صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسة عمرو البسيوني، العدد الجديد أكتوبر 2023 من مجلة الثقافة الجديدة، برئاسة تحرير الكاتب الصحفي طارق الطاهر، وهو العدد الذي خصصته المجلة للاحتفاء بطه حسين بمناسبة مرور 50 عامًا على رحيله.

وكتب رئيس التحرير افتتاحية هذا العدد الخاص بعنوان: "الملهم"، لافتًا النظر إلى الخصال العديدة التي تميز بها طه حسين الذي وُصف بالمفكر حينًا والأديب حينًا آخر والأستاذ الجامعي.

. وكان صاحب دور بارز في مسيرة الثقافة المصرية عبر ما يزيد عن قرن من الزمان.

تتنوع مواد هذا العدد بين الدراسات والشهادات والملفات؛ إذ شارك فيه نخبة من الكُتاب المصريين والعرب، لا سيما من المغرب والأردن والعراق. فكتب إيهاب الملاح بورتريه بعنوان: "مشروع للنهضة المصرية.. البحث ما زال مستمرًا!"، استعرض فيه المحطات المهمة في حياة طه حسين، في الأزهر، وفي الجامعة المصرية، وفي دراسته في السوربون، وكذلك أهم الإنتاجات الفكرية التي أنتجها.

جاء الباب الأول في هذا العدد تحت عنوان: "دراسات"، وقد كتب فيه محمد مشبال دراسة بعنوان: "كيف نتحدث عن الأدب؟ طه حسين وبلاغة التواصل النقدي"، مسلطًا الضوء على تنبه طه حسين في وقت مبكر إلى أن ممارسة النقد الأدبي تحكمها إغراءات الحضارة الحديثة للإنسان بالإقبال على كل ما هو قريب سهل، والعزوف عن كل ما هو بعيد يحمله على بذ الجهد.

وجاءت دراسة سامي سليمان أحمد بعنوان: "تعدد الأصوات في خطابه النقدي: قراءة أبي العلاء نموذجًا"، وقد اتخذت هذه الدراسة من ثلاثة كتب خصصها طه حسين للمعري مجالًا لتجريب فرضياته المنهجية، والكتب الثلاثة هي: تجديد ذكرى أبي العلاء، ومع أبي العلاء في سجنه، وصوت أبي العلاء، مؤكدًا أن طه حسين له قارئًا خاصًا، يتملكه شعورٌ دائم بحضور أبي العلاء في عديد من المواقف التي أعلنها العميد أو تأثيره في عدد من الرؤى التي تبناها في لحظات مختلفة. 

بينما كتب جمال العسكري دراسة بعنوان: "مدرسة دار العلوم"، باحثًا في الحقبة التي تحولت فيها مدرسة دار العلوم إلى كلية دار العلوم، ومسلطًا الضوء على دور العميد في هذا التحول، وكذلك على قضية المنهج التي كانت الأساس الذي شغل طه حسين وجيله من المجددين.

وجاءت دراسة زينب العسال بعنوان: "الريادة في دعاء الكروان"، مؤكدة على أن رواية دعاء الكروان قائمة على الزمن النفسي الداخلي المكتنز، كي يتسق مع الحالة النفسية لبطلة الرواية آمنة.

واختتمت الدراسات بدراسة شعيب خلف التي عنونها ب ـ"الهوية والحوار بين طه حسين وعبد الرحمن بدوي"، وفيها يسرد علاقة العميد بأحد تلاميذه -وهو عبد الرحمن بدوي- بوصفه نموذجًا دالًا على الآلية التي كان يتعامل بها طه حسين مع تلاميذه، وكذلك نظرته للتراث باعتدال واضح؛ إذ يأخذ منه ما يناسب عصره ويرفع شأنه ويقيم حضارته وينبي عليه جاعلًا منه أساسًا يتكئ عليه.

وفي ملف العدد الرئيس ناقش طارق الطاهر تفاصيل جديدة في المعركة التي احتدمت حول كتاب "في الشعر الجاهلي"، مسلطًا الضوء على استمرار تلك المعركة بعد عام 1927، كما يسرد ويناقش أهم المحطات الرئيسة في تلك المعركة، وكذلك يعرض آراء المفكرين والسياسيين فيها، وكذلك مناقشة الكتاب في البرلمان المصري، والبلاغات والقضايا التي رفعها المناهضون لفكره الذي أنتجه في هذا الكتاب.

واستعرض مطالب علماء الأزهر من وزير المعارف، تلك المتمثلة في مصادرة الكتاب، وإبعاد طه حسين من الجامعة، ومحاكمته، وكذلك تفويض مجلس جامعة القاهرة مديره بتسوية الأمر، مع مراعاة المبادئ الأساسية للتعليم الجامعي، معضدًا آراءه حول تلك المعركة ببعض المستندات التي تنشر مجتمعة للمرة الأولى.

أما في باب الشهادات، فقد تنوعت بين شهادات عامة حول مجمل فكر العميد وإنتاجه الأدبي، وشهادات خاصة حول أعمال أو صفات اتصف بها العميد بعينها، فكتب عمار علي حسن شهادة بعنوان: "نقاش مع أدونيس حول طه حسين وطريقة أخرى للتنوير"؛ إذ يسرد في شهادته تفاصيل نقاش دار بينه وبين المفكر والشاعر السوري أدونيس حول طه حسين، وفيه أكد عمار علي حسن أن طه حسين لم يغير أفكاره أبدًا، وأن المنهج الذي اتبعه في كتابه "في الشعر الجاهلي" لازمه في مختلف كتبه عن الإسلام، مسلطًا الضوء على الثورة المنهجية التي أطلقها العميد وفتحه الباب أمام نزع  القداسة عن الآراء والأشخاص الذين مروا في قرون غابرة. 

كما كتب سعد القرش شهادة بعنوان: "طه حسين بين حداثة منقوصة وفكر لا يجدده المستثمرون للتضليل"، وهي شهادة مرتبطة بشهادة عمار علي حسين، وفيها يؤكد على كون كتاب "في الشعر الجاهلي" ثورة في قراءة الشعر الجاهلي وإعادة النظر في حياة العرب الذين كانوا أصحاب علم ودين وثروة وسياسة، وكذلك كون هذا الكتاب صامدًا منذ مئة عام ضد حملات الضلال والتضليل التي شنت ضده وأنفقت عليها أعمار وأموال المناهضين لفكره. 

وجاءت شهادة عبد السلام الشاذلي بعنوان: "مرايا الذاكرة الحضارية"، يستعرض فيها علاقة طه حسين مع تلاميذه، مؤكدًا على سبقه إلى الربط بين الحركة الأدبية المعاصرة وتاريخنا الأدبي، وأن الجهود التي تنهض ونهضت بها جامعتنا إنما هي ثمرة طبيعية لأصول البحث الأدبي التي وطدتها محاضراته ومصنفاته ومقالاته التي بثها في تلاميذه؛ إذ واجه مجتمعه مواجهة شجاعة في مجالات كثيرة، منها الدرس الأدبي، وظل نصيرًا للجديد الوعد في مجالات الثقافة المختلفة. 

بينما كتبت نجاة علي "أيقونة التمرد والوعي الضدي"؛ وفيها استعرضت تلمذتها على يد أساتذة من تلاميذ طه حسين، ينتسبون منهجيًا إلى مدرسته العقلانية، من أمثال: جابر عصفور، وعبد المنعم تليمة، وفاطمة موسى، وغيرهم، فتعلمت من كتبه مواقفه الصارمة وانحيازاته العلمية والأخلاقية دروسًا لا تنسى، تلك التي دفع لها أثمانًا غالية بمنتهى الشجاعة والإخلاص لمبادئه. 

بينما كتب علاء خالد شهادة بعنوان: "كان أكثر مما توقعوا"، وفيها يؤكد على تأسيسه نظرية وحدة الثقافة العالمية أو المتوسطية وتلك العلاقة الممتدة بين المصريين والمسلمين من ناحية وبين العالم من ناحية أخرى

وكتبت رضوى الأسود عن "المرأة في حياته"، مستعرضة دور زوجته سوزان في حياة العميد من لقاءهما الأول في باريس، ورحلتهما معًا إلى نهايتها بوفاته؛ إذ كانت سوزان معلمته الأولى في طريقه إلى الحرية الفكرية الكاملة.

وأعد "الطاهر" تحقيقًا حول "رسائل تلاميذ ومحبي العميد"، أولئك الذين أصبحوا بمرور الوقت رموز هذا الوطن وتحملوا عبء التنوير مثل أستاذتهم طه حسين، مثل: الناقد د. محمد مندور، د. محمد عبد الهادي شعير، ود. محمد النويهي، وغيرهم، ومن خلال هذا التحقيق يمكن رصد أحول مصر والمصريين على الأصعدة كافة، والرسائل التي يستعرضها ويناقشها هذا التحقيق تُعد تاريخًا مدونًا من قبل شخصيات عشقت مصر وعاصرت طه حسين، ذلك الذي أصبح بالنسبة لتلاميذه ومحبيه بمثابة مؤسسة يقفون على بابها.

أما في باب المقالات، فقد تنوعت بين المقالات التي تدور حول قضية واحدة من قضايا طه حسين، والمقالات التي ناقشت إنتاجاته الفكرية والأدبية والإبداعية، فكتب إبراهيم منصور مقالًا بعنوان: "الفنقلة: من الجدل السفسطائي إلى حرية الفكر"، دار هذا المقال حول لفظة "الفنقلة" التي ذكرها طه حسين في كتاب "الأيام"، ومعنى هذه اللفظة والدلالات المتعلقة بها. 

وجاء مقال محمود الضبع بعنوان: "طه حسين وثقافة الاختزال"، مستعرضًا القضايا والإشكالات الفكرية التي طرحها العميد، مثل قضية كيف نفهم التاريخ؟ وإشكالية القديم والحديث في كل العصور العربية، وقضية الذوق الأدبي وغيرها. 

بينما جاء مقال محمد السيد إسماعيل بعنوان: "حياة ثائرة مثيرة: لماذا استمرت "الأيام" كل هذه السنوات في مناهج التعليم؟"، لافتًا النظر إلى أن الأيام لا تخلو من التخييل الذي يجعلها محققة لوظيفتها الأدبية التي تفصل بينها وبين تسجيل مذاكرات السياسية المصرية لحسين هيكل، وأن العمي قد تحول على يديه إلى طاقة إيجابية أطلقت خياله وفضوله إلى معرفة كل ما ومن حوله. 

وكتب نبيل فرج مقالًا بعنوان: "طه حسين وثورة 1952"؛ إذ كرمته الثورة بوضعه في أعلى المناصب ومنحه أرفع الجوائز، فهو أول من حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب.

بينما كتب راشد عيسى "حدائق متعددة في مزهرية واحدة"، مؤكدًا أن طه حسين مؤسسة ثقافية شاملة أو عدة أنهار مضغوطة في مزهرية واحدة، استطاع أن يتجاوز محنة بصره ليجعلها منحة بصيرته الفذة الخارقة للمألوف. 

وكتب جاسم خلف إلياس مقالًا بعنوان: "طه حسين تنويرًا"، فأكد أن كتاباته قد خلخلت الاستقرار المعرفي في الثقافة العربية، وشرعت أبوابها للابتعاد عن النقل الذي توارثناه من العنعنات. 

أما عبد العزيز السباعي، فكتب "جناية العصر على طه حسين"، وهو المفكر الذي حظي بحياة فكرية وحزبية متلاطمة، موسومة بالازدهار والنماء في بعض حقول الفكر والثقافة. 

وتناول مقال محمد خلف كتاب "الفتنة الكبرى"، في أجزائه الثلاثة، وهو الذي قرر فيه العميد أن يقتحم ميدانًا شائكًا ويسلط طريقًا مخضبًا بالدماء، وقد أصبح عنوان هذا الكتاب مصطلحًا تاريخيًا معتمدًا في الدراسات العلمية والأدبية لتلك الحقبة من التاريخ العربي والإسلامي. 

واختتم هذا الباب بمقال إيمان أحمد يوسف الذي جاء بعنوان: "نور البصيرة يتجلى بفيوضه ورؤيته"، مستعرضة كيف حوَّل طه حسين محنته إلى منحة إلهية غيرت حياته إلى الأبد.

إدراج معتقل للتعذيب في الأرجنتين إلى قائمة التراث العالمي.. ما القصة؟ ذكرى صلاح السقا | رائد فن تحريك العرائس.. ومبدع الليلة الكبيرة

أما في باب الشاطئ الآخر، فكتب جمال المراغي مقالًا بعنوان: "زيديني يا سوزان"، مؤكدًا أن سوزان طه حسين قد تجاوزت وظيفتها كقارئة إلى أن كانت تقوم بتحضير كل جزء قبل قراءته حتى تكون على استعداد لمناقشة طه حسين فيه، وقد كانت تستمتع برؤيته شديدة العمق وفهمه للأمور. 

وكتبت رشا صالح مقالًا بعنوان: "طه حسين والحوار الخلاق مع الثقافات الأوربية"؛ تستعرض فيه أن طه حسين قد أرجع الفضل إلى كارلو نالينو في معرفة تاريخ الأدب، وكيفية تصنيف المدارس الأدبية، والعلاقات التي نشأت بين الأدب والسياسة من ناحية، وبين الأدب والبيئة من ناحية أخرى، وقد امتدت علاقة العميد بالفرنسية إلى جذور هذه الثقافة من خلال تأصيلها العلمي بأقباله على الثقافة اللاتينية التي تشكل الجذور العميقة للفرنسية.

أما في باب الفن السابع، وهو الباب الذي يتناول أعمال طه حسين التي حُوّلت إلى أفلام أو دراما تليفزيونية، فقد كتب وليد الخشاب "سينما طه حسين: الميلودراما.. الواقعية.. القيمة الفنية"، مؤكدًا على أن العنصر الجامع بين قصصه التي تحولت إلى أفلام هو النوع الفني، فكلها قصص رومانسية تحمل ملامح الميلودراما، وقد كان هناك احتفاء خاص برواية "دعاء الكروان"، والذي ضاعف منه رصيد الفيلم المُعد عنها، باعتباره فيلمًا واقعيًا. 

وكتبت ناهد صلاح "العميد على الشاشة: حضور إنساني.. صراع وجودي.. اشتباك مع الغرب"، ناقشت فيه علاقته بالسينما والتليفزيون، واكتشافه باريس بوصفها مدينة السينما وأنها تحويل من حلم جميل إلى كابوس مرير، مؤكدة على أنه كان شديد التدقيق في كل التفاصيل المرتبطة بتحويل رواياته إلى أفلام سينمائية أو دراما تليفزيونية، فكان يتردد على مواقع التصوير للتدقيق ومتابعة التصور وأداء الممثلين.

ويستعيد أحمد كمالي "مصر في شهر العميد"، ساردًا الأخبار الصحفية المهمة التي كانت تُنشر في شهر أكتوبر 1973 والمتعلقة برحيل عميد الأدب العربي طه حسين، مع بعض الوثائق والأخبار الصحفية المنشورة في ذلك الوقت.

أما في باب رحلة، فكتب محمود عبد الباري تهامي دراسة بعنوان: "طه حسين مجمعيًا، مسلطًا الضوء على المحطات المهمة في حياة طه حسين التي أهَّلته لعضوية المجمع، وصورة عضو مجمع اللغة العربية في ذهن العميد، الذي كان يرى أن عضوية المجمع هدية وشرفًا وأمرًا غير عادي، فهي ليست مجرد وظيفة يُعين فيها من يُعين ثم يُعزل، وقد أصل لآلية عمل المجمع، وهو ما يسير عليه الآن؛ فهو عمل صامت، لا يبتغي شهرة، ولا يتحصل منه عظيم أجر؛ فالعمل المجمعي إلى اليوم عمل جماعي، تتظافر فيه الجهود، وتتراكم به الخبرات والمعارف.

كما تنشر المجلة في هذا العدد، ببليوجرافيا عن طه حسين، تعرض فيها أهم التواريخ في حياته، ومؤلفاته الإبداعية والنقدية والفكرية، وكذلك ترجماته.

وفي مكان، تزور المجلة متحف رامتان، وهو القصر الذي عاش فيه طه حسين، وبعد رحيله أنقذه فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق من مصير قصر يوسف وهبي الذي تحول إلى فندق، كما تستعرض الزيارة أيضًا كرم أسرة العميد التي لم تبخل على الدولة وأعطتها جميع مقتنياته وأوسمته التي حصل عليها طيلة حياته.

ويُختتم هذا العدد بمقال محمد عبد الباسط عيد الذي جاء بعنوان: "دعوة العميد"، تلك الدعوة التي لم يدخر العميد جهدًا في تأكيدها وهي "الروح العملية" أو التفكير العلمي، والدعوة لها، وكذلك حرصه على استمالة الناس إلى ما يكتب بشتى الوسائل.

يذكر أن مجلة الثقافة الجديدة تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، نائبا رئيس التحرير الصحفيتان إسراء النمر وعائشة المراغي، مدير التحرير التنفيذي الناقد مصطفى القزاز، الإخراج الفني عمرو محمد.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: الثقافة الثقافة الجديدة الثقافة المصرية مجلة الثقافة الجديدة طه حسين مقال ا بعنوان هذا العدد من ناحیة فی حیاة مؤکد ا فی هذا

إقرأ أيضاً:

التقنيات النانوية .. ثورة خضراء جديدة لإنقاذ الزراعة

تعد تقنية النانو واحدة من أبرز الابتكارات العلمية في القرن الحادي والعشرين، حيث تعنى بتصميم وتطوير مواد وأجهزة على مقياس النانو، أي بحجم يتراوح بين 1 و100 نانومتر (النانومتر يساوي جزءًا من مليار جزء من المتر). تعتمد هذه التقنية على الخصائص الفريدة التي تظهرها المواد عند هذا الحجم متناهي الصغر، مثل زيادة القوة، وتحسين التوصيل الكهربائي، والتفاعلات الكيميائية الأكثر كفاءة. وتستخدم تقنية النانو اليوم في مجالات متنوعة، من الطب إلى الطاقة، ومن الصناعة إلى الزراعة، مما يجعلها ركيزة أساسية للثورة التكنولوجية الحديثة.

وتعود جذور تقنية النانو إلى القرن الرابع الميلادي، عندما استخدم الرومان جسيمات نانوية من الذهب والفضة في صناعة الزجاج الملون. ومع ذلك، فإن البداية العلمية الحديثة لهذه التقنية تعود إلى عام 1959، عندما ألقى الفيزيائي ريتشارد فاينمان محاضرة بعنوان «هناك متسع كبير في القاع»، حيث تنبّأ بإمكانية التحكم في المادة على المستوى الذري. في عام 1981، تم اختراع المجهر النفقي الماسح (STM)، الذي سمح للعلماء برؤية الذرات الفردية وتحريرها، مما فتح الباب أمام عصر جديد من الاكتشافات.

شهدت تقنية النانو تطورًا سريعًا في العقود الأخيرة. في عام 1985، تم اكتشاف الفحم النانوي (الكربون 60)، وفي عام 1991، تم اكتشاف الأنابيب النانوية الكربونية، وهي مواد تتمتع بقوة ميكانيكية فائقة وخصائص كهربائية مميزة. بحلول عام 2000، بدأت الحكومات والشركات الكبرى في استثمار مليارات الدولارات في أبحاث النانو، مما أدى إلى ظهور تطبيقات عملية في مجالات مثل الطب (مثل توصيل الأدوية المستهدفة) والطاقة (مثل الخلايا الشمسية عالية الكفاءة).

تتصدر الولايات المتحدة قائمة الدول الأكثر استثمارًا في تقنية النانو، حيث أنفقت الحكومة الفيدرالية أكثر من 1.5 مليار دولار سنويًا على أبحاث النانو منذ عام 2001. تليها الصين، التي أعلنت عن خطط طموحة لجعل نفسها مركزًا عالميًا لتقنية النانو بحلول 2030. في أوروبا، تُعد ألمانيا والمملكة المتحدة من الدول الرائدة، حيث تستخدم تقنية النانو في تطوير مواد صناعية متقدمة وعلاجات طبية مبتكرة.

وفي منطقة الشرق الأوسط، تعتبر الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية من أبرز الدول التي تبنت تقنية النانو من البحث والتطوير. ففي الإمارات، تم استخدام المواد النانوية في مشاريع تحلية المياه وتطوير مواد بناء مستدامة. أما السعودية، فقد استثمرت في أبحاث النانو لدعم رؤية 2030، خاصة في مجالات الطاقة المتجددة والزراعة.

تطبيقات تقنية النانو الشائعة

الطب: توصيل الأدوية بشكل مستهدف إلى الخلايا السرطانية دون الإضرار بالخلايا السليمة.

الطاقة: تطوير بطاريات ذات سعات تخزين أعلى وخلايا شمسية أكثر كفاءة.

الزراعة: تحسين كفاءة الأسمدة والمبيدات، وزيادة مقاومة المحاصيل للظروف المناخية القاسية.

الصناعة: تصنيع مواد أقوى وأخف وزنًا، مثل الأنابيب النانوية الكربونية المستخدمة في صناعة الطائرات.

وفي ظل التحديات المناخية والبيئية التي تواجهها سلطنة عمان، مثل ندرة المياه وملوحة التربة والتصحر، تبرز الحاجة إلى حلول مبتكرة لتعزيز الإنتاج الزراعي وتحقيق الأمن الغذائي. حيث تعد التقنيات النانوية أحدث الأدوات الواعدة التي يمكن أن تساهم في الثورة الزراعية خاصة في الدول ذات البيئات الجافة كسلطنة عمان. فكيف يمكن لهذه التكنولوجيا الدقيقة أن تحدث تحولًا في القطاع الزراعي العُماني؟

1. مواجهة شح المياه

يمكن استخدام جسيمات نانوية ماصة للرطوبة في التربة لتقليل تبخر المياه، أو تصميم أنظمة ري ذكية تعتمد على مستشعرات نانوية لمراقبة رطوبة التربة بدقة. هذا الأمر حيوي في سلطنة عمان، حيث تهدر كميات كبيرة من المياه بسبب التبخر أو سوء الإدارة.

فقد طور باحثون في دراسة نشرت بمجلة Agricultural Water Management مواد هيدروجيل نانوية قادرة على امتصاص المياه وتخزينها ثم إطلاقها تدريجيًا عند جفاف التربة. هذه المواد تزيد قدرة التربة على الاحتفاظ بالرطوبة بنسبة تصل إلى 50%، مما يقلل الحاجة إلى الري المتكرر. كذلك تشير دراسة نشرت في مجلة ACS Applied Materials & Interfaces (2021) إلى أن مواد الهيدروجيل النانوية (Nanohydrogels) المصممة لامتصاص المياه يمكن أن تخزن كميات كبيرة من الرطوبة وتطلقها تدريجيًا في التربة، مما يقلل فقدان الماء بنسبة تصل إلى 50% في المناطق الجافة. أما أنظمة الري الذكية المعتمدة على مستشعرات نانوية، ففي تجربة موثقة في مجلة Sensors (2022)، تم استخدام مستشعرات نانوية قائمة على الجرافين لمراقبة رطوبة التربة في الوقت الفعلي، مما سمح بتخفيض استهلاك المياه بنسبة 35% دون التأثير على إنتاجية المحاصيل. ووفقًا لبحث في مجلة Journal of Nanobiotechnology، تستخدم مستشعرات نانوية قائمة على الجرافين لقياس رطوبة التربة وحالة النبات في الوقت الفعلي Real Time. هذه المستشعرات توفر بيانات دقيقة تسمح بتعديل كميات الري تلقائيًا، مما يخفض استهلاك المياه بنسبة 20-30%. يمكن لهذه التقنيات أن تكون حلاً لمشكلة شح المياه في سلطنة عمان، خاصة في محافظتي ظفار والداخلية التي تعتمد على الزراعة المحدودة.

2. أسمدة ومبيدات ذكية

تسمح الأسمدة النانوية بإطلاق العناصر الغذائية بشكل تدريجي، مما يزيد من امتصاصها بنسبة تصل إلى 40% مقارنة بالأسمدة التقليدية. كما تقلل المبيدات النانوية من استخدام الكيماويات الضارة، عبر استهداف الآفات مباشرةً دون الإضرار بالبيئة. أظهرت دراسة في مجلة Frontiers in Plant Science أن استخدام أسمدة نانوية مغلفة ببوليمرات نانوية يحسن امتصاص العناصر الغذائية (مثل النيتروجين والفوسفور) بنسبة 40%، مما يعزز نمو المحاصيل ويقلل التلوث البيئي.

ونشر في مجلة Journal of Arid Environments (2022) أن استخدام مستشعرات نانوية لمراقبة جودة التربة في مشروع «نيوم» بالمملكة العربية السعودية قلل من استخدام الأسمدة الكيماوية بنسبة 50%. ووفقا لبحث في مجلة Journal of Agricultural and Food Chemistry (2020)، فإن الأسمدة النانوية المغلفة (Nanoencapsulated fertilizers) تزيد من امتصاص العناصر الغذائية بنسبة 40% مقارنة بالأسمدة التقليدية؛ لأنها تحمي المغذيات من التبخر أو التسرب. أما من ناحية المبيدات النانوية، فقد أظهرت دراسة في مجلة International Nano Letters (2021) أن جسيمات النحاس النانوية (CuNPs) تثبط نمو الفطريات المسببة لأمراض النباتات بكفاءة أعلى وبجرعات أقل. ويشير بحث منشور في Pest Management Science إلى أن جسيمات النانو الفضة تُثبّط نمو الميكروبات الضارة دون الإضرار بالكائنات النافعة، مما يخفض استخدام الكيماويات بنسبة 70%.

ويمكن تطبيق استخدام هذه التقنيات في زراعة النخيل، خاصة تلك التي تعاني من أمراض مثل «التفحم الكاذب» (المعروف أيضا باسم التبقع الأسود الكاذب) وهو مرض فطري يصيب أشجار النخيل، مع تقليل التلوث الكيميائي في التربة.

3. إحياء الأراضي المتدهورة

طور العلماء مواد نانوية (كالجسيمات الكربونية) تحسن خصوبة التربة عبر امتصاص الأملاح الزائدة وإطلاق العناصر الدقيقة، مما ينعكس إيجابا على نمو المحاصيل في المناطق المتأثرة بالتملح.

ووفقا لبحث في مجلة Arabian Journal of Chemistry (2023)، أدى استخدام الأسمدة النانوية في مزارع أبوظبي إلى زيادة إنتاج الطماطم بنسبة 30% مع توفير 40% من مياه الري تحت ظروف الري المالح. وتوضح دراسة بمجلة Science of the Total Environment أن إضافة جسيمات نانوية مشتقة من الكربون (مثل البيوشار النانوي) إلى التربة المالحة يقلل تركيز الأملاح بنسبة 35% ويعيد توازن العناصر الدقيقة مثل الحديد والزنك. وفي تجربة نشرت بمجلة Environmental Science: Nano (2022)، تم استخدام جسيمات نانوية من البايوتشار (Biochar nanoparticles) لامتصاص الأملاح الزائدة في التربة، مما أدى إلى خفض ملوحة التربة بنسبة 25% وتحسين إنبات البذور بنسبة 40%. وتستخدم الأغشية النانوية من أكسيد الجرافين في تصفية الأملاح من مياه الري، مما يحسن جودتها ويجعلها صالحة للزراعة. كما أشارت دراسة في مجلة Scientific Reports (2023) إلى أن الجسيمات النانوية الكربونية تعزز نشاط الكائنات الحية الدقيقة المفيدة في التربة، مما يسهم في استصلاح الأراضي المتدهورة. هذه التقنيات قد تنعش الزراعة في محافظات شمال وجنوب الباطنة والظاهرة والشرقية، حيث تتفاقم مشكلة تملح الأراضي بسبب الاستخدام المتزايد للمياه المالحة وسوء الصرف.

4. محاصيل أقوى

وتستخدم الجسيمات النانوية (مثل أكسيد الزنك) لحماية النباتات من الإجهاد الحراري والجفاف، وهي مشكلات شائعة في المناخ العماني، كما تحفز هذه المواد نمو الجذور وزيادة الإنتاجية.

أثبتت دراسة في مجلة Plant Physiology and Biochemistry (2021) أن رش نباتات القمح بجسيمات ثاني أكسيد السيليكون النانوية (ZnO NPs) يزيد من قدرتها على تحمُّل الجفاف عن طريق تعزيز نشاط الإنزيمات المضادة للأكسدة ويزيد من تحمُّلها للإجهاد الحراري بنسبة 60%. وفي بحث آخر بمجلة Frontiers in Plant Science (2022)، تم استخدام جسيمات ثاني أكسيد التيتانيوم النانوية (TiO₂ NPs) لحماية محاصيل القمح من الأشعة فوق البنفسجية في المناطق الحارة، مما رفع الإنتاجية بنسبة 20%. ويشير بحث آخر في مجلة ACS Nano إلى أن جسيمات سيريوم أوكسيد النانوية تقلل تلف الخلايا النباتية الناجم عن الأشعة فوق البنفسجية وارتفاع الحرارة، مما يزيد إنتاجية الطماطم بنسبة 25%.

وقد تدعم هذه الحلول زراعة القمح والشعير من حيث رفع الإنتاجية في محافظات ظفار (النجد) والظاهرة والداخلية، التي تعاني من ارتفاع درجات الحرارة، كذلك رفع إنتاج محصول الطماطم في محافظتَي شمال وجنوب الباطنة.

التحديات: طريق سلطنة عمان نحو الزراعة النانوية

رغم الإمكانات الكبيرة، فقد تواجه السلطنة عددا من التحديات في تبني هذه التقنيات، ومن أهمها:

البحث والتطوير:

فوفقا لتقرير البنك الدولي (2023)، تحتاج دول الخليج إلى استثمار 1.5% من الناتج المحلي في البحث العلمي لتبني تقنيات متقدمة مثل النانو، بينما لا تتجاوز النسبة في سلطنة عمان حاليا 0.2%. وبالرغم من وجود مركز أبحاث تقنية النانو الذي تأسس في عام 2017م والذي يعد امتدادا للكرسي البحثي لتقنية النانو في مجال تحلية المياه والذي أسس في أكتوبر 2011م بتمويل مشترك بين مجلس البحث العلمي وجامعة السلطان قابوس، فإن السلطنة تحتاج إلى المزيد من المراكز المتخصصة في النانو تكنولوجي مدعومة بتعاون بين الجامعات والقطاع الخاص.

التكلفة والتمويل

يتطلب تطوير المواد النانوية استثمارات مبدئية كبيرة، لكنها قد تعوض على المدى الطويل عبر زيادة الإنتاج. ففي دراسة في مجلة Nature Nanotechnology (2021) تشير إلى أن تكلفة إنتاج الأسمدة النانوية انخفضت بنسبة 60% خلال العقد الماضي بسبب التقدم التكنولوجي، مما يجعلها في متناول المزيد من الدول.

القبول المجتمعي

يجب توعية المزارعين والمستهلكين بسلامة المنتجات الزراعية النانوية وفوائدها. ووفقا لاستطلاع أجرته مجلة Agriculture & Food Security (2022)، فإن 70% من المزارعين في الشرق الأوسط يترددون في استخدام التقنيات النانوية بسبب نقص المعرفة، مما يؤكد الحاجة لحملات توعوية.ومع ذلك، تتمتع سلطنة عمان بفرص كبيرة وواعدة، خاصة مع تركيز «رؤية عُمان 2040» على الابتكار والاستدامة. فقد بدأت بعض المبادرات، مثل مشاريع تحلية المياه باستخدام أغشية نانوية، والتي يمكن توسيعها لدعم القطاع الزراعي والأمن الغذائي بالسلطنة. ولتحقيق الاستفادة القصوى يجب على سلطنة عمان إنشاء برامج بحثية بالشراكة مع مراكز دولية متخصصة مثل معهد مصدر في الإمارات (المتخصص في تقنيات النانو للزراعة المستدامة) والمركز الدولي للزراعة الملحية (ICBA). ودعم الشركات الناشئة في مجال الزراعة التكنولوجية لإنتاج مواد نانوية مفيدة للزراعة. بالإضافة إلى تطوير تشريعات واضحة لضمان الاستخدام الآمن للتقنيات النانوية.

وختاما يجب التأكيد على أن تقنية النانو ليست مجرد تطور علمي، بل هي ثورة قادرة على تغيير طريقة حياتنا. من خلال فهمنا لتاريخها وتطورها، مما يمكننا من تقدير الإمكانات الهائلة التي تقدمها لمستقبل البشرية. ومع استمرار الدول في استثمار الموارد في هذا المجال، ستظل تقنية النانو محركا رئيسيا للابتكار والتنمية في العقود القادمة. وحيث إن الدراسات العلمية الحديثة تؤكد أن التقنيات النانوية ليست خيالا علميا، بل أداة قابلة للتطبيق حتى في البيئات الصعبة مثل سلطنة عمان. وبدمج هذه الأبحاث مع السياسات الفعالة، يمكن تحويل الزراعة النانوية إلى نموذج للذكاء والاستدامة.

نستطيع القول بأن التقنيات النانوية تمثل فرصة ذهبية لسلطنة عمان لتحويل تحدياتها البيئية إلى نقاط قوة، عبر زراعة ذكية تعتمد على الموارد المتاحة بكفاءة. وبدمج هذه التكنولوجيا مع السياسات الحكومية الداعمة، يمكن لعمان أن تصبح نموذجا للزراعة المستدامة المعتمدة على التقنيات الحديثة في المنطقة، مما يعزز أمنها الغذائي ويحفز الاقتصاد المحلي. والمستقبل يبدأ بحبة نانوية!

د. سيف بن علي الخميسي مدير مركز بحوث النخيل والإنتاج النباتي - وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه

مقالات مشابهة

  • مجلة TIME الأمريكية تضع فنادق جدة التاريخية ضمن أعظم الأماكن في العالم لعام 2025
  • الجيش الأوكراني يسقط 72 طائرة مُسيرة روسية خلال الليل
  • التقنيات النانوية .. ثورة خضراء جديدة لإنقاذ الزراعة
  • قصور الثقافة بالغربية تنظم العديد من الفعاليات احتفالا بعيد الأم وشهر رمضان
  • العميد يقرر منح لاعبي المنتخب راحة من التدريبات فور وصول البعثة إلى المغرب
  • أم الشهيد العميد محمد سمير: سعيدة لتكريمي ضمن الأمهات المثاليات
  • معتمر مصري: فضل الله هو الذي جعل الحرمين في أيدٍ أمينة بيد السعوديين.. فيديو
  • العميد طارق صالح يتفقد جاهزية قطاع أمن الساحل الغربي
  • من الريف لقمة المجد الفني.. مؤرخ موسيقي: «أم كلثوم» أيقونة خالدة تُنير دروب الأجيال الجديدة
  • «مش بيحب يجيب سيرة حد».. محمد رجب يشيد بالفنان أحمد عز