ميزان العدل الإلهي وقانون التاريخ
تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT
من مظاهر تلبيس إبليس على كثير من الناس وخاصة على المتدينين أنه يوهمهم بكونهم ليسوا معنيين بسنن التاريخ وليسوا مقصودين بخطاب الوعيد الإلهي، إنه يوهمنا بأننا معنيون فقط بآيات الوعد وخطاب النعيم والثناء لكوننا مؤمنين أو متدينين.
مثل هذا التلبيس يجعلنا ننظر إلى كل خيبة نقع فيها على أنها امتحان رباني وابتلاء، أو على أنها نتيجة تآمر الأعداء علينا، فلا نربطها بالأسباب ولا نراجع أنفسنا ولا نقف على مواطن تقصيرنا وأخطائنا وحتى ظلمنا لأنفسنا ولغيرنا، بل وحتى فسادنا وإفسادنا لكوننا بشرا يعترينا الضعف والخوف والجهل والتقصير والخطأ والخطيئة، ومثل هذا الوهم يمنعنا من إصلاح أنفسنا ومن تحمّل مسؤولياتنا ومن الاعتراف للناس بأخطائنا، في حين نظل ننظر لما يصيب الآخرين من سوء وخيبة بكونه عقابا إلهيا بسبب سوء علاقتهم بالدين أو بسوء تعاملهم معنا نحن، فلا نربط أيضا بين ما أصابهم وبين أسباب موضوعية سارية في التاريخ.
التلبيس معيق للتفكير ومُخرّب للوعي ومنتج للكسل والتواكل، ومعطل لكل عملية نقد ذاتي أو مراجعة لما سبق منا من فهم ومن فعل في علاقة بأنفسنا وبالآخرين، فلا نظن أننا معنيون بآيات "الظالمين" وإنما نظنها خاصة بغيرنا
هذا التلبيس معيق للتفكير ومُخرّب للوعي ومنتج للكسل والتواكل، ومعطل لكل عملية نقد ذاتي أو مراجعة لما سبق منا من فهم ومن فعل في علاقة بأنفسنا وبالآخرين، فلا نظن أننا معنيون بآيات "الظالمين" وإنما نظنها خاصة بغيرنا.
فحين نقرأ قول الله تعالى "فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر" فإننا كثيرا ما نقرأ الآية خارج معنى "حسم" التاريخ الذي يحكمه قانون، فنظن أن غيرنا هم المعنيون بها، ولا نجد أنفسنا معنيين، وذاك هو الخطأ في فهم العدل الإلهي الكامن في قانون التاريخ، إن ذاك "الأخذ" إنما هو لحظة انتهاء مسار معين إلى نتيجة هي من جنسه، فذاك هو "الأخذ" وذاك هو العدل.
"وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ" (الأعراف: 96).
فـ"الأخذ"/ "الحسم" هو في علاقة سببية بـ"الكسب"، وهي الأفعال التي نأتيها بإرادتنا أو بغير إرادتنا، فالتاريخ لا يبرر لنا ولا يفسر إنما يأخذ ويحسم.
"وحين نقرأ "قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الباطلُ وما يعيد" (سبأ: 49)، فإن تلبيس إبليس يجعلنا نفهم الآية كونها بُشرى لنا نحن بقرب النصر على "أعدائنا" سواء من أعدائنا في الدين أو خصومنا في السياسة، وهذا الفهم يحيد بنا عن الإيمان بالعدل الإلهي الكامن في قانون التاريخ.
المشاريع البشرية التي لا تمتلك مقومات التأسيس إنما تكون وتستمر طالما ظل الحق غائبا، وهي إذا ما توفرت شروط قيام الحق تزول آليا ولا تملك مقومات عودتها، فمن عجز عن الاستمرار إنما هو عن العود أعجز
إن مجيء الحقّ إنما هو تحقّق لشروط مرحلة الانتصار، فالحق قيمة مطلقة سواء تحقق واقعا أم لم يتحقق، والمجيء هنا بمعنى التحقق، أي تحوله من قيمة مفارقة إلى حقيقة مرئية في عالم الناس وفي مسار التاريخ، ولا يكون ذلك إلا بتوفر الشروط الموضوعية والقيمية، فلسنا إزاء غلبة يُحققها الغالب المقتدر بالقوة، إنما نحن إزاء تحقق العدالة المستحقة بالسعي وبالقيم في آن.
لقد جاء الحق بعد غياب، ولم يغب إلا لكون شروطه لم تتوفر، وحين يغيب الحق يملأ الباطلُ الفراغ، ويظل الباطل قائما طالما عجز الحق عن التحقق لعجز أهله،
وإذا جاء الحق فإن الباطل يزول حتما لأنه لا يملك حظوظ المقاومة ولا حظوظ البقاء، فهو لا "يُبدئ" ولا "يُعيدُ"، بمعنى أنه لا يملك شروط التأسيس (البدء) فهو عاجز بذاته وقادر بعجز غيره، وهو يحضر لا لمقومات حضور متوفرة فيه، إنما يحضر لغياب الحق.
وإذا جاء الحق واختفى الباطل فإن حظوظ عود أهل الباطل مفقودة، فمن كان عاجزا عن البدء فإنه عن العود أعجزُ.
إن المشاريع البشرية التي لا تمتلك مقومات التأسيس إنما تكون وتستمر طالما ظل الحق غائبا، وهي إذا ما توفرت شروط قيام الحق تزول آليا ولا تملك مقومات عودتها، فمن عجز عن الاستمرار إنما هو عن العود أعجز.
ليس للتاريخ عاطفة وليس لميزان العدل أهواء، وإننا نسيء لأنفسنا وللتاريخ ولميزان العدل حين نتوهم أن واقعنا ومستقبلنا في غير علاقة بالأسباب أي بما كسبت وستكسب أيدينا.
twitter.com/bahriarfaoui1
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الإيمان الحق الباطل المشاريع مشاريع الإيمان المسؤولية الحق الباطل سياسة سياسة سياسة صحافة صحافة سياسة رياضة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
فضيحة تسريبات الرعاية الإخوانية لمؤتمر "الحرية الجنسية"
فضيحة جديدة تهز أروقة جماعة "الإخوان" الإرهابية، بعد تسريب رسالة صوتية للدكتور صلاح عبد الحق، القائم بأعمال المرشد العام، تدعم مؤتمرًا متهمًا بالترويج للحرية الجنسية والمثلية والتحول الجنسي. التسريب الذي التقطه جناح القيادي محمود حسين واعتبره ضربة قاضية للإخوة الأعداء، كشف تزكيات قدمها قياديون بارزون لمنسق المؤتمر وأعضاء اللجنة المنظمة، رغم علمهم بمحتوى جدول أعماله المثير للجدل. فكيف تورطت قيادات الجماعة في هذه الأزمة؟
في الأسبوع الأخير من نوفمبر 2024، ظهرت تسريبات هذه الفضيحة لأول مرة على شكل تساؤلات موجهة إلى أصحاب القرار الإخواني في جناح القيادي صلاح عبد الحق. جاءت هذه التساؤلات مغلفة برقائق من الحزن والشفقة، مع ادعاءات بالتمسك بالمبادئ والقيم وما هو معلوم من الدين بالضرورة، بالإضافة إلى الحرص المزعوم على سمعة "القيادات التاريخية الربانية".
زَعَم ناشر التسريبات أن الدكتور "سيد.ز" اتصل عبر الإنترنت بالقيادي محمد البحيري، باعتباره من أصحاب القرار في التنظيم الدولي الإخواني في قارة إفريقيا، وطلب منه تزكيته لدى عدد من أعضاء الوفود الإفريقية المشاركة في فعاليات المؤتمر. استجاب البحيري للطلب وأرسل تزكية يؤكد فيها أن الدكتور "سيد.ز" معروف لديه شخصيًا، ويمكن الوثوق به وتقديم الدعم اللازم لإنجاح المؤتمر وتحقيق أهدافه.
لم يكتفِ الدكتور سيد بتزكية البحيري له، بل استدرج "الإخوان" إلى ما هو أبعد من ذلك. أقنعهم بأهمية أن يلقي الدكتور صلاح عبد الحق، القائم بأعمال المرشد العام لجماعة "الإخوان"، كلمة عبر الهاتف في افتتاح المؤتمر. وبالفعل، تحققت مساعيه، حيث تضمنت كلمة عبد الحق شكرًا صريحًا وإشادة بالدكتور سيد وأعضاء اللجنة المنظمة من أمريكا ودول إفريقية، وكذلك بالمدربين المسئولين عن تحقيق أهداف المؤتمر، داعيًا لهم بالتوفيق والسداد.
طلب المنسق العام للمؤتمر، "المدعوم إخوانيًا"، من الحضور التوقيع على وثيقة المؤتمر وهي "وثيقة 2030" التي تبنتها الأمم المتحدة. ورغم أن "الإخوان" بجميع أجنحتهم المتصارعة، ومعهم جماعات وكيانات أخرى، سبق لهم إصدار بيانات تعلن رفضهم لما جاء في الوثيقة بدعوى أنها "تحمل أهدافًا خبيثة وتهدف إلى إباحة الحرية الجنسية والمثلية والتحول الجنسي، وتشجع على ممارسة الشذوذ، مما يهدد المجتمع المسلم والأسرة المسلمة تحت شعار المساواة بين الجنسين".
القيادي الإخواني الهارب محمد البحيريلم تتحقق أهداف المؤتمر، إذ انسحب عدد كبير من أعضاء الوفود بعد رفضهم التوقيع على الوثيقة. كما أصدروا بيانًا استنكاريًا لما جاء فيها، لينفضّ المؤتمر بعد ثلاثة أيام من انعقاده، ونشر حساب تابع لجناح القيادي محمود حسين فيديو يتضمن التسجيل الصوتي لرسالة القائم بأعمال المرشد العام في جناح الإخوة الأعداء، وصورة من إحدى جلسات المؤتمر وأسماء أهم المشاركين في اللجنة المنظمة. استغل المعترضون على الوثيقة رسالة البحيري وكلمة عبد الحق، وأمطروا قيادات الجماعة الذين تسببوا في "فضيحة الدعم الإخواني لمؤتمر الحرية الجنسية" بوابل من رسائل اللوم والتقريع، وأكدوا أن ادعاء الجهل بحقيقة المؤتمر وما يدور خلف الكواليس لا يعفي صلاح عبد الحق والبحيري من المسئولية.
أكد الإخواني ناقل تسريبات الفضيحة أنه حاول الاتصال بالقائم بأعمال المرشد العام للتحقق من خلفيات رسالته الصوتية وما إذا كان يعلم هو والبحيري بما كان يدور خلف الكواليس، لكنه لم يتلقَّ أي رد على اتصالاته، وفشل في الوصول إليه عبر الدائرة المحيطة به. وطرح تساؤلات عديدة منها: "هل يُقبل أن نعذر الدكتور صلاح والبحيري وغيرهما من المشاركين في المؤتمر بجهلهم بحقيقة أهدافه؟! هذا أمر غير مقبول بالمرة من أشخاص قضوا أعمارهم في هذه الجماعة. فإذا لم يكن مثلهم على اطلاع بالوثيقة المنشورة للجميع وبالأحوال والأخبار، فهل يصلحون لقيادة جماعة كبرى مثل الإخوان؟ وهل الأسماء الإخوانية المشاركة في هذا المؤتمر، والتي أُسندت إليها مهام التدريب أيضًا، مجرد "دراويش" لا يعرفون ماهية الوثيقة؟".. وهل توجد صلة بين رسالة القائم بأعمال المرشد العام الدكتور صلاح عبد الحق إلى المؤتمر وقيام المسئولين عن موقع "الإخوان" الرسمي بحذف بيان سبق نشره لإعلان موقف الجماعة الرافض للوثيقة الأممية؟".
تُسلط هذه التسريبات الضوء على أزمة أعمق داخل جماعة "الإخوان"، تتعلق بمصداقية قياداتها ووعيهم بما يدور حولهم. فهل يمكن لجماعة تدّعي الربانية والالتزام بثوابت العقيدة أن تبرر تورطها في مؤتمر يروج لقيم تتعارض مع مبادئها المزعومة أم أن هذه الفضيحة تكشف عن فصل جديد في مسلسل صراعات داخلية أعمق بين أجنحة القيادات المتناحرة على المكاسب والمغانم؟