لماذا تغدو دراسة السيرة النبوية ضرورة في عصر الحداثة السائلة وتشيّؤ الإنسان؟
تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT
في كل حين وكل عصر وكل جيل يحتاج المسلم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعرفها ويحيا معها وبها، وما تزال السيرة النبوية على مر الأيام منهلا عذبا يرتوي منه الظامئ فيصل الري أطراف روحه وعقله، وإنها كلما تقادم الزمان عادت جديدة تناسب العصر بل تتسرب إلى كل تفاصيله مهما كان شائكا لتعالج أمراضه وتغسل أدرانه.
وفي عصر ما بعد الحداثة الذي تعيشه البشرية اليوم ويتلاطم المسلمون بين أمواجه؛ فمنهم من تاهت سفينته في عبابه فيلتمس منارة هداية، ومنهم من يبحث عن طوق نجاة بعد أن سقط من السفينة وصار يعارك الموج الغلاب؛ وفي هذا العصر العاتية أمواجه الطاغية سماته والمهيمنة على كل تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والفنية والأدبية والجماعية والشخصية تبرز السيرة النبوية منارة هداية عند الشاطئ الآمن وطوق نجاة في قلب الموج المتلاطم.
الصلابة في مواجهة السيولة"السيولة" من أبرز سمات عصر ما بعد الحداثة، وقد سرعت في تكريسها واقعا حالةُ الانفجار التواصلي الذي شهدته البشرية وأدى إلى نزوح أفواج هائلة من البشر من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، والسيولة في مرحلة ما بعد الحداثة -على حد تعبير عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان- "مرحلة تفكك المفاهيم الصلبة والتحرر من كل الحقائق والمفاهيم والمقدسات"، فنحن نعيش في عصر ما بعد الحداثة حالة السيولة في كل شيء؛ سيولة المفاهيم وسيولة الأفكار وسيولة المبادئ وسيولة القيم بل سيولة الإنسان نفسه، فمفهوم الإنسان يعيش تفككا غير مسبوق في عصر الجندر الذي أوصل الإنسان فيما يسمى "مجتمع الميم" إلى 99 نوعا في آخر نسخة.
وفي سلسلته عن السوائل وما أنتجته الحداثة السائلة تحدث باومان عما طالته السيولة في كتب عدة منفصلة وهو "الحياة، والحب، والأخلاق، والأزمنة، والخوف، والمراقبة، والشر"، ولقد ارتكزت السيولة الطاغية على التفكيك والتقويض والعدمية والإقصاء، وتحطيم المرجعيات المركزية في حياة الإنسان.
في السيرة النبوية يجد المرء نفسه في خضم حياة من نوع مختلف عما يعيشه في الواقع؛ حياة تواجه بطريقة هادئة وتجسيدية كل هذه السيولة التي تحيط بنا؛ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته التي تمثل الترجمة العملية للأوامر والأفكار النظرية التي جاء بها القرآن الكريم، وتمثل الإطار التطبيقي التدريبي للمسلم على وضوح المرجعية وصلابتها وتحويلها من أفكار نظرية إلى واقع سلوكي معاش، وهذا ما عبرت عنه أمنا عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت "كان خلقه القرآن"، أي انظروا إلى القرآن الكريم فما فيه من أوامر وأخلاق وفضائل فقد كان يترجمها إلى سلوك عملي تطبيقي صلوات ربي وسلامه عليه.
إن الحياة مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تمثل نموذجا تجسيديا تطبيقيا لصلابة الفكرة وصلابة المبدأ وصلابة القيم وصلابة الأخلاق وصلابة الأهداف، وقبل ذلك كله صلابة المرجعية؛ ففي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يرى المسلم نموذجا حيا متحركا في واقع شائك، ومع ذلك -وهو في كل تفاصيل حياته متحمور حول مرجعية الوحي- فهو على صلة دائمة بوحي السماء، ينتظر الوحي لتطبيقه وتعليمه ويبين فاعلية الوحي في كل الأحداث الشائكة، وحضور الوحي جلي في حركة الحياة اليومية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل تفاصيلها السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، وفي العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد مسلمين وغير مسلمين، وبين أفراد الأسرة الواحدة، وفي العلاقة بين الحاكم والمحكوم. والسيرة النبوية هي مرجعية سلوكية صلبة قائمة بذاتها، كما أنها تمثل الترجمة السلوكية للمرجعية الصلبة النظرية المتمثلة بالوحي القرآني، وكونها مرجعية سلوكية صلبة فهذا تدليل على أنها قابلة للتطبيق في السلوك الإنساني، فهي من جهة تواجهه السيولة المهيمنة، وتقدم النموذج الصلب ممكن التطبيق الواقعي من جهة أخرى، وتمثل كذلك نموذجا تطبيقيا لحياة تعاش لأجل هدف أكبر من الذات، ورسالة أكبر بكثير من المنفعة الشخصية، واستعلاء على الجسد لأجل الفكرة، وتضحية بالنفس لأجل الرسالة. وكل هذا مما تعمل السيولة في عصر ما بعد الحداثة على تقويضه واعتباره غريبا عن حياة الإنسان المعاصر.
في مواجهة نزعة الاستهلاك وتشيؤ الإنسانتحدث مالك بن نبي عن العوالم الثلاثة؛ عالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء، وفي عصر ما بعد الحداثة انتقل الإنسان من الدوران حول الفكرة إلى الدوران حول الأشياء فصارت الأشياء المادية هي أهم مرتكزات حياة الإنسان في هذا العصر، وصارت الأفكار لا تدور حول الأشياء فحسب بل غدت خاضعة لها وخادمة لها، وصار الاستهلاك أهم سمات هذا العصر المغرق في المادية والنفعية.
بل إن الأمر تجاوز ذلك بكثير فلم يعد الإنسان يدور حول الشيء بل تحول هو إلى شيء؛ ودخلنا في حالة تشيؤ الإنسان، والتي عبر عنها الدكتور عبد الوهاب المسيري بقوله "التشيؤ هو أن يتحول الإنسان إلى شيء، حيث تطبق الصيغ الكمية والإجراءات العقلانية الأداتية على الإنسان إلى أن يتساوى الإنسان وعالم الأشياء والسلع؛ فتسقط المرجعية الإنسانية وتصبح "الطبيعة؛ المادة" أو "السوق؛ المصنع" هي المرجعية الوحيدة النهائية؛ فتنتفي إنسانية الإنسان وتعمل فيه آليات التشييء والتنميط والتفكيك".
وتحول الإنسان إلى سلعة مثل بقية السلع، بل غدا الجسد لا سيما عند المرأة سبيلا إلى خدمة الأشياء والسلع الأخرى والترويج لها، وغدا الإنسان رقما ربحيا في صراع الاستهلاك المحموم؛ فتأتي السيرة النبوية لتعيد الأمور إلى نصابها، فتؤكد مركزية الإنسان في أي بنيان حضاري؛ إذ نرى فيها من لحظة ولادة النبي صلى الله عليه إلى وفاته إعلاء شأن الإنسان، فكان الإنجاز الأول لولادته على سبيل المثال عتق ثويبة مولاة أبي لهب في إشارة ضمنية لولادة مفهوم جديد في ذلك الواقع الصنمي مع ولادة النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على تحرير الإنسان الرق.
كما يعيش المرء في السيرة النبوية مع الآليات العملية لتحرير الإنسان من سطوة المادة وتحريره من الرق والطغيان والاستبداد؛ فيكون الضعفاء والمستضعفون والمضطهدون أول من يسارع إلى اعتناق الإسلام لأنهم وجدوا فيه إنسانيتهم بعد أن عاملهم المجتمع بوصفهم محض أشياء تباع وتشترى.
ويعيش المرء مع السيرة النبوية منهج النبي صلى الله عليه وسلم في عتق الإنسان من الدوران حول الشخص الاعتباري؛ وهو القبيلة في جاهلية جهلاء ليدور حول الفكرة وهي الوحي، فتتحول مرجعيته من الشخص الصنمي الاعتباري إلى مرجعية الفكرة؛ فيعلو شأنه الإنساني بمقدار تعلقه بالفكرة ودورانه حولها، ويصل الأمر في تربية المجتمع على الدوران حول الفكرة أن ينادى يوم أحد لقد قتل ابن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل الله تعالى قوله في سورة آل عمران: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ۚ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ۚ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ۗ وسيجزي الله الشاكرين"، في تربية عملية على الدوران حول الفكرة وهي الوحي كتابا أو سنة جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعندما يحاول شاس بن قيس أن يحيي نزعة الدوران حول الشخص الاعتباري عصبية وجاهلية في أول الأمر في المدينة بين الأوس والخزرج، ويحاول آخرون إحياءها بين المهاجرين والأنصار يوم المريسيع في غزوة بني المصطلق فينادي "يا للمهاجرين"، ويأتيه الرد "يا للأنصار"؛ فيتدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقفين تدخلا سريعا معلنا أنها دعوى جاهلية آمرا "دعوها فإنها منتنة؛ دعوها فإنها خبيثة".
في كل تفاصيل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه يدحض الإنسان ذي البعد الواحد الذي تشيأ ودار حول الشيء؛ فيبني الإنسان الحر ذي الأبعاد المتعددة مادة وروحا، الذي يعيش لروحه وقلبه كما يعيش لجسده بتوازن دون طغيان، كما أنه يربي المجتمع كله على الدوران حول الفكرة حتى إذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إعلان أبي بكر الصديق رضي الله عنه انعكاسا لهذه التربية "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت".
من يدرس سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلبه وعقله فإنه يجد نفسه بشكل تلقائي يعلي مركزية الوحي أي مركزية الفكرة، ومركزية الإنسان الحضارية بوصفه إنسانا لا سلعة، وهذا كفيل بمواجهة إحدى أهم تأثيرات ما بعد الحداثة على الإنسان.
فالسيرة النبوية عنوان صلابة المرجعية وصلابة الأفكار وصلابة القيم وصلابة المبادئ وصلابة المفاهيم في وجه السيولة التي تجعل كل شيء من المبادئ والمفاهيم والمرجعيات يميد من تحت أرجلنا وعقولنا وقلوبنا، وهي عنوان إعلاء شأن الإنسان ليكون إنسانا مكرما يخرج من عبادة العباد وعبادة الأشياء والخضوع لهيمنة الاستهلاك والمادة ليكون رائدا في إخراج البشرية من أوحال المادية إلى أنوار الوحي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رسول الله صلى الله علیه وسلم النبی صلى الله علیه وسلم صلى الله علیه وسلم فی السیرة النبویة السیولة فی
إقرأ أيضاً:
د. عصام محمد عبد القادر يكتب: لماذا نعلم؟
الإنسان من أفضل المخلوقات على وجه البسيطة كونه يمتلك التفكير المجرد الذي يساعده في أن يسخر مفردات ومقومات الطبيعة من أجله، ومن ثم يستطيع أن يحدث تغيرًا إيجابيًا ملموسًا يسهم في إعمار الأرض، ويخلق مناخًا مواتيًا لحياة أفضل له وللكثير من الكائنات الحية التي وهبها الله البقاء بغية إحداث توازن بيئي يخدم ماهية البقاء والاستمرارية.
ومن ثم بات التعليم أمرًا وجوبيًا للإنسان كي يستطيع أن يمتلك الخبرة في التعامل الوظيفي مع كل ما يحيط به في البر والبحر والجو، وبالطبع يصعب أن يحدث هذا بعيدًا عن مقدرته على التفكير والتفكر بما يعينه على الفهم والتفسير والاستنتاج والرصد ومحاولة البحث والتنقيب والتجريب ليصل إلى مبتغاه بصورة مقصودة ومخططة أو قد تكون مبنية على المحاولة والخطأ بشكل تحكمه متغيرات في كثير من الأحيان مقننة.
ورغم أن الإنسان لا يمتلك القوة الخارقة التي تمكنه من السيطرة على كل ما يدور في فلك الطبيعة؛ لكنه يمتلك ما هو أفضل من ذلك؛ حيث المعرفة التي تمكنه من تسخير قوى الطبيعة لصالحه، وتحقيق الرفاهية من خلالها، وهذا سر وجوده على الكوكب؛ إذ يقع على عاتقه الإصلاح والصلاح والإعمار من أجل نهضة ورفعة السلوك والوجدان، وبالطبع يعلو ذلك الامتنان لخالق السماء بلا عمد؛ حيث شكر نعمته وعبادته الخالصة تفريدًا وتمجيدًا.
وفي هذا الإطار يتحتم علينا أن ننتقي ما نعلمه للإنسان؛ حيث يستوجب البناء الصحيح له أن نغرس فيه النسق القيمي الذي يصون به نفسه والأخرين، ويصبح بالنسبة له نبراسا يهتدى به في أقواله وأفعاله ووجدانه؛ فينعكس ذلك على تعاملاته وانفعالاته وتفاعله، ويصبح لديه الرغبة الحقيقية في أن يشارك مراحل البناء ويتعاون من أجل البقاء والرقي، ومن ثم يبحث دأبًا على حلول لمشكلات تواجه ومجتمعه ليستشعر الرضا وينبعث في وجدانه الأمل وتتفتح لديه رؤى المستقبل المشرق.
إننا نعلم من أجل مستقبل أفضل لجيل تلو آخر؛ فما نعايشه ونعيشه من ثورة تقنية وتطور في شتى مناحي الحياة وجودة غير مسبوقة في كل ما تنتجه الآلة في ضوء ذكاء اصطناعي مدخله الرئيس ذكاء الإنسان الطبيعي، كل ذلك وأكثر يصب في مصلحة البشرية ويحسن من مدخلات وعمليات الحياة لنعكس أثره دون مواربة على صحة مستدامة وعقل مستنير وفعل وسلوك يرتبط بقيم نبيلة وأخلاق حميدة.
إننا نعلم من أجل بناء إنسان يمتلك خبرة صحيحة سديدة تتضمن في طياتها معرفة غير مشوبة وسلوك مرغوب فيه ووجدان نقي بغرض تشكيل سياج يحميه من براثن الانحراف الفكري وما يترتب عليه من سلبيات أقل ما فيها التشتيت عن الهدف وضلالة الطريق وسوء المنقلب والانتكاسة في كل شيء وأمر.
إننا نعلم من أجل أن يتفوق الإنسان على رغباته وشهواته وينتصر لنفسه اللوامة؛ ليؤكد ماهية تقييم الذات والمقدرة على إصلاح ما قد يتسبب في إفساده بعمد وغير عمد؛ ليستطيع أن يستكمل طريق نهضته ومسار تقدمه ورقيه وازدهاره، ومن ثم يترك الأثر الطيب الذي يحمل بين مكونه رسالة الأمل والتفاؤل لأجيال تلو أخرى؛ بغية الحفاظ على فلسفة البقاء واستكمال المسيرة التي خلقنا جميعًا لأجلها.
إننا نعلم من أجل أن يسود العدل والسلام والحق وفق دستور رباني فطرنا عليه، ومن ثم يتوجب علينا أن نغرس بذور المحبة ونزيل الأحقاد ومسبباتها، ونعضد التراحم والتكافل من أجل أن نخلق مجتمعات تتضافر من أجل البقاء ومواجهة التحديات والأزمات الطبيعية منها وغير الطبيعية، وهذا ما يؤكد على أن الطاقة البشرية تعد الأقوى والأبقى على وجه الأرض كونها لا تنضب ما بقيت الحياة.
إننا نعلم من أجل أن نصون النفس من السقوط في بوتقة الأمراض النفسية؛ فنقدح الأذهان بمزيد من الأفكار الإيجابية التي تعضد من طاقته النورانية، وتجعله يستثمر الفكرة ليخرج منها بما يفيد به نفسه ومجتمعه والبشرية كلها، وتدفعه لاستكمال الطريق القويم ليحقق في مجاله ما يجعله يثق في ذاته ويرضى عن نفسه ويوجب الشكر لذوي الفضل عليه وفي القلب ربه الذي وهبه نعم لا تعد ولا تحصى.
إننا نعلم من أجل أن نتناقل ثقافة تحمل في طياتها الهوية وتدعم الوطنية وتعزز القومية وتحافظ على مكتسبات الحضارة وتصون العقيدة والمعتقد؛ فتقينا من الانصهار أو الذوبان في بوتقة الثقافات العابرة الحديثة منها والمستحدثة الواردة منها والشاردة؛ فنصنع عقولًا واعية تحمل فكرًا مستقبليًا مستنيرًا محاط بقيم نبيلة تجعله قادرًا على فلترة وغربلة غير المجدي وغير الصحيح، أو ما به لبس، أو ما يشوبه مغلوط، أو المشوه في أصله.
وفي النهاية يصعب أن نحصي ثمرات التعليم وما نقوم به من أجل بناء الإنسان سواءً أكان في حيز الأسرة، أو المؤسسة التربوية، أو المؤسسة العقدية، أو المؤسسات الاجتماعية قاطبة؛ لكنها إشارات وومضات من جهد مقل يبتغي إلقاء الظلال على ما قد نتناساه في خضم حياة مليئة بمجريات أحداث مثل النهر الجاري.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.