لجريدة عمان:
2024-09-19@05:00:54 GMT

النظام الفاتر والنظام النامي

تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT

جاء في «لسان العرب» لابن منظور: (النَّظْم: التأليف.. وكل شيء قرنتَه بآخر أو ضممتَ بعضه إلى بعض فقد نظمته. والانتظام: الاتِّساق. ونظام كل أمر: مِلاكه. والجمع.. أنظمة وأناظيم)، هذا المعنى اللغوي.. استعمل في الحقل الأدبي ليدل على نوع من الشعر، يهتم غالبا بنظم فن من العلوم، أطلق عليه: منظومة، والجمع: مناظيم، (ومنه نظمت الشعر ونظّمته).

«النظام».. تطور من معنى (مِلاك الأمر) إلى مصطلح يعني آلية عمل مؤسسي لمجموعة عناصر منسجمة ومتكاملة لتسيير قطاع من الحياة، لأجل تحقيق أهداف مقصودة، هذه العناصر تقوم على رؤية واضحة ومنطق محدد وقيم إنتاج. فهناك الأنظمة: السياسية والاجتماعية والحيوية والفيزيائية والوظيفية.. إلخ، ولذلك؛ اتخذ النظام تعريفه بحسب العلم الذي يستعمله، بيد أن التعريفات تتفق على أنه مجموعة العناصر المتسقة التي تعمل معاً بشكل علمي، بحيث إن كل عنصر يقوم بعمله محركا العناصر الأخرى، ولو أن عنصراً تخلّف عن القيام بدوره لأي سبب كان؛ فلا يُعدّ جزءاً من النظام، وكذلك؛ لو اكتشف أن ضمّه كان خطأً أو وهماً، فعُدِّل وصف النظام؛ بحيث لا يصبح ذلك العنصر من مكوناته. فلو فرضنا أن نظاماً ما يقوم في تشغيله وإدارته على الخبرة، ثم تحوّل إلى اعتماد الانتخاب، فالخبرة لن تعتبر من عناصره، رغم أن بعض المنتخَبين قد يكونون خبراء، اللهم إلا إن كان الانتخاب من ذوي الخبرة فقط، فيكون عنصرا الخبرة والانتخاب من مكونات هذا النظام.

النظام.. قرين المنطق، فإن كان المنطق هو الإطار النظري لعلم ما؛ فإن النظام هو الإطار العملي لتحويل ذلك العلم إلى مؤسسة انتاج. فالطب -مثلاً- له منطقه، ولا يتحول إلى مؤسسة صحية إلا في ظل نظام علمي. وإذا كان المنطق تحكمه قواعد كلية وقوانين تفصيلية؛ فإن النظام تحكمه البيروقراطية، وكما لا يجوز للمنطق الخروج على قواعد العلم وقوانينه؛ كذلك لا يسمح النظام خروجَ مقطوراته عن سكة البيروقراطية.

لقد تكلمت عن البيروقراطية في مقالي «ما بعد البيروقراطية.. وضرورة التحوّل الإداري» [جريدة «عمان»، 27/ 9/ 2021م]، وقلت: (على الجهاز الإداري أن يتجاوز برتوكولات البيروقراطية المعتادة، بل عليه أن يتجاوزها بأسرها؛ بما في ذلك اسمها، وأن يطويها بيد الشكر، ويرفعها في تأريخ الأنظمة التي تعاقب الإنسان على الاستفادة منها، وأن يعلن بأنه اعتمد نظام «ما بعد البيروقراطية»). ورغم صعوبة التحول عن البيروقراطية في أنظمتنا؛ فإن الزمن سيفرض تحولاته «ما بعد البيروقراطية»؛ باتجاه أدوات جديدة تسيّر الأنظمة، وهذا لا يعني أن هذه الأدوات ستلغي سلسلة عمل النظام، بل ستبقى؛ ولكن بطرق تتلاءم مع متطلبات الحياة الجديدة، وهذا التطور هو قاعدة مطردة في أنظمة الحياة، بما في ذلك العلوم ومنطقها ومناهجها، التي تشهد تحولاً بحسب التقدم في المكتشفات فيها، وإعادة صياغة قواعدها وقوانينها.

وبعد؛ فلنأتِ إلى النظام الفاتر والنظام النامي.

النظام الفاتر.. كيان ذو رؤية محددة ونسق إجرائي صارم وآليات تنفيذ متسلسلة ومعهودة. الرؤية فيه غير قابلة للتطور، فهو مغلق يرفض أن تزاحمه أية رؤية أخرى، ولو كانت أفضل وتدفع به إلى الأمام. ولديه في ذلك تبرير بأنه هو الأصلح للمجتمع، وقد أثبت جدواه منذ إنشائه، وطالما أنه صالح للخدمة فلماذا نطوّره! وأن المجتمع يرفض أي نظام بديل عنه، وربما يثور ويدخل في فوضى، والبديل غير مجرَّب مما قد يجلب مساوئه للمجتمع. وقد تشتد المعارضة في تغيير رؤية هذا النظام من داخله أكثر من المجتمع، لأنه بمرور الأيام يكون هدفه البقاء، وليس تقدّم المجتمع وتحقيق مصالحه، بل أن رؤيته قد تُنسى؛ فيصبح عمله ميكانيكياً، وتظهر لرؤيته -دون أن تتغير- تبريرات تتناسب مع تحولات الحياة، لكي يحافظ على وجوده، وتغدو الوسائل فيه غايات والشكليات جوهريات.

النظام الفاتر.. رتيب، ومريح للعاملين فيه، غير أنه لا يطوّر من خبراتهم، ولا ينهض بقدراتهم، ولا يفتح آفاق العمل أمامهم. وهو بانغلاقه قد يمنع دخول بعض سلبيات الأنظمة الأخرى إلى المجتمع، ولكنه أيضاً يمنع الاستفادة من إيجابياتها. وهذا النظام يصاب بالجمود، ويصبح غير قابل للتغيّر بسهولة، كالأنظمة القبلية والدينية والعرقية، تليها الأنظمة السياسية المستبدة، ثم الأنظمة الاقتصادية الموجَهة.

وهو نظام.. مَن ينتسب إليه ليس بمقدوره إلا أن يعمل تحت آلياته الصارمة، بل النظام -كما قلت- لا يقبل أن ينتسب إليه صاحب رؤية؛ مهما بدت أنها ستفعّل عملَ النظام وتخدم المجتمع، لأن النظام لا يرى المجتمع إلا من خلاله. والأكثر من ذلك؛ أن المجتمع قد لا يرى نفسه إلا من خلال النظام الذي يهيمن عليه، وهذا يتضح في المجتمعات التي تسودها الأنظمة الجامدة؛ سواءً أكانت سياسية أم قبلية أم دينية.

إن النظام الفاتر لن تتركه تحولات الحياة على انغلاقه، فإن لم ينفتح ستتجاوزه الأيام، وستأتي عليه ساعة الصفر التي ينهار فيها؛ فيدخل المجتمع في فوضى، قد يحتاج مدة طويلة حتى يستعيد استقراره في ظل أنظمة أكثر حيوية وانفتاحاً. لكن الانهيار قد لا يكون سريعاً، فقد يتمكن النظام من ترميم نفسه لإطالة أمده، دون أن يستطيع التقدم نحو وضع أفضل، فضلا عن منافسته للأنظمة النامية.

أما النظام النامي.. فلديه كفاءة في استقطاب مختلف الرؤى وتفعيلها، بحيث إن كل رؤية هي إضافة له، ويحرر منتسبيه من كونهم أدوات إجرائية ليصبحوا عقولاً مفكِّرة. والمجتمع.. الذي يسوده هذا النظام مجتمع ديناميكي حر، يطوّر من وعيه بالحياة، ويسهم في تنمية أفراده. وهذا النظام.. لا يعني أنه هلامي لا تحكمه آليات عمل، أو لا يملك رؤية محددة، فلو أنه كذلك لما كان من الأساس نظاماً، بل الرؤية لديه واضحة ويتطور بوعي، ويؤكد على الالتزام بالقيم الأخلاقية. والرؤى الجديدة التي تتحصل لديه من منتسبيه؛ تستنير بها رؤيته.

النظام النامي.. يتحلى بأمرين:

- القدرة الذكية على اجتذاب أصحاب الرؤى الفاعلة والملهمة، فهو مهيأ بالأساس للتطور ويزعجه الجمود، ودرجة قلقه من التغيير ضعيفة. بل لديه قرون استشعار يبصر بها القدرات التي تضيف إلى فاعليته، ولا تحجبه عنها المصالح الذاتية لمنتسبيه، لأن لديه حساسية مفرطة من وجود مصالح ذاتية قد تصيبه بالفتور.

- القدرة على تفعيل آليات عمله بتجدد رؤيته، وهو بجوهره قادر أن يفكر بأدوات متطلعة للمستقبل، غير مكبلة بقيود الماضي، وهذا فارق جوهري بين النظامين، فالنظام الفاتر.. ينظر لأمجاد الماضي، والنظام النامي.. ينظر لصناعة المستقبل.

ومع ذلك؛ على الأنظمة النامية أن تحذر من النزق نتيجة حماس بعض منتسبيها، فيجعلون النظام مشاعاً لكل رأي فطير أو تغيير من دون تقدير، فالنظام النامي.. ينبغي أن يتخمّر الرأي لديه حتى يصبح رؤية ناضجة ليسير عليها، لا أن تقفز به الآراء في عماء الفراغ.

على المجتمعات الذكية ألا تنفتح أنظمتها الفاترة فجأة، فالأنظمة فجائية الانفتاح سرعان ما تنهار، فهي واقعاً ليست بأنظمة، بل تعيش مرحلة مراهقة تكثر فيها أحلام اليقظة. والمجتمع الذكي.. لا تحبسه الأنظمة الفاترة في الماضي، وإنما يبني أنظمة نامية بالمعنى القيمي البنّاء، ويحذر كذلك من الأنظمة المغامرة التي تجر على المجتمع الويلات.

ختاماً.. النظام النامي هو الأنسب للتحولات التي تحدثها الحياة باستمرار؛ لاسيما في العصر الرقمي، فهو إن ظهرت به عيوب، أو أحدث ضجة في المجتمع، قادر على معالجتها حتى يستقر، كما أنه يراقب نفسه من الانغلاق والانفتاح غير المدروس على حدٍ سواء، ولديه رؤى وآليات كفيلة بالحفاظ على مبادئه العليا وقيمه الأخلاقية، وإمداد منتسبيه بروح يجعل رؤيتهم متقدة ومتطورة باستمرار

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا النظام نظام م

إقرأ أيضاً:

«الخدمات الصحية» تدعم برنامج «تصفير البيروقراطية»

دبي: «الخليج»
في إنجاز لافت يُضاف إلى رصيدها الحافل بالنجاحات، حققت مؤسسة الإمارات للخدمات الصحية المرتبة الثانية على مستوى 32 جهة اتحادية ضمن منظومة «إطار الخدمات الرقمية الحكومية عبر الإنترنت» لعام 2023 التي تنقسم إلى مؤشرين، هما مؤشر المشاركة الرقمية والبيانات المفتوحة ومؤشر جودة الخدمات الرقمية، وتعد المنظومة إطاراً حديثاً ومتكاملاً طورته هيئة تنظيم الاتصالات والحكومة الرقمية «تدرا» لتقييم الخدمات الرقمية التي تقدمها الجهات الحكومية الاتحادية في دولة الإمارات.
وأكدت مباركة إبراهيم، الرئيس التنفيذي للذكاء الاصطناعي، والمدير التنفيذي لقطاع المعلومات بالإنابة في المؤسسة، أن هذا الإنجاز يعد دليلاً واضحاً على التزام المؤسسة بأعلى درجات التميز، وعزمها المضي قدماً لتحقيق المزيد من الإنجازات التي تدعم تطوير العمل الحكومي، وتقديم أفضل الخدمات الرقمية، بما يسهم في تحقيق استراتيجية الحكومة الرقمية لدولة الإمارات - 2025، مضيفاً: «يقرّبنا هذا الإنجاز خطوة من تحقيق أهداف تصفير البيروقراطية الحكومية».
وشملت الخدمات التي تم تقييمها خدمات حكومية (G2G) وخدمات مقدمة للأفراد ولقطاع الأعمال، ويهدف التقييم بشكل عام إلى التشجيع على تقديم خدمات حكومية رقمية متكاملة.

مقالات مشابهة

  • «الوطني الفلسطيني» يدعو المجتمع الدولي للتعامل بشكل عملي مع القرارات الأممية التي تدعم القضية الفلسطينية
  • أستاذ قانون دولي: الـ 12 شهراً القادمة ستحدد مصداقية النظام العالمي في مواجهة الاحتلال
  • رئيس “سدايا”: الخطاب الملكي حمل العديد من المرتكزات التي توضح دور رؤية 2030 في دعم الحراك التنموي بالمملكة
  • أمانة الرياض تفعّل الأنظمة الذكية في شبكات تصريف السيول بالعاصمة
  • مشاهد: حيث تسببت الأنظمة الحزبية و المدنية المترددة في تعطيل مسار الثورة الديسمبرية
  • خلال جلسة الحكومة.. ميقاتي تبلغ بالحوادث الامنية التي تحصل وهذا ما فعله
  • النهج النبوي حارب الأنانية والرأسمالية التي يتغول فيها الأغنياء على حساب الفقراء
  • «الخدمات الصحية» تدعم برنامج «تصفير البيروقراطية»
  • «نقل عجمان» تحصد خمس شهادات «أيزو»
  • العراقي يفتح استيراد أسماك "الكارب الحية" لمدة ثلاثة أشهر