إعداد / د. الخضر عبدالله:

ضمن الحلقات الصحفية التي تنشرها ( عدن الغد)  لأحاديث الرئيس علي ناصر محمد .. يروي في هذا العد دعن العلاقات بين جمهورية اليمن الديمقراطية والسودان .. وقال في حديث مفصل:"زرت السودان أول مرة في تشرين الأول/أكتوبر عام 1969م، عندما كلفني الرئيس سالم ربيع علي نقل رسالة للرئيس السوداني الفريق جعفر النميري والمشاركة في الاحتفالات بذكرى ثورة تشرين الأول/أكتوبر 1964م، التي أطاحت حكم العسكر بقيادة إبراهيم عبود.

تذكرت وأنا أحلّق في الفضاء بين عدن والخرطوم عدداً من الشخصيات السودانية التي كان لها دور بارز في تربية جيل الشباب في جنوب اليمن، وفي مقدمتهم الأستاذ الكبير حسن فريجون، وأستاذي القدير الشيخ أحمد حسن أبو بكر الذي ربطتني به علاقة طيبة عندما كنت طالباً في دار المعلمين بعدن، والأستاذان محمد باب الله  ومتوكل مصطفى نبق.

هبطت بنا الطائرة في مطار الخرطوم عند الفجر حيث انتقلنا إلى أحد فنادقها المتواضعة (غراند أوتيل).

وخلال وجودي في السودان التقيت عدداً من الشخصيات العربية، كالرائد عبد السلام جلود عضو مجلس قيادة الثورة الليبية، وحسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس جمال عبد الناصر، وخالد محيي الدين عضو مجلس الثورة في مصر، وصلاح عمر العلي عضو مجلس الثورة في العراق، والمناضل جورج حبش، وعدداً من قادة حركات التحرر العربي. كان الرئيس النميري، رئيس مجلس قيادة الثورة قد استولى على السلطة في السودان قبل خمسة أشهر بالتعاون والتحالف مع الضباط الناصريين والشيوعيين، وكسب ثقة الجميع في المراحل الأولى لحكمه، من عبد الناصر إلى الكرملين والصين. كانت خبرته في الجيش والرياضة والسباحة أكثر من خبرته وتجربته في السياسة والسلطة التي بدأت تدبّ الخلافات فيها بين مراكز القوى، وكان كل طرف يتربص بالطرف الآخر. فالشيوعيون غير راضين كثيراً عن الانقلابات العسكرية التي اخترعها الضباط السوريون في نهاية الأربعينيات، وكانوا يسعون للوصول إلى السلطة عبر بوابة الانتخابات، ولا عبر الدبابات. شعر بعض الضباط الذين عرفتهم عند زيارتي السودان، في تشرين الأول/أكتوبر عام 1969م، بأن الرئيس وأنصاره الناصريين من أمثال العميد محمود حسيب وزير المواصلات يسعون للتخلص منهم، وأن عليهم أن «يتغدوا بهم قبل أن يتعشى هؤلاء بهم». ولهذا، نفّذ هاشم العطا انقلابه الفاشل على النميري بعد عام من ثورة أيار/مايو 1969م، ما أدى إلى قتله وإعدام كل من بابكر النور  وفاروق عثمان حمد الله ، حيث جرى اختطافهما في الأجواء الليبية وهما في طريقهما من لندن إلى الخرطوم على الطائرة البريطانية يوم 22 تموز/يوليو 1971م، بينما كان هاشم العطا في انتظارهما في مطار الخرطوم، وقد أُجبرت الطائرة على الهبوط في مطار بنغازي، وقامت ليبيا بتسليمهما للنميري الذي أعدمهما. اعترف لي القائد القذافي فيما بعد بأن تسليمهما للنميري كان نقطة سوداء في تاريخ حياته. وتحركت طائرة عراقية من بغداد، وعليها بعض الضباط العسكريين للتهنئة، ولكنها سقطت في ظروف غامضة على الأراضي السعودية قبل وصولها إلى الخرطوم، وفتحت السجون والمحاكم لقتل زعماء هذه الحركة ودفنهم، وحوكم عسكرياً الزعيمان الشيوعيان عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ، وحُكم عليهما بالإِعدام حيث لم تشفع لهما علاقتهما بعبد الناصر وقادة الكرملين وكل نقابات العالم. دخلت السودان مرحلة من أخطر مراحل تاريخها السياسي والنقابي والديمقراطي، وحُلَّت الأحزاب ولوحقَت قياداتها، وشكّل النميري حزبه الخاص، وتحوّل من قائد قريب من الناصرية واليسار والسوفيات إلى صديق للغرب وإسرائيل، وفيما بعد طُرد الخبراء السوفيات، ورُحِّل الفلاشا إلى إسرائيل عبر الخرطوم، واختفى زعيم الحزب الشيوعي محمد إبراهيم نقد والطيب التيجاني وعدد من القيادات داخل السودان حتى قيام حركة أبريل الشعبية عام 1985م، التي أسقطت نظام النميري.

تجربة اليمن الديمقراطية

ويتابع  الرئيس  ناصر  حديثه ويقول:" وبعد حركة ابريل زار عدن لاول مرة محمد ابراهيم  نقد للاطلاع على تجربة اليمن الديمقراطية وقد نظمت له عدد من اللقاءات مع قيادة الحزب والدولة والمنظمات الجماهيرية، واقترحنا عليه أن يحضر جلسة قات ودية تخللها حديث عن العلاقات بين الشعبين السوداني واليمني وعن الشعر والسياسة والأدب وأتذكر أن علي سالم البيض انتقد «محمد ابراهيم نقد» بأن الحزب السوداني فشل في الاستيلاء على السلطة بقيادة الضابط هاشم العطا وبسبب ذلك خسر قيادات وأصدقاء للحزب كالشفيع أحمد الشيخ وعبد الخالق محجوب والقيادي جوزيف قرنق، والمقدم بابكر النور، والرائد فاروق حمدالله وغيرهم. وقد انزعج «نقد» من هذا النقد فقال أنت لا تعرف السودان ونحن لا يمكن أن نحكم السودان كحزب ولو ظهر لينين من قبره فلن يستطيع حكمه أيضاً لأن مجتمعنا مجتمع إسلامي وغير مقبول أن نحكم كحزب شيوعي في المنطقة ولكن ممكن أن نكون شركاء في أي حكومة إذا تحقق ذلك في المستقبل وهذا لم يحدث حتى  وقتنا الحاضر .

وسام النيلين

ويستدرك الرئيس ناصر حديثه قائلا:" خلال حكم النميري التقيته في السودان، ومُنحتُ وسام النيلين من الطبقة الأولى، والتقيته بعد ذلك في عدن، وفي المؤتمرات العربية والإسلامية وحركة عدم الانحياز، وقد كان يشكو آلاماً كثيرة في جسده وبلده، وكنا نحن نشكو تدخل السودان في الشأن اليمني، ولا سيما عندما فُتحت إذاعة خاصة في الخرطوم تهاجم اليمن الديمقراطية بتوجيه من المخابرات الأميركية وبعض أجهزة دول عربية. قدّم إليّ في مؤتمر القمة الإسلامي في الطائف عام 1981م كتابه عن الإسلام، وتحدث عن الإسلام في هذا اللقاء الذي حضره الرئيس علي عبد الله صالح والأمير عبد الله بن عبد العزيز. حاول أن يجعل من نفسه إماماً في السودان، وعلى إثر ذلك كتب إليه السفير الصديق سيد أحمد الحردلو رسالة شعرية ونثرية بعنوان «إلى حضرة الإمام»، ولكن كل ذلك جاء بعد فوات الأوان، إذ لم يشفع له الحديث عن الإسلام وتبني القوانين الإسلامية وتحطيم مئات الصناديق من المشروبات الروحية ورميها في مياه النيل، حيث جرى إسقاطه، كما أشرت.

لقاء مصالحة بين النميري وجون غارنغ

يواصل الرئيس علي ناصر حديثه وقال :" حاول النميري أن يقوم بدور في البحر الأحمر والدول المطلة عليه، فعقد لقاءً في تعز مع الزعماء إبراهيم الحمدي وسالم ربيع علي والجنرال محمد سياد بري، وأثار اللقاء مخاوف بعض الدول العربية كمصر والسعودية، إضافة إلى إسرائيل التي شعرت بخطورة هذا التعاون والتحالف بين هذه الدول التي ترتبط بعلاقات مع السوفيات، وخصوصاً عدن ومقديشو. غير أن هذا اللقاء اليتيم تبخرت نتائجه السياسية والاقتصادية والأمنية قبل مغادرتهم إلى أوطانهم. وقد قمنا بمحاولات لمساعدة السودان على تحقيق لقاء مصالحة بين النميري وجون غارنغ الزعيم الجنوبي، لكن لم ننجح في ذلك، وبعد ذلك بين المشير عبد الرحمن سوار الذهب والرئيس منغستو هيلا مريام وجون غارنغ ولم نفلح أيضاً، ورتبنا لقاءً آخر في عدن بين وزير الدفاع السوداني عثمان عبد الله وجون غارنغ، ولكن محاولاتنا خابت بحكم مشكلة الجنوب العميقة والمستفحلة، وعجز قيادة الشمال عن معالجة هذه الأزمة بنحو جادّ وصادق وشجاع، بعيداً عن استخدام هذه المشكلة في الصراعات بين القوى السياسية على السلطة ومغازلة الجيران والقوى الدولية. وقد تأكد لي أن الجرح عميق في جسم الوحدة الوطنية، وأن القرار خارج عن أيدي المتصارعين.

بعض القادة السودانيين وحدويون نهاراً وانفصاليون ليلاً

ويمكل الرئيس ناصر حديثه ويقول:" كان الشماليون يستخدمون سلاح الإسلام في وجه الجنوب المسيحي والوثني، ويستخدمون سلاح الوحدة في وجه الانفصال والمتمردين الجنوبيين، والجنوبيون يراهنون على الوقت ومحاولة إنضاج الظروف لتحقيق مشاريعهم... وكان جون غارنغ يردد أن بعض القادة السودانيين وحدويون نهاراً وانفصاليون ليلاً، في إشارة إلى حوارهم الذي يجري معه سراً ويعلنون عكس ذلك، وذكرني ذلك بما كان يتردد في اليمن في أثناء حروب الجمهوريين والملكيين حين كان رجال القبائل ملكيين ليلاً وجمهوريين نهاراً... وأكد لي جون غارنغ في عدن موقفه من أنه مع وحدة السودان القوي والمزدهر والديمقراطي، وأنه لا يملك وجوهاً متعددة ولا يحب تبديل القبعات، بخلاف الذين يتحدثون عن السودان ووحدته ويسعون ليل نهار إلى تدميره بين كل صلاة وصلاة... حسب تعبيره وشرح لي أن مشكلته تكمن في أنه مسيحي ملحد، كما يردد البعض، كالترابي والنميري وغيرهما ولكنه يرى نفسه أفضل من الذين يتكلمون عن الإسلام وهم يصدّرون يهود الفلاشا أعداء الإسلام والشعب الفلسطيني إلى فلسطين. وقال إن مشكلته الثانية أنه لا يتكلم اللغة العربية جيداً، وهذا لا يقلقه لأنه لا يسعى لحكم السودان، وكل حلمه أن يعيش في سودان مستقر ومزدهر وديمقراطي. هكذا كان يحدثني عن رؤيته لمستقبل السودان.

معركة السودان بين الإسلام والمسيحية

ويستدرك الرئيس علي ناصر  في حديثه لــ(عدن الغد):" وقد كانت العلاقات بيننا طيبة وعميقة، إذ وقف معنا في أثناء أحداث كانون الثاني/يناير 1986م، ووجه رسالة بأنه مستعد لتقديم ألف مقاتل، وأنهم تحت السلاح لحماية عدن والشرعية فيها. وشكرته آنذاك، فقد كان هو ومنغستو من القيادات التي وقفت معنا في أثناء الأحداث عام 1986م بالرجال والسلاح، وكان ما جمعنا هو الموقف من وحدة اليمن والسودانـ وأعتقد أنه كان صادقاً مع نفسه في مواقفه التي تبنتها حركته، الحركة الشعبية لتحرير السودان، من أجل قيام سودان موحد وديمقراطي وعلماني، وكان ينادي بالفصل بين الدولة والدين، ويردد أنّ الدين لله والسودان للجميع إذا أرادوا أن نتعايش تحت مظلة السودان والإسلام والمسيحية». وقد التقيت قبله وبعده عدداً من الزعماء السودانيين، وحاولنا تقريب وجهات النظر لوقف الحرب وتحقيق السلام في الجنوب. وأتذكر حديثاً مهماً مع الدكتور حسن الترابي في طرابلس في نيسان/أبريل من عام 1989م، بحضور العقيد أبو بكر يونس ومحمد الشريف مسؤول الدعوة الإسلامية في ليبيا، حينها اتهمني الترابي بالانحياز إلى الرئيس منغستو والعقيد جون غارنغ، قائلاً: «إن المعركة هي مع الكنائس العالمية والمسيحية في الجنوب»، وقد قلت له في هذا اللقاء وفي لقاء آخر استمر أكثر من أربع ساعات في القرية السياحية على الساحل الليبي بطرابلس إن السلام يجب أن يعمّ السودان قبل الحديث عن الإسلام في الجنوب، وإنه سيأتي اليوم الذي تقتنع مع غيرك أن جون غارنغ ليس انفصالياً، وقد كررته مع رئيس الوزراء السيد الصادق المهدي بحضور السفير سيد أحمد الحردلو في صنعاء عند زيارته شمال اليمن عام 1988م. وعندما سألني السيد أسامة الباز، مستشار الرئيس المصري، عن العقيد جون غارنغ قلت له: لا سلام من دونه، ولا وحدة للسودان اليوم من دونه، وإنه رجل وحدوي عليكم الاهتمام به والحوار معه، باعتباره من أهم القيادات الوطنية السودانية الجنوبية المثقفة والواعية والمؤمنة بوحدة السودان وبوحدة وادي النيل والعاملين للحفاظ على أمنه واستقراره.

لقاء الرئيس ناصر مع أسامة الباز

ويشرح الرئيس ناصر لقائه مع أسامة البار المصري، حيث قال:" الدكتور أسامة الباز شخصية حوارية بارعة ومثقفة، فبعد سنوات من لقائه وحديثي معه في تشييع جنازة المرحوم باسل الأسد في القرداحة في كانون الثاني/يناير عام 1994م، التقيته في مصر وأكد لي صحة تقييمي للوضع في السودان، وأن جون غارنغ شخص وطني ووحدوي، وبعدها جرت لقاءات معه في مصر على أعلى المستويات، حيث استقبله الرئيس المصري حسني مبارك الذي أكد للأستاذ مكرم محمد أحمد أن جون غارنغ وطني ووحدوي، في حديث مع «المصور» في تموز/يوليو 2001م، ولم أصدق وأنا أقرأ خبراً عن اللقاء الذي جرى في سويسرا بين أنصار من يسمونه «الكافر الملحد جون غارنغ» وأنصار «المسلم المتطرف حسن الترابي» الذي اعتقل على أثر هذا الاتفاق، إذ عدّته الحكومة السودانية بمنزلة إعلان للحرب، وهكذا تنقل جون من بلد إلى بلد للقاء الصادق المهدي ومحمد عثمان المرغني والترابي وغيرهم من القيادات، وتنقلوا هم أيضاً للاجتماع به في أكثر من بلد لطلب وده، فقد كانت قوته في موقفه الوطني الوحدوي أولاً، وثانياً بما لديه من جيش مسلح ومنظم. لقد حارب هؤلاء جميعاً العقيد جون غارنغ وها هم عادوا جميعاً يتحدثون ويحاولون التحالف معه، ويشكلون معه قيادة للمعارضة، فيما قادة النظام يجرون معه المفاوضات والحوارات في أديس أبابا ونيروبي وغيرهما من العواصم العربية والإفريقية. أتساءل دائماً، لماذا أضاعوا كل هذه السنين من عمر السودان؟ ولماذا أهدرت كل هذه الدماء في تلك الحروب التي راح ضحيتها ما يقرب من مليوني سوداني من الشمال والجنوب، وأكلت الزرع والضرع والنسل ودمرت علاقات الشمال بالجنوب.

 كذلك كان العقيد القذافي يعدّه كافراً وملحداً وعميلاً وموالياً للغرب والكنائس العالمية، ولكنه يلتقيه اليوم ويستقبله ويناقش معه المبادرة الليبية المصرية، ويبحث معه الحلول للمشكلة السودانية في الجنوب. التجربة السودانية لا تختلف كثيراً عن التجربة اليمنية قبل الوحدة اليمنية، فالجنوبيون انفصاليون وشيوعيون وملحدون وكفرة وعملاء لموسكو في العهد السوفياتي، والحكام الشماليون رجعيون وخونة وعملاء للأميركان والدول المحافظة، وكل يحاول أن يملي تصوراته ويفرض رؤاه وشروطه، ولكن في الحصيلة النهائية لا تتحقق الوحدة بالحرب، بل تتحقق... بالحوار. وهكذا لن تحلّ مشكلة السودان إلا بوحدة ديمقراطية تتعايش فيها كل الأجناس والأعراق والأديان، لأن الاستقرار في السودان استقرار لوادي النيل والبلدان المجاورة، ولكن ذلك يحتاج إلى إرادة سودانية شجاعة تأخذ في الاعتبار المصالح الوطنية العليا للشعب السوداني والأمة العربية والإسلامية قبل مصالح القوى الإقليمية والدولية.

اتفاق ماجاكوس في كينيا

ويتابع الرئيس علي ناصر  بقوله :" وأخيراً، بعد عشرين سنة من الصراع والحروب بين الشمال والجنوب احتكم الطرفان إلى لغة الحوار في 18 حزيران/يونيو عام 2002م، في ما سُمِّي اتفاق ماجاكوس في كينيا. وقد استقبل الشارع السوداني نبأ الوصول إلى اتفاق بين الحكومة والحركة الشعبية التي يتزعمها جون غارنغ بكثير من الأمل والفرح، وأجمعت القوى السياسية على الترحيب به ووصفته بالإنجاز التاريخي، وعدّته طريقاً إلى تحقيق السلام وإنهاء فصول المأساة الإنسانية التي يعانيها أهل السودان، وخصوصاً في جنوبه. وعلى الحكومة السودانية، بمؤازرة عربية، أن تحاول عمل الكثير للحفاظ على وحدة السودان وإقناع جموع السودانيين بأنه يمكن التعايش ضمن دولة واحدة ترضي كل الثقافات والأعراق والأديان والإثنيات. وبعد ثلاثة وعشرين شهراً على اتفاق ماجاكوس، جرت مفاوضات بين الحكومة السودانية وحركة جون غارنغ تُوِّجت بتوقيع اتفاق 26 أيار/مايو 2004 بشأن اقتسام السلطة والثروة ، وبهذا الاتفاق وضعت الحرب أوزارها، وعاد جون غارنغ إلى الخرطوم الأبطال جماهير الشعب شماله وجنوبه وشرقه وغربه ولم يُستقبَل زعيم استقبال الأبطال مثله على امتداد تاريخ السودان.

ومضى بقوله :" وفي بداية عام 2011 جرى استفتاء أبناء الجنوب على مصيرهم في الوحدة مع الشمال، وصوت 99.84% لمصلحة الانفصال، وقد اعترف الرئيس عمر حسن البشير بهذه النتيجة وقدم التهاني للرئيس سلفا كير رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان بعد حروب استمرت أكثر من 50 عاماً راح ضحيتها ملايين من أبناء السودان، شماله وجنوبه، وبعد حوار دام لأكثر من عشرين عاماً.

(للحديث بقية) .. 



 

المصدر: عدن الغد

كلمات دلالية: الرئیس علی ناصر الرئیس ناصر فی السودان عن الإسلام فی الجنوب أکثر من

إقرأ أيضاً:

قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان (4/5)

المؤلف: دكتور عبد الله الفكي البشير- عدد فصول الكتاب: سبعة فصول- عدد الصفحات: (664)، الناشر ط1: دار باركود للنشر والتوزيع، الخرطوم، 2021، ويجري العمل حالياً لنشر ط2، عن دار الموسوعة الصغيرة للطباعة والنشر والتوزيع، جوبا، 2024

بقلم سمية أمين صديق

المحـــاور
عن مؤلف الكتاب
مدخل
الحوار حول أطروحة المركز والهامش
مفهوم التهميش عند الأستاذ محمود محمد طه
التوجه العربي للسودان وتعميق التهميش وتعزيز الإقصاء
الأمة الأفريقية والدعوة لانسحاب السودان من جامعة الدول العربية
الحزب الجمهوري والعلاقات بين السودان ومصر
جنوب السودان والتاريخ الطويل من التهميش
محمود محمد طه هو السجين الأول والوحيد من أجل جنوب السودان
التنقيب عما بعد التاريخ المعلن: ملاحظات حول كتاب الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان
قضايا التعدد الثقافي ونظام الحكم والمعرفة الاستعمارية واستمرار التهميش
الموقف من مؤتمر البجة/ البجا، أكتوبر 1958
تجليات ضعف الانفتاح على الأرشيف القومي عند المثقفين: الدكتور مجدي الجزولي نموذجاً
الدستور وقضايا التهميش
المرأة أكبر من هُمش في الأرض

تجليات ضعف الانفتاح على الأرشيف القومي عند المثقفين: الدكتور مجدي الجزولي نموذجاً
عبدالله الفكي البشير: "لا تستقيم دراسة التاريخ والشأن الوطني بالخيال وباطمئنان المثقف إلى سقفه المعرفي"

كتب عبدالله، قائلاً: إن استنتاج مجدي الجزولي، والذي أوردناه في الحلقة السابقة، "غير صحيح البتة، وفيه جرأة زائدة وخلاصات ظالمة لنفسها ولكاتبها وللقراء وللتاريخ". وأضاف عبدالله، قائلاً: ففي الوقت الذي يقول فيه مجدي الجزولي في دراسته: "عاش الأستاذ محمود في عالم غير عالم مؤتمر البجا"، نجد أن محمود محمد طه كان من أوائل الذين كتبوا في الصحف السودانية عن مؤتمر البجة، إن لم يكن أولهم. فقد عقد المؤتمر بمدينة بورتسودان، خلال الفترة ما بين 11- 13 أكتوبر 1958، ونشر محمود محمد طه أولى مقالاته في 18 أكتوبر 1958، بصحيفة أنباء السودان، كما ورد في الحلقة السابقة.

الكتابة عن مؤتمر البجة تدفع بعض أعضائه ليكونوا جمهوريين

ذكر الدكتور عبدالله بأن الأستاذ محمود محمد طه استمر يكتب عن حقوق أهل الأقاليم، والمستضعفين والمهمشين، لا سيما مؤتمر البجة، ويدعو للتعاطي مع مشاكل أقاليم السودان المختلفة "بالذكاء وقوة التخيل" لطبيعة المشاكل والاختلافات الثقافية والدينية واللغوية. وأشار عبدالله إلى كتابات الأستاذ محمود عن مؤتمر البجة لفتت انتباه الكثير من أبناء مؤتمر البجة إلى طرح محمود محمد طه، وإلى الفهم الجديد للإسلام الذي يدعو له، وإلى تلاميذه الإخوان الجمهوريين، فأصبح بعض منهم جمهوريين. وقد أشار عبدالله لنماذج منهم، ومن بين هؤلاء على سبيل المثال، لا الحصر، محمد أدروب أوهاج (1942- 2013). وكتب عبدالله قائلاً: حكى لي محمد الفضل أحمد الطاهر بكر، وهو من الإخوان الجمهوريين، قائلاً: "الأخ الأستاذ الدكتور محمد أدروب اوهاج كان عضواً في مؤتمر البجا ومن الفاعلين والمؤثرين في مجتمع شرق السودان يحكى عن الأسباب والمؤثرات التي ساهمت في التزامه للفكرة الجمهورية كتابة الأستاذ محمود عن مؤتمر البجا وهي ليست عنصرية والعنصرية مرفوضة لكنها مناطقية تقع فى حيز الحكم الفدرالي. والحكم الفدرالي أول من نادى به الأستاذ محمود ومنصوص عليه في كتاب اسس دستور السودان الصادر عام 1955" .
والحق أن ما أورده عبدالله عن موقف الأستاذ محمود محمد طه من مؤتمر البجة/ البجا، يدحض وينسف ما جاء به مجدي الجزولي. وقد ذكر عبدالله بأنه عندما نشر الدكتور مجدي مقاله، وقبل أن يصدر المقال في كتاب، قرأ عبدالله المقال، وعلم بنية مجدي بنشر المقال في كتاب، قام عبدالله بإرسال رسالة خاصة لمجدي، أوضح فيها أن المقال "اشتمل على معلومات غير صحيحة، وأخبار غير سليمة، وقدم تحليلاً وخرج بنتائج تحتاج منك إلى إعادة نظر"، وأِشار عبدالله في رسالته لـ (13) نقطة تحتاج من مجدي لمراجعة وتصحيح، وأورد له عبدالله النصوص التي تؤكد صحة حديثه مع المصادر والمراجع. رد الدكتور مجدي الجزولي على عبدالله فوعد "بأن الملاحظات ستجد منه الاهتمام". غير أن عبدالله كتب، قائلاً: "لكن للأسف حينما صدر الكتاب لم تجد تلك الملاحظات اهتماماً من مجدي، برغم وعده بأنها ستجد منه كل اهتمام، فلم يراجع المقال، ولم يصوب شيئاً، ولم يُقوِّم النص كما أشار في رسالته. وظلت النقاط الثلاثة عشرة، التي لفت انتباهه إليها، كما هي". وأضاف عبدالله، قائلاً: "لم يكن مجدي محقاً فيما ذهب إليه. بل مثَّل كتاب مجدي، في تقديري، نموذجاً ناصعاً، كما هو حال معظم الدراسات السودانية، في ضعف الانفتاح على الأرشيف القومي السوداني. فقد حمل الكتاب معلومات خاطئة، وقدم تحليلاً قاصراً، فجاءت خلاصاته غير صحيحة البتة، ومضللة كذلك"
وختم عبدالله هذا المحور الذي خصصه لنقد ما كتبه الدكتور مجدي الجزولي، قائلاً: "والحق أن كتاب مجدي الجزولي، ومثله كثير في الدراسات السودانية، يمثل إسهاماً في التضليل وتعميق التهميش، أكثر من كونه إسهاماً في تنمية الوعي. ومن هنا يمكننا أن ندرك كيف أن التهميش يتراكم بسبب ضعف انتاج المثقفين وعدم جودة خدمتهم، إلى جانب غياب النقد، وعدم الاحتفاء به".

الفصل السادس: الدستور وقضايا التهميش

يري دكتور عبد الله أن موضوع وضع الدستور الدائم مثل أكبر تحدي للقادة في السودان، منذ الاستقلال وحتى اليوم. كما ظلت الدساتير المعمول بها منذ العام 1951 وحتى اليوم ثمانية دساتير إلى جانب سلسلة من المراسيم والأوامر الدستورية، وعند فحصها، تؤكد بجلاء على أن السودان، كان، ولا يزال بيئة خصبة للتهميش ولممارسته والشعور به. وظلت كذلك تلك الدساتير، إلى جانب عوامل أخرى، تحمل في داخلها بذور أسباب انفصال جنوب السودان، واستمرار الصراع في السودان، وتمدد مناخ التشظي فيه. فعلى الرغم من التنوع الثقافي نادر المثيل الذي حُظي به السودان، فإنه واستناداً على الدستور منذ الاستقلال، فإن غير المسلم، ظل مواطناً من الدرجة الثانية، وأن اللغات المحلية، التي بلغت المئات، لم تجد الاعتراف الدستوري، ناهيك عن أن تكون لغة تعليم في أيِّ مرحلة من المراحل التعليمية. فالتهميش إذن أمر يدل عليه دستور السودان منذ الاستقلال وحتى اليوم، قبل النظر في المظالم الأخرى التي نتجت عن قضايا التنمية وشؤون الحكم واقتسام السلطة والثروة، وغيرها، فهناك الكثير من الثقافات والجماعات في السودان التي لم يعبر الدستور عن تطلعاتها وآمالها. فإذا كان الدستور، كما يقول محمود محمد طه، هو عبارة عن صياغة أمل الأمة، وهو أمل كل الشعب، أقليته وأغلبيته، وأن الحديث عن الدستور يعني الحديث عن الديموقراطية، حيث الديموقراطية هي فرص التساوي بين المواطنين من حيث هم مواطنون، فإن آمال بعض الجماعات وتطلعاتها لم تضمن في الدستور. كما إن الدستور في جملته، كما ورد في قول محمود محمد طه، عبارة عن المثل الأعلى للأمة، موضوعاً في صياغة قانونية، تحاول تلك الأمة أن تحققه في واقعها بجهازها الحكومي، بخطط عملية يقوم برسمها التشريع والتعليم، ويقوم بتنفيذها الإدارة والقضاء والرأي العام. والدستور يجب أن يحقق الحقوق الأساسية التي هي حق الحياة وحق الحرية وما يتفرع عليهما. لم تحقق الدساتير فرص التساوي بين المواطنين من حيث هم مواطنون، فكانت الدساتير نفسها تكريساً للتهميش والإقصاء. هذا بالإضافة إلى ما تعرَّضت له هذه الدساتير من امتهان واحتقار، من الحاكمين، لخدمة مصالح ضيقة، في مراحل مختلفة.
كما غطي هذا الفصل:
1/ موقف الأستاذ محمود من دساتير السودان منذ العام 1951 وحتى يوم تجسيده لمعارفه في صبيحة في صبيحة يوم 18 يناير 1985؟
2/ دعوة الأستاذ محمود محمد طه إلى الدستور الإنساني والعمل من أجله، وموقفه من دساتير السودان منذ عام 1951 وحتى 18 يناير 1985، والموقف من الدستور الإسلامي الذي طُرح في السودان، والموقف من الدستور العلماني.

الفصل السابع: المرأة أكبر من هُمش في الأرض
محمود محمد طه: "المرأة، وهي أكبر من استضعف في الأرض، عبر التاريخ، لا فرصة لها في النصفة إلا يوم تقوم شريعة الإنسان، على أنقاض شريعة الغابة "

عن موضوع المرأة عند الأستاذ محمود محمد طه، يري المؤلف من بحثه ودراسته لدعوة الأستاذ محمود: الفهم الجديد للإسلام، أن موضوع المرأة ظل يشغل مكانة خاصة وموضوعاً مركزياً وموضعاً لانشغال الأستاذ محمود محمد طه المستمر ويأتي في أول أولوياته، كما ظل منحازاً فيه، على الدوام، إلى جانب المرأة وبلا حياد. ومن أقوال الأستاذ محمود في هذا الموضوع كما رصد دكتور عبد الله "أمران اثنان أنا لست فيهما بالمحايد المرأة والسودان"

العمل من أجل إغاثة الملهوف ونصرة المهضوم والمظلوم والمهمش

يقول المؤلف: "عندما أعلن محمود محمد طه عن مشروعه: الفهم الجديد للإسلام، في 30 نوفمبر 1951، وأخذ يفصل فيه ويبشر به، قال إن هذا المشروع ما جاء إلا من أجل نصرة المستضعفين، والمرأة هي أكبر من استضعف في الأرض". ولذا يري دكتور عبد الله أن المشروع هذا أصله دعوة للمرأة قبل الرجل كما قال عنه صاحبه، لأنه هو دعوة للمستضعفين في الأرض. وعندما صدر كتاب: محمود محمد طه يدعو إلى تطوير شريعة الأحوال الشخصية، عام 1971، وهو كتاب يعتبره المؤلف كتاب جديد في بابه لأنه يتناول الشريعة السلفية بالتطوير، الأمر الذي يحقق تحرير المرأة وتكريمها برفع الظلم والتهميش عنها ، وقد جاء إهداء الكتاب مخاطباً أولاً النساء: "إلى أكبر من استضعف في الأرض ، ولايزال.. إلى النساء.. ثم إلى سواد الرجال، وإلى الأطفال.. بشراكم اليوم !! فإن موعود الله قد أظلّكم ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ في ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ) . ويضيف دكتور عبد الله أنه وبعد صدور الكتاب خاطب الأستاذ محمود محمد طه تلاميذه وتلميذاته، "مبيناً لهم بأن اهتمامهم بمسألة الأحوال الشخصية يجب أن لا يعتبرونها شريعة لتنظيم المجتمع ، وإنما هي في الحقيقة نصرة لمظلوم هو المرأة، فقد النصير، صائح في البيداء انقطع عنه النصير" وأحب الأعمال إلى الله إغاثة الملهوف "وأضاف قائلاً: "أنا بفتكر عملكم في هذا الجانب هو في الحقيقة عمل في أساس نصرة المهضوم و المظلوم، وهذا الدين ربنا وعد به هكذا ، (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ) وأكثر المستضعفين في الأرض النساء. كان الأطفال مستضعفين، وكان الرقيق مستضعف، وكان العمال مستضعفين، وكان الفلاحون مستضعفين، لكن هؤلاء كلهم قامت نصرتهم.. المرأة لغاية الآن نصيرها ضدها ".
ويقول دكتور عبد الله إن موضوع المرأة، كما يراه الأستاذ محمود محمد طه، هو أخطر شئون الأرض على الإطلاق، فالمرأة في الأرض، عند الاستاذ محمود محمد طه، كالقلب من الجسد. لهذا وجدت المرأة في مشروعه، الفهم الجديد للإسلام، مكانة، لم تبلغها في أي طرح فكري إسلامي أو غير إسلامي. (وقد فصل دكتور عبد الله ذلك في كتابه هذا) ويخبرنا المؤلف بأن الأستاذ محمود محمد طه قد تناول موضوع المرأة في الكثير من الكتب والمحاضرات والمناشير والبيانات والجلسات التربوية. كذلك قدم المؤلف في هذا الفصل من الكتاب موجزاً مختصراً مع الإشارة لبعض المصادر التي تخاطب موضوع المرأة، كما تناول ثلاثة موضوعات دارت حولها بعض النقاشات وتناولها بعض النقاد، وهي: موقف الأستاذ محمود محمد طه من عادة الخفاض الفرعوني، وموضوع إبقاء النسب في عقد الزواج، عند الأستاذ محمود محمد طه، وموضوع "المرأة مكانها البيت " كما ورد عند الأستاذ محمود محمد طه.

المرأة والظلم الموروث من الحقب السوالف من التاريخ البشري: شريعة الغابة

يري دكتور عبد الله بأن الأستاذ محمود محمد طه قد أرجع خضوع المرأة للرجل إلى مخلفات الماضي، حيث عوامل التاريخ الموروث من سوالف الحقب، فهو يرى أن المجتمع القائم على المنافسة في منادح الكسب وعلى المناجزة في مسالك الحياة، يجعل المرأة تخضع للرجل وتبيعه نفسها بيع السوام مقابل أن يغذيها وأن يحميها . فقد نشأ المجتمع البشري في الغابة، وورث مخلفاته وهي مخلفات لا يزال يعيش أخرياته ."والقاعدة العامة فيها أن القوة تصنع الحق، فللقوي حق طبيعي على الضعيف.. يستحقه لمجرد قوته.. و يتقاضاه بقواه .. فالقوة تصنع الحق. كانت شريعة الغابة تمارس، في السلم، بالقوانين العنيفة.. وفي الحرب بحد السلاح" . ويُرجع سبب العنف الغاشم ذلك إلى البيئة الطبيعية التي دفعت الإنسان إلى الحرص وحب الجمع والادخار والإكثار من الطعام ، الأمر الذي أدي للحروب والمغامرات .ويحدثنا الدكتور عبد الله أن : "الفضيلة في المجتمع البشري كما يقول محمود محمد طه، في المكان الاول، فضيلة جسدية، قوة الساعد، وقوة الاحتمال، والمقدرة على الانتصار في مأزق الحرب … فالفضائل، كما يقول الأستاذ محمود محمد طه، تختلف اختلافاً كبيراً من مجتمع إلى آخر، فما هي فضيلة في مجتمع بعينه قد لا تكون فضيلة في مجتمع آخر، فكأن المرأة لمكان ضعفها الجسدي وضعفها الوظيفي، في معترك الفضيلة فيه، في أغلب الأحيان لقوة الساعد وبفرصة الخلو من الموانع التي تعوق الكدح والسعي، أصبحت محتاجة لمن يغذيها ويحميها، فقد اضطرت فدفعت قسطاً كبيراً من حريتها ثمناً تحرز به حمايتها وغذائها". وصف المؤلف وضع المرأة في ذلك الزمان قبل أن تشرق شمس الإسلام في الجزيرة العربية حيث كانت الأنثى تُعامل شر معاملة وكان التخلص منها مكرمة من المكارم وكانت من أجل ذلك، توأد، وترجع عادة الوأد لسببين أو لأحدهما "خوف جلب العار، أو الخوف من المضايقة في الرزق". ويبين لنا المؤلف وضع المرأة في المجتمع الجاهلي، فقد "كانت معاملتها تعامل كرقيق مملوك أظهر صيغ معاملتها.. وكان التعدد في الزواج غير مقيد العدد، إذ كان الجاهليون يتزوجون العشر.. والعشرون زوجة.. يستغلون النساء، يستولدونهن، ويستخدمونهن في بعض أعمالهم.. وهم عن طريق الزواج يستخدمون الرق …ولا تزال صور بشعة، من هذا الاسترقاق عن طريق الزواج، تمارس في المجتمعات المتخلفة المعاصرة". يُرجع الأستاذ محمود محمد طه مسألة أسباب التسلط على المرأة إلى الملكية، والاسترقاق والموروث من الحقب السوالف في التاريخ البشري.

الإسلام يرث أوضاعاً بشعة تعامل فيها الأنثى شر معاملة

يأخذنا دكتور عبد الله إلى فجر الإسلام في مجتمع الجزيرة العربية الجاهلي: "عندما أشرقت شمس الإسلام في الجزيرة العربية وجد المرأة مسلوبة حتى من حق الحياة ، ووجد العرب في الجاهلية يعاملون الأنثى شر معاملة، فجاء ، كما يقول محمود محمد طه، بتقريعهم على هذا الصنيع الشنيع، ، قال تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} و كذلك قوله تعإلى :( وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ * بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ *) كما ورث الإسلام صوراً مختلفة من الأوضاع البشعة التي كانت تجري في مجتمع الجاهلية، فحسم المُشتط منها حسماً . ولكنه لم يكن ليتخلص من سائرها، فينهض بالمرأة إلى المستوي الذي يريده لها في أصوله و ما ينبغي له أن يتخلص، وما يستطيع.. ذلك بأن حكمة التشريع، التدرج، كما يري الأستاذ محمود محمد طه، فإن المجتمعات لا تقفز عبر الفضاء و إنما تتطور تطوراً و ئيداً وعلى مكث.. فكان لزاماً على التشريع أن يأخذ في اعتباره طاقة المجتمع على التطور، وحاجته الراهنة فيجدد القديم ويرسم خط تطوره ويحفز المجتمع على السير في المراقي، وقد كان هذا ما فعله التشريع الإسلام.. فنرى أنه قد احتفظ بتعدد الزوجات ولكنه حصر ذلك في أربع زوجات "وقد راعى في ذلك أمرين حكمين هما إعزاز المرأة وحكم الوقت". كما نري أنه أشرك الأنثى في الميراث ولكنه جعلها على النصف من الرجل، وادخلها في الشهادة ولكنه جعلها على النصف من الرجل وذلك تشريع حكيم في وقته؟ لأن المرأة كانت ضعيفة الشخصية، والذاكرة نسبة لقلة تجاربها وخبرتها.
كانت هذه الشريعة، كما يقول الأستاذ محمود محمد طه، عادلة وحكيمة، إذا أُعتبر حكم الوقت، ولكن "يجب أن يكون واضحاً، فإنها ليست الكلمة الأخيرة للدين.. و إنما هي تنظيم للمرحلة ، يتهيأ بها ، وخلال وقتها ، المجتمع ، برجاله ونسائه ، لدخول عهد شريعة الإنسان، ويتخلص من عقابيل شريعة الغابة خلاصاً يكاد يكون تاماً.. و يومئذ تعامل المرأة في المجتمع، كإنسان.. لا كأنثى.. ذلك هو يوم عزها المدخر لها في أصول الدين "

وضع المرأة في الشريعة الإسلامية

يقول دكتور عبد الله لقد ظلت الشريعة الإسلامية التي بين أيدينا والقائمة على آيات الفروع (الآيات المدنية)، وهي شريعة الرسالة الأولى كما يري الأستاذ محمود محمد طه متأثرة، في حكمةٍ برواسب الماضي، الذي كان عليه المجتمع الجاهلي حيث كانت المرأة لا تملك حق الحياة، دعك عن حق الحرية، والمساواة. فحظ المرأة في الشريعة الإسلامية، كما يري الأستاذ محمود محمد طه، ظل مبخوساً بينما حظها في القرآن مساوي لحظ الرجل. فالمرأة في الشريعة الإسلامية كما يقول: "على النصف من الرجل في الشهادة، وهي على النصف منه في الميراث وهي على الربع منه في الزواج وهي دونه في ساير الأمور الدينية والدنيوية " كما شرح دكتور عبد الله أن على المرأة الخضوع للرجل، أباً وأخاً وزوجاً. وفي هذا تهميش مقنن ظل يُمارس على طول المدى على المرأة وهو يصب في صالح الرجل، أياً كان المستوى الأخلاقي والتعليمي والثقافي لذلك الرجل. فالرجل والمرأة تحكمهما آية القوامة (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)
ويجي تسبيب ذلك وشرحه، الرجال قوامون على النساء، يعني أوصياء، متسلطون لهم علىهن حق الطاعة والسبب يعود إلى (بما فضل الله بعضهم على بعض و بما أنفقوا من أموالهم) ويقول المؤلف أن هذه الفضيلة هي فضيلة جسدية، فقوة العضل هي الفضيلة في ذاك الوقت (القرن السابع) وكذلك فرص الرجل في العمل خارج المنزل والكسب في ذلك الوقت هي السائدة ، أما المرأة فمكانها البيت.. كل ذلك كان حكيماً كل الحكمة كما يقول الأستاذ محمود محمد طه عندما جاء في وقته في القرن السابع. كما أنه يقول إنه ذلك التشريع والوضع لم يكن ظلماً وإنما هو عدل، ولكنه العدل الذي يناسب القاصر، هو العدل الذي يبرره حكم الوقت". فقد كانت المرأة في القرن السابع قاصرة عن شأو الرجل، و ليس القصور ضربة لازب علىها ، و إنما هو مرحلة تقطع مع الزمن والصيرورة إلى الرشد حتماً ، مقضي بحتمية ملاقاة الله : (يَٰٓأَيُّهَا ٱلْإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ). ويوضح أن "ملاقاة الله لا تكون بقطع المسافات وإنما هي بتقريب صفات العبد من صفات الرب "ا والإنسان الوارد ذكره هنا مقصود بها الرجل والمرأة، وليس الخطاب للرجل وحدة. ويوضح المؤلف أن للقرن السابع (حكم وقت) هو الذي جعل العدل بين الرجال والنساء على الصورة التي جاءت بها شريعة الله، وللقرن العشرين (حكم وقت) يجعل صورة العدل في القرن السابع ظلماً يبرأ الله منه. وتنتقل صورة العدل إلى المستوى الجديد الذي ضمنه دين الله، حين قصرت عنه شريعة الله نزولاً على مقتضى الحكمة التي أقام الله علىها (حكم الوقت) فالشريعة الحاضرة حكيمة إذا ما وضعت في موضعها من حكم وقتها، كما يري الأستاذ محمود محمد طه، فهي في غاية الانضباط، والحكمة، والعدل، والسماحة…وهي قد حررت المرأة، يومئذ تحريراً كبيراً. فأخرجتها من الوأد وهي حية واستردت لها حق الحياة المسلوب منها وقفزتها قفزة حكيمة وجريئة في آن معاً. ويبين كذلك أن النقص لا يظهر في تشريع شريعة القرن السابع إلا إذا ما نُقلت من وقتها، وجيء بها من التاريخ لوقتنا الراهن، وطُلب إليها أن تستوعب طاقات المرأة المعاصرة، لتنظم حقوقها وتحل مشاكلها.. ولكن لن يكون النقص، حينئذ ٍ هو نقص الشريعة، وإنما هو نقص هذه العقول التي تنقلها من بيئتها إلى بيئة لم تشرع لها بدعوي أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان.
نلتقي في الحلقة القادمة.

 

abdallaelbashir@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • البركاني يكشف ما فعلته ‘‘الكويت’’ مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح
  • وفيات الاثنين .. 1 / 7 / 2024
  • #الشعب_يريد_رفع_العقوبات.. حملة شعبية تكشف تلاحم اليمنيين وتوحدهم الرافض للعقوبات على الزعيم صالح ونجله أحمد
  • لحفيد الطيب صالح بين فكرة الهِجرة ولا هِجرة..!
  • قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان «4- 5»
  • هكذا دافع بايدن عن نفسه بعد المناظرة الكارثية.. وصف ترامب بـقط الزقاق
  • تحت وسم #الشعب_يريد_رفع_العقوبات.. نشطاء يطلقون حملة إلكترونية للمطالبة برفع العقوبات عن الزعيم علي عبدالله صالح ونجله أحمد
  • الموت يفجع واحد من أبرز رجالات علي عبدالله صالح والرئيس العليمي يعزي و”أحمد علي” يعبر عن حزنه
  • أحمد علي عبدالله صالح يُعزِّي اللواء مطهر رشاد المصري في وفاة نجله العميد رشاد
  • قراءة في كتاب: محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان (4/5)