المستعرب البلغاري تيوفانوف للجزيرة نت: ترجمتي لمعاني القرآن الكريم استغرقت 13 عاما ومحاولتين
تاريخ النشر: 26th, September 2023 GMT
في مدرسة الاستعراب البلغاري التي ظهرت مطلع ستينيات القرن الماضي، يستحوذ البروفيسور تسفيتان تيوفانوف على مكانة خاصة. فهو عالم غاص عميقا في أدب العصر العباسي وشعره، ومارس التدريس والإدارة الأكاديمية في بلاده، وحاضر في جامعات غربية عدة بينها أكسفورد، وأتحف البلغار خلال هذه السنوات ببعض من عيون المصنفات التي تتناول التراث الأدبي العربي.
في عام 1987 ترجم العالم المولود عام 1952 معاني القرآن الكريم بطلب من إحدى دور النشر البلغارية. ومع تبدل الظرف العام والشخصي، عاود تيوفانوف الترجمة مرة ثانية ليأتي بعد 10 سنوات بأول نص بلغاري لمعاني القرآن الكريم منقول عن الأصل العربي.. الجزيرة نت جالت في رحلة تيوفانوف المعرفية في سياق هذه المقابلة.
كنت طالبًا في المدرسة الثانوية، وكنت أتجول يوميًا بين المكتبات بحثًا عن كتب مثيرة للاهتمام. وأثناء ذلك حدث بالفعل شيء يشبه معجزة صغيرة، كما لو كان القدر في هذه اللحظة قد حدد مسبقًا مصيري المستقبلي مع العربية. وقعت عينيّ على كتاب مدرسي باللغة العربية، وبمجرد تصفحه أثار الكتاب اهتمامي بجمال الخط. طبعا، لم يجذبني سوى شكل الأبجدية وليس مضمونها، ولكن بعد ذلك أشعلت الشرارة بقلبي حبا قويا للعربية لم ينطفئ حتى يومنا هذا.
ولم أعتبر اللغة العربية لغة معقدة وغريبة. ولم أواجه أي صعوبات ومشاكل عند تعلمها خلال السنوات الطويلة، بل كان ذلك متعة ومغامرة مثمرة. عندما يتبع الإنسان قدره، يسهل الله جهوده في تحقيق أمانيه، فبالنسبة لي تعلم العربية لم يكن تحديًا، بل الفضول هو الذي قادني إلى التقدم المستمر حتى الآن، رغم أني أصبحت شيخا.
ذهبتَ لدراسة العربية في جامعة بغداد عام 1972، وكان ذلك أول فرصة للتعرف على الشرق والعرب بالمعنى الواسع للكلمة، كيف كانت انطباعاتك الأولى؟ ومن بين أساتذتك بالجامعة ترك أثره لديك؟أتذكر التاريخ 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1972. كان الثلج يتساقط في صوفيا، واستقبلني صيف حار في بغداد. كنت سعيدًا لأنني سأدرس لغتي المحبوبة، وقد أعجبني في البداية كل شيء، وإن كان أحيانا يبدو غريبا عليّ، كأنني أشاهد حلقة من مسلسل ألف ليلة وليلة. أدهشني مثلا الضجيج في الشوارع والأذان يسمع في جميع أنحاء المدينة، وملابس بعض الناس المختلفة تمامًا عما اعتدت عليه. ولكن مهما كان الأمر، فانطباعاتي الأولى كانت إيجابية، لاسيما فيما يتعلق بسلوك الناس. أدركت لاحقًا أن حسن التفاهم والتسامح والأخلاق الطيبة تنبع من تأثير الدين.
في ذلك الوقت كان العراق بلدا هادئا مزدهرا. وأساتذة مشهورون من جميع البلدان العربية قاموا بزيارات لجامعة بغداد وإلقاء محاضرات قيّمة، وخاصة في كلية الآداب. وأثر عليّ كثير من الأساتذة، ليس بسعة علمهم فحسب، بل بتعاملهم مع الطلبة ومواقفهم في المجتمع. منهم مهدي المخزومي، وإبراهيم السامرائي، ومحسن جمال الدين، وإبراهيم الوائلي، وعلى جواد الطاهر وغيرهم.
قلت في إحدى مقابلاتك الصحفية بأن التعرف على الأدب العربي الكلاسيكي يتطلب معرفة بالتاريخ والدين والفلسفة، في أي مرحلة من مراحل غوصك في التراث العربي قررت أن تبدأ بترجمة معاني القرآن الكريم؟كان لدي هدف محدد: الوصول إلى مستوى يمكنني من ترجمة النصوص الأدبية، وخاصة الشعر العربي المعاصر، ولكني أدركت تدريجيا أن جوهر ما يهمني يكمن في الأدب العربي الكلاسيكي. فاتجهت إلى الشعر العباسي. في نفس الوقت اتضح لي أن الحضارة العربية الإسلامية ظاهرة معقدة لا تستطيع أن تفهم فرعا من فروعها، وموضوعا من موضوعاتها، ونصا من نصوصها دون أن تشعر بروحها وتتعمق في جميع عناصرها. ولا بد أن تترجم لنفسك كمية ضخمة من النصوص الأدبية والعلمية. هكذا بدأت رحلتي الطويلة إلى كنوز اللغة العربية.
بعد أن تخرجت من جامعة بغداد تم تعييني أستاذا في جامعة صوفيا. حاضرت في الأدب القديم والحديث وفي الفلسفة والحضارة العربية. لقد غرقت أكثر فأكثر في أعماق العلوم العربية الإسلامية التي لا نهاية لها. لم أكن مهتما بالقرآن الكريم. ظننت أنه من الناحية اللغوية البحتة ليس من الصعب عليّ فهمه وترجمته.
وأنا أحب التحديات ولا أكتفي بالحصول على الأشياء السهلة. في نفس الوقت ترجمت عددا من النصوص العربية الصعبة مثل المعلقات، وقصائد أبي العلاء المعري، وابن الفارض والمتنبي وابن المعتز وأبي تمام وغيرهم، ولكني لم أصل إلى مستوى النضج الروحي والعقلي المطلوب لفهم إعجاز القرآن الكريم.
لم أقصد ترجمة القرآن الكريم حتى تلقيت دعوة من إحدى دور النشر البلغارية لأقوم بهذا العمل الشريف. قبلت العرض بكل سهولة وارتياح دون أن أفكر في صعوبات إكمال المهمة. واستغربت هذا الاقتراح لأن السلطات الشيوعية في بلغاريا آنذاك كانت تحظر ممارسة الطوائف الدينية، سواء أكانت مسيحية أو يهودية أو إسلامية لشعائرها. وبعد سنوات علمنا أن الحكومة اتخذت قرارا بتغيير الأسماء الإسلامية لأتراك البلاد واستبدال أسماء بلغارية بها لغرض استيعابهم القسري.
بالإضافة إلى ذلك ازدادت إجراءات تقييد حقوق المسلمين البلغار. في نفس الوقت، أوصى الحزب الشيوعي بترجمة معاني القرآن الكريم لتحويل التركيز من المسألة الدينية إلى المسألة العرقية. وكأنهم قالوا: نعم، عندنا مسلمون ونقدم لهم ترجمة كتابهم المقدس، ولكنهم ليسوا من الأتراك، بل هم من أصل بلغاري. إن اختياري مترجما لمعاني الذكر الحكيم كان شرفا لي، واعترافا بمستواي العلمي ومهارتي في هذا المجال. وهكذا بدأت بالعمل عام 1987 وانتهيت منه بعد 3 سنوات.
ما طبيعة الصعوبات التي واجهتَها خلال عملك على ترجمة معاني القرآن: اللغة، المصطلحات، أسماء الأماكن والأعلام أم المعاني ذاتها؟عندما أنظر إلى الوراء عبر السنين إلى مصيري مع ترجمة معاني القرآن الكريم، أتذكر الآية القرآنية التالية من (سورة الأحزاب/ الآية 72):
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾،
لا شك أن ترجمة معاني القرآن الكريم عمل شاق يحتاج إلى معرفة أسرار اللغة العربية والتفاسير المختلفة وأسباب النزول والفقه، وليس هذا فحسب بل لا بد للمترجم أن يختار المعنى المناسب من بين المعاني. والشيء الأكثر أهمية هو التقاط روح الوحي واتباع منهج شامل في ترجمة معاني جميع السور والآيات.
وكما قلت، قد أكملت الترجمة في 3 سنوات، ثم حدثت تغيّرات تاريخية في بلغاريا، غيرت بدورها موقفي تجاه الترجمة. فقد خرج الناس إلى الشوارع للاحتجاج على الحكم الشيوعي، وأنا، بالعكس، أغلقت على نفسي باب غرفتي وأعدت التفكير والتأمل في حياتي كلها. وعندما قرأت النص المترجم، وجدته جافا ميتا خاليا من الروح ومبتعدا عن الأصل العربي، وإن كان دقيقا، فكانت تلك لحظة الوصول إلى البداية، فبدأت العمل من الصفر.
واستمرت هذه العملية حوالي 10 سنوات. بعد ذلك عينت دار الإفتاء العامة للمسلمين البلغار لجنة قامت بالتدقيق اللغوي والاصطلاحي للنص، وتحرير الترجمة. وكنت أشارك أعضاء اللجنة في مناقشة ملاحظاتهم. والحمد الله نجحنا في تحقيق أهدافنا. وتستهدف الترجمة الجمهور البلغاري العام، وليس المسلمين فقط، وهي معترف بها على نطاق واسع. وأعتقد أن نص الترجمة بإمكانه أن يؤثر على القارئ حتى يستطيع أن يلاحظ عبرها مدى الإعجاز القرآني، وإن كان من المستحيل نقل كلام الله إلى أي لغة أخرى غير العربية.
أما بالنسبة لي فقد نوّر القرآن الكريم مصيري في الحياة، وعالجني من الطموحات الدنيوية، وفتح أمامي آفاقًا لم تكن تخطر لي على البال.. وجعلني أبعد نظرًا، وأنضج رأيًّا، وأعمق رؤية.
صدرت في بلغاريا قبل قدوم الشيوعيين إلى السلطة عام 1944 ترجمة أولى لمعاني القرآن الكريم منقولة عن النص الإنجليزي، هل اطلعت عليها قبل الشروع بنقل معاني النص القرآني من العربية إلى البلغارية مباشرة؟هناك ترجمات من التركية أيضا. مع الأسف، لم أستفد منها كثيرا. إنها عمل مترجمين قد يعرفون المعاني ولكنهم لا يجيدون البلغارية ففي بعض الأحيان يستعملون تعابير مضحكة وكأنهم يسخرون من النص المقدس دون أن يشعروا بذلك.
وابتعدوا كذلك عن الأصل العربي فاستعملوا مثلا بمعنى النبي الكلمة الفارسية العثمانية (پیغامبر) وهي غير واضحة بالنسبة للقارئ البلغاري. أما أنا فاعتمدت على الترجمات الروسية والإنجليزية وفي بعض الأحيان الفرنسية والألمانية. إن ترجمتي هي الترجمة الأكاديمية الأولى بالبلغارية والوحيدة التي اعترفت بها دار الإفتاء العامة للمسلمين البلغار.
هل أبديت اهتمامًا بالتصوف والمتصوفة، خصوصا أن لبعضهم حضورا وأتباعا في دول البلقان؟إن التصوف ظاهرة تستحق الاهتمام العلمي، ولكن هناك عددا من المستشرقين بحثوا في هذا الموضوع، فأنا شخصيا لا أجد مكانا بينهم. الصوفي الوحيد الذي ترجمت قصائده هو ابن الفارض. أعتقد أن الرموز والمصطلحات الصوفية بعيدة جدا عن عصرنا هذا، ولها قيمة تاريخية فقط.
إن فكرة إنشاء المؤسسة والموقع تهدف إلى تعريف الجمهور البلغاري بإنجازات الحضارة والثقافة العربية والعالم العربي المعاصر بشكل عام، وكذلك تشجيع المستعربين البلغار الشباب. أما شخصيتي المتواضعة فهي تعبير عن عالم ومترجم متواضع كرّس كل حياته لخدمة اللغة العربية وحضارتها العبقرية. المبادرة جاءت من زملائي مع مشاركة روحية، ليست بمالية، لرجال أعمال، لهم علاقات اقتصادية بالعالم العربي.
المهم أننا نريد أن نركز على الأمور الإيجابية التي تجمعنا مع العالم العربي ومساهمة العرب في الحضارة العالمية. ليس سرا أن المجتمع البلغاري بصورة عامة ما كانت له معلومات وفيرة عن تاريخ العرب وعلومهم وآدابهم، وإن كانت موجودة، فهي ليست بموضوعية. إن العمليات الإرهابية قام بها أشخاص بأسماء عربية وكثرة المهاجرين من بعض البلدان العربية أدت إلى تأليب الرأي العام ضد العرب. إننا نحاول أن نغير هذا الموقف عن طريق التعريف بالإنجازات العربية. ويتمتع الموقع بحركة مرور وزيارات كثيرة وهذا يشير إلى نجاحه وفائدته.
ما ملابسات اختيارك لشعر أبي العتاهية موضوعا لرسالة الدكتوراه؟الشاعر العباسي أبو العتاهية كان واعظا حكيما يتأمل في مسائل الحياة والموت ويعبرعن اليأس من الدنيا والميل إلى الآخرة، والفناء ومصير الإنسان والأخلاق والنصح والإرشاد، وغير ذلك. لقد طوّر في شعره ما يسمى بالزهديات، ونجده يتطرق في زهده إلى نقطتين بارزتين هما: الترهيب من الدنيا، والترغيب في الآخرة.
كما يدعو أبو العتاهية إلى القناعة، لأن المال لا يدخل القبور مع أصحابه. هو الذي قال: (فَإِنَّما المَرءُ مِن زُجاجٍ. إِن لَم تَرَفَّق بِهِ تَكَسَّر). وقد أحببت هذا الشعر لأنني وجدت فيه انعكاسا لأفكاري ومواقفي الشخصية من الحياة والمجتمع. وثمة دافع آخر للعمل على هذا الموضوع كان استخفاف المستشرقين بمكانة أبي العتاهية في تاريخ الأدب العباسي.
عام 1987 حصلت من معهد موسكو للاستشراق على درجة الدكتوراه عن أطروحة عنوانها "دور أبي العتاهية في تطوير القصائد الفلسفية في الشعر العربي"، في عام 2001 حصلت على دكتوراه ثانية عن أطروحة عنوانها "الشعر العربي الكلاسيكي كنموذج ثنائي التفرع". ما هو ملخص فكرة الأطروحة الثانية؟تقدم الأطروحة لمحة شاملة عن الشعر العربي في العصور الوسطى. الفكرة مبنية على الوجود في هذا الشعر للتفرع الثنائي أو ما يسمى بالخضرمة، ومن المعروف أن الله تعالي خلق من كل شيء زوجين: الكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلالة، والليل والنهار، والسماء والأرض، والإنس والجن. ففي أطروحتي هذه (للحصول على درجة دكتوراه دولة) أبحث في المفاهيم المضادة مثل البداوة والحضارة والجسم والروح وغير ذلك. وأجيب عن سؤال، كيف تتداخل هذه المفاهيم المتعارضة في الشعر العربي الكلاسيكي وما دور الإسلام في تشكيل هذه الأفكار؟
يحتوي ملحق الرسالة على مجموعة ضخمة من ترجماتي لقصائد أشهر الشعراء العباسيين. وأعتز بأنني الشخص الأول في بلغاريا الذي يلفت الانتباه إلى مثل هذه المسائل وهذه الثروة الأدبية.
تخليت عن نظم الشعر نتيجة تأثير إعجاز القرآن على نفسي وروحي. بعد "الواحات" أصدرت ديوانين، هما "صيدلية الليل" و"إنسان تحت السماء". وفي مرحلة ما من حياتي وقعت في أزمة روحية نابعة من قناعتي بأن لا أحد يهتم بأفكاري ومشاعري فلا جدوى من نشر قصائدي. واتجهت إلى حكمة القرآن الكريم.
ثم بعد أن ظهر المنتدى المجاني على الفيسبوك، أغرق جيش الشعراء، صغارًا وكبارًا، موهوبين وغير موهوبين، رغبتي في نظم الشعر. هذا لا يعني أنني تركت الشعر تماما، بل أهديت لنفسي حرية الاختيار بين التعبير وعدم التعبير الشعري حسب رغباتي وحالتي المزاجية. الآن أفضل النثر وما زلت أؤلف من حين إلى آخر شعرا وقصصا قصيرة.
ما ملابسات انتقالك للعيش في فرنسا.. وهل لذلك علاقة بعمل بحثي جديد؟ابنتي مواطنة فرنسية وتعيش مع عائلتها في باريس. وقبل 3 سنوات قررت الانتقال إلى فرنسا نهائيا لأكون بالقرب من حفيدي الصغيرين. كما فتحت أيضا فرصا لتحقيق مشاريع مشتركة مع زملائي الفرنسيين، وقد أصبحت فرنسا وطني الثاني.
أنا حاليا أقوم ببحث في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) ووصلت إلى مرحلة متقدمة في هذا العمل. وفي نفس الوقت أواصل العمل على تاريخ الأدب العربي الكلاسيكي – المادة التي ما زلت ألقي فيها محاضرات أكثر من 40 عاما.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: اللغة العربیة الشعر العربی فی نفس الوقت جامعة بغداد فی بلغاریا وإن کان فی هذا
إقرأ أيضاً:
رئيس اتحاد الصناعات السوداني للجزيرة نت: القطاع الخاص يقود التعافي
كشف رئيس اتحاد الغرف الصناعية، رجل الأعمال السوداني البارز معاوية البرير، أن القطاع الخاص في السودان تكبّد خسائر فادحة بسبب الحرب، قدّرت في القطاع الصناعي وحده بأكثر من 50 مليار دولار.
وأوضح -في حوار خاص مع الجزيرة نت- أن هذه الخسائر شملت تدمير المصانع والمعدات وأجهزة التحكم والشبكات الإلكترونية، إلى جانب نهب المواد الخام والمنتجات الجاهزة.
وأشار البرير إلى أن القطاع الزراعي لم يكن بمنأى عن هذه الخسائر، حيث تُقدَّر خسائره بنحو 30 مليار دولار، شملت محطات الري، والآلات، والمولدات، والمحاصيل. وأضاف أن قطاع الخدمات والبنوك تلقّى أيضا ضربات قاسية، لا سيما أن معظم الناتج المحلي والثروة الاقتصادية متركزة في الخرطوم.
وقال إن تدمير محطات الكهرباء انعكس بشكل مباشر على ارتفاع تكلفة الإنتاج، مما يجعل بدائل الطاقة مكلفة وغير مستدامة للقطاعين الصناعي والزراعي. وأكد أن القطاع الخاص المحلي، إلى جانب المستثمرين الأجانب والأشقاء العرب، سيكونون الركيزة الأساسية لمرحلة إعادة الإعمار، مشددا على أهمية عدم وضع العراقيل أمامهم.
وأضاف البرير: "هناك رجال أعمال خسروا كل شيء بسبب الحرب، وبعضهم لم يتحمّل الصدمة وفارق الحياة، فيما يعاني آخرون من عدم القدرة على تلبية التزاماتهم، وهو ما يُنذر بأزمات قانونية ما لم تُقدَّم حلول واقعية".
وعن رؤيته لمستقبل السودان الاقتصادي، قال بثقة: "لسنا الدولة الوحيدة التي دُمّرت، ونؤمن بأننا قادرون على النهوض مجددا كما فعلت أوروبا واليابان بعد الحرب. السودان سيعود أفضل مما كان، بشرط التخطيط السليم، وتصحيح الأخطاء، وتولية الكفاءات المناصب المناسبة، لا سيما في الوزارات الاقتصادية".
إعلانوفيما يلي أبرز ما جاء في الحوار:
ما حجم الخسائر التي تعرض لها القطاع الخاص وقطاع الأعمال بسبب الحرب في السودان؟القطاع الخاص السوداني تكبّد خسائر مهولة، تُقدّر في القطاع الصناعي وحده بحوالي 50 مليار دولار. وتتمثل هذه الخسائر في تدمير كامل أو جزئي للعديد من المصانع، وتلف المعدات، وأجهزة التحكم، والشبكات الإلكترونية، ومولدات الطاقة، والكوابل الكهربائية، بالإضافة إلى نهب المواد الخام والمنتجات الجاهزة.
كما تضررت الصناعة أيضا نتيجة تضخّم الأموال في السوق، ووجود مديونيات بالعملة الصعبة أصبحت عبئا على المصنّعين.
أما في القطاع الزراعي، فبلغت الخسائر نحو 30 مليار دولار، شملت محطات الري، والآلات، والمولدات، والمحاصيل. على سبيل المثال، محطة ري "أبو نعامة" التي تبلغ تكلفتها 40 مليون دولار تعرّضت للتدمير.
وتعرض قطاع الخدمات والبنوك هو الآخر لأضرار كبيرة، إذ إن أغلب الناتج المحلي للبلاد يتمركز في الخرطوم.
في ظل استهداف الدعم السريع لمشاريع الطاقة ونقص الكهرباء، هل يمكن أن يمثل ذلك إعلان وفاة الصناعة في السودان؟تدمير محطات الكهرباء أثّر سلبا على المواطن والصناعة والزراعة، لأن البدائل المتاحة لإنتاج الطاقة مكلفة للغاية، مما يزيد من تكلفة الإنتاج ويهدد استدامة النشاط الصناعي والزراعي.
ما فرص السودان للتعافي الاقتصادي إذا توقفت الحرب؟السودان قادر على النهوض مجددا، بل العودة أفضل مما كان عليه قبل الحرب، بإذن الله. نحن بحاجة لتصحيح الأخطاء السابقة، والتخطيط السليم، ووضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وخاصة في الوزارات الاقتصادية. ونطمح إلى وطن معافى، يُضيف إلى اقتصاده، ويتجاوز الصراعات، وتكون فيه المنافسة بين رجال الأعمال قائمة على الجودة والقيمة المضافة، لا على الإقصاء.
برأيك من يتحمل فاتورة إعادة إعمار ما دمرته الحرب؟القطاع الخاص، والمواطن السوداني، والمستثمرون الأجانب، والأشقاء العرب هم من سيتحملون فاتورة إعادة الإعمار. أشقاؤنا العرب، ولا سيما دول الخليج، لم يتوقفوا عن المساهمة حتى أثناء الحرب، ونحن ننتظر منهم مساهمة أكبر في المرحلة المقبلة.
إعلان ما حجم الكفاءات والأيدي العاملة التي قد تكون هاجرت بسبب الحرب وربما لن تعود؟ وما أثر ذلك على الاقتصاد؟الكفاءات السودانية الحريصة على الوطن ستعود وتُضحي من أجل السودان، مهما كانت الظروف. أما من وجدوا فرصا أفضل في الخارج، فهم سيبقون داعمين لنا عبر المشورة، والخبرة، وتحويل الأموال لدعم الاقتصاد الوطني.
أغلب رجال الأعمال سيعودون إلى السودان بعد تسوية أوضاعهم في الخارج، لكن العودة تتطلب من صناع القرار وضع سياسات داعمة، وألا يضعوا العقبات أمامهم. للأسف، فوجئنا مؤخرا بفرض ضريبة دخل مقدما بنسبة 2% على ترحيل المواد الخام، وهو أمر لم يكن معمولا به قبل الحرب.
هل صحيح أن هناك رجال أعمال سودانيين أفقرتهم الحرب تماما وأصبحوا عاجزين حتى عن إعالة أسرهم؟نعم، هناك عدد كبير من رجال الأعمال خسروا كل شيء، وبعضهم لم يتحمل الصدمة النفسية وتوفي، بينما يعاني آخرون من العجز عن الوفاء بالتزاماتهم. فإذا لم توضع حلول واقعية، فقد نشهد مشاكل قانونية كبيرة في المرحلة المقبلة.
السودان-بعد-الحرب-بعدد-من-المسوولين-في-الفريق-الاقتصادي-ما-هي-نتايج-هذه-اللقاءات؟">التقيت معك في جولتك الميدانية لتفقد عدد من المشاريع في السودان بعد الحرب واجتماعك مع عدد من المسؤولين في الفريق الاقتصادي.. ما نتائج هذه اللقاءات؟كانت لقاءات مثمرة. اجتمعنا بوزيري المالية والزراعة، إضافة إلى ولاة ولايات الخرطوم، الجزيرة، سنار، والشمالية. ووعد وزير المالية بتقديم دعم محدود للقطاع الخاص، وإنشاء منصة للحوار مع الصناعيين، مؤكدا أنه لا يدعم الدعم المطلق. أما وزير الزراعة، فقد وعد بإدخال بذور محسنة وتقنيات جديدة، ونحن ننتظر حاليا تنفيذ هذا الوعد كتابة.
إعلان السودان-حتى-بعد-انتهاء-الحرب؟">رغم وجود موارد ومواد خام في السودان، هل ترى أن المستثمر الأجنبي لن يغامر بالاستثمار في السودان حتى بعد انتهاء الحرب؟أنا متفائل جدا بعودة المستثمرين، خاصة إذا تم تهيئة بيئة استثمارية جاذبة بعد الحرب. لسنا الدولة الوحيدة التي دُمّرت ثم نهضت. وقد فعلت أوروبا واليابان ذلك، ونحن قادرون أيضا بعزيمتنا، بشرط اتخاذ قرارات جريئة من أجل الصالح العام.
ما الدور الذي يمكن أن يلعبه القطاع الخاص في إنعاش الاقتصاد السوداني؟القطاع الخاص هو العمود الفقري لإنعاش الاقتصاد، خصوصا بالشراكة مع الاستثمارات الخارجية وبتمويل من الأشقاء. يجب منحه المساحة والحرية ليستعيد نشاطه ويخلق فرص العمل.
ومن مِن الأشقاء تتوقع أن يكون لديه استعداد للمشاركة في التمويل، في ظل ظروف السودان الحالية؟بكل وضوح: دول الخليج، التي لطالما وقفت مع السودان في السراء والضراء، ولها الإمكانيات والخبرة والرغبة في المشاركة الفعالة.
برأيك ما أبرز تحديات إعادة الإعمار، وهل يمكن أن ينهض السودان كما نهضت ألمانيا واليابان بعد الحرب؟أبرز التحديات هو تغيير النظرة إلى القطاع الخاص، واعتباره شريكا أساسيا وليس مجرد مصدر للضرائب. القطاع الخاص هو الذي يشغّل ملايين السودانيين، ويجب أن يُعامل كمُنتج أساسي للاستقرار والنمو، لا كعبء على الدولة.