جريدة الرؤية العمانية:
2024-07-06@03:40:40 GMT

لا توجد منطقةٌ وسطى

تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT

لا توجد منطقةٌ وسطى

 

د. صالح الفهدي

رفضتْ الخارطة بحجّة أن لا حلّ لنقطةٍ محدّدة، استسهل المهندس المشرف رفضها دون أن يلتقي بصاحبِ المصلحة فيناقش معه الحلول الوسطى فيها لكي يتم اعتمادها، فكان الرفض هو الأفضل عن "صداع الرأس"، لكن صاحب المصلحة حين نظر إلى الخارطة وجد لها حلّا فأشار للمهندس المشرف به، فقبِل به، وتم اعتماد الخارطة! هنا تساءل صاحب المصلحة في نفسه: ألم يكن المهندس المشرف قادرًا على مناقشتي والوصول إلى الحل الذي وصلت إليه وحدي؟ ألم يكن المهندس المشرف قادرًا- لو أنه أمعن النظر في الخارطة- برؤية الحلِّ الذي رأيته وأنا لست متخصصًا في الأمور الهندسية؟

في  جهةٍ أخرى يقف مستثمرٌ على رأس موظف لينهي إجراءات استثماره، لكن الموظف يأبى القيام بذلك بحجّة أن "النظام معطّل"، يلحّ عليه المستثمر: طيب، خذ الأوراق وانهِ الإجراءات، فأنا على أهبةِ سفر، غير أنه لا يجد سوى جوابٍ واحدٍ أبتر من الموظف: "هذا نظامنا إذا عاجبنّك أهلا وسهلًا وإذا ما عاجبنك مع السلامة".

.!

مرة أخرى لا توجد منطقة وسطى. إِذن ما السبب؟!

السبب في نظري هو أن عقليات البعض قد برمجت بين لونين هما: الأسود والأبيض ليس بينهما لونٌ آخر!، ولو أن هذه العقليات قد أمعنت الفكر لتوصّلت إلى أن الأبيض ليس لونًا واحدًا وإنّما يتدرّج في عدّة ألوان كلّها أبيض، والأسود كذلك، إذن هناك متّسع للمناورة حتى في اللونين: الأبيضِ والأسود.

لقد سار هؤلاءِ -ظاهريًا- على سياق ما قاله أبوفراس الحمداني:

ونحن أناسٌ لا توسّط عِندنا // لنا الصدر دون العالمين أوِ القبر

لكنه  الشاعر قاله في سياق الإعتداد بالنفس، والشجاعةِ، والنخوة، ولم يقله في سياق خدمة الناس، وتسهيل مصالحهم، والتيسير عليهم!

في المقابلِ وعلى عكسِ المثالين السابقين، تنظر جهة ثالثة بفكرٍ مرنٍ إلى "المنطقة الوسطى" وتبحث مع صاحب المصلحة الذي يطلب ترخيصًا للمضي قدمًا في مشروعه الذي يخشى عليه من التعطّل والتأخر، ومع أنّ لديها ملاحظات عليه، إلا أنها تمنحه "ترخيصًا مؤقتًا" ومهلةً معيّنة ليعالج الملاحظات.

نقف هنا بين  أكثرية تعمل وفق منطق "لا يوجد حل وسط" وبين أقلية تعمل وفق منطق "هناك دائمًا حل وسط" ونجد أنّ الأولى لم تسع في الأصل للبحث عن الحلِّ الوسط، لأنها لا تريد ذلك، بل تريد إعاقة مصالح الناس، ولا تريد إشغال نفسها وإجهادها في البحث عن المنطقة الوسطى التي يقع فيها الحل لأن ذلك يعني أنها ستبذل وقتًا أكثر، وتتحمّل مسؤولية إزاء ذلك، لهذا فإنها تؤثر منطق "الأبيض أو الأسود" ولا حلّ غيرهما. يقال "إذا خلصت النيّة وضح الطريق" ما يعني أنه لو كانت نيتها خالصة لخدمة مصالح الناس، ومساعدتهم لوجدت الطريق واضحًا كما وجدت الجهة الأخرى التي منحت الترخيص المؤقت مع وجود الملاحظات.

النيّة الخالصة هي الوسيلة التي تخرج "الحل الوسط"، وهذا ما يؤكد القرآن الكريم في سورة النساء (الآية 35) في قول الحق سبحانه وتعالى "وإِنْ خِفْتمْ شِقاق بيْنِهِما فابْعثوا حكمًا مِّنْ أهْلِهِ وحكمًا مِّنْ أهْلِها إِن يرِيدا إِصْلاحًا يوفِّقِ اللّه بيْنهما ۗ إِنّ اللّه كان علِيمًا خبِيرًا" إذ نرى تجلِّى النيّة الخالصة للبحث عن حل وسط في "إِن يرِيدا إِصْلاحًا" أي الحكمين، يصلان حينها إلى الحل الوسط "يوفِّقِ اللّه بيْنهما".

الحل الوسط هو إحدى المشكلات التي يعاني منها المتعاملون مع بعض الجهات الخدمية، فهي تؤثر الرفض على الحل الوسط الذي فيه سعة ورخصة، وهنا نتساءل: إذا كان الله قد أعطى لعباده السعة في العبادة، فكيف لا يعطي العباد لبعضهم البعض السعة في المعاملات؟!

في نظري يعود الأمر إلى عدّة أمور: دينية، وأخلاقية، ووظيفية. فالدينية منها أن الموظف لا يعي أن "الدين المعاملة" فيقصره على الصلوات، ولا يعي ما قاله نبيه الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام:"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا فليتقنه" وأن راتبه الذي يتقاضاه لا يحلّ إلا بالإِخلاص لوجب عليه أن يجتهد في تقديم الحل الوسط بدلًا عن الرفض لأية معاملة. أما الاجتماعية فإنه لو شعر بأن طالب المصلحة إنما هو فردٌ من أسرة المجتمع الذي ينتمي إليه فإنه سيشعر بمعاناة الرفض والمماطلة والتسويف التي سبّبها له، والمسلمون كما قال نبينا الأكرم عليه السلام كالجسد الواحد إذ اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". أما الوظيفية: فإنه وجد في وظيفته لخدمة الناس، والخدمة تقتضي العمل بكل وسيلة للتيسير على مصالحهم، ودفع جهودها قدمًا وليس إعاقتها. كما أنه لو تمت مراقبته ومساءلته ومحاسبته لما قدّم الرفض على الحل الوسط في أكثر المصالح التي تقع بين يديه.

العقليات الجامدة التي لا ترى الحل الوسط في قضاء مصالح الناس إنّما هي عقليات معطِّلة للنمو والتقدم في الوطن، وهذه لا يمكن لأي وطن الاعتماد عليها في حركته لأنها تعيده إلى الخلف ألف خطوةِ كلّما تقدم خطوة!، أما العقليات التي تبحث دائمًا عن الحل الوسط الذي يصبّ في مصلحة الوطن فهي الأنسب والأصلح لنماء الوطن.

 

 

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

شيخ الأزهر من ماليزيا: وسطية الإسلام هي الحل لمكافحة ظاهرة الجرأة على التكفير والتفسيق والتبديع

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أكد فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، أن ظاهرة جرأةُ البعض على التَّكفيرِ والتَّفسيقِ والتَّبديعِ، وما تُسوِّغُه من استباحةٍ للنُّفوسِ والأعراضِ والأموالِ، هي ظاهرةٍ كفيلةٍ بهدمِ المجتمعِ الإسلاميِّ والإتيانِ عليه مِن قواعدِه، لو تُرِكَت ولم تُواجَه بالفقهِ الصَّحيحِ والعلمِ الخالصِ الصَّريحِ، وأنّ الحل الأنجع لانحسار تلك الظاهرة هو التمسك بخاصية الأمة الإسلامية الكبرى وهي الوسطية، وهي وسطيَّة فكريَّة، بين المحكِّمين للعقل حتى وإن خالف النُّصُوص القطعيَّة والصَّريحة، وبين الباخسين لدورِه المحوري والشرعي في تأمل النُّصُوص وإدراك دلالاتها، كما أنها وسطية في أصل التشريع والغاية منه، إذ الإسلام وسط في تشريعِه ونظامِه القانونيِّ والاجتماعيِّ، وأبرز ما تتجلَّى فيه الوسطيَّة هنا هو: التوازن بين الفرديَّة والجماعيَّة.

وأشار شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها جامعة العلوم الإسلامية الماليزية USIM, بمناسبة منح فضيلته الدكتوراه الفخرية في دراسات القرآن والسنة، إلى أن تجلِّيات ذلك التوازن المطلوب اليوم، إنَّما تقع في المساحة الوسط بين اتِّجاه المقدِّسين للتراث، وإنْ بدا فيه قصور البشر، واتِّجاه المتقاطعينَ مع التُّراث، وإنْ تجلَّت فيه روائع الهداية الإلهيَّة، أو في المساحة بين الحَرفيَّة النَّصِّيَّة التي تجمد على ظواهر النُّصُوص، وبين التأويليَّة التي تشتط في التعامل مع دلالة نصوص الوحي ومصادر الدين وحدودها، حتى تُفقدها معانيها وتعطل مصادر الهداية والتوجيه فيها، متجاهلة المنهج الذي مضى عليه المسلمون في تراثهم الزاخر، حين كانوا يتعاملون مع الدِّين نصوصًا وروحًا ومقاصِدَ، قبل أن يؤول الأمر إلى ما نشهده الآن، حيث وَقَفَ كثيرٌ منَّا عند ظَواهِرِ بعض النُّصوص، وجَمَد على فهوم السَّابقين، ونظرَ إليها نظرتَه للنَّصِّ المعصومِ، مع أنَّها نصوصٌ قابلةٌ للفَهم المتجدِّدِ والقراءة الواعيةِ لأهدافِ النَّصِّ ومقاصِده، حتى لا يقع المُسلم في الشُّعورِ بالاغترابِ أو الانفصام النَّفسي بين فكرِه وسُلوكِه.

وأكد فضيلة الإمام الأكبر أن منهجُ الأزهرِ التَّعليميُّ -منذ بدايتِه- مَنهجًا يحرِصُ على أن يُرسِّخَ في عقولِ الطُّلَّابِ ووُجدانِهم صورةَ الوجهِ الحقيقيِّ للإسلامِ، عَبْرَ ترجمةٍ صادِقةٍ لطبيعةِ التُّراثِ الإسلاميِّ وجوهرِهِ، في أبعادِه الثَّلاثَةِ: النَّقليَّةِ والعقليَّةِ والذَّوقيَّةِ، وكيف أنَّ هذه الأبعادَ الثَّلاثةَ تمتزِجُ امتزاجًا كامِلًا متناغِمًا في طبيعةِ «التَّكوينِ العلميِّ الأزهريِّ» مِن خِلالِ دِراسةِ علومِ النَّصِّ، والعقلِ، والذَّوقِ.
وهذا المَنهجُ يُمثِّلُ وسَطيَّةَ الإسـلامِ الَّتي هي أخصُّ وصفٍ لهذا الدِّينِ القَيِّمِ، كما يُمثِّلُ الفَهمَ المُعتدِلَ لنصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ، وما نشَأَ حولَهما مِن إبداعاتٍ علميَّةٍ وفكريَّةٍ وروحيَّةٍ، يحقق التكامل بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر، بالاجتهاد المنضبط لثوابت الدين ومقاصده، المنفتح على المتغيرات المستجدة باستمرار.

وتحدث فضيلة الإمام الأكبر عن قضايا التجديد مبينا أن واقع المسلمين اليوم يطرح سؤالًا كبيرًا عن مآل مسار التجديد، ومدى تحقيقه لأهدافه في فعاليةِ التجديدِ بشكلٍ عامٍّ، وأهم هذه الأسبابِ، عــدمُ التفرقةِ- عملِيًّا- بين ما هو ثابِتٌ في الدينِ وما هو مُتغيرٌ، إذ مِن المسلَّمِ به عند المسلمين جميعًا: أن الإسلام يشتمل على ثوابت خالدةٍ، وعلى متغيراتٍ مُتحركةٍ، وأنه في مجالِ الثوابتِ جاء بضوابط قطعيةٍ خالدةٍ لا تتأثرُ بتقلباتِ الزمانِ ولا بحركاتِ التطورِ، وهي قابلةٌ للتطبيقِ في عصرِ الذرةِ وسُفُنِ الفضاءِ، مثلما كانت كذلك في عصرِ الصحراءِ والإبِلِ تمامًا بتمام.

وأشار شيخ الأزهر إلى أن الأمرُ في مجالِ المتغيراتِ، خُوطِب فيه الناسُ بمبادئ عامةٍ، ومُجملاتٍ مرِنةٍ، وظنيَّاتٍ واسعةٍ، يُمكنُ أن تنزِل على الواقعِ بوجوهٍ شتى؛ تبعًا لتطورِ ظـروفِ الحياةِ وعلاقاتها، وعلمِ الإنسانِ وتجاربِه، مبينا فضيلته أن ثوابتُ الدينِ -التي لا تقبلُ التغيير- هي العقيدةُ، وأركانُ الإسلامِ الخمسةُ، وكل ما ثبت بدليلٍ قطعي من المُحرماتِ وأُمهاتِ الأخلاقِ، وما ثبت بطُرقٍ قطعيةٍ في شئونِ الأسرةِ من زواجٍ وطلاقٍ وميراثٍ، ومعاملاتٍ، مشيرا إلى أن الثنائيةُ بين ثوابت ومتغيراتٍ في رسالةِ الإِسلامِ تكشفُ عن إعجازِ هذه الرسالةِ، وأنها- بحق- دِيـنُ الفطـرةِ.

ومنحت جامعة العلوم الإسلامية الماليزية USIM، الدكتوراه الفخرية في دراسات القرآن والسُّنَّة، لفضيلة الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين ، حيث سلمها لفصيلته سمو ولي العهد السيد، تونكو علي رضاء الدين، ولي عهد ولاية نجري سمبيلان بماليزيا، بحضور السيد، داتؤ سري أنور إبراهيم، رئيس وزراء ماليزيا، والبروفيسور محمد رضا وحيدين، رئيس جامعة العلوم الإسلامية الحكومية الماليزية USIM، ولفيف من الوزراء والعلماء والأساتذة والباحثين والطلاب الماليزيين.

مقالات مشابهة

  • الغرياني: الحكومة بهذه الصورة تخرب بيوتها بأيديها.. والفساد الذي تكلمنا عليه في الماضي لا زال يتوسع
  • شيخ الأزهر من ماليزيا: وسطية الإسلام هي الحل لمكافحة ظاهرة الجرأة على التكفير والتفسيق والتبديع
  • مفتي الجمهورية لـ «الأسبوع»: من حق المرأة تولي منصب الإفتاء إذا توافرت فيها هذه الشروط (حوار)
  • مصر ماذا تريد !!
  • كارت الخدمات 2024.. طرق الحصول عليه وسبب الرفض
  • ما نحن عليه اليوم هو الأفضل... القطاع العقاري مكبوت ولا أفق للتحسن!
  • بعد الرفض الشعبي لأثره على الأردنيين.. حزب الميثاق يدعو الحكومة لإعادة النظر بنظام الخدمة
  • هذه هي أبعاد مهمة المبعوث الأميركي في فرنسا
  • هوكشتاين من باريس: لا أمل في الحلّ
  • مقتل نحو 40 شخصاً في هجوم على قرية بوسط مالي