بقلم: اسماعيل الحلوتي
في أول مشاركة له في الجمعية العامة للأمم المتحدة التي انطلقت دورتها 78 يوم الثلاثاء 19 شتنبر 2023 وستتواصل إلى غاية يوم 26 منه في نيويورك، بحضور قادة وزعماء بلدان العالم. كان على الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون المعين من قبل النظام العسكري الجزائري، أن يحاول بكل ما يملك من قوة أن يستغل خطابه من جهة في محو آثار الخيبة التي خلفها رفض منظمة "البريكس" طلب بلاده في الانضمام إليها، ولاسيما أنه كان يراهن عليها في تحقيق مكسب كبير، يجعله يتباهى أمام الشعب الجزائري "المقهور" لضمان الفوز بولاية رئاسية ثانية في الانتخابات المزمع تنظيمها في العام القادم 2024، ومن جهة ثانية في مهاجمة المغرب حول صحرائه.
فكان أن عمل فقط على تعميق العزلة التي تعيشها بلاده، بسبب تعنت النظام العسكري الحاكم الفعلي للجزائر وتماديه في استفزازات المغرب ومعاكسة وحدته الترابية، حيث قال بأن بلاده تتطلع للوصول إلى تصفية نهائية لظاهرة الاستعمار مع آخر مستعمرة إفريقية، إذ لا يزال شعب بأكمله في "الصحراء الغربية" محروما من حقه الأساسي في تقرير المصير، عبر استفتاء حر ونزيه، يتوافق مع خطة التسوية الأممية الإفريقية، التي اعتمدها مجلس الأمن سنة 1991، ووافق عليها الطرفان والتي تظل تنتظر التطبيق" خلافا لما كان أقدم عليه جلالة المغفور له الملك الراحل محمد الخامس منذ أزيد من ستة عقود وبالضبط في 9 دجنبر 1957 حيث طالب من على ذات المنبر أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة باستقلال الجزائر ودعم جهودها في أن يكون لها الحق في تقرير مصيرها.
ترى لما يصر حكام قصر المرادية في الجزائر على التنكر لمن ساهم في تحرير بلادهم واحتضن جيشها ومول هياكلها قبل حتى أن تقف على قدميها، أن ينعتوه بالبلد المحتل للصحراء، التي هي في الواقع جزء من ترابه، كما يشهد بذلك العديد من بلدان العالم؟ وهل من الحكمة أن يتحدث عن حقوق الإنسان من أجاز لنفسه فرض الأحكام العرفية على منطقة القبايل وخنق الحريات ومصادرة الحقوق، كما يشهد بذلك المرسوم الرئاسي المؤرخ في 10 يونيو 2021 القاضي بتجريم حرية التعبير والضمير والتجمع السلمي؟ ثم كيف يتحدث عن السلم وحسن الجوار من يصر منذ عقود على مواصلة دعم ميليشيات البوليساريو الانفصالية والإرهابية في خوض حرب بالوكالة على أراضي جيرانه، سعيا إلى محاولة تفتيت المغرب، معطلا بذلك جهود التنمية والتكامل ووحدة الشعوب المغاربية؟
ولعل أكبر فضيحة تعرض لها الرئيس الجزائري تبون أمام العالم، ليست هي قاعة الاجتماعات التي بدت شبه فارغة أثناء الاستعداد لإلقاء كلمته، كما كانت الصورة تعبر عن ذلك لمدة حوالي نصف ساعة، وهي التي كانت ممتلئة عن آخرها خلال كلمة جون بايدن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن ظلت أبواق النظام العسكري الإعلامية تروج لقوة صوت الجزائر في العالم، بدعوى أنه صوت العقل والحكمة والحقيقة. فأي إهانة أفظع من أن يجد رئيس "القوة الضاربة" نفسه يخاطب الكراسي، في لقاء هام تناقلت أحداثه أبرز القنوات والصحف الدولية؟
بل في تلك "القنبلة" التي فجرها أمام أنظار الحاضرين وملايين المشاهدين، وجرت عليه مرة أخرى موجة عارمة من السخرية في عدد من وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، عندما قال بأن بلاده سوف تصل لإنتاج مليار و300 مليون متر مكعب يوميا من الماء المحلى مع نهاية سنة 2024، علما أن دول العالم التي تتوفر مجتمعة على أزيد من 18 ألف محطة تحلية مياه البحر، لا تستطيع إنتاج عدا 95 مليون متر مكعب يوميا. وأن أكبر دولة في إنتاج المياه المحلاة في العالم هي المملكة العربية السعودية، التي تنتج مليار وستة ملايين متر مكعب من المياه سنويا وليس يوميا، وهو ما يعادل 18 في المائة من الإنتاج العالمي، تليها الإمارات ب"14" في المائة من إجمالي المياه المحلاة. وهي "القنبلة" التي أعادت إلى الأذهان ادعاءه في لقاء إعلامي سابق أن الأمير عبد القادر الجزائري تسلم مسدسات من الرئيس الأمريكي جورج واشنطن، في حين أن هذا الأخير توفي في 14 دجنبر 1799، أي قبل أن يولد الأول في دجنبر 1808...
إن الرئيس الجزائري "عمي تبون" وعلى عكس ما كان ينوي تحقيقه من "مكاسب" أمام قادة وزعماء دول العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة تقوده لولاية ثانية، أثبت للعالم أجمع أنه يمثل نظاما أهوج من سماته المميزة الإكثار من الكذب والميل المتزايد نحو تزييف الحقائق وتضخيم الأرقام في جميع المجالات، ناهيكم عن تكريس الحقد والكراهية ضد المغرب ومعاكسة وحدته الترابية.
ألا يعلم سيادته أن الأمم المتحدة أقبرت خيار الاستفتاء في الصحراء المغربية بصفة نهائية منذ عقود، ليستمر في المطالبة بإجرائه وممارسة السباحة ضد الدينامية التي أطلقتها قرارات مجلس الأمن الأممي، التي تدعم بقوة الحل السياسي والواقعي، وغير المنفصل عن مخطط الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب منذ عام 2007؟
المصدر: أخبارنا
إقرأ أيضاً:
ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
ما دمنا لم نفارق بعد نظام القطب الواحد المهيمن على العالم تظل النظرية القديمة التي نقول إن الشعب الأمريكي عندما يختار رئيسه فهو يختار أيضا رئيسا للعالم نظرية صحيحة. ويصبح لتوجه هذا الرئيس في فترة حكمه تأثير حاسم على نظام العلاقات الدولية وحالة الحرب والسلم في العالم كله.
ولهذا فإن فوز دونالد ترامب اليميني الإنجيلي القومي المتشدد يتجاوز مغزاه الساحة الداخلية الأمريكي وحصره في أنه يمثل هزيمة تاريخية للحزب الديمقراطي أمام الحزب الجمهوري تجعله عاجزا تقريبا لمدة ٤ أعوام قادمة عن منع ترامب من تمرير أي سياسة في كونجرس يسيطر تماما على مجلسيه.
هذا المقال يتفق بالتالي مع وجهة النظر التي تقول إن اختيار الشعب الأمريكي لدونالد ترامب رئيسا للمرة الثانية ـ رغم خطابه السياسي المتطرف ـ هو دليل على أن التيار الذي يعبر عنه هو تيار رئيسي متجذر متنامٍ في المجتمع الأمريكي وليس تيارا هامشيا.
فكرة الصدفة أو الخروج عن المألوف التي روج لها الديمقراطيون عن فوز ترامب في المرة الأولى ٢٠١٦ ثبت خطأها الفادح بعد أن حصل في ٢٠٢٤ على تفويض سلطة شبه مطلق واستثنائي في الانتخابات الأخيرة بعد فوزه بالتصويت الشعبي وتصويت المجمع الانتخابي وبفارق مخيف.
لكن الذي يطرح الأسئلة الكبرى عن أمريكا والعالم هو ليس بأي فارق من الأصوات فاز ترامب ولكن كيف فاز ترامب؟ بعبارة أوضح أن الأهم من الـ٧٥ مليون صوت الشعبية والـ٣١٢ التي حصل عليها في المجمع الانتخابي هو السياق الاجتماعي الثقافي الذي أعاد ترامب إلى البيت الأبيض في واقعة لم تتكرر كثيرا في التاريخ الأمريكي.
أهم شيء في هذا السياق هو أن ترامب لم يخض الانتخابات ضد هاريس والحزب الديمقراطي فقط بل خاضه ضد قوة أمريكا الناعمة بأكملها.. فلقد وقفت ضد ترامب أهم مؤسستين للقوة الناعمة في أمريكا بل وفي العالم كله وهما مؤسستا الإعلام ومؤسسة هوليوود لصناعة السينما. كل نجوم هوليوود الكبار، تقريبا، من الممثلين الحائزين على الأوسكار وكبار مخرجيها ومنتجيها العظام، وأساطير الغناء والحاصلين على جوائز جرامي وبروداوي وأغلبية الفائزين ببوليتزر ومعظم الأمريكيين الحائزين على نوبل كل هؤلاء كانوا ضده ومع منافسته هاريس... يمكن القول باختصار إن نحو ٩٠٪ من النخبة الأمريكية وقفت ضد ترامب واعتبرته خطرا على الديمقراطية وعنصريا وفاشيا ومستبدا سيعصف بمنجز النظام السياسي الأمريكي منذ جورج واشنطن. الأغلبية الساحقة من وسائل الإعلام الرئيسية التي شكلت عقل الأمريكيين من محطات التلفزة الكبرى إلي الصحف والمجلات والدوريات الرصينة كلها وقفت ضد ترامب وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم ينحز منها صراحة لترامب غير موقع إكس «تويتر سابقا». هذه القوة الناعمة ذات السحر الأسطوري عجزت عن أن تقنع الشعب الأمريكي بإسقاط ترامب. صحيح أن ترامب فاز ولكن من انهزم ليس هاريس. أتذكر إن أول تعبير قفز إلى ذهني بعد إعلان نتائج الانتخابات هو أن ترامب انتصر على هوليوود. من انهزم هم هوليوود والثقافة وصناعة الإعلام في الولايات المتحدة. لم يكن البروفيسور جوزيف ناي أحد أهم منظري القوة الناعمة في العلوم السياسية مخطئا منذ أن دق أجراس الخطر منذ ٢٠١٦ بأن نجاح ترامب في الولاية الأولى هو مؤشر خطير على تآكل حاد في القوة الناعمة الأمريكية. وعاد بعد فوزه هذا الشهر ليؤكد أنه تآكل مرشح للاستمرار بسرعة في ولايته الثانية التي تبدأ بعد سبعة أسابيع تقريبا وتستمر تقريبا حتى نهاية العقد الحالي.
وهذا هو مربط الفرس في السؤال الكبير الأول هل يدعم هذا المؤشر الخطير التيار المتزايد حتى داخل بعض دوائر الفكر والأكاديميا الأمريكية نفسها الذي يرى أن الإمبراطورية ومعها الغرب كله هو في حالة أفول تدريجي؟
في أي تقدير منصف فإن هذا التآكل في قوة أمريكا الناعمة يدعم التيار الذي يؤكد أن الامبراطورية الأمريكية وربما معها الحضارة الغربية المهيمنة منذ نحو٤ قرون على البشرية هي في حالة انحدار نحو الأفول. الإمبراطورية الأمريكية تختلف عن إمبراطوريات الاستعمار القديم الأوروبية فبينما كان نفوذ الأولى (خاصة الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية) على العالم يبدأ بالقوة الخشنة وبالتحديد الغزو والاحتلال العسكري وبعدها يأتي وعلى المدى الطويل تأثير قوتها الناعمة ولغتها وثقافتها ونظمها الإدارية والتعليمية على شعوب المستعمرات فإن أمريكا كاستعمار إمبريالي جديد بدأ وتسلل أولا بالقوة الناعمة عبر تقدم علمي وتكنولوجي انتزع من أوروبا سبق الاختراعات الكبرى التي أفادت البشرية ومن أفلام هوليوود عرف العالم أمريكا في البداية بحريات ويلسون الأربع الديمقراطية وأفلام هوليوود وجامعات هارفارد و برينستون ومؤسسات فولبرايت وفورد التي تطبع الكتب الرخيصة وتقدم المنح وعلى عكس صورة المستعمر القبيح الأوروبي في أفريقيا وآسيا ظلت نخب وشعوب العالم الثالث حتى أوائل الخمسينات تعتقد أن أمريكا بلد تقدمي يدعم التحرر والاستقلال وتبارى بعض نخبها في تسويق الحلم الأمريكي منذ الأربعينيات مثل كتاب مصطفى أمين الشهير «أمريكا الضاحكة». وهناك اتفاق شبه عام على أن نمط الحياة الأمريكي والصورة الذهنية عن أمريكا أرض الأحلام وما تقدمه من فنون في هوليوود وبروداوي وغيرها هي شاركت في سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي بنفس القدر الذي ساهمت به القوة العسكرية الأمريكية. إذا وضعنا الانهيار الأخلاقي والمستوى المخجل من المعايير المزدوجة في دعم حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية للفلسطينيين واللبنانيين والاستخدام المفرط للقوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية كأدوات قوة خشنة للإمبراطورية الأمريكية فإن واشنطن تدمر القوة الناعمة وجاذبية الحياة والنظام الأمريكيين للشعوب الأخرى وهي واحدة من أهم القواعد الأساسية التي قامت عليها إمبراطورتيها.
إضافة إلى دعم مسار الأفول للإمبراطورية وبالتالي تأكيد أن العالم آجلا أو عاجلا متجه نحو نظام متعدد الأقطاب مهما بلغت وحشية القوة العسكرية الأمريكية الساعية لمنع حدوثه.. فإن تطورا دوليا خطيرا يحمله في ثناياه فوز ترامب وتياره. خاصة عندما تلقفه الغرب ودول غنية في المنطقة. يمكن معرفة حجم خطر انتشار اليمين المتطرف ذي الجذر الديني إذا كان المجتمع الذي يصدره هو المجتمع الذي تقود دولته العالم. المسألة ليست تقديرات وتخمينات يري الجميع بأم أعينهم كيف أدي وصول ترامب في ولايته الأولى إلى صعود اليمين المتطرف في أوروبا وتمكنه في الوقت الراهن من السيطرة على حكومات العديد من الدول الأوروبية بعضها دول كبيرة مثل إيطاليا.
لهذا الصعود المحتمل لتيارات اليمين المسيحي المرتبط بالصهيونية العالمية مخاطر على السلم الدولي منها عودة سيناريوهات صراع الحضارات وتذكية نيران الحروب والصراعات الثقافية وربما العسكرية بين الحضارة الغربية وحضارات أخرى مثل الحضارة الإسلامية والصينية والروسية.. إلخ كل أطرافها تقريبا يمتلكون الأسلحة النووية!!
حسين عبد الغني كاتب وإعلامي مصري