عزف في مقامات الرحمة .. القاضي فرانشيسكو كابريو
تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT
تسنى لي حضور منتدى الاتصال الحكومي الذي أقامته إمارة الشارقة، وكان أحد ضيوف الشرف فيه القاضي الأمريكي فرانشيسكو كابريو، الذي عرف في وسائل التواصل الاجتماعي بقاضي الرحمة، وانتشرت المقاطع المصورة لأحكامه على امتداد الكرة الأرضية، كما ذاعت محاكماته التي تميزت بمستوى عال من التعامل الإنساني واتسمت أحكامه بالرأفة على المتهمين الذين يمثلون أمامه.
يبحث العالم عن نموذج للرحمة ونجم يجسد معانيه، وعن مواقف تمثل القيم الإنسانية الراقية، في عالم كئيب قاسي تذخر نشرات الأخبار فيه بالحروب ومآسيها الدامية، ويطل فيه الجفاء من كل ناحية. فكأنه يرنو إلى من يكفكف جراحاته ويزيل عنه الوحشة ولو على المستوى الافتراضي. وربما لهذا السبب احتفى بقادة مثل نيلسون مانديلاً فقدر نضالاته في سبيل شعبه إلا أنه قدر بصورة أكبر مستوى التسامح الذي جسده في مفهومه للعدالة الانتقالية، مما أدى إلى انتقال سلس لدولة جنوب أفريقيا من الدولة العنصرية إلى الدولة الديمقراطية، واحتفى لأسباب مماثلة بالأم تيريزا التي وهبت حياتها قرباناً في خدمة الفقراء والمرضى ورفع القهر عنهم. وربما لهذه الأسباب أيضاً فإنه قدر الأسلوب الذي اتبعه القاضي كابريو في التعامل مع المتهمين الذين يمثلون أمامه.
يقول السيد فرانشيسكو كابريو عن ذيوع سمعته عبر أشرطة الفيديو التي تحمل مقاطع لمحاكماته (أعتقد أن هناك شعور عام أن المؤسسات الحكومية لا تقوم بما يكفي لمقابلة احتياجات الناس، وهذا ليس في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها وإنما في كل العالم، وهو أمر مختلف حوله. وأدرك تماماً حقيقة عدم التناسب بين قوة سلطة الدولة في مواجهة قوة الفرد. فالعار لي إذا أصبحت مجرد ممثل للدولة وأعطيت أحداً شيئاً لا يستحقه. والتفسير الصحيح للقانون يجب أن يكون على هذا النحو) ويوضح منهجه في القضاء بناء على هذه الرؤية، أن هناك كثيراً من الظروف في حياة الأفراد التي يتعين تقديرها، ومن ثم يعتمد على هذه الظروف للتشكيك في المخالفات التي فرضت بحقهم ولا يلتزم بالنظرية التي تنظر إلى من صدرت مخالفة بحقه على أنه مذنب وفقط. وبالطبع فإن هذا الوجه الإنساني في التعامل مع القضاء يخالف بعض الرؤى التي تنظر إلى القاضي باعتباره حامل ميزان يجب أن ينظر إلى الوقائع وتطبيق القانون عليها بصورة آلية وبمستوى من الحيادية المجردة.
تأثر القاضي كابريو بعدة عوامل ساهمت في خلق شخصيته الرحيمة، وتركت بصماتها على أدائه المهني في سلك القضاء، ومنها أنه كان في الأصل معلماً في مدرسة ثانوية في الولايات المتحدة قبل أن يحصل على درجة جامعية في القانون مكنته من الانضمام للمحاماة ومن ثم القضاء. وطبيعة مهنة التعليم أنها تخلق شعوراً بالعطاء للطلاب والرأفة في التعامل معهم وتضع بصمات لا تنمحي في تكوين الشعور النفسي للمعلم. ويعزي القاضي كابريو أيضاً جزءاً من مزاجه العام وشخصيته إلى أسرته وبصورة خاصة والده ووالدته. فقد كانت والدته واحدة من تسعة أخوة وكان والده واحداً من عشرة أخوة وعاش بينهما وهما يضربان المثل في التراحم والعطاء والحياة من أجل الآخرين. كما أنهما من الجيل المهاجر للولايات المتحدة، وربما كان شعور التراحم ملجأ عكس حالة الغربة التي يعيشانها وقامت عليها تربية أبنائهما ومن بينهم كابريو.
يثور سؤال حول قدرة كل القضاة على تقمص شخصية القاضي كابريو واتباع ذات الأسلوب الرحيم والإنساني في التعامل مع المتهمين. بالطبع فقد كان القاضي كابريو محظوظاً جداً حين عمل في محكمة بلدية بروفيدنس، في ولاية رود آيلاند بالولايات المتحدة الأميركية، وهي محكمة تتعلق بقضايا ذات طابع إداري مثل قضايا الحركة والمرور على الطرق ومخالفات المواقف، ويكون أحد أطرافها الدولة باعتبارها صاحب السيادة، في مواجهة الأفراد الذين يخلون بنظامها الإداري. وهامش تحرك القاضي في النظر للظروف الشخصية في مثل هذه القضايا كبير ويتيح فرصة أكبر للنظر للظروف الشخصية للمتهمين. ويضيق هذا الهامش في القضايا الجنائية الصرفة والقضايا المدنية التي يتعين المساواة فيها بين الأطراف، وضمان عدم صدور أي شعور يدل على الرأفة بطرف منهم على حساب الآخر. وعلى قول سيدنا عمر في صيته لأبي موسى الأشعري في مثل هذه القضايا (آسِ بين الناسِ في مجلسِك ووجهِك وقضائِك ، حتى لا يطمع شريفٌ في حَيْفِك ، ولا ييأسُ ضعيفٌ من عدلِك). وما يميز القاضي كابريو ليس نظره للأسباب المخففة وإنما التعاطي الإنساني مع المتهمين وإظهار الرغبة في مساعدتهم.
تتضمن أدبيات القانون كثيراً من العبارات التي لها رنين وتنحو للرحمة في تطبيق الأحكام على شاكلة (الرحمة فوق القانون) و(المتهم فتى المحكمة المدلل) و(المتهم برئ حتى تثبت إدانته دون شك معقول) وغيرها من العبارات الشائعة التي ترد ضمن أدبيات تطبيق القانون بما يراعي الحكمة منه ويقدر الظروف الخاصة للأفراد المعنيين والمرونة عند تنفيذ مقتضياته. ورغم النكهة الأخاذة التي تنبعث من هذه المبادئ إلا أن وضعها موضع التنفيذ يجعل القضاة في موقف حرج في كثير من الأحيان، حيث أن التشريعات تقف حوائط صد تغل يد القاضي التوسع في استخدام صلاحياته لمراعاة الظروف الخاصة للمتهمين. ومن حسن حظ القانون السوداني أنه ورث قاعدة موضوعية وتفسيرية تسمح للقاضي استخدام صلاحيات تقديرية تميل لتحقيق الرحمة المطلوبة وهي قاعدة (العدالة والانصاف والوجدان السليم)
لا شك أن القانون السوداني خلال تطوره في العهد الوطني قد مد بجذوره في عدة نظم قانونية خلاف الشريعة العامة الإنجليزية مثل منظومة القوانين الفرانكفونية خاصة في التشريعات المدنية، أو الشريعة الإسلامية أو حتى نظم أخرى لم يكن يربطه بها رابط، ومن ثم أصبح نظاماً قانونياً هجيناً له عدة أصول، لكن ذلك لم يفقده ميزة الاستفادة من قاعدة (العدالة والانصاف والوجدان السليم) التي أكد عليها قانون أصول الأحكام القضائية لسنة 1983 فألزم القاضي بتوخي معاني العدالة التي تقرها الشرائع الإنسانية الكريمة وحكم القسط الذي ينقدح في الوجدان السليم. وستظل هذه القاعدة على الدوام عنواناً لما يجب أن يتميز به القاضي في مراعاة الظروف الشخصية التي يؤدي مراعاتها إلى حسن تطبيق القواعد القانونية
أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
abuzerbashir@gmail.com
///////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: القاضی کابریو فی التعامل مع
إقرأ أيضاً:
شهر الرحمة و التغيير
يهل علينا شهر رمضان كل عام محمّلًا بالنفحات الإيمانية والفرص الثمينة التي يجب اغتنامها، فهو شهر الرحمة والمغفرة والتغيير الإيجابي، ليس فقط في العبادات، بل في السلوكيات والعادات أيضًا. فهو ليس مجرد فترة زمنية نمتنع فيها عن الطعام والشراب، بل هو مدرسة عظيمة لتقويم الأخلاق وتنقية النفس من العادات السلبية التي قد تضعف أجر الصيام وتؤثر على علاقتنا بالآخرين.
ومع قدوم هذا الشهر الكريم، يصبح من الضروري أن نقف مع أنفسنا وقفة تأمل، ونعيد النظر في سلوكياتنا، فكم من عادات سيئة اعتدنا عليها دون أن نشعر بمدى أثرها السلبي؟ ومن بين هذه السلوكيات التي يجب الحذر منها الغيبة، والنميمة، والتنمر، والتي يمكن أن تفسد صيامنا وتُذهب بركة أيامنا وليالينا. في هذا التقرير، سنستعرض أهمية تهذيب السلوك في رمضان، وكيف يمكننا استغلال هذا الشهر المبارك لتحقيق التغيير الإيجابي في حياتنا.
تهذيب السلوك في رمضان: ضرورة لا خيارإن الصيام ليس مجرد امتناع عن الأكل والشرب، بل هو تدريب للنفس على التحكم في الشهوات والرغبات، وعلى رأسها السيطرة على اللسان. فكثير من الناس يقعون في الغيبة دون إدراك لحجم الذنب الذي يرتكبونه، رغم تحذير الله تعالى من ذلك في قوله:
"وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ" (الحجرات: 12).
إن الغيبة، وهي ذكر الآخرين بسوء في غيابهم، والنميمة، أي نقل الكلام بهدف الإفساد، من أخطر العادات التي قد تسلب الإنسان حسناته دون أن يدرك، وقد تؤدي إلى فساد العلاقات الاجتماعية ونشر الضغينة بين الناس. أما التنمر، فهو صورة أخرى من الأذى، حيث يتم الاستهزاء بالآخرين أو التقليل من شأنهم، وهو أمر ينافي تعاليم الإسلام التي تدعو إلى الرحمة والتسامح.
لذلك، علينا أن نجعل رمضان فرصة لترويض ألسنتنا، فلا نجلس في مجالس الغيبة، ولا ننقل الكلام بهدف الإفساد، ولا نسمح لأنفسنا بأن نؤذي غيرنا بالسخرية أو التحقير، بل نسعى جاهدين إلى أن يكون كلامنا طيبًا، وأفعالنا محسوبة، حتى نحصل على الأجر الكامل لصيامنا.
الصيام: تجديدٌ للجسد وصفاءٌ للنفسلا تقتصر فوائد الصيام على الجانب الروحي فقط، بل تمتد لتشمل الجوانب الصحية والنفسية أيضًا. فمن الناحية الجسدية، يعمل الصيام على تجديد الخلايا وإزالة السموم المتراكمة في الجسم، مما يساعد في تحسين عمليات الأيض وتعزيز صحة الجهاز الهضمي. وقد أثبتت الدراسات أن الصيام المنتظم يسهم في تحسين وظائف المخ، وتقليل الالتهابات، وتعزيز صحة القلب.
أما من الناحية النفسية، فإن الصيام يعزز قدرة الإنسان على التحكم في رغباته وانفعالاته، مما يساعد على تقوية الإرادة وتعزيز الصبر. كما أن الابتعاد عن العادات السلبية يمنح النفس شعورًا بالسلام الداخلي، ويجعل الإنسان أكثر قدرة على التفاعل الإيجابي مع الآخرين، مما ينعكس على جودة علاقاته الاجتماعية.
استثمار رمضان في رفع الحسنات وزيادة البركةلكي نحقق أقصى استفادة من رمضان، لا بد أن نستغل هذا الشهر في أعمال الخير والطاعات التي تضاعف حسناتنا، ومن بين الأمور التي يمكن التركيز عليها:
مراجعة سلوكياتنا وضبط ألسنتنايجب أن يكون رمضان فرصة لمراقبة أقوالنا وأفعالنا، والحرص على أن تكون خالية من الأذى والظلم. فالصيام لا يقتصر على الامتناع عن الطعام والشراب فقط، بل يشمل الامتناع عن كل ما يضر الآخرين أو يؤذي مشاعرهم.
الإكثار من الاستغفار والتوبة
لا يوجد إنسان معصوم من الخطأ، لكن رمضان يمنحنا الفرصة لمحو الذنوب وتطهير القلوب. فالاستغفار يفتح أبواب الرحمة والمغفرة، ويجعل الإنسان أقرب إلى الله، ويمنحه راحة نفسية وسكينة داخلية.
الإحسان إلى الآخرين ومساعدتهمرمضان هو شهر العطاء، وأفضل ما يمكن فعله هو مد يد العون لمن يحتاج، سواء كان ذلك بتقديم الصدقات، أو بمساندة من حولنا بالكلمة الطيبة والتصرف الحسن.
الانشغال بالطاعات بدلاً من العادات السلبيةكل لحظة في رمضان ثمينة، فلماذا نضيعها في القيل والقال؟ يمكننا استغلال الوقت في قراءة القرآن، والتأمل في معانيه، وصلة الأرحام، والإكثار من الذكر والدعاء، حتى نخرج من رمضان ونحن أكثر قربًا من الله.
ومسك الختاميأتي رمضان ليكون فرصة عظيمة لكل من يريد إصلاح نفسه، وتهذيب سلوكه، ورفع درجاته عند الله. فكما نحرص على صحة أجسادنا خلال الصيام، علينا أن نحرص على صحة أرواحنا وأخلاقنا، ونبتعد عن كل ما قد ينقص من أجرنا. الغيبة، النميمة، والتنمر ليست مجرد أخطاء بسيطة، بل هي معاصٍ يمكن أن تُذهب بحسنات الصائم دون أن يشعر.
فلنكن أكثر وعيًا بأقوالنا وأفعالنا، ولنجعل رمضان نقطة انطلاق نحو حياة أكثر نقاءً، خالية من العادات السيئة، مليئة بالخير والطاعات. فإذا أحسنا استغلال هذا الشهر، فإن أثره سيستمر معنا طوال العام، وسنكون أقرب إلى الله، وأكثر سلامًا مع أنفسنا والآخرين.