لجريدة عمان:
2024-11-15@22:57:55 GMT

عن الشعر والروح واللغة العالمية

تاريخ النشر: 26th, September 2023 GMT

عن الشعر والروح واللغة العالمية

ترجمة: أحمد شافعي -

الشعر عندي ممارسة روحية، تضعني قراءته وكتابته في تماس مع شيء أكبر من نفسي، شيء غير ملموس، لكنه حقيقي للغاية. ولأن القصائد يمكن أن تقرأ في سياق قصائد أخرى، فإنها تضعني في تماس مع تراث، مع كتَّاب من الماضي وكتَّاب أيضا من الحاضر. وأعرف من الناس من يعافون كلمة «الروحي» لما لها من إيحاءات دينية، لكن عالم الروح أكثر شيوعا من المعتقدات والمؤسسات.

فحتى لو أن المرء مادي للغاية، فإن بوسعه التفكير في الروح بوصفها الغيب، أي عالم الممكن المجهول. ونحن في القصائد نحاور روح العصر أو طبيعته الغالبة، نحاورها أو أو نتواصل معها. وثمة كلمة أخرى قد نستبدلها بالروح هي «الصمت»، أعني الخصوبة الداخلية التي تنبت منها الأفكار والآراء. أو على حد قول الفيلسوف الفرنسي جون فال: «لعل الشعر هو طريقتنا الوحيدة لتلوين الصمت والتأثير فيما يعقبنا أو يعاصرنا». وبالمثل، بوسعنا أن نساوي الروح بقيمة الفضاء أو الخواء البوذية. وسوف أجتنب كلمة «العدم» التي يبدو أنها توحي باللاشيء، فظني في الشعر أنه نقيض ذلك. إن من تعريفات الشعر الأثيرة عندي مقولة لجو برينارد تقتنص ما فيه من بساطة وأناقة: «الشعر هو ذلك الـ«شيءٌ ما» الذي كثيرا ما نجده مفقودا». أكثر ما يروق لي في هذه العبارة هو جوهر الاكتشاف الذي تشير إليه. إذ المرء يقرأ قصيدة يحبها، فإذا به من جديد وقد اكتشف ما معنى الشعر عنده. ولزاما عليّ أن أعترف، بأنني أيضًا أحب ما في «الـ شيء ما» من إبهام. لأنك لن تعرف ما هذا الشيء إلا حين تجده، ولن تجده إلا إذا بحثت. ولقد قضيت على مدار السنة الماضية قدرًا لا بأس به من وقتي وأنا أبحث عن القصائد. وأنا بطبيعتي أقرأ الكثير من الشعر، لكنني منذ وقت طويل لم أقرأ بكل هذه الكثافة خارج منطقتي الآمنة أو اهتماماتي. كما أنني في العادة لا أحصر تركيزي في ما يجري الآن في الشعر الأمريكي. فكان ذلك مجزيًا لي جزاء عظيما وكانت تجربة مثيرة. ولأنني مارست التدريس على مدار سنين كثيرة، فإنني معتادة على النموذج الزراعي، نموذج نثر البذور وتعهد النمو البطيء بالرعاية. فكان تغيرًا مبهجًا أن أبدل دوري وأصبح أقرب إلى الصيد. والواقع أن المهمة تحولت إلى إدمان، فلم أستطع أن أوقف نفسي عن البحث عن القصائد. ويتبين لي أنني أحب «تسوق» القصائد (إن آثرت استعارة أقل روحية) أكثر مما أحب تسوق الوجبات الخفيفة اللذيذة، أو حقائب المصممين، أو أي شيء آخر، فالشعر هو الرفاهية الوحيدة التي لا غنى لي عنها. والشعر كما تقول أودري لورد «ليس ترفا. إنما هو ضرورة حيوية من ضرورات وجودنا». وبودلير أشد منها جزما إذ يصر على أن «المرء بوسعه أن يعيش ثلاثة أيام دونما خبز، أما دونما شعر فلا».من المغانم العظيمة في تولي مسؤولية تحرير كتاب «أفضل الشعر الأمريكي» أنها تأتي مشفوعة باشتراكات في مجلات كثيرة. بدأت أتطلع من جديد إلى البريد، فبدلا من الفواتير والدعايات، بات يضع في طريقي مددا ثابتا من الإصدارات المثيرة للاهتمام. ومع ذلك، كان ينتابني قلق من كثرة ما لا أراه. بدأت أنقب في متاجر الكتب، سواء سلاسل المتاجر أم المتاجر المستقلة. وبعض هذه أفضل من بعض في ما تعرضه من مجلات الشعر، ولكن ليس بالمفاجئ أن المجلات الشعرية لا تحظى بأولوية كبيرة، وخاصة منذ تراجع الإصدارات الورقية. وبالطبع كنت أبحث في الإنترنت أيضا. كنت أعرف بالفعل كثيرا من المجلات الرقمية اللطيفة وعثرت على الكثيرات غيرها بمداومتي على تحسين عملياتي البحثية. وكان من أكبر حلفائي أولئك الذين يضعون في صفحاتهم بفيسبوك وتويتر وانستجرام قصائدهم المنشورة حديثا مذيلة بروابط إلى المواقع. فمهما يكن رأيكم في مواقع التواصل الاجتماعي، فإنها تتيح لنا بسرعة رائعة تجربة مجموعة واسعة من المجلات التي قد لا نكون على دراية بها لولا هذه المواقع.

ومهما يكن شكل المجلات فإنها لم تزل تساعد في الوصول إلى الشعر. فهي أكثر من محض أماكن للنشر، وإن يكن ذلك وحده سببًا وجيهًا للغاية لدعمها. وهي كثيرا ما تنشر تعليقات وعروضا نقدية ومقالات حول أحدث النقاشات الجمالية. والمجلات هي الأماكن التي يكتشف المرء فيها ما يتكلم عنه الناس من القصائد والأسباب التي تدعوهم إلى ذلك. وإصدار مجلة أمر يستوجب التزامًا جادًا واستثمارًا في الوقت والموارد. فالتحدي كبير، في ضوء تخفيض الميزانيات المستمر في الجامعات وبرامج الفنون الممولة على المستوى الوطني. ولذلك أود أن أشجع كل من يقرأ هذه السطور، وأي شخص يبالي بالشعر، على أن يبحث عن مجلة شعرية أو اثنتين يجد فيهما نفسه ويشترك فيهما. واغفروا لي هذا العرض الإعلاني، ولكن هذا أمر أجد نفسي مدفوعة إليه. فنحن بحاجة إلى الاهتمام ببيئتنا الأدبية، كما أننا بحاجة إلى الاهتمام ببيئتنا المادية. وقد تنظرون في أمر التبرع لموقع (بويتري ديلي) أو (قصيدة اليوم من أكاديمية الشعراء الأمريكيين) فهما خدمتان ممتازتان مجانيتان تبعث كل منهما قصيدة إلى بريدك الإلكتروني كل يوم. وأنا واثقة من أن كثيرين منكم يعرفونهما بالفعل. وقد كنت أعرفهما أيضا، لكنني في العام الماضي فقط حرصت على قراءتهما كل يوم، حتى صار ذلك طقسًا مبهجًا أتطلع إليه ويمثل نغمة مصاحبة لإحساس الغرق المرافق لاستعراض عناوين الأخبار، ونغمة مصاحبة مطلوبة. لكن هذه الأنطولوجيا لا تحمل اسم أفضل المجلات الأمريكية، فلأرجع الآن إذن إلى القصائد. لقد أحدثت فكرة بحثي عن «أفضل» القصائد بؤرة قوية. فهمت أن الأفضل يعني الأكثر إشراكا وأصالة وتحفيزا بين ما أصادفه من أعمال. لم أكن أغالي في التفكير.

والأفضل في حدود ما يعنيني كلمة قابلة للتبادل، لا تصنع تراتيبة. فلم أكن أبحث عن أفضل الشعر في كل الزمان. فما بدا الأفضل في ليلة ربما تغير في غضون شهر أو اثنين من تصفحي ملء سنة من الإصدارات الأدبية ( في ما بين خريف 2921 وخريف 2022 على وجه الدقة). وربما لا ينبغي أن أعترف بأني اندهشت من كم الكتابة المدهشة التي عثرت عليها، حتى لقد كان يسيرا عليّ أن أملأ مجلدا آخر. ولكن قالب هذا الكتاب لم يكن يتسع إلا لخمس وسبعين قصيدة فكان لا بد لي من حسم خيارات صعبة.

***

في كثير من التراثات الروحية فكرة الحكمة الجنونية - تلك الأقوال الصادمة غير المتوقعة الرامية إلى كسر أنماط تفكيرنا المعهودة. وإن من الأسباب التي تحملني على قراءة القصائد أن أتلقى تلك الإفاقة من تلك المقولة «الجنونية». ومثلما يكتب الشاعر الرومنتيكي الألماني نوفاليس: «بالشعر تبرأ الجراح التي يُعملها العقل».

أعرف من الناس من يكثرون من قراءة الكتب الرائجة، وروايات الألغاز والجريمة، وسير المشاهير، على سبيل الهروب. ومثلهم أفعل ذلك، لكنني أيضًا أقرأ الشعر للهروب، لا للهروب مما يجري في العالم، بل للهروب من الطرق المعهودة في النظر إليه. أحب في الشعر مواجهة أقوال لا يمكن للمرء مصادفتها في مكان سواه، وأشياء لا تخطر لعقل، بل هي أشياء مذهلة توسع فكرتنا عما يمكن التعبير عنه أو يعجز عنه التعبير.

***

من الأمور التي لاحظتها في كثير من المجلات التي نظرت فيها، سواء الكبيرة أو الصغيرة، المطبوعة أو الرقمية، أن هناك جهدا حقيقيا منها لأن تكون ذات منظور أكثر عالمية. سعدت بما رأيت من ترجمات كثيرة حاضرة في كل مكان، بل ومن أعداد كاملة مخصصة للقصائد المترجمة، أو المكرسة بالكامل لأعمال شعراء بلد واحد. وبرغم أن قواعد (أفضل الشعر الأمريكي) لا تسمح بتضمينه الترجمات، فإن الاتجاه إلى تمثيل المزيد من التنوع الثقافي والعرقي أتاح لي العثور على قصائد استثنائية عديدة لشعراء ولدوا في بلاد أخرى وهاجروا إلى الولايات المتحدة. في هذه الأنطولوجيا أعمال لشعراء هم أصلًا من الأرجنتين وغانا واليابان والعراق وأوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا، وكذلك قصائد لأبناء مهاجرين من شتى أرجاء العالم. وفي هذه الأصوات ثراء للمجموعة لا حدود له.

لقد جاء أبواي الاثنان إلى أمريكا من إيطاليا وهما طفلان في بواكير القرن العشرين. ونشأت وأنا أسمع الإيطالية منطوقة (من جديَّ في الغالب) بجانب الإنجليزية وكنت أنعم باللغتين إذ تغيمان وتتداخلان في حياتنا المنزلية. أحببت اكتشاف كل لغة وموسيقاها ومزاجها، وشتائمها الخاصة وتعبيراتها العامية. وفي سنوات مراهقتي، كان أول شاعر يؤثر عليّ تأثيرا هائلا هو لوركا من خلال طبعات نيوديركشنز الشعبية لمختارات من قصائده. وأنا واثقة أن فيالق كاملة من الشعراء نشأوا مستلهمين ذلك الكتاب. أعتقد أنني لم أنجذب إلى عمله وحده، وإنما إلى حقيقة أنه عمل مترجم، وكنت أعرف أن لغات مختلفة قد شاركت في إنتاجه. شجعني ذلك على التفكير في الشعر بوصفه لغة عالمية عابرة للحدود.

وفي زمن القومية السامة، من المنعش أن يبقى تراث الكوزموبوليتانية قويا في عالم الشعر. ولكي لا ننسى، أقول إن الولايات المتحدة تاريخيا مكان يمكن فيه للناس من شتى بقاع العالم لا أن يعثروا على وطن وحسب، بل وأن يثروا الثقافة الأمريكية بالإسهام بإبداعهم. يذكّرنا الشعر بما في هذا التعاون العابر للثقافات من قيمة وإثارة. وشأن العلماء الذين يتشاركون الأفكار من خلال لغة الرياضيات، لا يتوانى الشعراء عن توحيد قواهم في سعيهم وراء فنهم.

في كل عام منذ بداية سلسلة «أفضل الشعر الأمريكي» سنة 1988 حينما كان جون أشبري هو المحرر الضيف الأول للكتاب، وأنا أتطلع إلى هذا الكتاب. وأعرف كقارئة أنه مكان عظيم لاكتشاف شاعر جديد أو مجلة جديدة. وكمعلمة، استعملته في مرات كثيرة في فصلي لإثارة النقاشات، ونظرًا لتمثيله لنطاق عريض من شتى القوالب، فهو أيضا مصدر رائع للإمكانيات المختلفة. فضلا عن أنه من المثير دائما أن نعرف رأي المحرر في السنة المنصرمة.

ولقد ضم المحررون الضيوف السابقون شخصيات بارزة مميزة في رؤيتهم الشعرية مثل روبرت كريلي، وريتا دوف، ولين هيجينيان، وروبرت بينسكي، وتشارلز سيميك، وتيرانس هايز، على سبيل المثال لا الحصر. وبفضل ذائقة ديفيد ليمان [المحرر الدائم للسلسلة] الانتقائية والصادقة في ديمقراطيتها، يظل «أفضل الشعر الأمريكي» قادرا على إدهاشنا. ولذا فإنني ممتنة امتنانا عميقا لديفيد أن أولاني الثقة في تحرير هذه الطبعة.

لقد تعاونا فيه بحماس بالغ. ذلك أن حماسته معدية، ومعرفته بالشعر والموسيقى والسينما - مذهلة. والآن لقد رأيت رأي العين قدرا هائلا من العمل الذي يقوم به ليحافظ على صدور السلسلة عاما بعد عام.

من الأمور التي أجدها شديدة الروعة في «أفضل الشعر الأمريكي» أنه يضع الشعر في قلب الثقافة الجماهيرية دون أن يضحي بمعايير التميز الأدبية الرفيعة. إن سلاسل «الأفضل» في نهاية المطاف مألوفة للجميع ولها جاذبية -في ما أرجو- لدى نطاق عريض من الجمهور. وعلى هذا النحو، فإن هذه الأنطولوجيا تؤسس سياقا يمكن أن تحظى فيه الكتابة الجيدة بنطاق عريض من التذوق. ومن هنا يتسق هذا الكتاب جيدا مع ذائقتي الشخصية للمتعة الجادة، بخلطه الرفيع والدني، والمقدس والدنيوي.

إيلين إكوي ولدت في أوك بارك بولاية إيلينوي سنة 1953، لها عشرة أعمال شعرية واسعة الانتشار. تعمل بتدريس الكتابة الإبداعية. والنص المترجم لها هنا عبارة عن مقتطفات من مقدمتها لإصدار عام 2023 من سلسلة «أفضل الشعر الأمريكي».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الشعر

إقرأ أيضاً:

مواقع التواصل الاجتماعي وفوضى الشعر!

خلقت مواقع التواصل الاجتماعي عشرات الشعراء، فالنشر مجاني، وأي شخص صار بإمكانه أن يكتب وينشر ويستمتع بالتفاعل اللحظي، بدون أن يسأل نفسه إن كان ما يكتبه شعراً حقيقياً أم مجرد خواطر، كما أن تلك المواقع أضرَّت ببعض الشعراء الكبار مثل محمود درويش، إذ تعيد وتزيد في نشر ما كتبه يوماً ما حتى أصبح بعضه باهتاً من فرط تكراره، كالمقطع الذي يحنُّ فيه إلى خبز أمه وقهوتها!

على أن الصورة ليست قاتمة بالكامل، فتلك المواقع أصبحت متنفساً لبعض الشعراء المتميِّزين ممن أوصد الناشرون الأبواب في وجوههم مفضِّلين نشر الرواية، مضمونة الربح والجوائز والأضواء الإعلامية، ولذلك نحاول في هذا الاستطلاع أن نتقصَّى الجوانب الإيجابية والسلبية لتلك الظاهرة.

الشاعر العماني خالد المعمري يقول في البداية إن الحديث عن الشعر والأدب وارتباطهما بمواقع التواصل الاجتماعي أمر جيد؛ فهو من الموضوعات المهمة في الوقت الراهن، لا سيما مع الانفجار المعلوماتي الكبير والتسارع إلى عالم التقنية بمختلف مجالاته، وهنا يمكننا دراسة التأثير المترتب على العلاقة الحديثة بين عالمين مختلفين مثل الإبداع والتقنية.

وأضاف: "في رأيي أن العلاقة بين الشعر ومواقع التواصل الاجتماعي مبنية على علاقة بين الكاتب والقارئ، وهنا أرى أن الكاتب قد وجد في هذا الفضاء أنموذجاً أسرع في إيصال تجربته الشعرية إلى المتلقي، خصوصاً إذا علمنا أن النشر الورقي يمر بعقبات كبيرة، فنجد بعض المؤلفات صارت تأخذ شيئاً من الحرية في سبيل الوصول إلى القارئ، وقِس على ذلك، فالنصوص الشعرية أخذت طريقها إلى الانتشار بأشكال مختلفة -صوتية ومرئية- وصار على الجمهور الذي لا يتفاعل من قبل إلا مع النصوص الورقية، أن يتعامل مع التقنيات الجديدة".

المعمري يرى أن مواقع التواصل الاجتماعي شكَّلت معياراً مهماً في رفع بعض الأسماء الشعرية، بغض النظر عن الجودة الفنية المقدمة، وصارت هذه المواقع ميداناً خصباً للفت الانتباه واكتساب الإعجاب والتفضيل بين أسماء مختلفة، وهذا في حد ذاته يحيلنا إلى شيء من العشوائية والانتقائية أو إن شئت سمِّها فوضى في امتزاج النصوص الجيدة بغيرها من النصوص الرديئة؛ لذا اقترن الشعر بالتصويت في هذا الفضاء، وصار صوت غير المتذوق للشعر يقدم انطباعه عن جودة الشعر وجمالياته وفتح المجال لبروز أسماء وبرامج وإصدارات تتحرر من الفعل النقدي الجيد إلى انطباعات سطحية.

وختم كلامه قائلاً: "في العموم، أحيت مواقع التواصل الاجتماعي في الشعر ما خفت منه، وأعادت شيئاً من العلاقة المنقطعة بين الشاعر والمتلقي، وعلى صعيد النشر أيضاً سمحت لكثير من النصوص الشعرية بالبروز إلى الواجهة، لا سيما مع نصوص مثل قصيدة النثر كانت تواجه عزوفاً في التلقي، وربما أتاحت للشاعر أن يواجه ذاته قبل كل شيء ويبتعد عن مزايدات الناشرين وتجاوزاتهم".

حدود فاصلة

من جهتها تؤكد الشاعرة العمانية شميسة النعماني أن وسائل التواصل الاجتماعي غمرت المشهد الشعري بأطنان من المنشورات تفتقر إلى الشعرية، إلا أن لها محاسن ومزايا مهمة، فقد أتاحت المجال للشاعر أن ينشر حينما يريد وكيفما يريد، دون أن ينتظر مساحة تخصصها له جريدة أو مجلة ما. وأفسحت هذه الوسائل على تنوعها خط تواصل مباشر بين الشاعر وجمهوره دون أن تكون هناك حدود فاصلة بينه وبينهم. كما أنها حمت الشاعر من مزاجية بعض دور النشر وتفضيلاتها لنوع الشعر المنشور لديها، فضلاً عن تكاليف النشر فيها التي غالباً ما تهضم حق الكاتب. إضافة إلى أنها سهَّلت على الشاعر الاطلاع على إنتاج الشعراء الآخرين بشكل مستمر، فعوضاً عن انتظار معارض الكتاب الموسمية أو الذهاب إلى المكتبات والسؤال عن جديد الإصدارات الشعرية، قدَّمت وسائل التواصل الاجتماعي هذه الخدمة مجاناً للشاعر وأصبح مواكباً لجديد أقرانه. على الصعيد المقابل لا تنكر شميسة أن كثرة المنشور قد يغطي أحياناً على الجيد من الإنتاج الشعري، لكنها تؤمن بأن القارئ الحقيقي والواعي سوف يبحث عن أفضل المعروض ويتخلى عن الإنتاج الغث والفوضوي. ولعل قصيدة النثر أحد أهم الأشكال الأدبية التي استسهلها الكثيرون في زمن النشر السريع ظناً منهم أن تلقي بعض الإعجابات والتعليقات هو دليل شاعرية ما ينشرون، دون وعي منهم أن بعض المتلقين ليسوا قراء حقيقيين وإنما مجرد عابرين مجانيين بين المنشورات. لذلك تؤكد أن الشاعر ينبغي أن يكون واعياً أثناء تلقيه التفاعل من رواد وسائل التواصل الاجتماعي، وأن يكون مخلصاً لإنتاجه الشعري أينما كانت الوسيلة التي يستخدمها لنشره، بحيث لا يستسهل النشر في وسائل التواصل الاجتماعي لأن الجوهر والأساس هو شعره الذي يحمل هويته، بغض النظر عن الوسيلة التي نشر فيها.

مكاسب مؤقتة

أما الشاعر المصري جرجس شكرى فقال إن وسائل التواصل الاجتماعى طال تأثيرها كل مفردات الحياة بما فيها الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، ويتساءل: لكن هل الشعر من الهشاشة والضعف حتى ينقذه وجوده في العالم الافتراضي أو يساهم هذا العالم في فوضى المشهد الشعري؟ ويجيب على سؤاله بنفسه: "فيما يتعلق بتعنُّت الناشرين فهذا يرجع إلى سبعينيات القرن الماضي حين بدأت الجماعة الشعرية النشر الخاص أو مطبوعات "الماستر" وحين وصلنا إلى تسعينيات القرن العشرين بدأ الناشرون في الحصول على مقابلٍ لنشر الشعر والرواية معاً، وتطوَّر هذا الفعل ليصبح شرطاً للنشر في الدور الخاصة، وبالطبع لن تكون مواقع التواصل الاجتماعى بديلاً عن الكتاب المطبوع، فقط ساهمت في الانتشار. فما زالت نظرة الناشرين للشعر كما هي لم تتغير، أما عن فوضى المشهد الشعري، فإن الفوضى لا تقتصر على الشعر أو قصيدة النثر بل هي نفسها في الرواية والقصة والنقد، والعالم الافتراضي ساهم في إبراز هذه الفوضى التي بدأت قبل وجود هذه المواقع، ومن ناحية أخرى النشر على الصفحات الخاصة في أحيان كثيرة يكون تأثيره بالسلب على صاحبه"!

ويؤكد جرجس أن نشر الشعر في مواقع التواصل الاجتماعي ربما يحقق بعض المكاسب لكنها مؤقتة، ودون شك هناك فرق كبير بين أن ينشر كاتب على صفحته قصة أو نصاً شعرياً وبين أن يتم نشره في مطبوعة ثقافية، الأول نشر شخصي والثاني في سياق مختلف تماماً تحكمه قواعد ومعايير غيابها جعل النشر على الصفحات الخاصة يفقد المصداقية. الأول كمن يصفق لنفسه، والثاني يصفق له الآخرون.

حسابات خاصة

الشاعر السعودي علي الحازمي يرى أن مواقع التواصل اختصرت الطرق التي يسعى بها الشاعر لإيصال قصيدته إلى القراء في كل مكان من العالم، وهذا الأمر ليس في مصلحة الناشرين ودور النشر على الأرجح، ومع كل ذلك يصعب علينا الحكم على جدوى المسألة بشكل دقيق، لكننا عندما نتأمل بحياد تام ما يحدث نجد أن هناك أعمالاً شعرية أصدرتها دور نشر عريقة لكنها للأسف لم تلاقِ ذلك الرواج والتفاعل الذي تتوق له، بينما نجد أن هناك قصائد نُشرِت من خلال مواقع التواصل تمكَّنت باقتدار أن تحصد الكثير من التفاعل اللافت، هذا التميُّز الذي حققته مواقع التواصل جعل الكثير من الشعراء يراجعون حساباتهم، ويعيدون تقييم رؤيتهم لتلك الجدوى المرجوة من مواقع التواصل ويسارعوا، في الوقت ذاته، لإنشاء حسابات خاصة بأسمائهم الشعرية لنشر قصائدهم على هذه الضفاف الجديدة، ولا بأس عندما نجدهم لاحقاً يقومون بإصدار أعمالهم الشعرية ورقياً عن طريق دور النشر كنوع من التوثيق ليس إلا.

ومع كل ذلك، بحسب الحازمي، علينا أن نقرَّ بأن هناك فوضى شعرية في مواقع التواصل وذلك لتساوي فرص النشر وسهولته أمام الجميع وهنا تبرز أهمية رقابة الشاعر الذاتية على شعره. وقال: "على المستوى الشخصي دائماً ما أجد نفسي من المتشددين في مسألة كتابة الشعر وأرى أنني ضد الشعراء الذين يتساهلون في مسألة كتابته بشكل مباشر ونشره على الفور في مواقع التواصل دون إخضاعه إلى تلك العناية والرعاية الكاملة. دائماً ما كنت أرى أن الشعر يستحق منا أن نمنحه ذلك القدر الكافي من الصفاء الذهني الكامل".

صفحات الشعراء

الشاعر المصري عبد الرحيم يوسف قال بدوره إن وسائل التواصل الاجتماعي ساعدت على إتاحة الشعر للمهتمين به، فعديد الصفحات مكرسة بأسماء شعراء كبار رحلوا أو ما زالوا أحياء، وصفحات أخرى مكرَّسة للشعر في العموم أو لقصيدة النثر مثلاً وتنشر كتابات لشعراء معروفين وأخرى مكرسة لمجهولين قد لا يعرفهم أحد إلا أعضاء الصفحة وهم ذات الشعراء. وأضاف: "رأيت شخصيًا كيف ساعدت صفحات الشعراء أنفسهم على إتاحة نشر قصائدهم التي يكتبونها أولاً بأول وتلقي ردود أفعال الأصدقاء والقراء دون انتظار النشر في الدوريات الأدبية أو في دواوين شعرية لا يُقبل الناشرون عليها بدعوى عدم رواج الشعر إلا لأسماء النجوم، فيجد الشاعر أو الشاعرة حرية نشر قصائده في صفحته أو صفحتها مستغنين عن كل هذا الجدل ومحققين التواصل المأمول مع القراء مباشرة. أعرف شعراء وشاعرات كانوا قد ابتعدوا عن الكتابة يائسين وشاعرين باللاجدوى، ثم عادوا للكتابة أصلاً بسبب صفحات التواصل الاجتماعي وإحساسهم بقليل من التحقق الذاتي والقدرة على نشر نتاجهم دون انتظار موافقة أو ترحيب أحد. في الوقت نفسه ساعدت هذه الإتاحة والسهولة على فتح الباب واسعًا أمام أشكال ضعيفة أو لم تنضج بعد من الشعر بكافة أشكاله، ومع ضعف العلاقة العامة بالشعر، خاصة الحديث، نتيجة ضعف مناهج اللغة العربية بشكل عام، وحالة الضعف الثقافي بالتبعية، صار بالإمكان أن نرى أعمالاً ضعيفة يجري الترحيب بها ويتحول أصحابها إلى نجوم كبيرة أو صغيرة، يتابع أعمالها آلاف المعجبين، لكن أصحابها يرون في هذه المتابعات شهادة على شعريتهم أيًا كان مستواها. يخلق هذا أيضًا مساحة كبيرة لتشابه النصوص أو حتى لاقتباسها وسرقتها وبالتالي مساحة كبيرة للعراك والشتائم والاتهامات، وبالتالي كما يقول السؤال: للفوضى العارمة. المشكلة ليست لصيقة بالشعر وحده، لكنها سمة لكل شيء. مساحة مفتوحة إلى حد ما اسمها وسائل التواصل الاجتماعي، يطغى عليها الغث -مثل كل شيء- ويقل فيها الثمين.

انفجار شعري

وتؤكد الشاعرة المصرية هدى عمران أنه بعد عام 2013 تحول الفيسبوك -خاصةً- إلى ملعب كبير للشِعر. انفجرت القصائد من أصوات أجيال جديدة وسط زخم سياسي واجتماعي، سهَّل على الجميع القراءة والتلقي وإبداء الملحوظات. اتسم المشهد بالحيوية والتمرد على المؤسسات التقليدية، ومن بينها مؤسسة الثقافة كلها، سواء مجلات أو دور نشر أو قوانينها المبطنة. واكتسب الفيسبوك وظيفة إيجابية تشبه الشِلل الثقافية أو التجمعات، ساعدت على الترويج للشِعر والاهتمام به أكثر من الأنواع الأدبية الأخرى.

لكن الملاحظ الجيد لحال الشِعر خلال الثلاث سنوات الأخيرة، بحسب هدى عمران، يرى انحساراً واضحاً في وجوده، ومحاولة تحويله لـ"بوستات" سهلة النقل والتقليد والإعجاب السريع أو الجريئة الصادمة أحياناً. وذلك قد يرجع لسببين، الأول لطبيعة الظروف الاقتصادية التي انعكست في نظرة الكتَّاب للفن، على أنه تعويض للهزائم وعدم القدرة على الفعل في الواقع، وعدم البحث الجاد عن الذات، واللاإيمان بالفن الجيد ومساواته بأي كتابة تثير الإعجاب أو تحصل على الجوائز. السبب الثاني يعود لوظيفة الفيسبوك نفسه، فأرى أنه فقد وظيفته للتعرف على الآخر فعلاً وتكوين شبكات اجتماعية لها مرجعية ثقافية واحدة، أو حتى وظيفته لنقل المعرفة، وأصبح مجرد وسيلة أو صفحة كبيرة للترويج للذات الكاتبة على أنها سِلعة تستحق الإعجاب أو الشراء. وكل هذا قد يخلق فوضى كبيرة في المشهد.

مقالات مشابهة

  • صوت بغداد يصدح في كولبنكيان.. خليط من الشعر والموسيقى والرسم (صور)
  • مواقع التواصل الاجتماعي وفوضى الشعر!
  • عن جدلية الأفضلية والأسبقية بين الشعر والنثر
  • إطلاق نار على منزل شيخ قبلي بمديرية الشعر بإب ونجاته مع أفراد أسرته (صور)
  • حكم دفن الشعر والأظافر بعد قصها
  • اكتشاف حطام المدمرة “يو إس إس إدسال” التي غرقت بالحرب العالمية الثانية
  • ناصر الجديع: عودة رينارد أعادت الثقة والروح التي قتلها مانشيني
  • تأثير ممارسة الرياضة على صحة الشعر
  • أمراض ثقافـية
  • فيلم "اختيار مريم" يفوز بجائزتين من المهرجان المصري الأمريكي للسينما والفنون