لجريدة عمان:
2025-03-04@18:33:39 GMT

الشاعر المريد والشيخ المتصوف

تاريخ النشر: 26th, September 2023 GMT

الشاعر المريد والشيخ المتصوف

نعدم في الثقافة العربية أخبارًا تفيد بكيفية تعلم الشعراء على يد شيوخ التصوف، فأغلب ما جاءنا اقتصر على ذكر التقاطع الذي يحدث بينهم من باب كونهما أصحاب أحوال وخيالات. ولقد صادفني، وأنا أتوسع دراسةً في حياة الشاعر الحلبي صلاح الدين الكوراني، وروده تلميذا على حضرة شيخ حلب آنذاك أبي بكر بن أبي الوفا.

وفي الواقع، قسّم صلاح الدين الكوراني في كتابه «مطلع النيرين في مناقب الشيخين»، أساتذته إلى طبقتين: شيوخ المذاهب من جهة، وشيوخ العلوم من جهة ثانية.

فأما شيوخ المذاهب، فاقتصر على اثنين: مفتي الشافعية بحلب عمر العرضي الذي لقبه بشيخ الإسلام، ومفتي الحنفية بحلب أبو الجود البتروني الذي أطلق عليه اللقب نفسه.

ولقد استطرد صلاح الدين الكوراني من ذكرهما إلى ذكر الفقيه أبي اليمْن البتروني مفتي الديار الحلبية، وإلى ذكر والدهما الشيخ الصوفي صاحب الكشف والشهود عبدالرحمن البتروني، وإلى ذكر أبي بكر بن أبي الوفا، والنجم الحلفاوي الحلبي (988هـ-1054هـ) الذي تقاسم معه الدرس وهو الذي استفتاه في مسألة نحوية ناظمًا إياها في شكل أبياتٍ شعريةٍ، وذكر أبي الوفا العرضي ما دار بينه وبين المذكورين من مساجلات ونقاش.

ويأتي صلاح الدين الكوراني في مخطوطته «مناهل الصفا» على سرد بعض وقائع طفولته، مشيرًا إلى طريقة التعليم التي لازمها وهو فتى يافعٌ بالزاوية المعروفة بالجيشية التي كانت تطل بشباكها على الجامع الكبير بحلب. ويذكر إلى جانب كونه تلميذًا للشيخ عمر العرضي، شيخًا آخر يكاد يكون مرجعًا لجميع شيوخ حلب ممن شهدوا له بالولاية وهو الشيخ أبو بكر بن أبي الوفاء. ويشير صلاح الدين الكوراني إلى سماعه لدى شيخه عمر العرضي «شرح الشمسية في علم المنطق» الذي استعصى عليه شرح بعض مواضعها فالتجأ إلى الشيخ أبي بكر بن أبي الوفاء طالبا منه الإعانة عليها، و«شرح الشمسية في علم المنطق» هي رسالة في قواعد المنطق الأرسططالي، بحيث يسمح التمكن منها بالإحاطة بكنه الحقائق ودقائقها، وبها يعْرف صحتها من سقمها وغثها من سمينها. ولعلها من بين ما كان يعتمد عليه الشيوخ في تكوين القضاة والعلماء بحلب حينها. يقول صلاح الدين الكوراني: كنت في أيام قراءتي وأنا يافع السن على شيخ الإسلام ومفتي الشافعية في ديار حلب مولاي وسيدي وقدوتي إلى الله الشيخ عمر العرْضي حاضرا مع طلبة العلم في زاويته المعروفة بالجيشية المطل شباكها على الجامع الكبير بحلب ذات يوم وشرع الشيخ المذكور في إقراء شرح الشمسية في علم المنطق في بحث القضايا المختلطة وتأمل في أثناء الإقراء طويلًا وتفكر مليًا في تقريره، ثم قال لنا إن صدري ضيق وما طالعت هذه الليلة هذا المحل، وهو في غاية الإشكال، فاتركوا الدرس وقوموا بنا إلى زيارة الشيخ أبي بكر قدس سره حتى ينشرح صدرنا، فلما ذهبنا معه ودخلنا على الشيخ أبي بكر رضي الله عنه، قال للشيخ عمر: تعالي اقعدي، الله أعطاك، وكان لا يخاطب الناس إلا بلفظ التأنيث والظاهر أنه كان يريد به نفس الإنسان فجلس الشيخ عمر في ناحية من المكان والطلبة حوله وكان مكان الشيخ أبو بكر (رضي الله عنه) جامع محلة تربة الغرباء بحلب، فأخذ الشيخ (رضي الله عنه) يتكلم بكلام يفهم وكلام لا يفهم كأنه يخاطب الغير به والشيخ عمر ساكت مطرق الرأس، ثم إن الشيخ عمر نهض على قدميه، وقال الفاتحة فقرأناها وقمنا وخرجنا، فلما صار الشيخ عمر خارج الجامع، قال لنا: هل فهمتم ما قال الشيخ (رضي الله عنه)، قلنا: الله أعلم، فقال: إنه قد قرر لي الدرس وبيّن إشكال القضايا وأفهمني إياها، فارجعوا إلى الدرس، فرجعنا إلى الزاوية المذكورة فقرر لنا الدرس كما ينبغي، وقال هكذا قرره لي الشيخ (رضي الله تعالى عنه). ولا ريب أن هذه الواقعة من باب الكشف (رضي الله تعالى عنه وأرضاه). وإذا كان الاستدلال بهذه القصة يفيدنا في فهم واقع تدريس القضاء عند الشافعية بحلب -من جهة-، فإن اعتقاد صلاح الدين الكوراني في الولاية يشير -من جهة أخرى- إلى طبيعة توجه التعليم العثماني آنذاك، إذ كان يسمح بتعيين مدرسين ذوي توجه صوفي عرفاني، كما يدعم -على وجه الخصوص- فرضية توجه صلاح الدين الكوراني الباطني نسبيًا، وهو توجهٌ غير مرتبط بالمذهب الشافعي، إذ كثيرٌ من الشافعيين أنكروا على الشيخ كراماته، وطعنوا فيها وأوغلوا، وإنما توجهٌ يعطي انطباعًا بانقسام الشافعية إلى ظاهرة وباطنة.

وفي القصة التي ذكرها صلاح الدين الكوراني وهو يسرد عن أخيه ما حدث له مع الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا ما يؤكد هذا النفور لدى بعض الشافعية من مسألة الولاية، فيقول: وحكى بعض المترددين إلى الشيخ (رضي الله عنه) مناقبه عند أخٍ لي وكان نائبًا في الـمحكمة الشافعية بحلب، وكان أخي من المنكرين على الشيخ (رضي الله تعالى عنه) ويطعن فيه أنه خارق الشريعة، فرغبه ذلك الرجل في زيارته فأبى أن يجيبه، فألحيْت أنا عليه حتى طاوعني، فذهبنا إلى زيارته وكنت إذ ذاك صغير السن، فلما دخلنا على الشيخ (رضي الله تعالى عنه)، قال لأخي: قفي يا قحبة، لا تقعدي، روحي عنا، فوقف أخي في ناحية من المكان ودعاني الشيخ إليه وأدخلني بين رجليه وأخرج لسانه وحركه كأنه يريد تخويفي به، وقال لي لأجل خاطرك ما ننكد عليها، ونخليها تروح في شفاعتك، والتفت إلى أخي وهو واقف على قدميه وقال له: روحي عنا وخليها لنا هذي مثلنا خارقة مارقة.

يتبين حتمًا من هذه القصة أن حب صلاح الدين الكوراني للشيخ ولولايته والذي بدأت تظهر ملامحه سريعًا تحت تأثير شيخه عمر العرضي، قد نما عنده منذ الصغر، ولا شك أنه كان من مريدي الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا، بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة، ما دام أنه قد رغب أخاه الأكبر منه عمرًا فيه وهو لا يزال صغير السن كما قال. وقد نصل بمفهوم هذا الحب -من خلال سرد صلاح الدين الكوراني لوقائع هذه القصة- إلى بركةٍ يعتقد أنه أصابها من دعاء الشيخ أبي الوفا له، عندما اعتبر روحه خارقةً مارقةً مثل روحه هو.

ولا ينبغي أن نغمط له هذا الشعور الذي أوصله في آخر المطاف إلى تأليف كتاب يردد مناقبه بعد موته، وهو كتاب أراد استكمال ما نقص فيه من شهادات أدرجها حوله كتابٌ آخرون.

كان صلاح الدين الكوراني في الثلاثينيات من عمره عندما توفي أبو بكر بن أبي الوفا، وقد استمر صلاح الدين الكوراني -ذو الشخصية الخارقة المارقة التي تكونت في ظل ما أعطي للشيخ من الولاء المعزز بحب التلميذ له ووفائه- في إحياء ذكراه، إذ سيأتيه شيخه في عالم الرؤيا، ويطلب منه أن يقوم ببعض ما يتعين عليه من الواجبات، وسيظهر في الأخير كما لو أن الشيخ ابن أبي الوفا على علم وهو في عالم الرؤيا بما يـحدث في عالم الدنيا سواءً ما تكتم عليه مريده في السر أو ما ظهر عليه في العلن. وسينظم صلاح الدين الكوراني قصيدة يتعجب فيها من هذه الرؤيا، واصفًا ضريح شيخه كما لو أن به ضجيجًا كذلك الضجيج الذي يعقب جلبة المريدين بالزاوية، وهي إشارة إلى استمرار تدفق نوعٍ من الحياة المجازية في الشيخ الذي غادرها إلى الآخرة. يحكي هذه الحادثة فيقول: كان قد حدث لي حادثٌ فنذرت قربانا للشيخ (رضي الله تعالى عنه) إذا فرجني الله منه فحصل الفرج بإذن الله، ثم مضت أيامٌ نسيت هذا النذر وما أرسلت القربان إلى الجبل وذلك بعد وفاته فنمت ذات ليلةٍ فرأيت الشيخ (رضي الله تعالى عنه) في عالم الرؤيا وهو مقبلٌ علي وفي يده العصا، وقال لي: ليش نسيت القربان، هاتيها ولو كانت نعجةً. فاستيقظت وقت السحر، وأرسلت رسولا إلى دار الغنم ليأتي بالقربان، وقلت له هات قربانًا ولو كان نعجة، فذهب في دار الغنم فلم يجد إلا نعجة بخلاف المعتاد لأن دار الغنم كانت لا تخلو عن الغنم فاشتراها وأتى بها، فتعجبت من إشارة الشيخ (رضي الله تعالى عنه) وبعثتها إلى الجبل وقد ذكرت هذا الأمر في قصيدة التائية التي هي نحو ثمانمائة بيت بهذه الأبيات:وفي الجبل المعمور بابن أبي الوفا ببلْدتنا الشهْبا تتكشف كرْبتي

سمي أبي بكْرٍ وأسْرار صدْقه

مناقبها سارتْ إلى كل بلْدة

ومنْ ينْس نذْرًا يرْعب في الكرى

ليهْرع بالإيفاد منْ بعْد خيفة

ضجيج ضريحٍ بالـمهابة مكْتسى

يوفى إلـى النذْر منْ غيْر نذْرة

ولوْلا رجال الله لانْـخـسفتْ بنا

وجارتْ علينا الأرْض رجًا ورضت

قدمت هيكْنرْ زايتيلنْ فاتنْباوْخْ، في مقالها المنشور بمجلة الدراسات العالمية للشرق الأوسط سنة 2005 والذي يحمل عنوان «الدراويش المنحرفون: الفضاء والجندر وبناء القوى المتعارضة في حلب العثمانية» دراسة عن علاقة الفن والعمارة بالتصوف، واهتمت بدراسة متصوفة حلب زمن الحكم العثماني.

تعتمد كاتبة المقال على الرسائل التي كتبها التاجر البريطاني ويليام بيدولف من حلب عام 1600، وهو يصف الحياة اليومية لحلب، هذا المركز التجاري الديناميكي الذي يصل الشرق بالغرب والذي يعد أحد أكبر الأسواق المغطاة في العالم، في هذه المدينة، أين كان يتم تبادل التوابل والحرير من الهند وإيران مقابل الفضة والملابس الإنجليزية المعبرة عن العالم الجديد، يتساءل التاجر وهو يكتشف الممارسات الإسلامية والمعتقدات الدينية عن تلك السمات التي بدت له أكثر غرابة وإثارة للسخرية والاستهزاء، حيث سيلاحظ أن ذلك الدرويش سيحظى بعد موته بتعظيم المجتمع له وإقامة النصب التذكارية الفخمة فوق قبره وهو لم يكن في حياته إلا غبيًا ومجنونًا. ولدراسة هذه الظاهرة، ستقوم الكاتبة باختيار شخصية أبي بكر بن أبي الوفا، معتمدة على سيرته الذاتية التي قام بكتابتها الكثير من المؤلفين الحلبيين الذين نعد من بينهم صلاح الدين الكوراني. وأول من ترجمه رضي الدين ابن الحنبلي (908-971هـ = 1502-1563م) في در الحبيب في تاريخ أعيان حلب، ثم الشيخ أحمد الحموي العلواني (ت 1608) في كتاب له سماه «أعذب المشارب في السلوك والمناقب»، وتلاه محمد بن عمر العرضي (المتوفى سنة 1615م) في كتابه معادن الذهب في الأعيان المشرفة بهم حلب، ثم صلاح الدين الكوراني في تأليفه الذي سماه «منهل الصفا في مناقب ابن أبي الوفا»، ثم وضع أبو الوفا العرضي (1585-1660) كتابا فيه، ثم الشيخ يوسف بن السيد حسين الحسيني مفتي حلب (1662-1740) الذي أثرى في كتاب حافل بأحواله ومناقبه سماه «مورد الصفا في ترجمة الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا»، ثم الشيخ أحمد القاري (ت. 1632) الذي كتب مؤلفًا عن الشيخ باللغة العثمانية.

تقول هيكْنرْ زايتيلنْ فاتنْباوْخْ، إن كثرة هذه السير لا تدل فقط على حجم التأبين الذي حظي به أبو بكر من قبل كبار السنة في حلب وهو تأبين مدفوع بالحاجة إلى تبرير تلك التقارير المستمرة عن ما عرف عن الدرويش من معارضة ومناهضة، بل أيضًا على محاولة من كتاب حلب لإضفاء الشرعية على الشيخ وذلك من خلال اللجوء إلى علم الأنساب، وإلى السلسلة الروحية التي تدرج فيها، وإلى إثبات معرفته الدينية - تمامًا مثلما تم التأكيد على ارتباطه بحلب. ولقد تم توفير شكل مكتملٍ جدًا لاسمه حيث قدمه الحسيني على أنه سيد منحدر من شجرة علي بن أبي طالب (ت 661) نفسه، وتمت إعادة تشكيل اسمه من حيث أنهم لقبوه بـ«أبو الوفا تاج العارفين». وتضيف الكاتبة: إن إعادة التسمية هذه، وتطريز نسبه، يمثلان تحريرًا لصورة الشيخ المعادي للمجتمع ومناورة منهم لتحويله إلى شخصية قابلة للرجوع إلى بيت الطاعة، تستمد شرعيتها بقدر كبير من حقه العائلي بقدر ما تستمد شرعيتها من تلك العرفانية التي أوتي إياها من عند الله. وتعقيبا على هذا الكلام دون حاجة كبيرةٍ إلى التوسع في هذا الجانب، أورد قصةً تظهر مدى الغضب الذي كان يتملك ابن أبي الوفا من القضاة العثمانيين ذوي الشوكة الذين كانوا يلحقون الظلم بالأهالي. يقول الكوراني: حكى لي شيخ الإسلام الشيخ عمر العرضي قال: كان في حلب قاضٍ اسمه علي أفندي بن سنان، وكان يسمع بأحوال الشيخ وينكر عليه، ثم أراد أن يزور الشيخ ليلا مختفيا حتى لا يعلم الناس أنه زاره، فلما فات وقت العشاء من تلك الليلة وكان مكان الشيخ (رضي ‌الله‌ عنه) خارج البلد، ففتح القاضي باب المدينة وذهب بجماعته متوجها إلى الشيخ، فجاء إلى مكان الشيخ فرأى بابه مقفلا من الداخل وليس فيه حسٌ، فطرق الباب مرارا فما أجابه أحد، فرجع غضبان، فجاء رجل من الذين كانوا عند الشيخ تلك الليلة وأخبر بأن الشيخ لما فات وقت العشاء تلك الليلة قام على قدميه وصاح بالفقراء: سكروا الباب ولا تفتحوه لأحد ولو كسروا الباب واسكتوا كلكم لا أحد منكم يتكلم وأطفئوا الضوء ما لنا حاجة بزيارة الظالمين، فبينما نحن على هذا الحال إذ جاء القاضي وطرق الباب مرارا فلم يفتح له ولا أجابه أحد امتثالا لأمر الشيخ (رضي‌الله‌ عنه)، فرجع القاضي غضبان.قال الشيخ عمر العرضي: فلما سمعت من ذلك الرجل هذا الخبر أسرعت في الذهاب إلى القاضي وأعلمته أن الشيخ (رضي ‌الله‌ عنه) صاحب كشف ولا شك في ولايته، وإنما فعل ذلك معكم تنبيهًا لكم على النظر في أحوال الرعايا وإنصاف المظلوم من الظالم. وسليت خاطره، فاعتقد صحة كلامي وأرسل إلى الشيخ قربانا، فلما وصل إليه القربان قال الشيخ للرسول الآتي به: قول لها تدعي للذي نصحها وإلا كنت أفرجها، فكان الشيخ يشير إلى الشيخ عمر العرضي أنه هو الناصح للقاضي حتى أزال إنكاره عنه، وهذه كرامة وكشف صريح من الشيخ (رضي ‌الله‌ عنه).

وتعتبر مخطوطة «مناهل الصفا في مناقب الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا» استكمالًا لما لم يرد بكتاب أحمد الحموي من أخبارٍ عن الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا، وقد أضاف عليها صلاح الدين الكوراني معلومات جديدة وأبياتا شعرية له، حيث نجد مثلًا في الصفحة 11 من هذا المخطوط عددًا من الأبيات الشعرية التي ذكرها الكوراني في مدح الشيخ ابن أبي الوفا وذكر فضائله.

وإذا تبنينا موقف الكاتبة هيكْنرْ زايتيلنْ فاتنْباوْخْ، فإن صلاح الدين الكوراني سيدلي بدلوه السياسي في دعم التصوف على حساب جهة سياسية ما، وسيتمكن من إيجاد مكانةٍ أخرى تختلف عن تلك التي حظي بها بين العاملين بالقضاء أولا، وهو القطاع الإداري الذي يعد أكثر المؤسسات اقترابًا من السلطة وتقاطعًا مع توجهاتها الأيديولوجية، ثم بين الشعراء ثانيًا.

ولن يجد القارئ لمقدمة صلاح الدين الكوراني دليلًا على نزوعه إلى التصوف فحسب، بل أدلة أخرى تشير إلى حجم ذلك الصراع الذي طغى على الساحة الدينية والعلمية والثقافية لحلب بين المذاهب الدينية من جهة وبين الظاهرة منهم الجاهلة المارقة، والباطنة العارفة الصادقة وهي المؤمنة بالتصوف والولاية. وسيستعين صلاح الدين الكوراني في آخر مقاله ببيت من نظم الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الذي لا نعدم مطلقًا تأثيره في متصوفة حلب، يقول:

(...) إني لما طالعت كتاب الرجل الصالح العالم العالى الشيخ أحمد الحموى الذي جمعه من أفواه الثقاة في مناقب الشيخ أبي بكر بن أبي الوفا قدس سره ورأيته خاليا عن كثير من مناقبه (رضي الله عنه)، وكان في خاطري له مناقب كثيرة بعضها شاهدتها وبعضها سمعتها من الثقاة، وهي في فكري من أقاربي وأبناء عصري، أحببت أن أجعلها لكتابه رسالةً ولسراجه ذبالةً وذيلا لهذه الغلالة، لأنها وقعت في عصره لا محاله، بعد الْتماس تسطيرها لاقتباس نورها ولتكون ذكرى للمعتقدين، واعتبارًا للمعتمدين، وسببًا لإهداء ثوب الفاتحة، إلى روحه المرضية الصالحة، وطلبًا للمدد من أسواره، وهربا من سوء ظن المنكر وإنكاره، وهدية للمحبين وتحفة للصادقين، حيث لا يعتقد [بـ]ـأولياء الله إلا العارف الصادق، ولا ينكرهم إلا الجاهل المارق، كما قال الشيخ محيي الدين وهو الشيخ الأكبر (رضي الله عنه):

يـحبنا كل منْ صحتْ بصيرته

نعمْ، وتبْغضنا العمْيان والعور

الهواري غزالي أستاذ محاضر بجامعة باريس

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: رضی الله عنه على الشیخ إلى الشیخ الشیخ عمر قال الشیخ فی کتاب فی عالم أبو بکر من جهة

إقرأ أيضاً:

(نص) المحاضرة الرمضانية الأولى للسيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي

يمانيون/ صنعاء

نص المحاضرة الرمضانية الأولى للسيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي (يحفظه الله)1 رمضان 1446هـ | 1مارس 2025م

 

أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ جَمِيعِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.

الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.

أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:

السَّـلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

في هذا الشهر المبارك، عادةً ما نبدأ حديثنا بالتركيز على أهمية التقوى؛ باعتبار ذلك من الأهداف الأساسية لفريضة الصيام في شهر رمضان المبارك، وباعتبار هذا العنوان من أهم العناوين، التي أخذت مساحةً كبيرةً في القرآن الكريم؛ باعتبار أهميتها للإنسان نفسه، لنا نحن، نحن بحاجةٍ كبيرةٍ إلى أن نستوعب هذا المفهوم، وأن نسعى للعناية به في واقع حياتنا.

لأهمية التقوى، احتل هذا العنوان، كصفة أساسية بارزة لعباد الله المؤمنين، المرتبة الثانية بعد الإيمان؛ ولـذلك يصف الله عبادَهُ الَّذين استجابُوا لرسالته ودعوته واتَّبعوا هديه بالمؤمنين، ثم تأتي في سياق المواصفات البارزة للمؤمنين صفة المتقين، وأتى الوعد الإلهي بالجنة، والمغفرة، والرضوان، والتوفيق، والهداية، وكثير من الوعود الإلهية أتت في القرآن الكريم مبنيةً على أساس التقوى:

ففي الوعد بالجنة، النعيم العظيم، والسعادة الأبدية، والفوز العظيم، أتى التركيز على عنوان التقوى، يقول الله “جَلَّ شَأنُهُ”: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133]، {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}[مريم:63].

كذلك الكثير من الوعود الإلهية:

سواءً ما يتعلق منها بعاجل الدنيا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (3) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[الطلاق:2-3]. أو ما يتعلق أيضاً بالآخرة، في الحساب وتيسيره، في الجنة، في الفوز العظيم… إلى غير ذلك. فيما يتعلق أيضاً بالارتقاء الإيماني والهداية الإلهية: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}[الأنفال:29].

وهكذا الكثير من الآيات تركز على عنوان التقوى، فعنوان التقوى هو عنوانٌ مهمٌ جداً، فعندما قال الله “جَلَّ شَأنُهُ” عن فريضة الصيام في شهر رمضان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:183]، ندرك أهمية التقوى فيما تعنيه لنا، مما يترتب عليها من نتائج لنا نحن، نحن في أمسِّ الحاجة إلى تلك النتائج والآثار المترتبة على التقوى.

الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هدانا في كتابه الكريم، وعلى لسان رسوله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”، إلى ما تتحقق لنا به التقوى، ما يقينا، ما يقينا من المخاطر، من الشرور؛ ولـذلك فأوامر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ونواهيه، ومن خلال الالتزام بها، تحقق لنا كل هذه النتائج؛ لأن التقوى هي تتمحور حول الالتزام بأوامر الله ونواهيه، هي– في واقع الحال- حالة نفسية تدفع الإنسان إلى الالتزام؛ لأنه يعي المسؤولية تجاه ما يعمل، يدرك أهمية الأعمال، وما يترتب عليها من نتائج.

فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهو الذي خلقنا وأنعم علينا، ويريد لنا الخير، ويريد لنا الفوز العظيم والسعادة الأبدية، لذلك نجد أنه لم يتركنا لنكون في حالة تخبط في هذه الحياة، فنتَّجه على أساس ونحن نبني نحن بأنفسنا في رؤانا، في تصوراتنا، في أفكارنا، ونرسم لأنفسنا الأعمال التي نتصور أنها تحقق لنا الخير، لم يتركنا الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في حالة فراغٍ من هدايته، بل هو ربنا، المالك لنا، المنعم علينا، ولي نعمتنا، ونحن عبيده، في مقام المسؤولية أمامه؛ ولـذلك فهو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ابتدأنا هو بالهداية إلى ما فيه الخير لنا، وما فيه الوقاية لنا، ليس فقط على مستوى ما يقينا من العواقب السيئة للأعمال السيئة، والتفريط في المسؤوليات الكبيرة، بما ينتج عن ذلك من عواقب خطيرة على الإنسان في الدنيا، والعواقب الخطيرة الكبرى في الآخرة، بل أيضاً يدلنا على الأعمال العظيمة، التي تتحقق بها النتائج الكبيرة لنا نحن، من حياةٍ طيبةٍ في هذه الدنيا، كما وعد الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ومن سعادةٍ أبديةٍ (للأبد) في النعيم العظيم، فيما وعد الله به في الآخرة.

لذلك فمن أهم ما يساعد الإنسان على الاهتمام بالتقوى، والالتزام بالتقوى، هو: وعيه بأهمية الأعمال، وما يترتب عليها من نتائج، وإيمانه بوعد الله ووعيده، هذه مسألة مهمة جداً.

عندما نلتفت إلى واقع حياتنا، فنرى من الظواهر المنتشرة في أوساط الكثير من الناس هي: عدم تفاعلهم مع أعمال ذات أهمية كبيرة جداً، أعمال عظيمة، أعمال كبيرة، يسمِّي الله بعضها بالتجارة، مثل: الجهاد في سبيل الله، أعمال يتحقق من خلالها الخير الكبير للإنسان، وكذلك التهاون عند الكثير من الناس تجاه أعمال سيئة، أعمال خطيرة، أعمال يترتب عليها نتائج وخيمة للإنسان في الدنيا، وفي الآخرة بشكلٍ رهيبٍ جداً، هذا كله من نقص التقوى، ونحن قلنا: أن الذي ينقصنا كأمةٍ مسلمة، وعالمٍ إسلامي، ومنتمين لهذا الإسلام، تنقصنا التقوى، النقص هنا في موضوع التقوى.

نعمة الإسلام والانتماء للإسلام هي نعمةٌ عظيمة، تهيئ لنا الفرصة لأن نتَّجه في مسيرة حياتنا على أساس هدى الله، على أساس تعليماته، على أساس توجيهاته، وهنا كل الخير؛ لأن انتماءنا للإسلام: أننا نؤمن بالله، نؤمن باليوم الآخر، نؤمن بكتب الله ورسله، وهذا يهيئ لنا أن تكون انطلاقتنا في مسيرة حياتنا، في أعمالنا، مبنيةً على أساس هذا الإيمان، وهذا الانتماء؛ لكن يحصل الخلل مع غفلة الناس، مع اتِّباع الكثير لأهواء أنفسهم، عندما يتَّجه الإنسان في أعماله وتصرفاته اتِّجاهاً غريزياً، بناءً على الغريزة، على هوى النفس، على رغبات النفس، على شهوات النفس:

سواءً فيما يعود إلى رغبة لشهوة. أو فيما يعود إلى حالة انفعال وغضب، ينتج عنها رغبة لتصرف معين، أو فعل معين، أو ردة فعل معينة. أو فيما يترتب على حالة المخاوف أحياناً لدى الكثير من الناس، التي تؤثِّر عليهم في مسألة التقوى نفسها.

فوعينا من خلال القرآن الكريم، من خلال هدى الله وتعليماته، وما أرشدنا إليه رسوله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، وعينا بأهمية الأعمال، وعدم التهاون تجاه ما نعمل، ما نقوله، ما نتصرف فيه من تصرفات، ما هي مسؤولياتنا في هذه الحياة، هذا الوعي مهم لنا في تحقيق التقوى.

إيماننا بوعد الله ووعيده، والوعد والوعيد أخذ مساحةً كبيرةً جداً في القرآن الكريم؛ لأن من المهام الأساسية لكتب الله ورسل الله هو الإنذار والتبشير:

الإنذار بالتنبيه والتحذير من العواقب السيئة للأعمال السيئة، وما يترتب عليها من العقوبات في الدنيا والآخرة. الإنذار أيضاً بالآخرة وما فيها من الجزاء. وكذلك التبشير على الأعمال الصالحة.

ولذلك خلال شهر رمضان، والإنسان يتلو كتاب الله، عليه أن يتدبر، أن يتأمل، أن يركز على الوعد والوعيد في القرآن الكريم، وعلى ما في القرآن من هدايةٍ مهمةٍ وعظيمة.

من المبادئ الأساسية في الوعد والوعيد هو: مبدأ الجزاء، ما نعمله نجازى عليه، هذا مبدأٌ مهمٌ، الله يقول عن كل نفسٍ بشرية في مقام المسؤولية والتكليف، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[البقرة:286]، هذا المبدأ المهم يجب أن يُرَسِّخه الإنسان في نفسه، وأن يستحضره في ذهنه، في كل مواقع الحياة، في كل مقامات الحياة، في كل ظروف الحياة؛ لأن غفلة الإنسان عن ذلك تجعله يستهتر تجاه ما يعمل، وكأنه لا يجازى عليه، ولا يعاقب عليه، أو لا يتفاعل مع أعمال ذات أهمية كبيرة، جزاؤها عظيم، من ورائها خيرٌ كبيرٌ لهُ.

ولأهمية هذا المبدأ، أتى الحديث عنه كثيراً في القرآن الكريم؛ باعتباره من المبادئ الأساسية، التي ترتبط بعدل الله، وبحكمته أيضاً؛ لأن هذا من عدل الله ومن حكمته، وأيضاً ترتبط بملكه؛ لأنه هو الملك، ملك السماوات والأرض، وملك الناس، لم يخلقنا عبثاً في هذه الحياة لنتصرف كيفما نشاء ونريد، ونعمل كما تهواه أنفسنا، وبما تهواه أنفسنا، ومن دون أن نجازى على ذلك.

الإنسان كلما استحضر هذا المبدأ ورسَّخه في نفسه، كلما التزم بالتقوى؛ لأنه يدرك أنه يجازى على كل ما يعمل، إن خيراً فخيرٌ، وإن شراً فشر، ليست المسألة عبث، ليست عبثاً، ليس الوضع بالنسبة للإنسان مهدوراً؛ ولهـذا يقول الله في القرآن الكريم: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[الجاثية:22]، فمسألة الخلق بنفسها مبنيةٌ على هذا المبدأ العظيم، خلق السماوات والأرض، وخلق الإنسان، خلق الكائنات التي هي في مقام المسؤولية، مبنيٌ كله على هذا المبدأ المهم، لابدَّ من الجزاء، الإنسان سيجازى.

 كذلك الآخرة، اليوم الآخر، يقول الله: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ}[طه:15]، هي آتية الساعة، ونحن آخر الأمم، ومسيرة الحياة البشرية قريبة من النهاية، والقيامة قريبة، {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}[القمر:1]، {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15].

يقول الله أيضاً: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم: 39]، فمصيرك أنت هو مرتبطٌ بسعيك، بعملك، مسألة مصير، العمل ليس مسألة عادية، مصيرك الأبدي متوقفٌ على أعمالك، مرتبطٌ بها، {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى}[النجم:40-41]، فنتائج الأعمال وتبعاتها بحسبها، يعني: إن كان اتِّجاه الإنسان قائماً على الإيمان، والعمل الصالح، والاستجابة لله تعالى، والاستقامة، والتقوى، كان هذا المسار مساراً عظيماً، وفق وعد الله “جَلَّ شَأنُهُ”، أنت تحصل على الجزاء من الله، لن تُظْلَم، لن يضيع عليك من عملك الصالح ولا مثقال ذرة، ولا أي شيء أبداً.

 يقول الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}؛ ولــذلك عندما يُدعى الإنسان إلى ما هو عملٌ صالح، فيتصور المسألة وكأنها عبءٌ إضافيٌ، كأنه شيءٌ لا يعنيه، وحملٌ وعبءٌ عليه، هذا نقص في استيعاب هذا المفهوم، أنه لنفسك أنت، أنت المستفيد من ذلك، لهذا نتائج لك أنت، منها ما يأتيك في هذه الدنيا، ومنها ما يأتيك في الآخرة، في مستقبلك الأبدي والدائم، وعلى مستوى عظيم جداً، على مستوىً عظيم من النعيم، من التكريم، من الجزاء العظيم.

لو استوعب الإنسان ورسَّخ في نفسه هذا المبدأ المهم، لما كانت نظرته أبداً إلى الأعمال الصالحة، إلى الأعمال العظيمة، إلى ما يدعونا الله إليه، وكأنه عبء، وكأنه حِمْل، وكأنه مشكلة يسعى للخلاص منها، أو كأنه شيءٌ ثانوي لا يعنيه وليس له صلةٌ به.

{وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}، كذلك جرأة الإنسان في الأعمال السيئة، والتصرفات السيئة، والأفعال والأقوال السيئة، هذه الجرأة هي ناتجةٌ عن غفلة، أو عدم إيمان؛ إمَّا أن الإنسان يتناسى ويتغافل أنه يسيء على نفسه، يُحَمِّل نفسه الأوزار على مستوى ما يقوله من الأقوال السيئة، كل كلمة سيئة يترتب عليها نتائج تعود عليك أنت، وكذلك الأفعال والتصرفات، التي قد ينطلق الإنسان فيها كما قلنا:

إما بشهوة، اتِّباعاً للشهوات والأهواء. وإمَّا في إطار الغضب والانفعال، وهي كذلك رغبة مبنية على حالة غضب. أو في إطار المخاوف.

أي حالة من الدوافع التي تؤثِّر على الكثير من الناس، لكن عندما يدرك الإنسان أنه يسيء على نفسه، يتحمل هو التبعات والعواقب لتلك الإساءة، سواءً كانت بشكل عمل، أو موقف، أو كلام… أو غير ذلك، {وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}.

عِظم الجزاء يدل على عظيم المسؤولية بالنسبة للإنسان، يعني: ليست المسألة حتى في مسألة الجزاء أنه جزاء عادي، هناك جزاء يحصل في الدنيا، جزءٌ منه فيما وعد الله به في الدنيا، وهو شيءٌ له أهميته بالنسبة للإنسان، وعد الله المؤمنين المتقين بالحياة الطيِّبة، بالعزَّة، بالنصر، بأشياء كثيرة وعدهم بها في الدنيا، بالخير، بالبركات… كلها ذات أهمية، وتمثل حاجةً كبيرةً للإنسان، على المستوى الشخصي، وعلى المستوى الاجتماعي كمجتمع.

ولكن ليس هذا فحسب، هناك أيضاً الآخرة، ما يأتي في الدنيا هو شيءٌ من الجزاء، نسبة محدودة من الجزاء، لكن يوفَّى الإنسان جزاءه في الآخرة، الآخرة التي هي مصيرٌ أبديٌ خيرها خالصٌ عظيمٌ جداً جداً على أرقى مستوى، فيما يتعلق بالتكريم المعنوي، فيما يتعلق بالنعيم المادي، والإمكانات المادية، والحياة المادية، والتكريم فيما هو في مرحلة الحساب، في ساحة القيامة، وفيما هو في الجنة، الجنة التي قال الله عنها: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:133]، الجنة التي فيها كل أنواع النعيم المادي الذي يشتهيه الإنسان، {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}[الزخرف:71]، ولكن على أرقى مستوى، بما عَبَّر عنه رسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”: ((فِيْهَا مَا لَا عَينٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَت، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلبِ بَشْر))، أرقى نعيم، يعني: جزاء عظيم جداً، وللأبد {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}[الكهف:108]، يستقرون للأبد، بسعادة دائمة، بنعيمٍ عظيمٍ مستمرٍ، ليس فيه هرم، ولا مرض، ولا هم، ولا غم، ولا أي منغصات أبداً.

والشر في الآخرة كذلك شرٌ خالص، ليس معه أي لحظة من الراحة، أو لحظة يُفْرَج عن الإنسان ما هو فيه من الشدة والعذاب، على المستوى النفسي، وعلى المستوى الجسدي، بدءاً من ساحة القيامة، في هول الحساب، في تشديد الحساب، في الخزي يوم الحساب، في الحسرات والندم الشديد جداً؛ ثم في الذهاب إلى جهنم، في الحشر إلى جهنم، في العذاب في النار والعياذ بالله، الاحتراق الدائم في نار جهنم، العذاب بكل ما فيها: بشرابها الحميم والصديد، بطعامها الزقوم، الذي {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ}[الدخان:45-46]، بكل ما فيها من العذاب الشديد جداً، الذي لا ينفك عن الإنسان ولا لحظةً واحدة، ليس فيها ولا بمستوى ثانية واحدة، ما يعادل ثانية واحدة يمكن للإنسان أن يرتاح فيها، يطلبون يوماً واحداً يخفف عنهم فيه العذاب على مستوى التخفيف، ولا يستجاب لهم، يعني: شرٌ رهيب، في مقابل الخير الخالص، والسعادة الأبدية، وللأبد كذلك، {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}، {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167].

فالجزاء الكبير في الآخرة، الذي هو مصيرٌ أبدي، يدل على ماذا؟ على أهمية مسؤوليتنا في هذه الحياة، على الأهمية الكبيرة لأعمالنا، التي نعملها بدون مبالاة، أو اكتراث، أو لا ندرك أهميتها، فالإنسان بحاجة إلى أن يصحح نظرته تجاه الأعمال، في مجال الخير، وأهميتها الكبيرة، وما يترتب عليها، وفي مجال الشر كذلك، وما يترتب عليها.

ولهـذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}[لقمان:8]، في مقابل الإيمان والعمل الصالح هناك هذا الفوز العظيم: {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}، فهي أعمال ذات قيمة كبيرة، لها أهميتها بالنسبة لمستقبلك الأبدي والدائم، لأن يكون في جنات النعيم، {خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[لقمان:9]، فكيف لا ترغب؟ كيف لا تتوفر لديك الدوافع للعمل الصالح، للأعمال التي دعاك الله إليها، وهي أعمال عظيمة، أعمال هي شرفٌ لك في هذه الحياة، أعمال هي مُيَسَّرة في هذه الحياة، الله يسَّر للإنسان أعمال الخير، ليست في أصلها شاقّة، بالقدر الذي هناك في مقابلها من الأعمال السيئة مشاق أكبر، مشقتها قد تكون في المستوى المعتاد لظروف الحياة، ومع ذلك يأتي التيسير حتى في هذه النسبة من المشقة، التي هي في المستوى المعتاد في ظروف حياة الناس في سائر أعمالهم، حتى الأعمال العادية جداً، التي هي أعمال في معيشتهم وكسب حياتهم، وما يترتب على ذلك.

فهذه الأعمال، التي لها أهمية كبيرة، كُلّ عمل تنجزه له مقابل عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في إطار هذا الوعد العظيم: الجنة، وما فيها من النعيم، فكل عمل من الأعمال الصالحة هو رصيدٌ لك، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزمل:20]، يعني: شيءٌ لك أنت، أنت المستفيد منه، لا تتصور وكأنك أسديت جميلاً لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هو غنيٌ عنك، غنيٌ عن أعمالك، أنت أنت المستفيد.

يقول الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس:26]؛ لأن الله يزيدهم من فضله، هناك ما هو يقابل عملك من الجزاء العظيم والكبير والمهم في مقابل الأعمال الحسنة، أنت كنت محسناً في هذه الدنيا، تعمل الأعمال الحسنة، وتحسن إلى عباد الله؛ لأن عنوان الإحسان هو يشمل أن تكون أعمالنا أعمالاً حسنة، في مقابل الأعمال السيئة، ألَّا نسيء في تصرفاتنا، في أقوالنا، في أعمالنا، هذا يتحقق للإنسان بالتزامه بتوجيهات الله وتعليماته وأوامره، وانتهائه عن نواهيه، هذا يحقق لك أن تكون أعمالك أعمالاً حسنة، وأن تكون محسناً في أعمالك وتصرفاتك، وليس مسيئاً، وكذلك في قيمة الإحسان إلى عباد الله، في فعل الخير لهم، في فعل البر إليهم، في العطاء لهم… في كل أشكال الإحسان التي إليهم، (وَزِيَادَةٌ) من الله، زيادة واسعة وكبــــيرة من فضله العظيم، زيادة على ما يقابل جهدك وعملك، يكافئك الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.

مع أن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بكرمه العظيم، فيما قرره للإنسان في مقابل الأعمال، من البداية بنى المسألة على الزيادة: الحسنة بعشرة أمثالها، ثم هناك أبواب من الأعمال عليها مضاعفات كبيرة للثواب والأجر، في الإنفاق في سبيل الله الحد الأدنى هو سبعمائة ضعف، مواسم كما في شهر رمضان، الحد الأدنى من المضاعفة في شهر رمضان إلى سبعين ضعفاً، يعني: من البداية هناك زيادات، ثم فوق هذه الزيادات في الأجر، في الثواب، في الفضل، في مقابل الإحسان، هناك أيضاً ما هو زيادة على كل ذلك من فضل الله في الآخرة.

{وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ}[يونس:26]، في ساحة الحساب، في ساحة القيامة، والمسيئون في وضعٍ رهيب جداً، لشدة ما هم فيه من الحزن، والندم، والأسف، والحسرات، والخوف، تظهر على وجوههم تلك الحالة، تلك الكآبة الشديدة في وجوههم، في ألوان وجوههم، سواداً وقتراً؛ لكن في واقع الآخرين المحسنين، الذين استجابوا لله، في ما هم فيه من الفرح، من السرور، وأدركوا قيمة أعمالهم، نتيجة جهودهم، النتيجة العظيمة وفق وعد الله لهم، الطمأنة من ملائكة الله، البشارات تلو البشارات، فهم في حالة فرح وسرور، يتجلى ذلك السرور على وجوههم، وعلى ألوانهم، فيما هم فيه من حالة الفرح.

{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[يونس:26]، مصيرهم الجنة، في عالم الجنة، للخلود الأبدي والدائم، فكانت النتيجة هي هذه النتيجة: السعادة للأبد، والهناء بالحياة الأبدية.

{وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[يونس:27]، هذا هو المصير، مصيرك عندما تكسب في هذه الحياة السيئات، الأعمال السيئة، بتصرفاتك، بمخالفتك لأوامر الله ونواهيه؛ لأنك خضعت لأهواء النفس، لأماني النفس، تأثرت بوساوس الشيطان، اتَّجهت الاتِّجاه السيئ، فأنت كسبت على نفسك من الأعمال السيئة ما كان به مصيرك إلى جهنم والعياذ بالله، حسراتك يوم القيامة، أسفك وندمك، خوفك الشديد يتجلى على وجهك إلى هذه الدرجة: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا}، قطعة من السواد، من سواد الليل على وجهك، تعبِّر عن حجم ما في نفسك من الهم، والغم، والحسرة، والندم، والخوف الشديد، ومع ذلك لا ترى لنفسك أي فرصة على الإطلاق لتلافي وضعك آنذاك؛ لأنك فوَّت الفرصة الوحيدة، وهي: حياتك في هذه الدنيا، ليس وراءها أي فرصة أبداً.

والإنسان يدرك قيمة العمل وأهمية العمل حتى في لحظة الموت، {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}[المؤمنون:99-100]، لكن لا يفيد الإنسان هذا أبداً، في الآخرة، في مواقف الحساب والقيامة كذلك.

لـذلك من خلال تأملاتنا في القرآن الكريم، تلاوتنا لكتاب الله في هذا الشهر الكريم، علينا أن نعي جيداً أهمية الأعمال، أهمية التقوى فيما تعنيه لنا، فيما يترتب على أعمالنا من نتائج في الآخرة، أن نُرسِّخ إيماننا بوعد الله ووعيده، أن نتأمل ما ورد في القرآن الكريم من الوعد الإلهي والوعيد الإلهي، هذا شيءٌ مهمٌ جداً بالنسبة لنا؛ لكي ندرك أهمية التقوى، ونركز عليها في هذا الشهر، كحصيلة ومكتسب مهم وعظيم لنا، نستفيده من صيام شهر رمضان.

نكتفي بهذا المقدار، وإن شاء الله نبدأ من محاضراتنا القادمة، من بعد هذه المحاضرة، لنستأنف ما كنا بدأناه في شهر رمضان من العام الماضي في القصص القرآني.

نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنَّا وَمِنْكُمُ الصِّيَامَ وَالقِيامَ وَصَالِحَ الأَعْمَال، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِنَكُونَ فِي عِدَادِ عِبَادِهِ المُتَّقِين.

وَنَسْألُهُ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسرَانَا، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.

وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

مقالات مشابهة

  • بيئة صلاح الدين ترصد نفايات طبية مكدسة خلف مستشفى تكريت
  • نص المحاضرة الرمضانية الثالثة للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1446هـ
  • مصرع امرأة وإصابة 4 أشخاص بحادث سير في صلاح الدين
  • مسلسل جودر 2 الحلقة الثانية.. سر الخلاف بين جودر والشيخ عبد الرحيم
  • بهجلي يجري اتصالا مع القيادي الكردي صلاح الدين دميرطاش!
  • ضبط 7 أطنان من الأدوية المهربة في صلاح الدين
  • الدردير يشيد بأداء صلاح الدين مصدق.. تفاصيل
  • شيخ الأزهر: الاختلاف بين السنة والشيعة كان في الفكر والرأي وليس في الدين
  • نص المحاضرة الرمضانية الأولى للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1446هـ
  • (نص) المحاضرة الرمضانية الأولى للسيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي