بوابة الوفد:
2025-01-17@19:31:29 GMT

مصر وليبيا.. جدلية الأرض والتاريخ

تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT

ليس فقط لأنها تشترك مع مصر فى حدود طويلة تصل إلى 1200 كيلو متر، وليس لأن هذه الحدود تصدر حالة السيولة الأمنية على الجانب الليبى، مما يترتب عليه عدة تحديات للسيادة المصرية كتسلل العناصر الإرهابية وعمليات التهريب، وغيرها، ولكن.. لأن بين مصر وليبيا مشتركات عديدة، تضرب بجذورها فى التاريخ، لا تقتصر على المشترك السياسى والاجتماعى والتاريخى فحسب، بل تتخطاها إلى المشترك الثقافى الذى تحدده وتؤكده الكثير من المواقف منذ آلاف السنين، تلك المشتركات التى أذابت الحدود وسمحت لامتداد قبائل ليبية عدة فى محافظات مصرية، لينشأ أبناؤها مصريى الهوى والهوية.

.. هكذا اتخذت الشقيقة ليبيا موقعًا ذا مكانة خاصة فى قلوب المصريين، وحظيت باهتمام القيادة السياسية المصرية على مر العصور والأزمان.

ولإيضاح تلك الأواصر بين البلدين، علينا أولا أن ننبش فى صفحات التاريخ لنستجليها:

* قدماء المصريين وليبيا

يبدأ الأمر من قدماء المصريين، الذين عرّفوا الشعوب التى تعيش فى المناطق الغربية المتاخمة لمصر بالليبيين، اشتقاقًا من اسم إحدى القبائل التى كانت تعيش هناك. وانتقلت هذه التسمية إلى كل العالم القديم. تَقَوّت هذه القبائل، وزحفت على مصر، واستطاعت الاستيلاء على الحكم، وشكلت الأسرة الثانية والعشرين، والتى حكمت لنحو قرنين من الزمان (من القرن العاشر للقرن الثامن قبل الميلاد). فى العصور التالية، سواء الإغريقية أو الرومانية، كانت الأراضى الليبية، فى أغلب الوقت جزءًا تابعًا لمصر، ثم فتح عمرو بن العاص برقة وأجدابيا وطرابلس فى العام الثانى والعشرين للهجرة. 

* القبائل الليبية فى مصر

توجد فى مصر قبائل عديدة ذات أصول ليبية نزحت منذ مئات السنين، منها أولاد على والجوازى والبراعصة والفوايد والهنادى والفرجان والبهجة والجميعات والقطعان والجبالية والرماح والحبون وأولاد الشيخ.

وكانت قبيلة البراعصة فى مدينة البيضاء بشرق ليبيا قد خرجت فى احتجاجات ضد القذافى وهذه المدينة هى مسقط رأس «صفية» زوجة القذافى وأم سيف الإسلام.

وتقطن البراعصة فى شرق ليبيا وهى من القبائل الكبيرة وتحديدًا فى مدينة بنغازى وأجدابيا، وتوجد فى الفيوم والقليوبية بمصر، ويوجد فى محافظة المنيا بجنوب مصر فرع من قبيلة القذاذفة التى ينتمى إليها الزعيم الليبى معمر القذافى، التى يوجد بها أيضًا قبيلتا الجوازى وأولاد على الليبيتا الأصل. وفى كل من بلبيس فى محافظة الشرقية، وفى القليوبية شمال شرق القاهرة، وقنا وجرجا بالصعيد، تسكن قبيلة الصهيب الليبية التى هاجرت إلى مصر منذ مئات السنين، كما تقطن جرجا ومنفلوط فى الصعيد وطنطا شمال القاهرة، قبيلة العمايم الليبية الأصل.

_ قبائل أولاد علي

وتعد قبائل أولاد على، أكبر القبائل المعروفة بأصولها الليبية فى مصر، ويزيد عددها على مليونى نسمة، وتتعدد أسماؤها وتنقسم فى الأساس إلى قسمين؛ أولاد عليّ الأحمر، وعلى رأسهم قبائل القنايشات، وأولاد عليّ الأبيض، وعلى رأسهم قبائل العزائم، وتنتشر تلك القبائل من سيدى برانى فى مطروح الواقعة قرب الحدود المصرية الغربية مع ليبيا، إلى دمنهور التابعة لمحافظة البحيرة بوسط دلتا مصر، ومناطق مثل العامرية وكنج مريوط غرب الإسكندرية، ومحافظات الجيزة والغربية والشرقية.

وهاجرت قبائل أولاد على من ليبيا عام 1670 ميلادية بعد نزاع مع قبيلة الحرابى فيما يعرف تاريخيًا باسم تجريدة «حبيب». وجاء عدد من القبائل إلى مصر بعد الحرب الأهلية الليبية فى مطلع القرن التاسع عشر.

*مواقف تاريخية كاشفة:

_ حين غزت إيطاليا ليبيا فى سبتمبر1911، تم إيفاد عدد محدود من القوات العثمانية للدفاع عن ليبيا. على رأس هذه القوات عدد من القادة الكبار أبرزهم: أنور باشا ومصطفى كمال أتاتورك، وعزيز باشا المصرى الذى وصل إلى هناك متنكرا بعد أن مر بمصر، حيث التقى بالخديو عباس حلمى الثانى، ثم تابع طريقه بعد ذلك حتى وصل ليبيا.

كان عزيز المصرى، ورغم كونه ضابطًا فى الجيش العثمانى، إلا أنه مصرى بالأساس، آخر الضباط الخارجين من ليبيا. وهو من درّب عمر المختار على فنون القتال. واحتضنت مصر إدريس السنوسى ورجاله، ويسرت اتصالاته مع المقاومين بالداخل. وبدأت حملات التبرع لليبيين بالسلاح والعتاد والأموال، قادها الأمير عمر طوسون، أعظم وأنبل أمراء أسرة محمد على.

وحينما نفذت إيطاليا حكم الإعدام فى حق المجاهد العظيم عمر المختار فى1931، أراد الشيخ حمد الباسل، وهو أحد الزعماء الكبار لثورة 1919، وكان عروبيا قوميا، وقبيلته، وتربطه علاقات قربى بالزعيم عمر المختار، أراد أن يقيم حفل تأبين له فى قصره بالقاهرة، لكن إسماعيل صدقى خشى أن يتحول الحفل إلى ملتقى للتنديد بممارساته القمعية، فأصر على منعه. فتحايل الباسل على ذلك، وأغلق الأبواب على ضيوفه، وأشهرهم أمير الشعراء أحمد شوقى وخليل مطران.

_ حرب التحرير

عمر المختار

وكان للجيش المصرى دور واضح فى حرب تحرير ليبيا التى قادها شيخ المجاهدين عمر المختار ضد الاحتلال الإيطالى، حيث يخبرنا التاريخ أنه قد تلقى المجاهدون السلاح والدعم اللوجستى من الجيش والشعب المصرى، وقدم أبناء مصر المال وتبرعوا لدعم عمر المختار، ونقلت صحيفة الأهرام أنباء انتصارات المختار، وقدم عدد من الضباط فى الجيش المصرى خبراتهم دعما للمجاهدين.

وبعد أن تم إعدام المجاهد عمر المختار فى سبتمر 1931، ظلت مصر حاضنة لكل الليبيين الهاربين من بطش الاحتلال الإيطالى، وقدمت قبائل مطروح المرتبطة بالقبائل الليبية كل أشكال الدعم والإسناد المعنوى والسياسى، وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية عقد الملك السنوسى الذى كان يقيم فى الإسكندرية، عدة اجتماعات بحضور أكبر مشايخ ليبيا من المهاجرين وذلك فى 20 أكتوبر 1939، حيث أعطى هذا الاجتماع التفويض بأن يقوم بمفاوضة الحكومة المصرية والحكومة البريطانية لتكوين جيش ليبى. وهو ما حدث بالفعل حيث مد هذا الجيش بمعدات وسلاح من الجيش المصرى وساهم فى تحرير ليبيا.

لم يتوقف الدعم عند هذا الحد وحسب، بل أرسلت مصر الأطباء والمدرسين والفنيين لدعم ليبيا وبناء المنشآت الكهربائية وسكة الحديد والموانئ، وقدمت مصر كل ما تملك من خبرات وكفاءات فى سبيل بناء الدولة الليبية، حتى بعد قيام ثورة يوليو 1952 كان موقف مصر موقفًا شريفًا وعادلًا ونزيهًا، وكان القذافى ربيبًا لثورة يوليو، مؤمنًا بعبدالناصر.

_ ثورة الفاتح:

  جاء عام 1969 فى الأول من سبتمبر وقامت ثورة الفاتح بقيادة مجموعة من ضباط الجيش الليبى على رأسهم العقيد معمر القذافى، فى وقت حرج ومهم من تاريخ الأمة العربية، حيث الاحتلال الإسرائيلى لسيناء والجولان والقدس، وانشغال الجيش المصرى فى حرب التحرير، لكن رغم كل ذلك لم ينس الجيش المصرى دوره مع الشعب الليبى، فقدمت مصر الدعم لثورة الفاتح 1969 وللجيش الليبى.

* دور ليبيا فى حرب أكتوبر

جاء فى مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلى، أنه منذ أن وصل القذافى إلى الحكم فى الفاتح من سبتمبر 69 وهو يقوم بمجهود كبير لبناء قوات مسلحة ليبية حديثة. وبذلت ليبيا مجهودًا ضخمًا لبناء قواتها المسلحة فى السنوات الأربع التى سبقت حرب أكتوبر 73، وقد اعتمدت فى ذلك على معونة مصر الفنية اعتمادًا كبيرًا. قامت ليبيا بإرسال عدة آلاف من طلبتها إلى مراكز التدريب والمدارس العسكرية فى مصر، كما استقدمت مئات من الضباط وضباط الصف المصريين لتدريب الضباط والجنود الليبيين فى ليبيا.

وعندما اشترت ليبيا صفقة طائرات الميراج عام 1970 من فرنسا اعتمدت أساسا على الطيارين المصريين الذين كانوا يحملون جوازات سفر ليبية.

وعند قيـام حرب أكتوبر 73 كانت القوات الليبية المتمركزة فى مصر عبارة عن سربى ميراج (أحدهما يقوده طيارون ليبيون، والآخر يقوده طيارون مصريون) ولواء مدرع.

_ الربيع العربي

منذ اندلاع الأزمة الليبية مطلع العام 2011، حرصت مصر على المشاركة بقوة فى تفاعلات المشهد الليبى؛ فمنذ اللحظات الأولى كانت مصر دائمة الانخراط فى مسارات الحل وجهود خفض التصعيد بين الأطراف الليبية، فضلًا عن المساعى المصرية لحشد التأييد الدولى نحو موقف إيجابى للتصدى لخطر التنظيمات الإرهابية فى ليبيا.

وقد كان للقبائل الليبية بمصر مواقف فاعلة تجاه تلك الأحداث، منها:

تأكيد شيوخ وأبناء قبائل أولاد على بمصر تأييدهم لأبناء عمومتهم من الثوار الليبيين فى نضالهم ضد حكم العقيد معمر القذافي، عام ٢٠١١.

كما نظم نحو 200 من قبائل «أولاد على» المصرية، التى تمت بصلات قرابة إلى قبائل ليبية،  مظاهرات، فى مدينة السلوم؛ لإدانة ما وصفوه بـ«الاعتداء الوحشى»، الذى يتعرض له الليبيون، ورفع المتظاهرون لافتات تطالب بمحاكمة القذافى، وتطالبه بالرحيل، ورددوا هتافات «الله.. الشعب.. ليبيا.. مصر».

* موقف مصر من إعصار دانيال:

لم تقف مصر مكتوفة الأيدى تجاه ما واجهه أشقاؤنا فى ليبيا من كارثة إعصار دانيال، وكعادتها، كشقيقة كبرى، تمد يد العون والإغاثة، بقوافل طبية وغذائية، كواجب حتمى تجاه شقيقتها، هكذا يقف التاريخ شاهدا بمواقفه على عمق الروابط المصرية الليبية، والتى كانت وستظل قوية لا يثنيها زمن ولا يضعفها عدو. 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: ليبيا قبائل ليبية محافظات مصرية قدماء المصريين شرق ليبيا بنغازي اجدابيا الفيوم القليوبية المنيا الإسكندرية عمر المختار القذافي عمر المختار أولاد على فى مصر

إقرأ أيضاً:

الدعاء العنيف- جدلية الدين والسياسة بين التاريخ والحاضر السوداني

بالأمس، استمعت إلى الصحافي المصري إبراهيم عيسى، في برنامجه "مختلف عليه"، وهو يناقش مسألة الدعاء في الخطاب الإسلامي. أشار إلى أن تيمورلنك، الملقب بـ"الأعور"، كان أحد مؤسسي هذا الخطاب العنيف. أثار حديثه فضولي، فانطلقت أبحث في كتبي القديمة عن هذا الجانب التاريخي. وبعد جهد، بحمد الله، وجدت ما يشير إلى دور تيمورلنك في ترسيخ خطاب ديني يخلط بين الدعاء والدموية، وهو خطاب يمتد تأثيره إلى حاضرنا، في سياقات مختلفة، منها تجربة الإسلاميين في السودان وممارسات ميليشياتهم في الحرب الحالية.

الدعاء في الخطاب الإسلامي يعدّ من أبرز أدوات التعبير عن الارتباط بالله، لكنه في بعض الأحيان تحول إلى وسيلة تُستغل سياسيًا أو عسكريًا لتبرير العنف والدموية. من تيمورلنك في العصور الوسطى إلى الإسلاميين وميليشياتهم في السودان المعاصر، نرى كيف يمكن للدين أن يُستخدم كأداة لتبرير القتل والقمع. تيمورلنك، الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي، استخدم الدين كغطاء لشرعنة جرائمه. كان يصف أعداءه بالكفر ويدعو الله أن يمكنه من تدميرهم. لا تتوقف قصصه عند حدود النصر العسكري فقط، بل تضمنت مجازر دموية مُنظمة. كان يرفع يديه بالدعاء في ساحة المعركة، يدعو بالنصر، ويأمر جنوده بذبح الأسرى والمدنيين، زاعمًا أن هذا "جزء من إرادة الله".

على سبيل المثال، في حملته على أصفهان عام 1387، دعا تيمورلنك بأن يعينه الله على "تطهير الأرض من العصاة"، وقُتل أكثر من 200 ألف شخص. الأمر نفسه تكرر في بغداد ودلهي، حيث تحولت الدعوات إلى رخصة دموية للإبادة. في السودان المعاصر، خصوصًا في فترة هيمنة الإسلاميين، نجد امتدادًا لهذا النهج. استخدمت الجماعات المسلحة الدعاء كوسيلة للتجييش والتبرير. خطب الجمعة والدعوات العلنية في المساجد كانت تزخر بصيغ عنيفة، تدعو لـ"سحق الأعداء" و"تطهير الأرض من الكفار"، متخذة من الدين وسيلة لإضفاء شرعية على حروب أهلية وصراعات دموية.

الميليشيات الإسلامية التي برزت في السودان مثل "الجنجويد" و"كتائب البراء"، كانت تعتمد خطابًا دينيًا صارمًا. دعاياتهم العسكرية كانت تبدأ بتلاوة أدعية العنف، مثل: "اللهم عليك بالظالمين والمفسدين"، وهو ما يُترجم عمليًا إلى إبادة جماعات بعينها، بناءً على خلفيات عرقية أو دينية. الجرائم الموثقة في التاريخ تُظهر أوجه التشابه بين ممارسات تيمورلنك والإسلاميين في السودان. في حملة أصفهان وحدها، ذُبح مئات الآلاف، وفي دارفور ومناطق أخرى بالسودان، ارتكبت الميليشيات جرائم مماثلة بحق المدنيين.

الدعاء العنيف في الخطاب الإسلامي ليس مجرد كلمات، بل هو أداة لتشكيل العقول وإعداد الجنود للحرب. يُظهر التاريخ أن القادة الدينيين والعسكريين استخدموا الدين لتبرير العنف، متجاهلين قيم الإسلام التي تدعو للرحمة وحفظ النفس. هذه الممارسات تشوه جوهر الدين. الدعاء هو وسيلة للتقرب إلى الله، وليس أداة لإبادة الآخرين. الاستخدام السياسي للدين في السودان أدى إلى انهيار الدولة وتفكك المجتمع، وهو ما ينذر بخطر أكبر إذا استمر هذا النهج.

من تيمورلنك إلى ميليشيات الإسلاميين في السودان، يمتد خيط طويل من استغلال الدعاء في الخطاب الإسلامي لتبرير العنف. هذا التشويه للدين يتطلب مواجهة فكرية جادة، تعيد الخطاب الإسلامي إلى مساره الحقيقي، الذي يدعو للسلام والرحمة والعدالة.

zuhair.osman@aol.com  

مقالات مشابهة

  • الدور على السودان وليبيا واليمن
  • جدلية التغيير الفكري
  • رسائل امتنان.. فلسطينيون إلى أشقائهم المصريين: أنتم الأهل والسند والداعم لنا
  • مستقبل وطن: جهود عظيمة تقوم بها الحكومة لتوطين صناعة السيارات
  • وزير الدفاع يشهد حفل تخرج دورة التمثيل الدبلوماسى العسكرى المصرى بالخارج
  • وزير الدفاع يشهد حفل تخرج دورة التمثيل الدبلوماسى العسكرى المصرى بالخارج.. شاهد
  • وزير الدفاع والإنتاج الحربى يشهد حفل تخرج دورة التمثيل الدبلوماسى العسكرى المصرى بالخارج
  • الدعاء العنيف- جدلية الدين والسياسة بين التاريخ والحاضر السوداني
  • واحة العين سياحة في أحضان الطبيعة والتاريخ
  • الأمن القومى.. وضريبة الاستقرار