بعد 6 أشهر من الصراع.. هل تهدد الحرب ذاكرة العاصمة الخرطوم بالضياع؟
تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT
بعد مضى نحو نصف العام من الحرب، تبدو العاصمة السودانية الخرطوم شاحبة، وفاقدة لألق المدينة العتيقة.
والخرطوم التي تعصف بها الحرب وآثارها، نموذج لعقود من التاريخ الاجتماعي بكل ما تضمنته من نشاط في كل مناحي الحياة، ومعالم تاريخية، وأعيان حضرية، ورموز فكرية، وبيوت شاهرة أبوابها للثقافة والفن والإبداع، لكنها مهددة الآن بضياع هذه الذاكرة، فالبنايات الشاهقة ومعها الأثرية، تكاد تطمرها جثث القتلى، وفوضى المقاتلين، وتسيل على حوائطها الدماء، وتنقر عليها الشظايا، وما سلمت حتى المساجد والكنائس، فيما تحتضن مسارحها مخازن الذخائر والسلاح، وتتبعثر الأوراق بعيدا عن أرفف المكتبات، وينتشر في شوارعها وأزقتها العتيقة جنود غزاة، وترسم صورة للبؤس ما اعتادتها المدينة التي عرفت كثيرا بـ"عروس المدائن"، ملهمة للشعراء والفنانين والأدباء.
سقطت أعيان كانت صامدة لأجيال، وانهارت بيوت كانت مشحونة بالعاطفة، وضاجه بالحياة، ودفعت المواجهات المسلحة بالناس إلى الهجرة واللجوء والنزوح إلى قرى الريف البعيدة، بينما ما تبقى من مجتمع الخرطوم، يظل في سهر مستمر حتى اللحظة، إما مرابطين في بيوتهم المهددة بالنهب والدمار، وإما ساهرون من الفزع، أو حراس للقلق.
لم تكتف نيران الحرب بهذه الأفاعيل المدمرة، فقد أصابت الشظايا عمق تفردها الاجتماعي المتنوع وخليطها السحري العجيب، وعمقت من تباينها الحاد الذي حاول نخب المدينة لأكثر من قرن احتواءه في نسق واحد، وتسلل خطاب الكراهية والنعرات في بيئة كانت مهيأة بالاختلاف والاستقطاب، فضلا عن ما تحمله الحرب أيام جنونها من أشياء لا تخطر على البال، خصوصا في علاقة الأفراد والمجتمعات.
والعاصمة السودانية تتكون من ثلاث مدن هي الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، ولكل مدينة فيها ميزات اجتماعية وسوقا تقليديا وحديثا خاصا، ومرافق خدمية، ولم تعرف العاصمة أبدا في عصرها الحديث طابعا عمرانيا واحدا رغم محاولات التخطيط الحضري الذي شملها في حقب مختلفة، وكذا الحال بالنسبة لسكانها القادمين من شتى أصقاع السودان البعيدة ما جعلها منطقة تلاقي للثقافات والبيئات الاجتماعية المختلفة، ما ينتج أحيانا نزاعا وتوجهات متقاطعة، لكن ذلك لم يمنع أن تتسم بطابع خاص حسب تقدير الباحث المتخصص في دراسة المدن الحديثة حسام الناصر، قائلا في حديث لـ"عربي21": "العاصمة هي في الأساس متعددة، ولكن فيها ثقافة اجتماعية مشتركة رغم اختلاف الناس، وأظهرت نوعا من الوجدان المشترك والثقافة المشتركة بعد الحرب، وهي خرطوم واحدة في أذهان الناس".
وللعاصمة السودانية تاريخ عريق، وثقه حديثا الدكتور سعد محمد أحمد سليمان في كتاب بعنوان "الخرطوم عبر العقود.. النشأة والتطور"، وحوت فصول الكتاب، التاريخ الاجتماعي للعاصمة السودانية والمرافق العامة والخدمات والمواصلات والنقل والصحة والتعليم والنشاط الاقتصادي والملامح الحياتية لمجتمع العاصمة، والأفراح، والأتراح، والمناسبات الدينية، والحياة الأدبية والفنية، وتعليم الخلاوي، والتعليم الحديث بكل أنماطه، والترماج وباصات النقل الأهلي، والتاكسي، والمعديات النيلية، والطواحين، والمطاعم، والفنادق، والمدافن الشهيرة، وأبرز منابر المفكرين والأدباء والمثقفين، وأندية كرة القدم القديمة والحديثة مثل أندية الموردة، والهلال، والمريخ، والتحرير، مع رصد دقيق لشخصيات بارزة في كافة المجالات.
وعاشت في أحياء العاصمة السودانية، جاليات أجنبية عديدة مثل الأقباط، والإغريق، واليهود، والشوام، والهنود، والمصريين، دخلت مع المستعمرين التركي والإنجليزي، وما تبقى من هذه الجاليات لا يزال يعيش في مدن العاصمة الثلاثة، في تلاق نادر مع بقية المجتمعات المحلية.
وترجح مصادر سودانية تاريخية، أن تاريخ المدينة، يعود إلى العصر الحجري، لكنها لم تعرف في ذلك الوقت باسم الخرطوم، لكن بعض الشواهد التي صاحبت حضور الأتراك إلى السودان، دلت على أن الخرطوم كان اسما لنفس المكان قبل إنشاء المدينة، وكان يعرف باسم رأس الخرطوم ولم يكن به سوى أكواخ متناثرة لصائدي السمك وسط المستنقعات التي يخلفها موسم الأمطار وفيضان النيل.
وتقول مصادر تاريخية ومقالات توثيقية أخرى، أنه تم العثور على أدوات تعود إلى هذا العصر في منطقة خور أبو عنجة في مدينة أم درمان، إضافة إلى بقايا أثرية لمستوطنات يرجع تاريخها إلى عهد مملكتي نبتة، ومروي في الفترة الممتدة من عام 750 قبل الميلاد إلى 350 ميلادي، بينما أظهرت حفريات، استيطان الإنسان موقع هذه المدينة منذ 400 عام قبل الميلاد، حيث أشارت إلى أنها كانت موطن حضارة قديمة عُرفت بمملكة علوة.
وتشتهر العاصمة الخرطوم بآثار شيوخ الطرق الصوفية، ومدافنهم، ومعالم العهد المهدوي، إلى جانب النسق المعماري الإنجليزي، والذي لا يزال ماثلاً للعيان في الأبنية القديمة المنتشرة بمحاذاة نهر النيل الأزرق قبل التقائه بالنيل الأبيض فيما عرف بمنطقة المقرن.
واستمر ازدهار العاصمة الخرطوم بمدنها الثلاث، عبر عمليات التخطيط العمراني في ظل الحكومات المتعاقبة بعد استقلال السودان العام 1956، حيث شهدت توسيع الطرق والشوارع وإنشاء الحدائق العامة والميادين وبناء امتدادات جديدة في الأحياء لاستيعاب موجات الهجرة السكانية نحو العاصمة.
ومع سنوات إنتاج النفط، وتأثيرات التعدين الأهلي والحكومي، زادت العمارة الحديثة، وارتفعت الأبراج الضخمة، وبرزت معالم أكثر حداثة، وازدادت الرغبة في التصاميم الحديثة، والتجميل، على مستوى المرافق العامة أو على مستوى بيوت المواطنين في الأحياء الجديدة او القديمة، وتوسعت العاصمة في تطوير شبكات الكهرباء والاتصالات والمياه.
الوجدان المشترك
بالنسبة للباحث في العلوم الاجتماعية والانسانية والمتخصص في دراسة المدن الحديثة حسام الناصر، فإن العاصمة الخرطوم كولاية لم تكن لديها نسق ثقافي محدد، وإنما أخذت طابعها الخاص من التعدد، ويقول لـ"عربي21": "كانت مجموعات من ذاكرة المدينة لم تكن واحدة كانت متعددة في مستويات مختلفة حتى الأصوات نفسها مختلفة، ولكن فيها ثقافة اجتماعية مشتركة رغم اختلاف الناس، وأظهرت نوعا من الوجدان المشترك والذاكرة الثقافية، لذا ستكون هنالك خرطوم واحدة في أذهان الناس".
وعلى الرغم مما يبدو على العاصمة من نمط ثقافي واحد، تعتقد ندى هاشم الشيخ وهي مصمم معمار داخلي وباحثة في دراسات الفلكلور، أن المشهد الثقافي الذي كان نابضا بالحياة ذات يوم بهوياته الأثنية المتعددة ـ على الرغم من العديد من الافرازات السلبية المفتعلة في الآونة الأخيرة ـ قد يستسلم ويخضع للشعور باليأس والخسارة و قلة الحيلة بعد الحرب الدائرة الآن، وتضيف: "كانت المدينة ذات يوم بمثابة نقطة التقاء للثقافات والحضارات المختلفة، وبوتقة تنصهر فيها الأفكار والمؤثرات، ومع ذلك، فقد هددت ويلات الحرب بمحو هذا التراث المتعدد الثقافات، مما ترك الأجيال القادمة مع فهم مجزأ لمكانة الخرطوم في التاريخ".
وفي الخصوص، ترى الباحثة المتخصصة أيضا في الفلكلور والتصميم فاطمة سيد، أن هناك تهديدا جديا على ذاكرة التاريخ الاجتماعي، من ناحية بدء تصاعد خطاب الكراهية كواحد من آثار الحرب بسبب التحشيد المضاد من الطرفين، وهذا قد يؤثر بدوره على تفكك البنية الاجتماعية، وبروز ظاهرة فقدان الثقة بين أهالي المنطقة الواحدة نتيجة الشكوك من الطرفين، للإبلاغ عن تواجد أشخاص من طرفي النزاع في نفس المنطقة.
من ناحيه أخرى ـ تضيف سيد ـ فقد شهدت مناطق ذات التماسك الاجتماعي جهودا كبيرة من الشباب المدنيين بتشغيل المستشفيات "مستشفى النو في مدينة أم درمان" والذي بدوره أصبح أكبر مستشفى يستوعب عددا كبيرا من المرضى والمصابين والجرحى. كما نشط بعض الخيرين في توفير وجبات للمحتاجين اللذين فقدو مصادر عملهم ولقمة العيش.
ندوب بصرية واجتماعية
يقول حسام الناصر المتخصص في دراسات المدن الحديثة لـ"عربي21": إن الحرب تؤثر على محور الآثار التاريخية والأماكن التاريخية داخل المدينة، مشيرا إلى استباحة المتحف القومي والقصر الجمهوري وجامعة الخرطوم، ومن شأن ذلك أن يطمس معالم المدينة ويغير ذاكرة ساكنيها، بل إن إعادة الإعمار "إنما محاولة لتجاوز أزمة الحرب نفسها لأن العاصمة في الأصل كانت تعاني كثيرا في البنية التحتية والبيئة الحضرية".
ورأى أن اندلاع الحرب وتأثيرات تضعضع البنية التحتية والمعالم التاريخية، وتحول العاصمة إلى مدينة حطام، فقد توقفت فيها الحياة، لذلك كل ما تحمله من فضاء اجتماعي تبدل أو تغير أو انتهى ، ويضيف: "لم تفقد كل معالمها القديمة لكنها تأثرت في مواقع محددة مثل السوق العربي والسوق الافرنجي وشارع الجامعة".
فيما ترى ندى هاشم الشيخ في حديث مع "عربي21"، أن اندلاع الحرب في السودان، ترك علامة لا تمحى على العاصمة الخرطوم وتأثيراً عميقاً، ليس فقط من حيث مشهدها المادي ولكن أيضا من حيث آثارها على البيئة الحضرية والأشخاص الذين يعتبرونها موطنا لهم مما شكل لديهم ذاكرة بصرية عميقة للصراع. ذلك النسيج الاجتماعي المتنوع، سيتحمل أيضا وطأة الصراع، ومن شأن الحرب أن تمزق المجتمعات، وتعزز عدم الثقة، وتترك ندوباً عاطفية قد تستغرق أجيالاً للشفاء.
وتشير إلى أن التأثير النفسي على سكان الخرطوم لا يمكن قياسه، لقد أثر التهديد المستمر بالعنف وفقدان الأحباء على الصحة العقلية للأفراد والمجتمعات. لا شك أن الصدمة التي عاشها سكان الخرطوم ستشكل تصوراتهم وتفاعلاتهم مع البيئة الحضرية للعديد من السنوات القادمة.
وتعتقد أنه عند مراقبة حالة الخرطوم بعد اندلاع الحرب، لا يسع المرء إلا أن يلاحظ الندوب الواضحة التي خلفها الصراع. العديد من المباني والتحف المعمارية المهيبة والمبدعة في مدن الخرطوم الثلاث التي كانت ذات يوم مصدر فخر واعتزاز واحتفاء للعاصمة، أصبحت الآن مجرد بقايا لمجدها السابق، وتحمل ندوب التفجيرات والقذائف، ذات واجهات ممزقة بالثقوب والشظايا مما يؤدي إلى محو قرون من التراث الثقافي لبعض هذه المباني التليدة بشكل لا رجعة فيه وربما تطغى صدمة الحرب على أهميتها التاريخية والتي بدورها قادرة على طمس هوية الخرطوم.
كيف تبدو الخرطوم الآن، تجيب الباحثة في دراسات الفلكلور فاطمة سيد، بأن العاصمة تضج بأصوات أزيز الطائرات وأصوات القنابل والراجمات والمدافع الثقيلة قريبة وطويلة المدى، وتقول: "الأزقة سكنها القطط والكلاب الضالة الجثث في كل مكان. وأصبحت المنازل تحت رحمة النهب والسرقات والتدمير بالطائرات المدفعية بعد أن كانت المدينة تضج بالزحمة والأسواق وأصوات الباعة المتجَولين في الأحياء (سيد اللبن ـ سيد الخضار) عربات النقل كل صباح (أطفال ـ طلاب ـ موظفون) زحمة موقف المواصلات وازدحام الطرقات كل تلك التفاصيل أصبحت الآن غير موجودة بعد أن ساد الخوف الخرطوم وأصبحت أقرب ما يكون لمدينة الأشباح".
بالنسبة لفاطمة سيد، فإن المعالم التاريخية والمرافق الحيوية تعرضت للتدمير والتخريب المنمهج في بعض الأحيان، وطال هذا التدمير مجهود قرنين من الزمان لأننا خسرنا مقتنيات مثل محتويات المتحف الطبيعي.
وتضيف: لم تسلم كذلك جامعة أمدرمان الأهلية وهي أول جامعة رائدة في التعليم الأهلي في السودان التي أسسها دكتور محمد عمر بشيرعام ١٩٨٥ وهي جامعة غير ربحية وتحوي مركزا للدراسات السودانية به عدد كبير من الكتب والدراسات والمخطوطات التي لا يوجد منها نسخ أخرى.
ذاكرة الصراع:
تقول المصممة والتشكيلية سماح العركي لـ"عربي21": إن ذاكرة الخرطوم متخمة بالنوستالجيا، ويوجد هلع في التصور المبدئي للأشياء، فأول ما يتبادر للذهن من الأصوات العالية هي صور الانفجارات وحكايات عمن مات وعمن نجا وكيف؛ فربما كان صوت محرك سيارة أو بناء تحت الإنشاء وما شابهها من أصوات هو المحفز لتلك التصورات. وتضيف قائلة: "ذاكرتنا أصبحت تألف العنف والسوداوية وتعوض ما تلف من شعور بالنوستالجيا المفرطة، هروبا إلى المألوف، تقديس للعادي وصور الحياة الآمنة والسلام الكامن في الماضي القريب".
ورأت أن هذه التصورات مخيفة، فقد يظل السوداني عالقا في مخيلته، عالما يظنه مثاليا رغم عيوبه، وتتكون لديه عدم مقدرة على التكيف على المشاهد الجديدة، خاصة لمن أجبروا على اختبار حياة الريف لأول مرة. في مقابل ذلك هناك من هو قادر على تخيل مستقبل أكثر نصوعا ويعتبر الحرب نقطة تحول كان لابد من اجتيازها، ولا يتبادر ذلك إلا للمتفائل.
ثمة أمل
وتعتقد سماح العركي أن من وصل لمرحلة التصالح مع النفس قد ينشئ علاقة تعاطف وتضامن مع ما قد مر به من قبل من أحداث دموية في أطراف السودان المختلفة من جنوب وغرب السودان ولم تحدث وقتها نفس الأثر العميق فالصور الآن أقرب، والتعلم من الدرس يصبح هو الأمل.
بينما ترى ندى هاشم، أن مسألة استعادة الخرطوم صعبة، لكن هنالك أمل يتطلب جهداً جماعياً من المجتمع المحلي والدولي لإعادة بناء ما فقد، وتقول "لن يكون الحنين وحده كافياً لضمان عودة الخرطوم إلى مجدها السابق".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية الحرب السودانية الخرطوم السودان الخرطوم حرب تداعيات تغطيات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العاصمة الخرطوم
إقرأ أيضاً:
فك الحصار عن القيادة العامة في الخرطوم.. ماذا يحدث في السودان؟
في اليوم الذي قضمت فيه قوات التمرد قضمة كبيرة من أرض السودان، وتوغلت في ولايات الوسط، كان رئيس مجلس السيادة والقائد العام للجيش السوداني عبدالفتاح البرهان يتحدث إلى مجموعة محدودة من الصحفيين، ويقول بثقة: ” لا تغرنكم زوبعة الدعم السريع، إني أرى النصر كما أراكم أمامي الآن”. بعد أشهر من ذلك اللقاء تغيرت المعادلة العسكرية، ونجح الجيش بالفعل في اكتساب الأرض التي فقدها، وأصبح أقرب إلى تحقيق النصر الشامل.
محاصرة البؤر المشتعلة
مما ينتظر القيادة العسكرية من تحديات جمة، لا يبدو أن التخلص من مليشيا الدعم السريع هو نهاية الحريق. ثمة معضلات أخرى خطيرة أيضًا، على رأسها التوجس من المجهول، وأسئلة اليوم التالي للحرب، وكيفية بناء مؤسسات الدولة، والعلاقة مع العالم، وتحقيق المصالحة الوطنية.
لا شك أن الحرب سوف تنتهي قريبًا، ليس فقط لأن الجيش السوداني في وضعية أفضل، وأن قوات الدعم السريع مُنهكة ومُحاصرة داخليًا وخارجيًا، وتواجه نقصًا في الأنفس والمعدات، وأصبح مصير قادتها أشد قتامة، ولكن لأن القوى الدولية التي تتصارع على موارد الشعب السوداني أدركت أن تغذيتها هذا الصراع أضرت بالجميع، ولا يمكن لها أن تواصل في نفخ المزيد من النيران؛ لأن ذلك سوف يرتد على المنطقة برمتها.
إعلان
كذلك فإن السياسة الخارجية للرئيس الأميركي دونالد ترامب تقوم على محاصرة البؤر المشتعلة – مؤقتًا على الأقل- ومنح السلام فرصة في الشرق الأوسط.
بات الشعور السائد بين السودانيين أن المعركة في نهاياتها، وكثير منهم حزم أمتعته للعودة إلى الديار، لكنهم مع ذلك سوف يصطدمون بحقيقة مؤلمة، وهي أنهم فقدوا كل شيء، وتحتاج البلاد إلى معجزة اقتصادية لتنهض من كبوتها. وهنا بالضرورة سوف تؤرقهم أسئلة اليوم التالي: أين رجال المرور؟ المحاكم؟ الجامعات؟ حليب الأطفال؟ الأسواق؟.. وما العمل؟ من أين نبدأ؟
ثم بعد ذلك يمكن أن تتفجّر القضايا السياسية، والحاجة لإصلاح الدولة، بالتغلب على الاستبداد وسوء الإدارة والفساد، أو ما أسماه الراحل منصور خالد بالثالوث الثقيل. ولذلك على القوى السياسية أن تنضج بالتجربة، مما أورثت البلاد من صراعات مميتة، وأن تنخرط فورًا في معركة البناء، حتى لا تكون مثل ملوك آل بوربون في فرنسا ” لم ينسوا شيئًا ولم يتعلموا شيئًا”.
مواجهة التدخلات الخارجية
بصورة جلية اتضحت حقيقة أن الدعم السريع لا توجد على الأرض. فقد انتهت في اليوم الذي حاولت فيه طعن ظهر الجيش (الرحم الذي انسلت منه). كما أن حميدتي حاليًا أقل حتى من أن يكون بندقية مستأجرة. فهو لم يعد يمتلك قراره، ولا يعبأ بمصير قواته. هو محض ذبذبات من الانفعالات المسجلة تتحكم فيها جهة ما، تريد أن تحتفظ بالأزمة مشتعلة لتحقيق توازن الضعف، لتقوم بفرض تسوية تضمن مصالحها أولًا.
وقد كان أهم ما في المبادرة التركية للمصالحة أنها تعاملت مع الأزمة تعاملًا واقعيًا، وتجاوزت السردية الشائعة للحرب بوصفها صراعًا بين جنرالين، فأقرت بوجود أطراف خارجية ذات مصالح، وأن هنالك حاجة إلى قرارات شجاعة في التعامل معها.
والأهم من كل ذلك أن ثمة جيلًا قد تخلّق من هذه المحنة، هو الذي يقاتل اليوم، صار أكثر نضجًا ووعيًا بما يجري حوله؛ جيلًا صعب المِراس، لا يقبل الضيم ولا الدنية في دينه، وعلى استعداد للتضحية بكل ما يملك من أجل وحدة السودان، ولن يسمح أبدًا بأن يسرق تجار الحروب وربائب المنظمات الأجنبية، وسماسرة شركات الأسلحة، أمنه وثمرة أحلامه، لتبقى البلاد رهينة لقرارات مجلس الأمن، وأوكار التآمر العالمي.
إعلان
الجيش والسُلطة
الظهور الأخير لقائد الجيش الجنرال عبدالفتاح البرهان بقبضة حديدية، ومشاهد الالتحام الجماهيري، والصور المعلقة له في الشوارع بوصفه القائد الشجاع الذي واجه أخطر عدوان في تاريخ البلاد، توحي كلها بأنه سوف يقود السودان لسنوات مقبلة، ومن خلفه المؤسسة العسكرية.
يعضد ذلك أن التعديلات المقترحة على الوثيقة الدستورية تمنحه صلاحيات واسعة، كما أن تجربة قوى الحرية والتغيير السيئة في السلطة وموالاتها للدعم السريع، جعلت الكثير من الناس يشعرون بأنهم في حاجة ماسّة لحاكم قوي ينتمي إليهم، وليس لديهم مانع من مقايضة الحرية بالأمن، على الأقل حتى يتبين الخيط الأبيض من الأسود من فجر مستقبلهم.
وقد حاول البرهان في آخر تصريحاته أن يرسي معالم علاقات الدولة الخارجية في المستقبل، مؤكدًا أنها سوف تبنى على الموقف من هذه الحرب، وبنشدان وطن معافى من المجرمين والمرتزقة والعملاء والخونة، حد وصفه.
وهذا يعني أن السلطة الجديدة سوف تتخلق من رحم هذه التجربة، وبذلك يعضد قول هيجل ” الحروب ولّادة الدول”، إذ إن أغلب الدول التي نعرفها اليوم لم تولد كأوطان بل نشأت عبر حروب وغزوات.
وعلى ذات النهج جاء خطاب نائب رئيس مجلس السيادة “مالك عقار” الذي شدد على عدم قبول أي مبادرة صُلح تمسّ سيادة بلاده، أو تعيد المتمردين إلى المشهد السياسي. وقد اتفق عقار إلى حد ما مع حاكم إقليم دارفور أركو مناوي في أن السودان لا يعيش حاليًا حالة مساواة، ودعا إلى بدء حوار يؤسس لسودان جديد.
كلاهما عقار ومناوي يتبنيان خطابًا تأسيسيًًا خاليًا من الشعارات والنزعة الأيديولوجية، لا سيما أن البلاد انتقلت بصورة مؤلمة من الثورة إلى الحرب، ورسخ في الوعي أنه إذا كانت “التعاسة تدفع بالناس إلى الثورة، فإن الثورة أيضًا تعيد الناس إلى التعاسة”.
وبالقدر نفسه يحتاج التيار الإسلامي إلى التنازل عن توجهاته الانفرادية السلطوية، وتفعيل “المنظومة الخالفة” التي كتبها الشيخ الراحل حسن الترابي في آخر أيامه، وكانت تستهدف خلق تحالف جديد يضم كافة أهل القِبلة، والقوى الوطنية التي تؤمن بالشورى والحريات.
إعلان
ترميم صورة البلاد
بلا مواربة، يمكن القول إن هزيمة المليشيا المتمردة تعني عمليًا فشل مقترح الحكومة الموازية، وهو في حال دخل حيز التنفيذ كان سيهدد حرفيًا بتقسيم البلاد، ونهاية السودان الموحد، أو ما أطلق عليه أنصار التمرد دولة (56).
ولذلك فإن هذه الحرب تبدو فرصة مؤاتية للتفكير فيما يجمع الناس، وإعادة ترميم صورة البلاد التي “كلما حاولت أن تنهض تتكئ على بندقية”، كما وصفها أحد الأدباء، وذلك فضلًا عن إعادة بناء مؤسسات الدولة، والعمل بصورة جماعية؛ لتحقيق المصالحة السياسية والتعافي الاجتماعي، والبحث عن شراكات خارجية من أجل الإعمار تقوم على المعرفة والخبرة، ومن ثم اللحاق بركب الأمم المتحضّرة.
كل هذا ضروري حتى لا تصفعنا مرة أخرى عبارة محمد حسنين هيكل بأن السودان “متطفل على فكرة الدولة، وهو عبارة عن رقعة جغرافية فقط، ليس شعبًا ولا دولة ولا أمّة”.
وهيكل في الحقيقة لم يكن يحب السودان، ويعتقد أنه أصابته لعنة الحروب، ولكن ما بالنا نحن لا نتعلم من الأخطاء، ونحب بلادنا ونعلي من شأنها، لتنعم بالسلام والازدهار، وتصل إلى الموقع الذي تستحقه تحت الشمس!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
عزمي عبد الرازق
كاتب وصحفي سوداني
—
نقلا عن الجزيرة نت