د.سعيد السيابي يكتب: بعد خراب مالطا
تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT
أثير- د.سعيد السيابي، كاتب وباحث أكاديمي في جامعة السلطان قابوس
بعض القضايا والموضوعات والعناوين تبقى في الذاكرة طويلا ويحملها على الاستمرارية بأن تصبح مثلا سائرًا، وهذا ما حدث بالضبط في مقولة (بعد خراب مالطا) ومناسبة هذه العبارة الأدبية اللامعة حدوثها فعليا؛ فقد تعرّضت جزيرة مالطا للاحتلال الفرنسي على يد نابليون بونابرت في عام 1798م، وهذا الاحتلال لم يقع إلا بعد أن دمر الجيش الفرنسي الجزيرة باستخدام القوة المفرطة مما تسبّب في هجرة جماعية لسكان الجزيرة إلى جزيرة صقلية المجاورة.
كانت مدة هذا الاحتلال قصيرة حيث استمرت عامين فقط، إلا أن الدمار الكبير الذي حدث ماديا ومعنويا لأهل مالطا كان كفيلا بتسجيل ذاكرة بشعة للطغيان، وفي محو كل ما هو له قيمة بذاكرة وطن وشعب ولم تسلم منه دور العبادة ولا شجر أو حجر.
تدخل الجيش الإنجليزي متأخرًا بعد عامين في 1800م واستطاع تحرير الجزيرة من الاحتلال الفرنسي؛ لكن ما قيمة هذا الإنقاذ أمام ما قام به وتركه المحتلّ من جروح ودمار وخراب؛ لهذا أصبحت هذه المقولة على الرغم من قسوتها تعدّ حكمة عالمية، “بعد خراب مالطا”.. بالفعل، ما الفائدة من إرجاع الحقوق أو التدخل أو الإنقاذ وغيرها من النتائج المتأخرة؟!
أمام صيت هذه المقولة التي نتذكّرها في العديد من الأحداث والقضايا المتكرّرة بما تحمله في مضمونها ورسالتها، فمتى يمكننا أن نأخذ الدروس والعبر؟ وهل مدرسة التاريخ جافّة بحيث لا نقنع أنفسنا أننا أمام ظواهر متكررة وأحداث عالمية وإقليمية ومحلية لا ينفع بعدها التدخل؟ فما حدث قد حدث، ومحاولات الرجوع للأصل أو المربع الأول لا فائدة منها، أو تكون محاولة التدخل متأخرة جدا، حتى أن الرقعة لم تعد على قياس الثوب المقطوع، والنماذج كثيرة وهي التي تعنينا، فلا ضير من مراجعة أخيرة ونداءات يقدمها العقلاء وأصحاب الحكمة والمستشارون ومن لهم قيمة معرفية ودراية منطقية، وخبرة في مجال وتخصص معين، فالحق يجب أن يستمر أصحابه بالدفع به في واجهة الحدث.
يأتي أحدهم متأخرًا بعد نهاية حدث ما، فيُقال له: (أنت حضرت بعد خراب مالطا)، فالكلام الجارح إذا خرج من اللسان يترك ندوبا فيمن قيل له حتى لو أعقب ذلك ندمٌ واعتذارٌ، فالخراب يكون قد وضع بصمته بالقول الجارح.
وهناك الأخطاء الكارثية الكبرى، كإشعال فتيل حرب يموت بسببها آلاف الضحايا، وتعود الأوطان عشرات السنين للوراء بعد تدمير اقتصادها وبناها الأساسية ومدارسها ومتاحفها ومراكزها الثقافية ومستشفياتها، وفجأة، تقف الحرب بجلوس المتخاصمين والانتهاء بالتفاوض لا يُصلح ذلك الخراب الكبير الذي حدث للإنسان قبل الحجر، فالأولى ألّا تُقدح شرارة الحرب الأولى لو استفدنا من دروس التاريخ.
مختبرات بعض الدول الكبرى تتنافس في السر والعلن فيما بينها في تصنيع أسلحة بيولوجية أكثر فتكا بالإنسان- وما تزال مستمرة-، وبعد تجارب خرجت عن السيطرة يأتون متأخرين للبحث عن حلول، كما حدث مع وباء كورونا الذي خلّف آلاف الضحايا في كل دول العالم.
وهناك الخراب والأخطاء التي تقع على مستوى الأسرة التي هي نواة المجتمع، حيث يقع الطلاق والانفصال بين شريكي الحياة الزوجية أحيانا لأسباب غير منطقية وواهية، فيستيقظ أحد الأبوين بعد مرور السنين ليرى أبناءه وقد كبروا وضاعت سنين العمر دون أن يراهم يكبرون ودون أن يكون بجوارهم في أحلامهم وعثراتهم يشد على أيديهم، فيستيقظ متأخرا ليدرك أن أطفاله ما عادوا بحاجة له واعتادوا على غيابه وهجرانه.
وكثيرة هي المراجعات الشخصية التي ينطبق عليها الوصول إلى نتيجة بعد أن وقع الفأس في الرأس، وكما قال محمود درويش: “هذا الخراب الذي بداخلي لم يولد معي، أقسم لكم أيها الناس إنهُ لم يولد معي، لقد كُنت ناصعا كغيمة، كزهرة، ولكنني كبرتُ وبدأتُ أتعرف إلى الناس”.
المصدر: صحيفة أثير
إقرأ أيضاً:
أديب بن إبراهيم يعرض الخطوط العريضة لبرنامج تأهيل المدن العتيقة
زنقة 20 ا الرباط
استعرض كاتب الدولة في الإسكان، أديب بن إبراهيم، اليوم الثلاثاء بمجلس المستشارين، الخطوط العريضة لبرنامج تأهيل المدن العتيقة للحفاظ عليها، باعتبارها تراثا ماديا ولا ماديا ثمينا، ومن بين المكونات الأساسية للهوية الثقافية والرمزية والمجالية للخصوصية المغربية، بعد أن تم اعتماد عدد منها بالتصنيف من طرف اليونسكو (مراكش، فاس، الرباط، الصويرة…).
وأكد بن إبراهيم، في معرض جوابه عن سؤال تقدم به فريق الإتحاد العام للشغالين بالمغرب، حول ” تأهيل المدن العتيقة والحفاظ عليها “، على العناية القصوى التي يوليها صاحب الجلالة نصره الله وأيده لهذا النوع من الأنسجة العمرانية، حيث أعطى جلالته الانطلاقة لبرنامج تثمين ورد الاعتبار للمدن العتيقة يهم ثمانية مدن، شملت كل من الدار البيضاء والرباط وسلا والصويرة وتطوان ومراكش وفاس ومكناس، في أفق تعميم التدخل على باقي المدن الأخرى.
وأبرز المسؤول الحكومي، أن التدخل في المدن العتيقة أصبح يشكل أحد أولويات عمل الوزارة والذي يهدف بالأساس إلى الحفاظ على النسيج العمراني والتراث المعماري العتيق، بالإضافة إلى معالجة الاختلالات الهيكلية العميقة التي تطالها ومظاهر التدهور التي تعرفها سواء على صعيد موروثها الثقافي (الأسوار، الساحات، المآثر التاريخية والدينية…) أو على صعيد محيطها المبني والمرافق المرتبطة بها وأنشطتها الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية.
وأشار أديب بن إبراهيم، إلى أن التدخل يرتكز على مجموعة من العمليات المتوازية في إطار تعاقدي مع الشركاء المعنيين وذلك بناء على دراسات تقنية متخصصة، تروم معالجة وضعية قاطني الدور المهددة بالانهيار، وتعزيز وتقوية البنايات التي تشكل خطر الانهيار وتحسين واجهات المباني المعنية. في حين أن التدخل فيما يخص الجانب الذي يهم الموروث الثقافي، فينبني على مقاربة تشاركية وتعاقدية تكفل إلتقائية مختلف القطاعات ذات الصلة، وذلك عبر تقوية البنيات التحتية وتأهيل وترميم المعالم التاريخية والدينية وتحويل بعض البنايات إلى تجهيزات للقرب وكذا تهيئة الفضاءات العمومية والمدارات والمسالك.
وكنتيجة لتفعيل آليات التدخل السالفة الذكر، كشف بن إبراهيم، أن الوزارة قامت خلال الفترة الممتدة بين 2014 و2024 بالتعاقد بشأن ما مجموعه 34 مشروع يهم التدخل على مستوى المدن العتيقة للمملكة، بكلفة إجمالية تقدر بحوالي 6,106 مليار درهم وبمساهمة من طرف هذه الوزارة تقدر ب 1,905 مليار درهم منها 1,234 مليار درهم تم تحويلها لفائدة المؤسسات المكلفة بإنجاز الأشغال المتعاقد بشأنها.
وتعزيزا للمجهودات السالفة الذكر، يقول كاتب الدولة، فإن وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة بمعية قطاعات وزارية أخرى من قبيل وزارة الداخلية، ووزارة الشباب والثقافة والتواصل، بالإضافة إلى المنظومات المحلية المعنية تعمل على إعداد برامج جديدة للتدخل بالمدن العتيقة التي لم يشملها التدخل خلال العشر سنوات الأخيرة، والتي يكتسي التدخل بها طابعا استعجاليا من أجل الحفاظ عليها كموروث ثقافي، ومن بينها المدينة العتيقة للجديدة (الحي البرتغالي) والمدينة العتيقة لآسفي.
وأشار أديب بن إبراهيم، إلى الاستراتيجية الجديدة التي يتم تنزيلها من طرف وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة لمعالجة الدور الآيلة للسقوط، والتي تعتمد على تنزيل مضامين القانون رقم 12-94 المتعلق بالسكن الآيل للسقوط وعمليات التجديد الحضري وكذا مرسومه التطبيقي، حيث يتم العمل حاليا من خلال الوكالة الوطنية للتجديد الحضري وتأهيل المباني الآيلة للسقوط على تعميم عملية الجرد والخبرة التقنية اللازمة على ربوع المملكة مع إعطاء الأولوية للمدن العتيقة. وتقوم حاليا الوزارة بتنسيق مع المنظومة المحلية بإعداد برنامجين للتدخل بالمباني الآيلة للسقوط بكل من المدينة العتيقة لطنجة والمدينة العتيقة لأصيلة.