جريدة الوطن:
2024-12-25@14:26:51 GMT

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت

في خضمِّ اختلاط القِيَم والمفاهيم الذي يعاني مِنْه عالَم اليوم على كافَّة الصُّعد وعلى مختلف المستويات وفي المجالات كافَّة، لا بُدَّ أن يَعُودَ الإنسان إلى الأساسيَّات التي أثبتتها تجارب الشعوب وخبراتها وثقافاتها عَبْرَ التاريخ لكَيْ يستنيرَ بنور الحقيقة بعيدًا عن التشويه المتعمَّد أو التجاذبات التي تهدف إلى ما تهدف من مقاصد قَدْ لا تظهر خطورتها إلَّا بعد فوات الأوان.

ففي زحمة اللقاءات والقِمم والمشاريع التي يتسابق الشرق والغرب على طرحها اليوم، وفي ضوء تسارع بزوغ تحالفات تهدف إلى شدِّ عضد هذا الطرف أو ذاك، عَلَيْنا التوقُّف والتفكير الهادئ، ووضع الأمور في ميزانها الصحيح بعيدًا عن التأثيرات الآنية للدعاية النشطة والمغرضة.
منذ بداية الصراع في أوكرانيا، والتقارب الصيني الروسي الذي أصبح استراتيجيًّا على صُعد عدَّة، تَقُودُ الولايات المُتَّحدة حملة مسعورة لبناء تحالفات في المحيط الهادئ وآسيا والشرق الأوسط، ولممارسة الضغوط على دوَل إفريقيَّة وآسيويَّة كَيْ تركنَ إلى التسليم للطرف الأميركي والسَّير وفق إرشاداته، بَيْنَما تقوم الصين بطرح مبادرات على المستوى العالَمي تهدف إلى تعزيز التنمية وتقدير حضارة وثقافة كُلِّ شَعب، واحترام الاختلاف، والتأكيد على مبدأ التشاركيَّة في الخطط والأهداف على مبدأ «رابح ـ رابح» لأنَّنا في قارب إنساني واحد، ونتَّجه نَحْوَ مصير بَشَري واحد؛ كوننا ننتمي إلى أُسرة إنسانيَّة واحدة. والحقُّ يُقال هنا لو أراد المرء أن يراجعَ تاريخ الولايات المُتَّحدة وما قامت به في البُلدان التي استهدفتها من فيتنام إلى يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق وليبيا والسودان وسوريا، ناهيك عن دَوْرها المسؤول فعلًا عن استمرار الاستعمار الصهيونيِّ الغاصب في فلسطين، لوجَبَ محاكمة الحكومات الأميركيَّة المتعاقبة على ما أصاب شعوب هذه البُلدان من أضرار فادحة تسبَّبت بمآسٍ إنسانيَّة لملايين البَشَر، وحكمت على أجيال كاملة بالفقر والعَوَز والتشرُّد، ودمَّرت ثقافات وأساليب عيش وأوطانًا كان أهلها يعيشون حياة هادئة مطمئنة قَبل قدوم حروب الكاوبوي إلَيْهم تحت غطاء مزيَّف أطلقوا عليه أسماء برَّاقة كالديمقراطيَّة وحقوق الإنسان.
على النقيض من ذلك نصلُ إلى الصين، هذه الأُمَّة المعجزة التي تمكَّنت من نفض كاهل التواطؤ الغربيِّ عَلَيْها، والذي جعلها مرتعًا للأفيون؛ فشدَّت من أزر شَعْبها، وقضت على الفقر، وانطلقت في العِلم والتكنولوجيا بِدَوْر داخلي وإقليمي وعالَمي مشرِّف، ووضعت نصبَ أعيُنِها مشاركة إنجازاتها الهائلة والتي تمَّت في زمن قياسيٍّ لا يتجاوز خمسة عقود مع دوَل العالَم، صغيرها وكبيرها، غنيِّها وفقيرها، لأنَّها تؤمن بإنسانيَّة الإنسان قَبل كُلِّ شيء، وبمبدأ سحريٍّ مُهمٍّ وهو عدم التدخُّل أبدًا في الشؤون الداخليَّة للدوَل، واحترام الصغير والكبير مِنْها، والعمل معها ومشاركتها التقنيَّات والإنجازات العلميَّة على مبدأ «رابح ـ رابح».
هذه الدَّولة التي تعتزُّ بحضارتها وعراقتها وإنسانيَّتها والتي لَمْ تغزُ بلدًا، ولَمْ تحتلَّ أرضًا لأحَدٍ، ولَمْ تتسبَّب بقتل أو تشريد أو تهجير. تعتزُّ حتَّى بأساطيرها التي تُفيد في مجملها أنَّ العمل الصالح تتمُّ مكافأته، وأنَّ المَحبَّة هي سرُّ النجاح، وأنَّ التعاون والتعاضد لِمَا فيه خير البَشَريَّة هو الكفيل بإنقاذ الجميع، وكأنَّهم يُفسِّرون قوله تعالى: «وتعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان». ففي إحدى أساطيرهم يُطلُّ عَلَيْك معبد يعتقدون أنَّه حامٍ لمدينة خانجو التي وصلنا إليها منذ أيَّام، ويزورونه ويطلبون مِنْه الاستمرار بحماية مدينتهم، وتستمرُّ الأسطورة لِتقولَ إنَّ السِّياسيِّين والمسؤولين الذين يبلون بلاءً حسنًا في خدمة شَعبهم ينتقلون بعد موتهم لِتصبحَ أرواحهم في خدمة الخير والأمن الذي يُقدِّمه هذا المعبد، وإذا لحقَ الظلم بأيٍّ مِنْهم فإنَّ روحه ستنتقل إلى هنا لِيتمَّ إنصافها في حياة جديدة مع هذا القدِّيس.
وفي معرض حديث جانبيٍّ مع أحَدِ المسؤولين في الوفد الصينيِّ، تحدَّثنا عن العلاقة مع الأميركان، فقال إنَّ الصين تدرك أنَّ العلاقة الأميركيَّة ـ الصينيَّة الجيِّدة مُهمَّة للعالَم كُلِّه، وأنَّنا نسعى كَيْ تكُونَ علاقتنا مع الولايات المُتَّحدة سليمةً وجيِّدة؛ لِمَا فيه خير شَعبَيْنَا وخير العالَم بِرُمَّته، ولكنَّ المُشْكلة التي نعاني فيها مع الأميركان هي أنَّهم يقولون لنَا شيئًا ويتَّفقون معنا على شيء، ثمَّ يذهبون ليعملوا نقيضه، ونحن نقول لهم لماذا تفعلون عكس ما تقولون؟! أوَلَيْسَ من الواجب عَلَيْنا جميعًا أن نلتزمَ بما نقول وبما نتَّفق عَلَيْه؟ أوَلَيْسَتْ هذه مبادئ أساسيَّة في التعامل المحترم بَيْنَ البَشَر العاديِّين وبَيْنَ السِّياسيِّين، وكأنَّهم يُطبِّقون قول الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون، كَبُرَ مقتًا عِنْد الله أن تقولوا ما لا تفعلون». إذا كان أتباع كونفوشيوس قَدْ ضاقوا ذرعًا بمَنْ يقول ولا يفعل، أوَلَيْسَ أحرى بالمُسلِمين وبالأُمَّة الإسلاميَّة التي تتَّبع كتاب الله، والتي تعْلَم أنَّ الله يَمقُت مَنْ يقول ما لا يفعل أن تضيقَ ذرعًا بهؤلاء الذين يعجُّ تاريخهم مع العرب والمُسلِمين بقول ما لا يفعلون، والتصرُّف بعكس ما يدَّعون؟!
في مقاربة سريعة بَيْنَ قوَّة ضاربة بُنيت على أُسُس الأخلاق والأساطير المبنيَّة على العمل الصالح والصِّدق وحُبَّ الخير لأخيك كما تحبُّ لنَفْسِك، وبَيْنَ مجموعة من البَشَر انتقلت إلى الأرض الجديدة فقتلت كُلَّ مَنْ عَلَيْها، ودمَّرت حضارتهم، وألْحقَتْ خسارة هائلة للإرث الإنساني والحضاري، وبَنَتْ قوَّتها على قوَّة السِّلاح واستعباد الآخرين ونهبِ ثروات بُلدانهم، لا يستطيع العقل إلَّا أن يستنتجَ أنَّ القوَّة التي بُنيت على المبادئ والأخلاق والعمل الصالح هي التي سوف تنتصر على القوَّة العسكريَّة الطاغية التي تُقدِّس المال والقوَّة، وتسحقُ الإنسان دُونَ أن يرمشَ لها جفن. ولذلك، وفي غمرة فوضى المفاهيم المندسَّة لتشويش الرؤى، من المفيد جدًّا أن نتذكَّرَ قول الشاعر أحمد شوقي:
إنَّما الأُمم الأخلاق ما بقيَتْ
فإنْ همُ ذهبتْ أخلاقهم ذهبوا
في المبادئ الصينيَّة لا استعلاء ولا تكبُّر ولا إقصاء ولا عنصريَّة، أي على النقيض تمامًا من إرث الإنسان الأبيض الذي دمَّر أرقى الحضارات ووصَفَها بأنَّها متوحِّشة، ولَمْ يصلنا مِنْها سوى النَّزر اليسير، ولكنَّ ما وصلنا من حضارة الأميركان الأصليِّين والأبورجينز يُبرهن على أنَّها كانت حضارات ذات ثقافة وفنون ضاربة في القِدَم، وفي غاية الجَمال. وهُمُ اليوم عاكفون على تدمير الحضارة العربيَّة بكُلِّ ما يستطيعون من قوَّة، وبكُلِّ السُّبل، من فلسطين إلى اليمن وليبيا وسوريا والسودان. إنَّ الانحياز إلى الذَّات ومحاولة إنقاذها من غطرسة المعتدين والمحتلِّين والمستعمِرين يعني الانحياز إلى المحور الذي تُمثِّله وتَقُودُه الصين؛ لأنَّه دُونَ شكٍّ هو الذي سوف يعتلي سُدَّة المستقبل ويُنقذ البَشَريَّة من آثام الحروب والويلات التي فرضها عَلَيْها الإنسان الأبيض لكسبِ قوَّته ومراكمة ثرواته على حساب الحياة الإنسانيَّة السليمة والطبيعيَّة والهانئة.

أ.د. بثينة شعبان
كاتبة سورية

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: الب ش ر ة التی التی ت

إقرأ أيضاً:

دراما عن الغزو الصيني لتايوان تشعل مخاوف عالمية

طائرة حربية صينية تختفي بالقرب من تايوان، فترسل الصين أسراباً من الزوارق والمقاتلات، لفرض حصار على تايوان التي تستعد للحرب ويسود الذعر شوارع تايبه، هذه هي فكرة مسلسل Zero Day (اليوم صفر)، وهو دراما تلفزيونية تايوانية جديدة تتصور وقوع غزو صيني للجزيرة.

قضية حساسة

هذه هي فكرة مسلسل Zero Day (اليوم صفر)، وهو دراما تلفزيونية تايوانية جديدة تتصور وقوع غزو صيني للجزيرة.

وظل هذا الموضوع لسنوات عديدة حساساً للغاية بالنسبة للعديد من صناع الأفلام والبرامج التلفزيونية التايوانيين، الذين يخشون خسارة سوق الترفيه الصينية المربحة.

ولكن مع تصعيد الصين لتهديداتها العسكرية، بما في ذلك الحشد الكبير للقوات البحرية قبل أيام، والأنشطة العسكرية اليومية بالقرب من الجزيرة، فإن المسلسل المكون من 10 حلقات يهدف لمواجهة هذا الخوف من الغزو الصيني لتايوان.
وقالت تشنغ هسين مي، منتجة المسلسل: "كنا نعتقد أن هناك حرية في تايوان، ولكن في إنتاج الأفلام والتلفزيون، الصين تقيدنا على العديد من المستويات".
وتمتلك الصين، التي تعتبر تايوان جزءاً من أراضيها رغم اعتراضات الحكومة في تايبه، سوقاً أكبر بكثير للسينما والتلفزيون، ويحظى الفنانون التايوانيون بشعبية كبيرة هناك، لأسباب كثيرة منها عوامل اللغة والثقافة المتشابهة.
لكن تشنغ قالت إن "المبدعين في تايوان الحرة والديمقراطية، مقيدين على نحو غير مباشر بالرقابة القوية التي تفرضها الدولة في بكين".

وتنتقد بكين بشكل منتظم الفنانين التايوانيين، الذين تعتبرهم ينتهكون الإيديولوجية السياسية للصين، وهددت بإدراج أولئك الذين لا يرغبون في التعاون في القائمة السوداء.
وقالت مصادر إن الصين ضغطت على فرقة روك تايوانية شهيرة، للإدلاء بتعليقات مؤيدة للصين قبل الانتخابات الرئاسية التايوانية، في وقت مبكر من هذا العام، ونفت بكين ممارسة ضغوط على الفرقة، في حين لم يرد مكتب شؤون تايوان في الصين على طلب للتعقيب.

التمويل 

وبالنسبة لطاقم عمل "اليوم صفر"، فإن طرح مثل هذا الموضوع الحساس يعني مواجهة صعوبات، بدءاً من التمويل واختيار الممثلين إلى العثور على أماكن للتصوير.
وقالت تشنغ إن أكثر من نصف طاقم عمل المسلسل طلبوا عدم الكشف عن هويتهم في قائمة طاقم العمل، كما انسحب بعض الأشخاص، بمن فيهم المخرج، في اللحظة الأخيرة، بسبب المخاوف من تعرض عملهم مستقبلاً في الصين للخطر أو بسبب المخاوف على سلامة عائلاتهم العاملة هناك.
المسلسل، الذي من المقرر أن يتم بثه عبر الإنترنت وعلى قنوات تلفزيونية لم يتم الإعلان عنها بعد في العام المقبل، يثير ضجة بالفعل في تايوان بعد أن تم نشر المقطع الدعائي الموسع على الإنترنت في يوليو (تموز).

مستقبل تايوان 

ويركز على العديد من التصورات التي قد تواجهها تايوان في الأيام التي تسبق الهجوم الصيني، بما في ذلك انهيار مالي عالمي، وتنشيط خلايا صينية نائمة، وذعر سكان يحاولون الفرار من الجزيرة.
وفي المقطع الدعائي للمسلسل، يقول الممثل الذي يجسد دور رئيس تايوان في خطاب عبر التلفزيون "بدون الحرية، تايوان ليست تايوان"، داعياً إلى الوحدة بعد إعلان الحرب على الصين.

ثم ينقطع البث المباشر بشكل مفاجئ، ويحل محله بث لمذيع على شاشة التلفزيون الصيني الرسمي يدعو التايوانيين إلى الاستسلام والإبلاغ عن "الناشطين المؤيدين للاستقلال المختبئين" للجنود الصينيين بعد هبوطهم في تايوان.

وقال ميلتون لين، وهو أحد سكان تايبه ويبلغ من العمر 75 عاماً، إنه يشعر بالامتنان لأن المسلسل التلفزيوني يسلط الضوء على التهديدات التي تشكلها الصين.

وأضاف "هذا يساعد التايوانيين على فهم أننا نواجه عدواً قوياً يحاول ضمناً، وكيف يجب أن نكون على أهبة الاستعداد لمواجهة مثل هذا الغزو".

Makers of Taiwan’s ‘Zero Day’ TV series set around invasion fear backlash from China – Reuters: ‘Cheng said more than half of the “Zero Day” crew asked to remain anonymous on the crew list, and some people including a director pulled out of the production’ https://t.co/sJMWHlSmEV

— Sense Hofstede (@sehof) December 23, 2024

مقالات مشابهة

  • بقيت أحلى.. أول ظهور للفنان محمد التاجي بعد إجرائه عملية جراحية
  • ترامب يهدد بالسيطرة على قناة بنما للحد من النفوذ الصيني
  • "بسيوني": الشائعات تهدف إلى التأثير على الصورة التي تقدمها مصر في مجال حقوق الإنسان
  • حصيلة مروعة وضحايا بالمئات.. السحر يشعل مذبحة الفودو في هايتي
  • دار الإفتاء تطلق حملة "خلق يبني" لتعزيز القيم الأخلاقية
  • وزير الأشغال يبحث مع السفير الصيني إعادة إعمار غزة
  • تواضع العلماء.. خُلق سامٍ ودعوة للأخلاق الجميلة
  • "تضامن الأقصر" تنظم ندوات توعوية للأطفال والسيدات حول الأخلاق وظاهرة الطلاق.. صور
  • دراما عن الغزو الصيني لتايوان تشعل مخاوف عالمية
  • أستاذ بـ«الأزهر»: الأمانة من المقاصد الأساسية للدين الإسلامي