مقدمة الترجمة

لدى العديد من المليارديرات وأصحاب الشركات الكبرى حول العالم اليوم اعتقاد راسخ بأن الديمقراطية تقف عائقا أمام ازدهار أعمالهم، وأن تبنّي أنظمة غير ديمقراطية مهم لخلق مجتمعات منتجة ومزدهرة اقتصاديا، ولا تُعد أميركا نفسها ومليارديرات وادي السيليكون استثناء من ذلك في نظر المؤرخ "كوين سلوبوديان" الذي يستعرض كل ذلك في كتابه "رأسمالية مُتصَدِّعة: راديكاليو السوق وحلم عالم بلا ديمقراطية" (Crack-Up Capitalism: Market Radicals and the Dream of a World without Democracy)، ويقدم آدم لووِنستين، الكاتب المهتم بقضايا المناخ ورأس المال ونفوذ الشركات، مراجعة لهذا الكتاب، نشرتها مجلة "الأتلانتيك" الأميركية.

نص الترجمة

بحلول عام 2017، كان الممول الملياردير "راي داليو" قد وضع شركته "بريدج ووتر وشركاه" على رأس أكبر صناديق التحوُّط في العالم (التي تُعرف أيضا بالمَحَافِظ الوقائية). وعلى غرار الكثير من المديرين التنفيذيين الأثرياء، كان "راي" قد بدأ أيضا إعادة تعريف نفسه باعتباره "رائدا فكريا" يشتبك باستمرار مع موضوعات مثل الجغرافيا السياسية والتعليم الحكومي وثقافة بيئة العمل.

في خريف ذلك العام، أجرى "مايكل ميلكِن"، ملياردير آخر شبيه قضى مؤخرا عقوبة بالسجن على خلفية تهم احتيال، مقابلة مع داليو، وعلى المسرح المضيف للمقابلة في مدينة سانتا مونيكا بولاية كاليفورنيا، أشاد داليو بـ"لي كوان يو"، الذي يُعد مؤسس سنغافورة الحديثة، قائلا إنه "على الأرجح أعظم زعيم في الخمسين أو المئة سنة الماضية". لقد حوَّلت فترة حُكم "لي" سنغافورة في غضون ثلاثة عقود مما سمّاه داليو "مستنقع موبوء بالبعوض" إلى اقتصاد نشط يبلغ فيه نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي أكثر من نظيره في الولايات المتحدة. وقال داليو: "إنه كان رجلا قويا بحق، ففي ظِل حُكمه ساد الحزم والصرامة فيما يتعلق بمعنى أن تكون مواطنا صالحا". بالنسبة لنُقَّاد "لي"، فإن ما فعله ليس ببعيد عن الحكم الاستبدادي.

تُصنَّف سنغافورة اليوم بأنها دولة "حرة جزئيا" بحسب منظمة "فريدوم هاوس" لحقوق الإنسان. وقد تولَّى حزبُ "العمل الشعبي" الحاكم السلطةَ منذ تولي "لي" الرئاسة عام 1959، كما أن نجله "لي شيَن لونغ" يتولَّى رئاسة الوزراء منذ عام 2004، ونادرا ما يُسمح بالاحتجاجات السياسية في البلاد. وقد قال "لي" الأب يوما ما: "نحن مَن نقرر ما الصواب، ولا نضع في الحسبان ما يراه الشعب".

في الوقت نفسه، تُعد سنغافورة قوة اقتصادية، والفضل في ذلك جزئيا يرجع إلى تكاملها العميق مع السوق المالية العالمية، وتدفقاتها الضخمة من رأس المال الدولي، وإنتاجية مئات الآلاف من العمال المهاجرين مسلوبي الحقوق المُكدَّسين في مساكن مُشتركة رخيصة. بالنسبة إلى مجموعة صغيرة ذات نفوذ من المسؤولين التنفيذيين بالشركات الكُبرى، إلى جانب عدد من المستثمرين وذوي الأيديولوجيا المتحررة، فإن "ديكتاتورية سنغافورة الرحيمة" كما سمّاها أحدهم تُقدم نموذجا لما يمكن أن يكون عليه نظام تُحرِّكه قواعد السوق حينما لا تُشكِّل المخاوف بشأن الديمقراطية عائقا على الطريق. في كتابه الجديد "رأسمالية متصدعة: راديكاليو السوق وحلم عالم بلا ديمقراطية"، يُركِّز "كوين سلوبوديان" على هذه الشخصيات، ويضعها في بوتقة واحدة ويُطلِق عليهم "راديكاليو السوق"، الذين يبدو أن تأثيرهم في اليمين السياسي آخذ في النمو.

الرأسمالية الراديكالية.. من تاتشر إلى وادي السيليكون

يسعى سلوبوديان، مؤرخ الفِكر بكلية "ويليسلي" الأميركية، إلى فهم كيفية تقويض راديكاليي السوق للديمقراطية، ويولي تحليله تركيزا خاصا على رؤية بعينها يرى أنها مشتركة بين مجموعة متنوِّعة من الشخصيات، تتضمن رئيسة وزراء بريطانيا السابقة "مارجرِت تاتشر" ومليارديرَيْ وادي السيليكون "بيتر ثيل" و"مارك أندرسِن". وتتفاوت طريقة التعبير عن هذه الراديكالية تفاوتا كبيرا.

فهناك مديرون تنفيذيون ومستثمرون يجوبون العالم بحثا عن ملاذات لمضاعفة ثرواتهم، ومع أنهم ربما لا يعارضون الديمقراطية بقوة، لكنهم بالفعل ينظرون إلى الحريات المدنية والسياسية باعتبارها أمورا ثانوية تأتي بعد سلاسة الاقتصاد واستقرار المجتمع، بل ويردد بعضهم مقولة أكثر الاقتصاديين مناصرة للحرية المطلقة للاقتصاد، "ميلتون فريدمان"، الذي أعرب ذات مرة عن أسفه من أن "الديمقراطية السياسية تنطوي على عوامل من شأنها تدمير الحرية الاقتصادية". على الجهة الأخرى الأكثر تطرفا، هناك شخصيات ذات أيديولوجيا متحررة على غرار حفيد فريدمان، "باتري"، الذي يؤيد ما يُعرَف بـ"التملك البحري بوضع اليَد" (Seasteading)، أي إنشاء مجتمعات انفصالية (لا تفرض الضرائب) تتأسس على مواقع في المياه الدولية، ومن ثمَّ لا تكون أسيرة القوانين واللوائح التطفُّلية التي لا تناسب مؤسسي هذه المجتمعات.

كتاب "رأسمالية متصدعة: راديكاليو السوق وحلم عالم بلا ديمقراطية" لـ "كوين سلوبوديان" (مواقع التواصل)

حسبما يوضح كتاب "رأسمالية متصدعة"، فإن ما يوحد راديكاليي السوق هو القناعة بضرورة تشكيل مجتمعات تعطي الأولوية لرؤوس الأموال على حساب الشعوب. ويرسم الكتاب ملامح الجَبْرية العميقة بشأن الديمقراطية -وأحيانا الازدراء الصريح لها- المترسخة في قرارة الكثير من راديكاليي السوق. وكما يصوغ سلوبوديان المسألة، فإنهم يعتقدون أن الديمقراطية، أي الحكم الذاتي الذي يتسم بمشاركة المواطنين، والحريات المدنية والسياسية، وتدابير الحماية للناس، وممثلي الشعب المتجاوبين وحتى المُلزَمين بتنفيذ مطالب الشعب؛ لا توفر بيئة مناسبة لتحقيق أقصى أرباح مُمكنة.

ومع ذلك، فإن مناهضة الديمقراطية لا تنطوي على مناهضة الحُكم، فكما اتضح من المطالب المستميتة للرأسماليين المغامرين وغيرهم من المستثمرين الأثرياء بوضع خطة تنقذهم من بنك وادي السيليكون، فإن راديكاليي السوق يهتمون بسلطة الدولة ومواردها، ما دامت السلطة تعطي الأولوية لقدرتهم على ممارسة التجارة. وقد كتب سلوبوديان: "إنهم لا يهدفون إلى توجيه ضربة مدمرة للدولة، بل إلى الاستحواذ عليها وتفكيكها وإعادة بنائها تحت ملكيتهم الخاصة". ويشير كتاب "رأسمالية متصدعة" إلى طموح راديكاليي السوق، الذي يفوق كل شيء آخر، في استغلال حقوق العمال والمواطنين، وعدم الاستقرار السياسي، والقيود على تدفق رأس المال، ووضع موارد الدولة -سواء كانت البشرية أو الأراضي أو النظام القضائي- تحت تصرفهم. ويعتقد هؤلاء أن هذا النهج سينتج عنه في المقابل مجتمع أكثر ازدهارا ذو مزايا ستعود على الجميع في نهاية المطاف.

في الفترة التي سبقت تصويت بريطانيا على مغادرة الاتحاد الأوروبي عام 2016، كان الكثير من المؤيدين للبريكسِت يعتقدون أنه بمجرد التحرر من قوانين الاتحاد الأوروبي ستصبح بريطانيا نسخة من "سنغافورة على نهر التَايمز". ولكن كما أوضح سلوبوديان، حَمَل هذا التصور الخيالي فَهما معكوسا للأمر، إذ لا ينبع ازدهار سنغافورة الاقتصادي من "غياب" الدولة، بل اعتمد نموها جزئيا على إحكام الحكومة سيطرتها على الشعب اجتماعيا وسياسيا.

اقتصاد بلا سياسة يرى الكثير من راديكاليي السوق أنهم يقاتلون لتحرير الإنسانية وتخليص الأسواق من طغيان الحكومة والبيروقراطية. (شترستوك)

لا تعدو سنغافورة كونها إحدى دول العالم العديدة ذات النظام القضائي الذي تستخدم فيه الحكومة سلطتها للتخلص من القواعد والقوانين التقليدية، لا سيما تلك المتعلقة بالضرائب. وتوجد هذه "الجيوب" حول العالم لكنها تتفاوت من حيث حجمها ونطاقها وخصائصها. وقد تكوَّن بعضها، منها سنغافورة وليختنشتاين، على هيئة دول مستقلة، فيما تكوَّن بعضها الآخر على شكل مشروعات تنموية تلقى ترويجا واسع النطاق، مثل منطقتي "كناري وارف" في لندن و"هَدسون ياردز" في نيويورك. ولا تزال هناك مناطق أخرى بالكاد تلحظها عين، فربما تكون شديدة الصغر ولا تتجاوز عددا ضئيلا من البنايات.

أسَّست التخفيضات الضريبية التي أقرَّها ترامب عام 2017، على سبيل المثال، "مناطقَ فُرَص" كان من المفترض لها بحسب "دائرة الإيرادات الداخلية" (مصلحة الضرائب الأميركية) "تحفيز النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل في المجتمعات منخفضة الدخل إلى جانب توفير مزايا ضريبية للمستثمرين". وفي تلك المناطق، تدعم الحكومة الأميركية المستثمرين من القطاع الخاص بالسماح لهم بتجنب دفع ضرائب على أرباح رأس المال في حال حافظوا على استثماراتهم لمدة عقد على الأقل. (وتوجد حاليا أكثر من 8700 منطقة فرص في أنحاء الولايات المتحدة، وتضم العاصمة واشنطن وحدها 25 منطقة منها).

بعض تلك المناطق التي تلقى تقديرا كبيرا من راديكاليي السوق موجودة في دبي. وعلى غرار سنغافورة، ترحب الإمارة الخليجية ترحيبا كبيرا بالأموال الأجنبية، كما أنها سريعة التجاوب مع رغبات الشركات والمستثمرين. هذا إلى جانب استعدادها للحفاظ على أنظمة قضائية مختلفة، ما يسمح للمستثمرين والشركات بانتقاء الترتيب الأفضل والأنسب لها.

بيتر ثيل، المؤسس المشارك لشركة PayPal وPalantir Technologies وFounders Fund (غيتي)

الأهم من ذلك كله هو أن دبي، التي تُحكم بنظام ملكي، آمنة عموما من أي تهديد للاستقرار السياسي أو المعارضة. أما منطقة جبل علي الحرة في دبي، وهي ميناء ضخم يضم صناعات تتضمن سلع التجزئة، والبتروكيماويات، والبترول والغاز، ويُوصف الميناء بأنه "أكبر منطقة تجارية حرة في العالم"؛ فإنها تجذب المستثمرين من أنحاء العالم بفضل غياب الضرائب على دخول الأفراد أو الشركات، وأيضا بفضل العمالة الرخيصة وقلة الرقابة على حقوق العمال. هذا الخليط من السمات جعل دبي ومثيلاتها مراكز لرأس مال المستثمرين ومصالح الشركات. لكن دبي جذبت أيضا فئة أخرى من راديكاليي السوق، وهم التحرريون الذين يجدون إلهاما في نموذجها "غير الديمقراطي". فمن بين أشد المعجبين بدبي مهندس البرمجيات والمدون "كُرتِس يارفِن"، الذي يُشار إليه أحيانا باسم شهرته "مِنسيوس مولدبَغ"، وقد وصف دبي باعتبارها دليلا على أن "السياسة ليست ضرورية لخلق مجتمع حديث حر ومستقر ومُنتِج".

لعل يارفِن ليس اسما معروفا لدى معظم الأميركيين، لكنه جذب انتباه بعض أقوى الشخصيات اليمينية، ومنها "ستيف بانون"، و"تاكر كارلسون"، و"بيتر ثيل"، وهو أحد أسخى المانحين للحملات الانتخابية التابعة للجمهوريين في الدورات الانتخابية مؤخرا. وفي عام 2022، كتب ثيل (وهو صديق يارفِن) أنه "لا يؤمن بانسجام الحرية مع الديمقراطية"، كما استثمر عشرات الملايين من الدولارات في حملات عضوي مجلس الشيوخ "جيمز ديفيد فانس" و"بلَيك ماسترز"، اللذين أشادا بأعمال يارفِن بحسب تقرير لموقع "ڤوكس". حتى إن يارفِن دعا في مدونته إلى استلهام الولايات المتحدة بعض مزايا دبي الأكثر نيلا لإعجابه -وبالتحديد الحُكم غير الديمقراطي-، إذ يُصبَح مثاليا من وجهة نظره أن يحكم الولايات المتحدة مدير تنفيذي "دون أي تدخل من الكونغرس أو القضاء". ولا ينحصر وجود هذه الرؤية للعالم في فضاء الإنترنت فحسب، إذ يرجح سلوبوديان أنها بدأت تتغلغل في أحد أكبر الأحزاب الأميركية.

يقول الكثير من راديكاليي السوق إنهم يقاتلون لتحرير الإنسانية وتخليص الأسواق من طغيان الحكومة والبيروقراطية. ويزعم المفكرون والمستثمرون، لا سيما المنبثقين عن وادي السيليكون، أنهم يخترقون الدولة لجعلها أكثر كفاءة وفاعلية. بيد أنه بحسب سلوبوديان فإن الكثير من هؤلاء الذين اعتبروا أنفسهم من دعاة الثورة على الوضع القائم، هم في الواقع لا يريدون سوى الثورة على القواعد مثل الحريات المدنية والسياسية، التي ربما تهدد مصالحهم.

___________________________________________

ترجمة: هدير عبد العظيم

هذا التقرير مترجم عن The Atlantic ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الولایات المتحدة وادی السیلیکون أن الدیمقراطیة رأس المال الکثیر من الذی ی

إقرأ أيضاً:

لعنة ميونخ تعود من جديد

"ميونخ" هو الاتفاق الذي أبرمته بريطانيا وفرنسا مع هتلر في ميونخ، بعد استيلائه على تشيكوسلوفاكيا، سنة 1938 أقرتا فيه بالأمر الواقع، تجنبًا للحرب.

ظل ما يسمى بروح ميونخ، لعنة في وجدان الغربيين، يحيل إلى الانهزامية التي لم تُفد في شيء؛ لأنها لم تعصم من المواجهة.

فهل تكون مغازلة ترامب لبوتين ميونخ جديدة؟ أي التضحية بأوكرانيا، من أجل تجنب حرب عالمية ثالثة.

لوّح الرئيس ترامب في تقريعه للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في اللقاء الشهير بالبيت الأبيض، بخطر حرب عالمية ثالثة، وحمّله مسؤولية ذلك، إن هو تمادى في رفض "عرض السِّلم".

التاريخ لا يتكرر، ولكن من الواضح، أن العالم عاش تحولًا إستراتيجيًا، غير مسبوق في غضون أسبوعين، بعد اللقاء الخائب في البيت الأبيض ما بين الرئيس الأميركي ترامب والرئيس الأوكراني زيلينسكي (28 فبراير/ شباط 2025)، ثم خطاب الاتحاد للرئيس الأميركي أمام الكونغرس (4 مارس/ آذار)، فاجتماع رؤساء الدول الأوروبية في بروكسل (6 مارس/ آذار) من أجل وضع لبنة دفاع مشترك خارج المظلة الأميركية.

وقبل هذا وذاك، الاجتماع الدوري الذي انعقد في شهر فبراير/ شباط حول قضايا الأمن بميونخ، واعتبار نائب الرئيس الأميركي فانس في خطابه، أن ما يتهدد أوروبا ليس الصين ولا روسيا، وإنما الخطر الداخلي، بضربها عرضَ الحائط بالقيم الغربية، ومنها الديمقراطية وحرية التعبير.

إعلان

نحن الآن في بداية مسار يهيئ لتحولات جذرية، هي أكثر من تحالفات ظرفية، أو تموقع تكتيكي، لانزياح إستراتيجي، يهم القوى الكبرى الفاعلة؛ الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وأوروبا، مما سينعكس على العالم بالتبعية.

هناك قوى ترقُب ما يعتمل، بتوجس، بل بهلع، كما كوريا الجنوبية، واليابان، وتايوان، التي تخشى تخلّي الولايات المتحدة عنها، وأخرى ترصد التطورات السارية، لتعيد تموقعها.

أول التغييرات، هو ما يرتبط بالغرب نفسه، أو تحديده على الأصح. كان الغرب يبدو وحدة متراصة، في التقاء مرجعية قيمية وفضاء جغرافي يتكون من الولايات المتحدة، وأوروبا، فضلًا عن أستراليا، ونيوزيلندا واليابان وإسرائيل.

يُعرِّف بعض الإستراتيجيين الغرب بالقوة العسكرية ممثلة في الناتو، والقوة الاقتصادية والمالية ممثلة في السبعة الكبار، والقوة الاستخباراتية، أو ما يسمي بخمس عيون: (الولايات المتحدة، كندا، بريطانيا، أستراليا، نيوزيلندا)، وكلها في ركاب الولايات المتحدة.

تُنهي التحولات الجارية هذه التعريفات عن الغرب، مما يجعل من العسير صمود مصطلح ائتلاف الغرب الذي كانت تستعمله روسيا، في شيء من الزراية.

يقوم تمايز بداخل الغرب، بين غرب تقليدي، محافظ، تحمله الشعبوية اليمينية، ينبني في اختزال شديد على محددين: إنسان أبيض ومسيحي، من جهة، وغرب ليبرالي، من جهة أخرى.

تلتقي الأحزاب الشعبوية اليمينية حول قيم مشتركة، على المستوى الداخلي، محورها ما يسمى اللاليبرالية الديمقراطية، أي أنها تستمد شرعيتها من الشعب، وترى أنها من يعبر عن الديمقراطية، وترفض هيمنة النخب، وبنيات "الدولة العميقة"، وترفض الليبراليةَ سواء أكانت اقتصادية، أم ثقافية، أو اجتماعية، ويتغلغل هذا التوجه في كل من الولايات المتحدة، وأوروبا، في شكل أممية شعبوية تنبني على توجهات موحدة على مستوى السياسة الخارجية.

إعلان

إلى ذلك، لا تتعارض الشعبوية اليمينية الغربية مع الشعبوية اليمينية غير الغربية، كما في روسيا، أو الهند.

 التحول الجيو-سياسي الدراماتيكي الأكبر هو الذي يهم الولايات المتحدة، وقد رسم ملامحه الرئيس الأميركي، في خطاب التتويج (21 يناير/ كانون الثاني)، وخطاب الأمة الموجّه إلى الكونغرس (4 مارس/ آذار).

وهو يضرب صفحًا عن القواعد المتعارف بها في العلاقات الدولية، كما التعاون، واحترام القانون الدولي، والدبلوماسية متعددة الأطراف، والقيم، ليغدو محددَّ السياسة الخارجية الأميركية أمنُها القومي، ورسم مناطق نفوذ، وإجراءات حمائية، اقتصاديًا ولو أدى الأمر إلى حروب تجارية، واجتماعيًا، مع الحد من الهجرة، بل وضع اليد على مناطق من العالم باسم الأمن القومي، كما غرينلاند، وقناة بنما.

لا يعدم ترامب مؤيدين داخل الولايات المتحدة وخارجها. كل الاتجاهات الشعبوية اليمينية، تمشي في ركابه، من جورجيا ميلوني في إيطاليا، وفيكتور أوربان في هنغاريا، ممن هم في المسؤولية، واتجاهات يمينية مؤثرة، كما التجمع الوطني في فرنسا، أو البديل من أجل ألمانيا في ألمانيا، أو فوكس في إسبانيا. تتطابق رؤى هذه الاتجاهات مع تعاطي ترامب للملف الأوكراني.

التحول الإستراتيجي الثاني يهم روسيا، التي كان رهانها أن تصبح جزءًا من الغرب الكبير، مثلما عبّرت مادلين أولبرايت، عن انطباعها حول أول لقاء لها ببوتين، بصفتها وزيرة، وإسراره لها برغبته في أن تكون روسيا جزءًا من الغرب الكبير.

تلتقي توجهات ترامب وبوتين، فيما يخص دور الدين، والأسرة، والتقاليد. وبتعبير آخر، فالتناقض الأساسي، بالنسبة لترامب، هو مع أوروبا الغربية، وليس مع روسيا.

أما الصين فلم تتوانَ في الرد على خطاب الرئيس الأميركي للأمة، من أنها مستعدة للحرب، أيًا كان شكلها. تدرك أن التموقعات التي يجريها الرئيس الأميركي، سواء من خلال التقارب مع روسيا، أو وضع اليد على قناة بنما، هي من أجل احتواء الصين، فضلًا عن الحرب التجارية التي يشنها عليها.

إعلان

التقارب الأميركي الروسي، يُحوّل التحدي إلى الساحة الأوروبية التي راهنت على المظلة الأميركية، وتتبين أنها لا تستطيع أن تستمر في ذلك.

بيد أن اللعبة بالنسبة لأوروبا تبدو معقدة، لأنها تلعب على زمنين: المدى القصير، وهو تعويض وقف دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا من حيث الإمدادات العسكرية، والمعلومات المخابراتية، وهو ما يبدو عسيرًا بل شبه مستحيل.

والمدى الطويل، الذي تتوخى فيه أوروبا إرساء منظومة أمنية أوروبية موحدة خارج المظلة الأميركية، من خلال سياسات عسكرية جديدة، عبر رفع الإنفاق العسكري، وتطوير الصناعة الحربية، والردع، وتعبئة المواطنين، وإعادة الخدمة العسكرية، والتنسيق بين قيادة الجيوش، وحتى في صنع السلاح واستعماله.

وليس مؤكدًا أن تتوحد كلمة أوروبا في وضع سياسة دفاعية موحدة. إذ لا تنظر إيطاليا بارتياح إلى قيادة عسكرية أو سياسية تتزعمها فرنسا، وتنظر بدلًا من ذلك في اتجاه الولايات المتحدة.

ومن البديهي أن التغييرات الدراماتيكية الكبرى سوف تنعكس على العالم، أو بتعبير أدق، ترصد الأطراف الأخرى، ومنها ما يسمى بالجنوب الكبير، التحولات الكبرى، لترسم توجهاتها.

وماذا عن محور الصين روسيا، أو الصداقة الدائمة بينهما؟ أليست غاية تحركات ترامب فلّ حلف موسكو بكين؟ هل يستطيع ترامب، إعادة ما قام به نيكسون، بفل الوحدة الأيديولوجية ما بين الصين والاتحاد السوفياتي؟ أليس هذا هو الرهان الأكبر لكل هذه التحولات؟

 ما يجري هو تتمة لفصل جرى في الشرق الأوسط، وفي الحرب على غزة ولبنان. هل كان للاختراقات التي حققتها إسرائيل على حزب الله، في سوريا، ولبنان، أن تحدث لولا دعم روسيا؟ ألم يكن ذلك دفعًا مسبقًا من قِبل روسيا، لجني مكاسب في ملف أوكرانيا؟

لا ينبغي النظر إلى التوجهات الخارجية التي أسفرت عنها الولايات المتحدة، بحسبانها قرارات مزاجية، بل رؤى راسخة لدى توجهات عميقة وبنيات مؤثرة، يرفعها الرئيس الأميركي ويعبر عنها، بأسلوبه الخاص.

إعلان

ومن غير المحتمل أن يقع تراجع في التوجهات التي أسفرت عنها الإدارة الأميركية الحالية. قواعد اللعبة تغيرت، ولن تعود عقارب التاريخ إلى الوراء. وكل تحوُّل يُفرز رابحين، وخاسرين، ومن يحسنون انتهاز الفرص.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • ‏اندفاع العراق نحو العالم يجعله يستعيد نفوذه
  • لعنة ميونخ تعود من جديد
  • اليوم الدولي للمرأة: هل يفي العالم بوعود بيجين بعد 30 عاما؟
  • هل تغيير سلوك البشر أمراً ممكناً؟
  • وول ستريت جورنال: ترامب يقلب النظام العالمي الذي بنته أميركا رأسا على عقب
  • 8 مارس.. العالم يحتفي بيوم المرأة تقديرًا لمكانتها في المجتمع
  • عبدالرحمن طلبة يهزم بطل سنغافورة ويصعد لدور الـ32 بكأس العالم لسلاح الشيش
  • عبدالرحمن طلبة يهزم بطل سنغافورة ويتأهل لدور الـ32 بكأس العالم لسلاح الشيش
  • سؤال في الدولة والمجتمع
  • الكليبتوقراطية تحت مظلة الديمقراطية