معظمنا يعي المفهوم والوصف السريري للصداع النِّصفي، والذي هو عبارة عن صداع نابض شديد، وغثيان، وقيء، وحساسيَّة للضوء والضوضاء، تستمرُّ لساعات أو أيَّام. وربَّما هنا أشرحها بصورة أكمل وأكثر صدقًا وأنا أتصور حالة المريض وهو يعَبِّر قائلًا بأنَّها: شعور شديد ونابض بالانزعاج بَيْنَما يزداد الألم حَوْلَ عَيْني.
ولعلَّ هذه الحالة البائسة بالنسبة لبعض الأفراد، وأغلبهم من النساء، شدَّتها تختلف من شخص لآخر، بحيث تسبق بداية الصداع النِّصفي، مرحلة قصيرة العمر يُمكِن أن تشملَ البقع العمياء، والوخز والتخدر، ومشاكل اللُّغة ونطقها (بلا شك يُمكِن أن تشبهَ هذه أعراض السَّكتة الدماغيَّة، ويجِبُ عَلَيْك طلب الرعاية الطبيَّة الفوريَّة إذا كنتَ تعاني مِنْها وليس لدَيْك تاريخ من الصداع النِّصفي). الأهم من ذلك، يعاني العديد من المرحلة النهائيَّة المعروفة باسم مخلَّفات الصداع النِّصفي: والتي تتكوَّنُ من التعب، وصعوبة التركيز، والدوخة بعد مرور أسوأ الألَم.
بطبيعة الحال تتوافر الآن المزيد من العلاجات أكثر من أيِّ وقت مضى ـ على الرغم من عدم وجود علاج نهائي يشفي من هذا المرض حتَّى الآن. ومع ذلك ما زالت الدِّراسات الطبيَّة مستمرَّة عن أسباب الصداع النِّصفي. حيث بدأت تتغير الأمور في التسعينيَّات، عِنْدما أصبحت أدوية مِثل: التريبتان، وهي فئة جديدة من الأدوية المصنوعة خصيصًا لعلاج الصداع النِّصفي، متاحة. كانت أدوية التريبتان في كثير من الأحيان أكثر فعاليَّة وأسرع في تخفيف آلام الصداع النِّصفي من الأدوية السَّابقة، على الرغم من أنَّ التأثيرات لَمْ تستمر لفترة طويلة. وفي الوقت نَفْسِه، كشفت الدِّراسات الجينيَّة أنَّ الصداع النِّصفي غالبًا ما يكُونُ وراثيًّا.
طبعًا هنا، سمحت تكنولوجيا تصوير الدماغ الجديدة للباحثين بمراقبة الصداع النِّصفي في الوقت الذي تحدث فيه. وأظهرت أنَّه على الرغم من أنَّ الأوعية الدمويَّة يُمكِن أن تلتهبَ أثناء النوبة وتُسهم في الألَم، إلَّا أنَّ الصداع النِّصفي ليس اضطرابًا في الأوعية الدمويَّة بشكلٍ فعلي. ما أقصده تحديدًا هنا، بأنَّ هذه الفوضى تأتي من داخل الجهاز العصبي أصلًا: وربَّما أفضل فهم للعلماء هو أنَّ العصب ثلاثي التوائم، الذي يوفِّر الإحساس في الوَجْه، يتمُّ تحفيزه، ممَّا يحفِّز الخلايا في الدماغ على إطلاق الناقلات العصبيَّة التي تنتج آلام الصداع. مع ذلك ـ وللأسف ـ فكيفيَّة اضطراب العصب بالضبط لا تزال غير واضحة!
لذلك لا يزال الباحثون ـ حتَّى يومنا هذا ـ يُحرزون تقدُّمًا في تحديد مسبِّبات الصداع النِّصفي. وبشكلٍ ما هنالك محفِّزات شائعة، كتخطِّي وجبات الطعام، والحصول على القليل من النَّوم، أو الحصول على الكثير من النَّوم، والإجهاد، والتغيُّرات الهرمونيَّة للمرأة. بلا شك يعاني غالبيَّة المصابِين بالصداع النِّصفي ممَّا يُسمَّى بالمرحلة الأوَّليَّة، والتي يُمكِن أن تستمرَّ لعدَّة ساعات أو أيَّام قَبل أن يبدأَ ألَمُ الصداع، ولها مجموعة من الأعراض الخاصَّة بها، بما في ذلك الرغبة الشديدة في تناول الطعام. وهنا غالبًا ما يُنصح مرضى الصداع النِّصفي وفي كثير من الأحيان بالابتعاد عن الشوكولاتة. ولعلِّي ـ إنْ لَمْ أبالغ ـ أقول لأولئك المرضى إذا كنتُم تشتهون قطعة شوكولاتة، فقَدْ يكُونُ الصداع النِّصفي قادمًا بالفعل، سواء تناولتموها أم لا! ما أعنيه أنَّه عِنْدما تُصاب بالصداع، فإنَّك تلوم الشوكولاتة، على الرغم من أنَّ الصداع النِّصفي جعلك تأكل الشوكولاتة…أوَلَيْس كذلك؟
وهنا ـ وللأسف الشديد ـ يعتمد العديد من المصابِين بالصداع النِّصفي على مُسكِّنات الألَم المتاحة دُونَ وصفة طبيَّة. مع العِلم أنَّ الأدوية التي لا تستلزم وصفة طبيَّة يُمكِن أن تسبِّبَ المزيد من هجمات تلكم الأعراض إذا أفرطت في استخدامها. بل حقيقة المشكلة التي لاحظتها مع بعض النَّاس أنَّهم يتدبَّرون أمْرَهم بالعلاجات المنزليَّة، حتَّى وصلَ الأمْرُ لتفاقُم مفاهيم خاطئة محيطة بالصداع النِّصفي، بالإضافة إلى كونه غير مرئي. فمثلًا مقارنة بالصرع، وهو اضطراب عصبي ذو مظهر جسدي، ينظر إلى الأشخاص الذين يعانون من الصداع النِّصفي المزمن على أنَّهم أقلُّ جدارة بالثِّقة، وأقلُّ احتمالًا لبذل قصارى جهدهم، وأكثر عرضة للتمارض. وبشكلٍ مؤسفٍ، وربَّما كنتيجة لذلك، يشعر الكثيرون من هؤلاء المرضى بالضغط النَّفْسي من أجْلِ اجتياز هذه المُشْكلة.
ختامًا، لا شكَّ أنَّه هنالك مسبِّبات محفِّزة لهذا الصداع، ولكن أيضًا هنالك علاجات مختلفة يحاول من خلالها تقليل تلك الأعراض القاسية على المريض، لا سِيَّما مع تطوُّر وظهور العلاج السلوكي وتقنيَّات الاسترخاء المصمَّمة خصيصًا للصداع النِّصفي، إضافة إلى الأجهزة التي يُمكِن ارتداؤها والمصمَّمة للحدِّ من الصداع النِّصفي عن طريق تقديم تحفيز كهربائي خفيف ـ على سبيل المثال ـ والتي قَدْ تكُونُ مفيدةً كجزء من خطَّة علاج أكبر مستقبلًا!
د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي
dryusufalmulla@gmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: على الرغم من ة التی
إقرأ أيضاً: