسها روسيا وإيران.
إعلانففي حين كان النظام يسيطر على العاصمة دمشق ومحافظات الساحل وبعض مدن الوسط، وتنتشر على أراضيه قوات روسية تضم ضباطا وطائرات وسفن راسية على موانئ طرطوس واللاذقية، بالإضافة إلى قوات من الحرس الثوري الإيراني وعناصر من حزب الله وجماعات مسلحة أخرى قادمة من مناطق مختلفة، تنقسم باقي الأراضي بين المعارضة المدعومة بدرجات متفاوتة من تركيا في الشمال والشمال الغربي، وأخرى مدعومة من الولايات المتحدة في مناطق من الجنوب، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) المتمركزة في الشرق مع قوات أميركية تدربها وتقدم لها السلاح والمشورة، وأخيرا تتمركز إسرائيل في مرتفعات الجولان التي تحتلها منذ عقود.
قد تبدو الخريطة مشبعة بالوجود الدولي، ومع ذلك فإن هذا النفوذ يُعد أقل كثافة مما كان عليه الحال منذ 2013 حين تشرذمت الخريطة السورية وتمدد تنظيم الدولة الإسلامية وتعددت التدخلات الدولية، وصولا إلى 2020 حين وقَّعت روسيا مع تركيا اتفاق وقف إطلاق النار، لتستقر خريطة سوريا على النحو الأخير الذي انهار سريعا بعد عملية "ردع العدوان".
تبلغ مساحة سوريا نحو 187 ألف كيلومتر مربع، وتحيط بها تركيا شمالا بحدود تبلغ 900 كيلومتر مربع، ثم العراق والأردن في الشرق بحدود 600 و400 كيلومتر، وإلى الجنوب تتماس مع "إسرائيل" بحدود 83 كيلومترا، ثم لبنان بحدود 400 كيلومتر، ويمتد شريط ساحلي في منتصف الجهة الشرقية منها بطول 190 كيلومترا، يُمثِّل خط اتصالها البحري بالدول الأكثر نفوذا بها، فرنسا سابقا ثم روسيا.
هذه الجغرافيا التي تقع على خطوط التماس الجيوسياسي بين قوى إقليمية وعالمية مَثَّلت عبر تاريخها إحدى أهم ساحات الصراع على النفوذ، فما الذي يميز الجغرافيا السياسية السورية فيجعلها محط أنظار قوى خارجية؟ وكيف أثَّر عامل الجغرافيا في مسار الثورة السورية؟
قدرُ الجغرافيا السورية"ربما تكون الجغرافيا صماء أحيانا، ولكن ما أكثر ما كان التاريخ لسانها، ولقد قيل بحق إن التاريخ ظل الإنسان على الأرض بمثل ما أن الجغرافيا ظل الأرض على الزمان".
بهذه الكلمات المفتاحية العميقة عبَّر المفكر المصري الراحل جمال حمدان عن أثر الجغرافيا في صناعة أحداث التاريخ، ويُنسب للقائد العسكري الفرنسي نابليون بونابرت أنه قال: "الجغرافيا قدر الأمم"، وتلك حقائق متكررة، فلطالما حددت الجغرافيا مصائر أمم وشعوب.
إعلانبيد أنه لا توجد نظرية واحدة تشرح التفاعل بين الجغرافيا والسياسة، بل كان هذا السؤال دائما مجالا للجدل الواسع الذي أنتج العديد من التفسيرات والتصورات. ويقدم أستاذ العلوم السياسية فيل كيلي أطروحة تحاول جمع شتات الفرضيات المتعلقة بالجيوبوليتيك في مجموعة من المنصات. والمنصة، بحسبه، هي صندوق افتراضي يضعه المحللون لتوصيف منطقة معينة.
فمثلا تصف منصة "قلب الأرض" المنطقة الوسطى للدولة أو القارة، التي تُمثِّل مركز السيطرة السياسية. وتصف منصة "رقعة الشطرنج" وجود خليط بين أطراف متحالفة وأخرى متصارعة (دول أو جماعات) في منطقة واحدة، ما يعني تميزها بالصراع والانقسام المستمر الذي لا يتوقف إلا بخلق ديناميكية توازن قوى للحفاظ على استقلالية المنطقة أمام التدخل الخارجي.
وتصف منصة "رقعة الشطرنج" عادة نمط العلاقات بين الدول في منطقة ما، لكن عند تطرُّقه لوصف نمط العلاقات بين جماعات محلية داخل إطار الدولة، قدَّم مصطلح "الحزام المتداعي" (Shatterbelt) الذي يميز ديناميكية الصراع في المستوى الداخلي، بسبب الانقسام السياسي أو الطائفي أو الطبقي، الذي قد يؤدي إلى تدخل قوى خارجية.
وعودا إلى سوريا، تُعد العاصمة دمشق بمنزلة "قلب الأرض" في الحالة السورية، وهي وفق الباحث في شؤون الشرق الأوسط آراش رايزنيجاد تظهر في الخريطة كأنها حصن صغير منعزل تربطه طرق متفرقة إلى بقية البلاد، ويحيط بها مجموعة من المناطق المختلفة عنها جغرافيا التي عادة ما ارتبطت تاريخيا بجهات خارجية أكثر من ارتباطها بدمشق.
وتقع حلب في أقصى الشمال، وهي بوابة تجارية طبيعية جاذبة للقوى الخارجية عن طريق البر، مما أكسبها مكانة منافسة لدمشق، وفي الغرب ثمة شريط ساحلي عُدَّ في فترات تاريخية متعددة ملجأً للأقليات الدينية في البلاد، وعادة ما كان نقطة الاتصال مع القوى الأجنبية المهيمنة في سوريا، مثل فرنسا خلال فترة الانتداب ثم روسيا عام 2015. وفي الشرق ناحية نهر الفرات، ارتبطت مناطق الرقة ودير الزور والحسكة تاريخيا بالموصل أكثر من ارتباطها بدمشق.
إعلانأما جنوبا فقد كانت الجبال ملجأ أيضا لبعض الطوائف الدينية. هذا التشرذم الجغرافي والهوياتي في آنٍ واحد، فضلا عن وقوع سوريا بين قوى كبرى عبر التاريخ، جعلها -وفق رايزنيجاد- تعاني غالبا من صعوبة في تكوين هوية وطنية شاملة، وسهولة في تعرضها للتدخل الخارجي.
خارطة توضح توزع السيطرة في سوريا (الجزيرة)وتقع سوريا أساسا على منصة رقعة الشطرنج، حيث العديد من دول الجوار التي تجد فيها مصالح حيوية تريد الحفاظ عليها، وتحولت لاحقا إلى منصة الحزام المتداعي، حين انفجرت التناقضات الداخلية لفسيفساء المجتمع السوري، المقسمة على أساس ديني وعِرقي بين السنة والشيعة والعلوية والعرب والأكراد والدروز وغيرهم، وخارجيا بتحالفها مع بعض جيرانها في مواجهة إسرائيل، ومشكلاتها مع لبنان، واختلاف نظامها السياسي عن القائم في الأردن، إلى جانب علاقاتها المتأرجحة مع تركيا، خاصة بعد عام 2011، فضلا عن التدخل الإيراني ثم الروسي بعد الثورة.
وهذا ليس مستغربا، فموقع سوريا الجغرافي جعلها منذ ولادة النظام الإقليمي الحديث في أعقاب الحرب العالمية الأولى في موقع القلب من الصراع على الشرق الأوسط.
ثم بعد نشأة النظام العسكري في سوريا في الخمسينيات وإلى سنوات الثورة، كانت سوريا أيضا ساحة صراع دولي وإقليمي على النفوذ، انخرطت فيه في أوقات مختلفة الولايات المتحدة ودول أوروبية والاتحاد السوفياتي ثم روسيا وإسرائيل وتركيا ومصر والعراق وإيران والسعودية والأردن وغيرها.
من الجهات الأربع، ثمة حدود ملتهبة قابلة للاشتعال، في الشمال تشترك تركيا مع سوريا في حدود تفصل بين مناطق تقطنها أغلبية كردية، ومنذ انهيار الدولة العثمانية ورسم الحدود السياسية الحديثة تصاعدت المسألة الكردية، وتنامى نشاط الحركات الانفصالية حتى باتت تُمثِّل مصدرَ توترٍ مستداما لكلا البلدين.
إعلانثم الحدود مع العراق الذي كان في عهد صدام حسين الخصم اللدود لنظام الأسد (الأب)، ثم بعد سقوط صدام أصبحت الحدود بين البلدين في حالة سيولة، تارة أمام الميليشيات الشيعية، وتارة أمام تنظيم الدولة الإسلامية الذي أزالت جرافاته الحدود بين البلدين في ذكرى توقيع اتفاقية سايكس بيكو في يونيو/حزيران عام 2014، ثم الجولان المحتل وخطوط التماس مع إسرائيل، ثم لبنان الذي لم تهدأ علاقاته مع سوريا ولم تبتعد عن عهد التوتر منذ تأسيس البلدين.
خارطة سوريا (الجزيرة) الثورة السورية: تفجير التناقضاتفي خضم رحلة بشار الأسد لتأمين نفسه ونظام حكمه وتعزيز سلطته، اعتمد سردية مواجهة التدخلات الخارجية لمنح نفسه حق إسقاط كل المحاذير السياسية والقانونية والدولية، فضلا عن الأخلاقية، من أجل الحفاظ على "الدولة"، لكن المفارقة أنه في سبيل ذلك ضحَّى باستقلالية الدولة وبمقدراتها، وبنيتها التحتية، ومنازل المواطنين وممتلكاتهم، وجزء كبير من الشعب نفسه.
وأدى استعمال القتل الوحشي من قِبَل النظام، الذي بلغ حد إسقاط الأسلحة الكيميائية والبراميل المتفجرة على المناطق المدنية، إلى خلق حلقة مفرغة من انعدام الأمن. فممارسة النظام للعنف دفعت بالمعارضة إلى ممارسة عنف مضاد، ثم اتخذه النظام ذريعة إضافية لتصعيد العنف مرة أخرى، وعودة المعارضة للرد بعنف مقابل، نتج عن ذلك تآكل شرعية النظام وتراجع قدراته العسكرية بسبب صعوبة التجنيد أو نفاد الإمدادات، ما مهَّد الأرضية لاستدعاء أطراف خارجية بُغية حسم الصراع لصالح النظام.
واستغلالا للتناقضات المجتمعية لصالحه، اعتمد النظام في استدامة بقائه على نخبة من الأقلية العلوية والبعثيين الموالين له في الأجهزة العسكرية والأمنية، وهو ما كان يحتاج إلى رافعة دولية تعزز نفوذ تلك الأقلية وتُعوِّض تهاوي الدعم الجماهيري الذي كان قائما بفعل القبضة الأمنية المُحْكَمة، منحته إيران بصورة كبيرة هذه الرافعة، كما لجأ إلى ما يسمى دبلوماسية "الأبواب الخلفية"، فعلى سبيل المثال اتخذ من تصنيع وتجارة الكبتاغون، التي قادها ماهر الأسد شقيق الرئيس، أداة للضغط على دول عربية لإعادة تأهيله دوليا وإرجاعه إلى "الحضن العربي".
وفي مقالة بعنوان "العوامل الجيوسياسية في الحرب الأهلية السورية"، يقول الباحثان كيم هوا تان وأليروبندي بيرودين إن ما حدث في سوريا كان مرتبطا بتداخل عوامل تتعلق بالوضعية السياسية الداخلية وتداخلها مع الأوضاع الإقليمية ثم الدولية، في مزيج معقد ومركب كانت الجغرافيا الفريدة لسوريا عاملا رئيسيا فيه.
إعلانفبعد تحول الثورة السورية إلى صراع مسلح، واجه نظام الأسد نقصا حادا في العامل البشري بسبب الإصابات والانشقاقات والتهرب من الخدمة العسكرية. كما أسهم التراجع الحاد للاقتصاد السوري في عدم قدرة النظام على حكم المناطق التي يسيطر عليها وتمويل جهوده العسكرية، ما جعل من الصعب على النظام حسم الحرب لصالحه.
كما أن تصلُّب النظام ورفضه إنهاء الصراع عبر المفاوضات، بوصفه نظام أقلية يرى تسليم السلطة سلميا خطوة انتحارية، إلى جانب تفكك المعارضة وتعدد مطالبها، زاد من تعقيد المشهد الداخلي، ما أطال عمر الصراع وفتح الباب أمام لجوء النظام للاستعانة بالدعم الخارجي لضمان بقائه ومسارعة دول أخرى لإسناد قوى المعارضة، كلٌّ حسب مصلحته.
كما خلط ظهور تنظيم الدولة أوراق الساحة الإقليمية، بوصفه جماعة مسلحة مرتبطة بالصراع في عدة مناطق أخرى بخلاف سوريا، ما شتَّت أهداف بعض الداعمين الدوليين وحوَّل هدفهم الأول من مساندة قوى المعارضة إلى القضاء على التنظيم.
ووجدت هذه الأوضاع الداخلية والإقليمية المعقدة صداها على الساحة الدولية، فإحجام الغرب عن دعم قوى المعارضة والدخول مباشرة في الصراع رغم انتقادهم لمنظومة تحالفات الرئيس السوري يرجع جزء منه إلى الخوف من وقوع أسلحة إستراتيجية بيد مجموعات لا يثق الغرب في موقفها المستقبلي تجاه إسرائيل، مما أنتج في المحصلة انفساح المجال أمام روسيا لتعزيز حضورها في الشرق الأوسط وأمام إيران لاستكمال بناء ما سمّته محور الممانعة.
وزير الخارجية الإيراني السابق جواد ظريف (يمين) ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (وسط)، ووزير خارجية سوريا السابق وليد المعلم (رويترز) سوريا البعيدة عن الحدود القريبة من المصالحالتعقيد الذي فرضته الجغرافيا السورية لم يقف عند بنيتها الداخلية أو حدود دول الجوار، بل ثمة أصداء ترددت حتى بلغ مداها نقاطا بعيدة في جغرافيا العالم، حيث تقع سوريا في القلب من الشرق الأوسط، وهي منطقة تماس بين قارات العالم، من آسيا برا نحو تركيا وأوروبا، وبحرا نحو الساحل الجنوبي لأوروبا وشمال أفريقيا.
كما أنها كانت ولا تزال مركزا تجاريا مهما، يتحكم في ممرات ومضائق بحرية إستراتيجية على طول البحر الأحمر وفي غرب المتوسط. هذه الوضعية الخاصة للشرق الأوسط جعلت الفاعلين الدوليين والقوى العظمي تعتبره مجالا رئيسيا لحسم النفوذ وتسوية الصراعات ومعايرة موازين القوى.
بالنسبة للولايات المتحدة، كانت سوريا أحد أهداف العقيدة الخارجية الأميركية لحفظ أمن إسرائيل عبر دعم حكومة أقلية، أو إشغالها في صراع الهيمنة مع العراق أو مع مصر، وأخيرا بتوظيفها بوصفها منصة لابتزاز الخصوم في المنطقة. وتحركت روسيا بالمقابل من الولايات المتحدة على عدة أصعدة، فلطالما حرصت أن تقدم نفسها "شريكا نزيها" لدول الشرق الأوسط لتحسين سمعتها الدولية، لكن حرصها على مواجهة النفوذ الأميركي في حوض البحر المتوسط الذي تعتبره الخاصرة الجنوبية الرخوة للبحر الأسود دفعها لكسر تلك الصورة والتحرك عسكريا لإسناد النظام السوري.
إعلانويقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة ابن خلدون التركية، علي أصلان، إن روسيا كانت تهدف من وراء دعم النظام السوري للوصول إلى المياه الدافئة ومنها إلى أفريقيا، وهو ما يُعد حيويا بالنسبة لها خاصة بعد خسارة حليفها الليبي في شمال أفريقيا، معمر القذافي، إبان ثورة فبراير/شباط 2011.
ويضيف أصلان أن روسيا عرضت على النظام القديم في سوريا حمايته أمام شعبه مقابل حصولها على قواعد عسكرية برية والسماح لقطعها البحرية بالرسو على موانئ الساحل الغربي لسوريا.
أما في إيران، فعلى ما يبدو أن دروس التاريخ لا تزال ماثلة أمام أنظار صناع السياسة الخارجية، فخسائر بلادهم في القرن التاسع عشر لصالح الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية تُشكِّل حافزا لاستعادة مكانتها في المنطقة. ومن أجل ذلك صنع النظام الإيراني مزيجا معقدا من الإرث الفارسي القديم والقومية الإيرانية الحديثة إلى جانب السردية الشيعية من أجل التعبئة لاستعادة نفوذها في الشرق الأوسط والقوقاز، كما يقول أستاذ دراسات الشرق الأوسط أمين تارزي.
ومع اندلاع الثورة في سوريا، وتزايد حاجة النظام السوري إلى حلفاء من الخارج، سارعت إيران لملء الفراغ في سوريا وخلق عمق إستراتيجي ووصْل نفوذها في العراق بلبنان عبر سوريا، مما يُسهِّل عملية إمداد الأسلحة إلى حزب الله وتعميق حصارها لإسرائيل من جهة، وتثبيت مكانتها إقليميا من جهة أخرى، دون تصدير حدودها للخطر.
وتقاطعت السياسة الخارجية الإيرانية مع نظيرتها التركية في المنطقة، فقد فرضت الجغرافيا على الدولتين مساحات للتنافس الجيوسياسي تاريخيا، كانت سوريا دائما واحدة منها. يقول أصلان إن السياسة الخارجية التركية تحولت منذ قدوم حزب العدالة والتنمية من العزلة التي فرضتها الأنظمة العسكرية خلال القرن الماضي إلى الانفتاح على محيطها الحيوي ومجالها التاريخي.
إعلانوترى تركيا في سوريا مساحة لاحتواء النفوذ الإيراني واحتواء التوسع الإسرائيلي المحتمل في المنطقة نحو حدودها، كما أن عملية الانفتاح التي سعت لترسيخها خلال العقدين الماضيين تقوم أساسا على إيجاد حكومات صديقة، خاصة في سوريا القريبة منها جغرافيا.
تتشابه سوريا إذن في طبيعتها الجيوسياسية بالنسبة للشرق الأوسط مع بولندا بالنسبة لأوروبا، فهي أرض منبسطة دون حدود طبيعية محاطة بمجموعة من الدول الصديقة والعدوة، وتقع في تقاطعات قوى كبرى ترى فيها عمقا إستراتيجيا داخل أوروبا. وحتى تتغلب سوريا على خصائص جغرافيتها السياسية كان عليها دائما الاستعانة بحليف موثوق أو التحول إلى قوة عسكرية تفرض نفوذها بالقوة، وكما كانت الجغرافيا السورية عبئا على نظام الأسد وعلى الثورة، فهي لا تزال عبئا أيضا على السلطة الجديدة وأحد أهم التحديات التي ستواجهها.